164

إذ من كان فاقداً لشرط من الشروط الفقهية للقضاء فنفس دليل ذاك الشرط _ حينما لا يكون الدليل منحصراً في عدم الدليل على النفوذ وأصالة عدم النفوذ _ دليل على الردع عن هذا البناء العقلائي لو ثبت.

والواقع أنّ هذا البناء غير ثابت من قبل العقلاء بأكثر من روح الوفاء بالشرط، فحاله حال الوجه الثاني.

الإجماع

الخامس _ الإجماع _ قال المولى الكني (رحمه الله):ݢ «نعم، في المفتاح حكاية الإجماع عليه من الخلاف والمجمع، مع أنّ في الأخير لم يدّعه صريحاً بل قال: كان دليل نفاذ من يرضى الخصمان به بشرط اتّصافه بالشرط المذكور هو الإجماع أيضاً، وإلا فما أعرف له دليلاً. وفي المسالك والكفاية: أنّهم لم يذكروا فيه خلافاً، وفي الرياض: لم ينقلوا فيه خلافاً أصلاً، ويؤيّده: دعوى الإجماع ممن عرفت(1) على أنّه يشترط في قاضي التحكيم جميع ما يشترط في القاضي المنصوب _ ولو عموماً _ عدا الإذن، فإن تمّ إجماع أو شهرة قويّة موجبة لقوّة إطلاقات القضاء وموهنة لما دلّ على اشتراط الإذن _ كما هو الظاهر وبه ينجبر ضعف سند النبوي(2) بل ودلالته _ وإلا فالوجه العدم»(3).

هذا هو النص الذي أردنا نقله عن كتاب المولى الكني (رحمه الله)، ثم يذكر عدم وجود ثمرة لهذا البحث في زماننا؛ لأنّ كلّ من هو واجد للصفات فهو منصوب، ومن ليس واجداً لها لا أثر للتحاكم لديه.


(1) إشارة إلى كلام سابق له في كتاب القضاء.

(2) إشارة إلى النبوي الذي مضى من قوله (صلى الله عليه و آله): «من حكم بين اثنين تراضيا به فلم يعدل فعليه لعنة اللّه».

(3) كتاب القضاء، ص 24.

165

أقول: بعد ما عرفت من الوجوه التي يمكن أن تكون مدركاً للإجماع لا قيمة للإجماع، وقد حقّقنا في محلّه أنّ الشهرة والإجماع الفتوائيّين لا يجبران السند والدلالة أمّا عدم الثمرة في زماننا فمبني على كون جميع الشروط حتى الاجتهاد شروطاً فقهية، وقد عرفت الكلام في ذلك.

هذا، وقد ظهر أيضاً أنّ هذا الإجماع لو تم فإنّما يدل على نفوذ حكم قاضي التحكيم بالمعنى الأول فقط دون الثاني؛ لأنّ الإجماع لم يقم على أكثر من نفوذ حكم قاضي التحكيم الواجد لجميع الشرائط عدا الإذن.

هذا تمام الكلام في أدلّة نفوذ حكم قاضي التحكيم.

أدلّة عدم النفوذ

وبالإمكان أن يستدلّ على عدم نفوذ حكم قاضي التحكيم في قبال ما مضى من الاستدلال على نفوذه بوجهين:

الأول: الآيات القرآنية وهي:

1_ قوله تعالى: ﴿يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّٰهِ وَالرَّسُولِ...﴾(1).

2_ وقوله تعالى: ﴿فَلاٰ وَرَبِّكَ لاٰ يُؤْمِنُونَ حَتّٰى يُحَكِّمُوكَ فِيمٰا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّٰا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾(2).

وتقريب الاستدلال بذلك هو أن يقال: إنّ المقصود بالردّ إلى اللّه والرسول وتحكيم الرسول هو الردّ والتحكيم ولو بالواسطة بأن يردّ إلى من يمثل الرسول ويحكّم من نصب


(1) النساء: 59.

(2) النساء: 65.

166

من قبل الرسول. والمفهوم من الأمر بالردّ إلى من يمثّل الرسول، أو تحكيم من نصب من قبل الرسول هو كونه ممثّلاً له، ومنصوباً من قبله في المرتبة السابقة على الردّ والتحكيم، وهذا يعني أنّ القاضي يجب أن يكون منصوباً في المرتبة السابقة على الردّ إليه وتحكيمه، وهذا معناه عدم نفوذ حكم قاضي التحكيم.

وهذا الدليل _ لو تم ما ذكر من التقريب _ يقدّم على ما مضى من دليل السيرة وبناء العقلاء لو تم في نفسه؛ لأنّ هذا ردع عنه، وعلى أدلّة وجوب الوفاء بالشرط والعقد لو تم الاستدلال بها؛ لأنّ الشرط يصبح بسبب هذا الوجه شرطاً مخالفاً للكتاب، وعلى إطلاقات الروايات والآيات التي مضى الاستدلال بها على قاضي التحكيم لو تمّت وذلك بالتقييد.

الثاني: ما ورد عن سليمان بن خالد، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «اتّقوا الحكومة، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبي أو وصي نبي»(1). وللصدوق (رحمه الله) سند تام لهذا الحديث إلى سليمان بن خالد. أمّا سليمان نفسه فيمكن إثبات وثاقته بما عن النجاشي بشأنه من قوله: «كان قارئاً فقيهاً وجهاً»؛ فإنّ كونه وجهاً يلازم حسن الظاهر، وهو أمارة على العدالة. ونقل الكشّي أيضاً عن حمدويه عن أيوب بن نوح توثيقه وهو واقع في أسانيد كامل الزيارات، فإن لم نعتمد على كتاب الكشّي ولا على وقوعه في أسانيد كامل الزيارات كفانا ما عرفته عن النجاشي.

وأمّا دلالة الحديث فبيانها: أنّه يحصر الحكم بالنبي وبمن كان وصيّاً له، وهذا يعني أنّ الحاكم يجب أن يكون نبيّاً أو وصيّاً أو منصوباً من قبل أحدهما، ولهجة كون القضاء للنبي والوصي لا تناسب افتراض إمضاء الحكم في طول تراضي المترافعين


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص7، الباب 3 من صفات القاضي، ح3.

167

بدعوى أنّه أصبح منصوباً في طول التحكيم، فهذه الرواية أيضاً تردّ بناء العقلاء ونفوذ الشرط، وتقيّد المطلقات.

هذا؛ ولكن قد يقال بانصراف الحكومة إلى منصب الحكومة، لا إلى مجرّد الحكم ولو بتراضي المترافعَين، فتصبح هذه الرواية دليلاً على أنّ القاضي المنصوب يجب أن يكون منصوباً من قبل النبي أو الوصي، وتصبح أجنبيّة عمّا نحن فيه، وتصبح حالها حال ما روي عن إسحاق بن عمّار بسند غير تام، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لشريح: يا شريح قد جلست مجلساً لا يجلسه إلا نبي أو وصي نبي أو شقي»(1).

هذا كلّه في الكلام عن شخصيّة القاضي.


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص7، الباب 3 من صفات القاضي، ح2 .

168

الخاتمة في حق تعيين القاضي

وفي ختام البحث عن شخصية القاضي لا بأس بالحديث عمّن بيده تعيين القاضي، هل هو المدعي، أو المنكر، أو كلاهما؟

ذكر السيد الخوئي في مباني تكملة المنهاج ما لفظه: «هل يكون تعيين القاضي بيد المدّعي، أو بيده والمدّعى عليه معاً؟ فيه تفصيل: فإن كان القاضي قاضي التحكيم فالتعيين بيدهما معاً، وإن كان قاضياً منصوباً فالتعيين بيد المدّعي»(1).

وذكر فى الهامش في مقام الاستدلال على ذلك ما لفظه:

«أمّا الأول فلما عرفت من أنّ حكمه غير نافذ إلا بعد اختيار المتخاصمين إيّاه وتراضيهما به، وأمّا الثاني فهو المشهور بين الأصحاب، بل ادُّعي عليه الإجماع، ويدل عليه: أنّ المّدعي هو الملزَم بإثبات دعواه بأيّ طريق شاء وأراد، وليس للمدّعى عليه أيّ حقّ في تعيين الطريق له، أو منعه عن إثبات دعواه بطريق خاصّ كما تشير إلى ذلك عدّة من الآيات، فالنتيجة أنّ تعيين القاضي بيد المدّعي سواءٌ أَرَضي


(1) تكملة المنهاج، ج 1، ص 9.

169

به المدّعى عليه أم لا»(1).

وتعرّض في المتن لفرض التداعي قائلاً:

«وأمّا إذا تداعيا فالمرجع في تعيين القاضي عند الاختلاف هو القرعة»(2).

وقال: في الهامش بصدد الاستدلال على ذلك ما لفظه:

«وذلك حيث إنّ كلّاً منهما مدّع؛ فلكلّ منهما الحقّ في تعيين الطريق لإثبات مدّعاه، وليس للآخر منعه عنه، فلو عيّن أحدهما حاكماً، والآخر حاكماً آخر، ولا يمكن الجمع بينهما، فالمرجع في تعيين الحاكم هو القرعة»(3).

أقول: بالنسبة لقاضي التحكيم _ لو آمنّا به _ يكون التعيين بيدهما معاً؛ إذ إنّ نفوذ الحكم خلاف الأصل، وأدلّة نفوذ حكم قاضي التحكيم لو تمّت لا تشمل فرض ما إذا كان التحكيم من قبل أحدهما من دون رضا الآخر، فالإجماع والسيرة لو ثبتا كان من الواضح اختصاصهما بفرض التحكيم من كلا الطرفين. ودليل الوفاء بالشرط _ أيضاً _ من الواضح اختصاصه بذلك؛ إذ لولا رضاهما معاً لم يكن تشارط في المقام، والروايات أكثرها تختصّ بفرض رضاهما معاً، وقصّة عروة القتّات تقول: «نجتمع عنده فنتكلّم ونتسائل»، ولو فهم من ذلك القضاء فظاهره تراضي الكلّ، أو _ على الأقلّ _ لا إطلاق له لغیر هذا الفرض. ورواية أبي بصير «في رجل كان بينه وبين أخٍ له مماراة في حقّ، فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه وبينه، فأبى إلا أن يرافعه إلى هؤلاء كان بمنزلة الذين قال اللّه (عزوجل)...» واردة بشأن رفض هذا الخصم تحكيم صاحبه شخصاً من الشيعة، وإصراره على تحكيم حاكم الجور، فلنفترض أنّنا


(1) تكملة المنهاج ، ص 9_ 10.

(2) نفس المصدر ، ص 10.

(3) نفس المصدر.

170

فهمنا من ذلك قضاء قاضي التحكيم، لكن لا نظر لها إلى فرض ما إذا رفض هذا الخصم خصوص الشخص الذي عيّنه الخصم الآخر، وطالب بشخص آخر من الشيعة. وأمّا الآيات كقوله: ﴿وَإِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ _ لو تم فيها إطلاق لقضاء التحكيم _ فهي منصرفة بمناسبات الحكم والموضوع عن فرض كون القاضي غير منصوب وغير محكّم من قبل الطرفين، بأن كان محكّماً من طرف واحد، سنخ انصرافها من شخص غير منصوب وغير محكّم من قبل أي واحد من الطرفين فهل يقال: إنّ الآية تدل بإطلاقها مثلاً على جواز ممارسة كلّ أحد للقضاء ما دام يحكم بالعدل سواء كان منصوباً من قبل ولي الأمر أو لا، وسواء رضي به أحد أو لا؟!

وأمّا بالنسبة للقاضي المنصوب فيمكن توجيه الاستدلال على كون اختيار القاضي بيد المدّعي بأخذ نكتتين بعين الاعتبار:

الأُولى _ أن يقصد بالمدّعي من إذا ترَكَ النزاع تُرك، لا خصوص من عليه البيّنة، فمثلاً لو طالب خصمه بدين له والخصم يدّعي الوفاء، فالبيّنة على الخصم المدعي للوفاء، لكنّ الذي يشكو إلى القاضي لمطالبة الحقّ إنّما هو المنكر للوفاء.

الثانية _ أن يقال: إنّ المفهوم عرفاً من النصب للقضاء ليس مجرّد إعطائه منصب فصل النزاع لو ترافعا عنده، بل إعطاؤه ذلك إضافةً إلى حقّ جلب الخصم والتحقيق بشأن النزاع لو شكاه أحد ثم فصل النزاع.

وعندئذٍ يتم القول بأن المدّعي _ بمعنى من سيرفع المخاصمة _ من حقّه أن يختار لرفع المخاصمة أيّ قاضٍ شرعي أراد، ولا يحقّ لصاحبه منعه عن ذلك، بل تجب عليه الاستجابة للتحقيق، ثم الخضوع للحكم؛ لأنّ من حقّ القاضي جرّه إلى ذلك.

وأمّا الاستشهاد بالآيات على المدّعى فأمر غير مفهوم. وإن كان المقصود بذلك الإشارة إلى مثل آية ﴿وَإِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ بدعوى أنّ

171

إطلاق ذلك بعد ضرورة ‏تخصيصه بفرض رفع النزاع من قبل الشاكي إليه يشمل فرض ما إذا لم يكن القاضي مرْضيّاً من قبل الطرف الآخر قلنا: لازم ذلك _ على مبناه القائل بأنّ هذه الآيات دليل على قضاء التحكيم _ دلالة الآيات على أنّه في قاضي التحكيم أيضاً لا يشترط رضا الطرفين، وهذا ما لا يلتزم به. وعلى أيّ حال فقد عرفت عدم تماميّة إطلاق من هذا القبيل في هذه الآيات.

يبقى الكلام فيما فرضه من مسألة التداعي بعد أن نُؤوّل التداعي أيضاً بمعنى ما إذا احتاج كلّ منهما إلى الشكوى ورفع النزاع، حتى ولو كان أحدهما مدّعياً والآخر منكراً، كما لو فرضنا أنّ أحداً ادّعى على الآخر الدين وأنكره الآخر، ولكنّ المدّعي قد ضيّق على المنكر بتكرير المطالبة، وتكثير مخاصمته ليل نهار، فرأى المنكر أنّ علاج المشكل هو رفع الشكوى إلى حاكم يخصم النزاع فيستريح من مضايقات المدّعي، كما أنّ المدّعي أيضاً رأى أنّ طريق إنقاذه لحقّه عبارة عن رفع الشكوى إلى الحاكم، فاختلفا في اختيار القاضي ولا يمكن الجمع بينهما، فما هو طريق تعيين القاضي؟ وهنا يقول السيد الخوئي (رحمه الله): إنّ طريق تعيين القاضي هو القرعة التي جعلت لكلّ أمرٍ مشكل.

وقد يورد على هذا الكلام بإيرادين:

الإيراد الأول، أن يقال: إنّ مقتضی الروايات الماضية: مقبولة عمر بن حنظلة(1)، ورواية داود بن الحصين(2)، ورواية موسى بن أكيل(3)، هو الرجوع عند تعارض الحكمين إلى الترجيح بالأعدليّة والأفقهيّة، لا القرعة.

والجواب: أنّ هذه الروايات إنّما وردت بشأنّ ترجيح أحد الحكمين على الآخر بعد


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص75، الباب 9 من صفات القاضي،ح1.

(2) نفس المصدر، ص80، ح20.

(3) نفس المصدر، ص88، ح45.

172

صدورهما، ونحن الآن نتكلّم فيما قبل الحكم لتشخيص من له حقّ الحكم، لا فيما بعد صدور الحكمين برضا كلا الخصمين بهما كما هو مورد الروايات.

الإيراد الثاني، وهو تطوير للإيراد الأول بهدف التخلّص من الجواب الذي مضى أن يقال: لو اختلف الخصمان في رفع النزاع إلى القاضي، فرفع هذا النزاع إلى قاضٍ، ورفع الآخر إلى قاضٍ آخر، فتارةً نفترض أنّ أحد القاضيين يتقبّل النزاع، ويجلب الخصم الآخر، ويحقّق الموضوع، ويحكم، دون أن يقوم القاضي الآخر بعمل مماثل لذلك، وعندئذٍ لا ينبغي الكلام في نفوذ حكم ذاك الحاكم؛ لما مضى من أنّ المفهوم عرفاً من النصب للقضاء ليس مجرّد فصل النزاع عند ترافعهما معاً إليه، بل يشمل ذلك فرض ما إذا رفع الشاكي الشكوى إليه، فمن حقّه أن يجلب الخصم الآخر، ويحقّق، ويقضي، والرادّ عليه كالرادّ على اللّه.

وأُخرى نفترض أنّ كلا القاضيين قد قاما بهذه العملية، واختلفا في الحكم، وحينئذٍ إمّا أن نقول: إنّ المورد دخل تحت مفاد الروايات الماضية الواردة في تعارض الحكمين، ونلتزم بالترجيح لا بالقرعة، وخصوصيّة مورد الروايات من تراضي الخصمين بهما ملغيّة عرفاً، فالمهمّ هو شرعيّة قضاء كلّ منهما في نفسه. أو نقول: إنّ أيّاً منهما كان متقدّماً في إصدار الحكم ينفذ حكمه، ويعتبر حكم الآخر نقضاً لحكم الحاكم، ولا يلتفت إليه، فإن صدر الحكمان في وقت واحد رجعنا إلى الترجيح الوارد في الروايات لا إلى القرعة.

أقول: تارةً نفترض أنّ القاضي هو ولي الأمر أيضاً، كالفقيه في زماننا، فهو بإمكانه _ بحكم ولاية الفقيه _ أن يجلب الخصم الآخر، ويفصل الخصومة إذا رأى المصلحة في ذلك، ولا يبقى مجال بعد ذلك لحكم حاكم آخر، وأُخرى نفترض أنّه ليس وليّاً للأمر كالفقيه بناءً على إنكار ولاية الفقيه، وكغير الفقيه المنصوب قاضياً من قبل

173

الفقيه بناءً على ولاية الفقيه، وهنا يجب أن نرجع إلى ما يفهم عرفاً من دليل النصب، فالمفهوم عرفاً من دليل النصب أمران:

الأول _ أنّ الخصمين إذا ترافعا لديه كان له حقّ التحقيق وفصل النزاع.

والثاني _ أنّ الشاكي منهما الذي يشكو من ظلم يقع عليه لو رفع الأمر إليه كان له حقّ جلب المتّهم والتحقيق، وبالتالي فصل النزاع.

أمّا لو كان كلاهما شاكيين، وشكى كلّ منهما إلى غير الذي شكى إليه الآخر، ولم يرضيا باشتراكهما معاً في فصل الخصومة كي يدخل الأمر تحت الصورة المفروضة في مورد الروايات الماضية، فشمول إطلاق دليل النصب لكلّ منهما بأن يعطيه حقّ المبادرة في القضاء لعلّه غير عرفي ولا نشك فقهيّاً في ثبوت مقتضي نفوذ القضاء في كلّ منهما لولا المعارض، فلا يبقى عدا تعيين أحدهما بالقرعة بناءً على شمول قاعدة القرعة لموارد عدم وجود تعيّن واقعي.

وقد يقال: لئن لم يشمل إطلاق دليل القضاء كلّاً منهما في المقام إذاً هما ليسا منصوبين للقضاء في خصوص المقام، فما معنى تعيين أحدهما بالقرعة؟!

وقد يجاب على ذلك بأنّ معنى حجّية القرعة في ذلك _ بناءً على شمول قاعدة القرعة لموارد عدم وجود تعيّن واقعي كما هو الحال في قصّة يونس (عليه السلام) _ هو أنّه ما دام مقتضي القضاء في كلّ منهما تامّاً، فالقرعة ترفع المانع عمّن وقعت باسمه بتعيين السقوط في الآخر.

هذا، ولكن مقتضى أدلّة القرعة _ وهذا ما سوف نبحثه بالتفصيل عند البحث حول الطريق الخامس من طرق الإثبات في القضاء _ أن ما ذكره السيد الخوئي في المتداعيين اللذين اختار كلّ واحد منهما قاضياً غير ما اختاره الآخر من لزوم الرجوع إلى القرعة لا يخلو من إشكال؛ لوجهين:

174

الأول _ أنّ حجّية القرعة إنّما هي حجّية قضائيّة، وتقع القرعة من قبل القاضي؛ إذاً لا تشمل أصل تعيين القاضي، ولا دليل على الحجّية الذاتية _ أي بقطع النظر عن القضاء _ للقرعة.

ولكن لولا الإشكال الثاني لتمّ عندئذٍ لدينا دليل على الحجّية الذاتيّة في المقام؛ لأنّ عموم الموضوع في قوله: «كلّ مجهول ففيه القرعة»(1)قد شمل مورد الكلام في حين أنّه في هذا المورد لا تتصوّر حجّية قضائيّة، فتثبت الحجّية الذاتيّة في خصوص هذا المورد.

الثاني _ أنّ حجّية القرعة إنّما هي لكلّ أمر مجهول لدينا متعيّن في الواقع؛ بينما في هذا المورد لا تعيّن في الواقع.

ولا يبعد القول بأنّ أيّاً منهما بادر إلی القضاء فقضاؤه نافذ بإطلاق دليل النصب، ولا يبقى مجال لحكم الآخر، ولو تعاصرا في الحكم دخل في مورد الروايات التي وردت في تعارض الحكمين، وحكمت بالترجيح لا بالقرعة.

أمّا لو لم نقبل بهذا البيان، إذاً فلو أرادا حقّاً حلّ المشكل عن طريق القضاء فعليهما أن يتوافقا على قاضٍ واحد، ولو عن طريق القرعة التي هي مشروعة بالتراضي والتشارط في المباحات ولو مع عدم تعيّن في الواقع _ على ما سوف يأتي إن شاء اللّه في محلّه _ بل التراضي بالقرعة يحلّ المشكل قهراً بلا حاجة إلى دليل لو بقي الرضا مستمرّاً بعد القرعة، وكذلك لو أراد أحدهما حلّ المشكل فعليه أن يرضى بقاضي الآخر. أمّا لو بقيا متشاكسين في تعيين القاضي فهذا حاله حال أن يتركا رفع المخاصمة إلى القاضي رأساً، والعيب فيهما وليس في قوانين القضاء.


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص189، الباب 13 من كيفيّة الحكم ، ح 11.

175

هذا تمام الكلام في البحث عن شخصية القاضي. مع ما ألحقناه به من الحديث عمّن بيده تعيين القاضي.

177

الفصل الثالث

 

 

طرق الإثبات لدى القاضي

 

 

  1- طرق الإثبات في الفقه الوضعي

  2- طرق الإثبات في الفقه الإسلامي

 

 

 

 

179

طرق الإثبات لدى القاضي

1

 

 

طرق الإثبات في الفقه الوضعي

 

 

  1- نصوص من الفقه الوضعي

  2- الطعن على الإسلام

 

 

 

 

181

نصوص من الفقه الوضعي

تعارف القول في الفقه الوضعي الحديث بأنّ طرق الإثبات ستة: أوّلها وأهمّها الكتابة، والثاني الشهادة أو البيّنة، والثالث القرائن، والرابع الإقرار، والخامس اليمين، والسادس المعاينة.

قال عبدالرزاق أحمد السنهوري:

«والكتابة من أقوى طرق الإثبات، ولها قوّة مطلقة يجوز أن تكون طريقاً لإثبات الوقائع القانونيّة والتصرفات القانونيّة دون تمييز، كما سنرى. ولم تكن لها هذه القوّة قديماً، بل كان المقام الأول للشهادة في وقت لم تكن فيه الكتابة منتشرة، بل كانت الغلبة للأُميّة فكان الاعتماد على الرواية دون القلم، هكذا كان الأمر في الفقه الإسلامي وفي سائر الشرايع، ثم أخذت الكتابة تنتشر، وساعد على ذلك اختراع الطباعة، فعلت الكتابة على الشهادة وصار لها المقام الأول. ومن مزايا الكتابة أنّه يمكن إعدادها مقدّماً للإثبات منذ نشوء الحقّ دون التربّص إلى وقت المخاصمة... ومن مزايا الكتابة أيضاً أنّها لا يتطرّق إليها من عوامل الضعف ما يتطرّق إلى الشهادة، فالشهود يجوز عليهم الكذب، وتعوزهم الدقّة على كلّ حال، وتتعرّض ذاكرتهم

182

للنسيان على أنّ الكتابة إذا خلت ممّا يلحق الشهادة من كذب، أو اضطراب، أو نسيان لا تخلو هي أيضاً من احتمال التزوير. وقد رسم قانون المرافعات اجراءات معيّنة للطعن في الكتابة بالإنكار، أو بالتزوير. (م 253 _ 291 مرافعات).

أمّا الشهادة أو البيّنة فقد كانت من أقوى الأدلّة في الماضي كما قدّمنا، ثم نزلت للأسباب التي بيّناها إلى مكان أدنى، فهي طريق لإثبات ذو قوّة محدودة؛ إذ لا يجوز إثبات التصرّفات القانونيّة بها إلا في حالات استثنائيّة، ولا تثبت بها إلا الوقائع القانونيّة؛ لأنّها أعمال ماديّة، فجاز إثباتها بالبيّنة لموقع الضرورة، وقد حاطها المشرّع بضمانات عدّة، فرسم اجراءات دقيقة لسماع الشهود (م 189 _ 224 مرافعات)، وفرض عقوبة على شهادة الزور، وترك للقاضي التقدير الأعلى في الأخذ بها إذا أقنعته، أو في طرحها إذا هو لم يقتنع...»(2).

وذكر في فصل البيّنة والقرائن ما حاصله:

أنّ البيّنة والقرائن لهما القوّة المطلقة في الوقائع القانونيّة الماديّة، وفي التصرّفات القانونيّة التجاريّة إلا ما استثني. ولهما القوّة المحدودة في ميدان التصرّفات القانونيّة المدنيّة، فلا يجوز أن تثبت بهما التصرّفات المدنيّة التي تزيد قيمتها على عشرة جنيهات، أو تكون غير محدّدة القيمة، بل وتلك التي لا تزيد قيمتها على هذا المقدار إذا كانت مكتوبةً، ويراد إثبات ما يخالف الكتابة أو يجاوزها. ومحدوديّة قوّتهما في ميدان التصرّفات القانونيّة المدنيّة أيضاً لها استثناءاتها، والسبب في الفرق بين التصرّفات القانونيّة المدنيّة من ناحية والوقائع المادية أو التصرّفات التجارية هو أنّ التصرف القانوني إرادة تتّجه إلى إحداث أثر قانوني لها مظهر خارجي هو التعبير،


(1) الوسيط، ج 2، ص90 _ 91، الفقرة رقم 58.

183

والقانون اقتضى أن لا يكون إثبات هذا التعبير كقاعدة عامّة إلا عن طريق الكتابة، وذلك لاعتبار سببين:

1_ لأنّ التعبير عن إرادةٍ تتّجه لإحداث أثر قانوني أمر دقيق قد يُغَمُّ على الشهود فلا يدركون معناه، ولا يؤدون الشهادة فيه بالدقة الواجبة.

2_ والتصرف القانوني فوق ذلك هو الذي تستطاع تهيئة الدليل الكتابي عليه وقت وقوعه، ومن ثم كان اشتراط الكتابة لإثباته أمراً ميسوراً.

أمّا الواقعة الماديّة فلا يقوم في شأنها أيّ من الاعتبارين المتقدّمين، وقد عمد المشرّع إلى الخطير من هذه الوقائع كالميلاد والموت فأوجب تسجيله بالكتابة على نحو خاص.

أمّا السبب في إباحة الإثبات بالبيّنة وبالقرائن في المسائل التجارية أيّاً كانت قيمة التصرف القانوني فهو ما يقتضيه التعامل التجاري من السرعة، وما يستلزمه من البساطة وما يستغرقه من وقت قصير في تنفيذه...(1).

وقد يبدو من عبارة السنهوري الماضية في أوّل البحث أنّ الإسلام أعطى المقام الأول في الإثبات إلى البيّنة لأجل غلبة الأُمّيّة وقتئذٍ، وهذا ما يكرّس شبهة أعداء الإسلام القائلين بأنّ الإسلام كان ديناً منسجماً مع زمانه وقد انتهى وقت تنفيذ نُظمه وقوانينه لتبدّل الزمان والأوضاع.

ولكنّه ذكر بعد ذلك ما يدل على أنّه يرى أنّ النقص لم يكن في الإسلام، وإنّما كان النقص في عصر التقليد في الفقه الإسلامي _ على حدّ تعبيره _، ولا بأس بذكر نصّ عبارته بهذا الصدد. قال في تعليق له في الهامش على الفقرة رقم 189، في


(1) راجع الوسيط ج 2، الفقرة رقم 181 و 182 و 185 و 188.

184

الجزء2: «فالفقه الإسلامي لا يعتدّ بالكتابة اعتداده بالشهادة، فالشهادة عنده هي البيّنة التي لها المقام الأول في الإثبات، أمّا الكتابة فيحذر منها كلّ الحذر؛ لأنّ الخطوط _ كما يقول الفقهاء _ قابلة للمشابهة والمحاكاة، والواقع من الأمر أنّ الكتابة لم تكن في العصور الأُولى التي ترعرع فيها الفقه الإسلامي منتشرةً بين الناس، ولم يكن فنّ الخط قد تقدّم تقدّمه في العصور التي تلت، فكان من الصعب الاعتماد على الكتابة في الإثبات... وقد أتى القرآن الكريم في آية المداينة بأرقى مبادى‏ء الإثبات في العصر الحديث، قال اللّه تعالى: ﴿يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا تَدٰايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كٰاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كٰاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمٰا عَلَّمَهُ اللّٰهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّٰهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً﴾(1). فالأولويّة في الإثبات إذاً للكتابه، ولكن لمّا كانت حضارة العصر تقصر دون ذلك، وتقف عن مجاراة هذا التقدّم لم يستطع الفقهاء إلا أن يسايروا حضارة عصرهم، فإذا بالفقه الإسلامي يرتفع بالشهادة إلى مقام تنزل عنه الكتابة نزولاً بيّناً. ومن العجيب أنّ عصر التقليد في الفقه الإسلامي لم يدرك العوامل التي كانت وراء تقدّم الشهادة على الكتابة، فظلّ يردّد ما قاله الفقهاء الأوّلون في تقديم الشهادة، وذلك بالرغم من أنّهم كانوا يستطيعون أن يقلّبوا الوضع، فيقدّموا الكتابة يؤازرهم في ذلك انتشار الكتابة وتُظاهرهم آيات القرآن الكريم».

إنتهى ما أردنا نقله من الوسيط.

وكتب أحمد نشأت في كتابه يقول:

«قد اتّبعت معظم الشرائع قاعدة في الإثبات الكتابة، وأمر بذلك القرآن الكريم:


(1) البقرة: 282.

185

﴿یا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا تَدٰايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كٰاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كٰاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمٰا عَلَّمَهُ اللّٰهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّٰهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كٰانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَاِمْرَأَتٰانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدٰاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدٰاهُمٰا فَتُذَكِّرَ إِحْدٰاهُمَا الْأُخْرىٰ وَلاٰ يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ إِذٰا مٰا دُعُوا وَلاٰ تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلىٰ أَجَلِهِ ذٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّٰهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهٰادَةِ وَأَدْنىٰ أَلّا تَرْتٰابُوا إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً حٰاضِرَةً تُدِيرُونَهٰا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَلّا تَكْتُبُوهٰا﴾(1)».(2)

ولا يخفى أنّ هذه الآية الشريفة ليست دليلاً على أنّ الكتابة إحدى وسائل الإثبات في باب القضاء، إذ جعلت الآية المباركة الكتابة كوسيلة لتقويم الشهود من ناحية، ودفع الارتياب من نفس أطراف المعاملة من ناحية أُخرى؛ حيث قال: ﴿ذٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّٰهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهٰادَةِ وَأَدْنىٰ أَلّا تَرْتٰابُوا﴾. أمّا إذا وقع الارتياب وحصل النزاع، فهل من حقّ القاضي أن يقضي بمجرّد الكتابة؟ فهذا ما لم تدل عليه الآية الكريمة.

هذا، وطرق الإثبات في الفقه الإسلامي عبارة عن:

1_ العلم.

2_ البيّنة.

3_ اليمين.


(1) البقرة: 282.

(2) رسالة الإثبات، ج1، ص105، الفقرة رقم56، الطبعة السابعة.

186

4_ الإقرار.

5_ القرعة.

أمّا قاعدة العدل والإنصاف فقد تخصم بها الدعوى، لكنّها ليست من طرق الإثبات، فهي طبعاً لا تعني أنّ كلا الطرفين على حقّ، وإنّما تعني التنصيف عند عدم معرفة المالك الحقيقي كي يحصل المالك الواقعي على نصف ماله على كلّ تقدير، ولا يحرم أيّ واحد منها حرماناً كاملاً ما دام يحتمل كونه هو المالك.

أمّا الكتابة فليست _ بما هي _ طريقاً للإثبات في الفقه الإسلامي.

الطعن على الإسلام

ومن هنا يأتي الطعن على الإسلام بأنّه لا ينسجم مع وضع اليوم؛ إذ من الواضح أنّ رفض الكتابة اليوم _ وهي أقوى بكثير من جهة كشفها الحقيقي من البيّنة _ أمر غير عقلائي، فالإسلام دين لظروف مضت ولزمان انصرم.

والجواب: أنّ الكتابة قد تورث العلم، وقد لا تورث العلم، فإن أورثت العلم فقد دخلت في الطريق الأول من طرق الإثبات في الفقه الإسلامي كما ذهب إليه مشهور أصحابنا _ قدّس اللّه أسرارهم _ وكان طريق الإثبات في الحقيقة هو العلم من أيّ سبب نشأ، لا الكتابة.

أمّا إذا لم تورث العلم فهي غالباً أضعف من المدرك الذي أوجب للبيّنة العلم، والقاضي وإن كان تعامله ليس مباشرةً مع مدرك علم البيّنة، وإنّما تعامله معه بواسطة علم البيّنة، بينما الكتابة هي المدرك المباشر لحصول الظنّ عند القاضي، فقد يفضِّل الاتكاء على هذا المدرك المباشر على الاتكاء على ذاك المدرك غير المباشر، ولكن المشرّع ليس هو القاضي، وإنّما هو شخص ثالث نسبته إلى القاضي والبيّنة

187

على حدّ سواء، ومن حقّه أن يفضّل المدرك الذي أوجب العلم للبيّنة على المدرك الذي أوجب الظن للقاضي.

وبعد هذا نشرع في البحث عن الطرق التي اعتمد عليها فقهنا الإسلامي للإثبات في القضاء.