247

حکم الاستنساخ

أمّا البحث عن حكم ذلك، فتارةً يكون عن جواز نفس الاستنساخ في شريعة الإسلام، وأُخرى يكون عمّا يترتّب من الأحكام على الحصيلة المتحصّلة بهذه العملية:

أمّا البحث عن جواز أصل عمليّة الاستنساخ، فلا ريب في أنّه يجب في ذلك الاجتناب عن المحرّمات التي ربّما يكون الإقدام على ذلك مصاحباً لها، فليجتنب مثلاً عن مسّ الأجنبي أو الأجنبيّة لبدن إنسان تُؤخذ منه الخليّة، وكذا النظر إلى ما يحرم النظر إليه، ونظر غير الزوجين إلى عورة غيرهما وإن كان من المحارم.

إلّا أنّ هذه الأحكام أحكام مستقلّة وإذا لم يراع أمثالها، لم يوجب ذلك حرمة نفس الاستنساخ.

نعم، في الاستنساخ التقليدي للإنسان قد يقال: بأنّ استنساخه بشكل وافر يخلق الهرج والمرج في المجتمع: كإمكانيّة اشتباه المجرم كثيراً، وتكثّر الإجرام، وإخفاء الجرم دائماً، وما إلى ذلك.

إلّا أنّ هذا أيضاً إن تحقّق فهو خاص بصورة غير ملازمة، فلا يحرّم الاستنساخ الفردي القليل مثلاً.

وفي الاستتئام قد يقال: إنّه يحرم إعدام النطفة وإلقاؤها من الرحم في جميع مراحل وجودها كما دلّت على ذلك روايات معتبرة من قبيل موثّقة إسحاق بن عمّار: «قلت لأبي الحسن(علیه السلام): المرأة تخاف الحبل فتشرب الدواء، فتلقي ما في بطنها؟ قال: لا. فقلت: إنّما هو نطفة. فقال: إنّ أوّل ما يخلق نطفة»(1). ونظيرها صحيحة رفاعة: قال: «قلت لأبي عبدالله(علیه السلام): أشتري الجارية، فربّما احتبس طمثها من فساد دم أو ريح

 


(1) وسائل الشیعة، ج29، ص25، الباب7 من أبواب القصاص في النفس، ح7.

248

في رحم، فتسقى دواءً لذلك، فتطمث من يومها، أفيجوز لي ذلك وأنا لا أدري من حبل هو أو غيره؟ فقال لي: لا تفعل ذلك. فقلت له: إنّه إنّما ارتفع طمثها منها شهراً، ولو كان ذلك من حبل إنّما كان نطفة كنطفة الرجل الذي يعزل. فقال لي: إنّ النطفة إذا وقعت في الرحم تصير إلى علقة، ثم إلى مضغة، ثم إلى ما شاء الله، وإنّ النطفة إذا وقعت في غير الرحم لم يخلق منها شيء، فلا تسقها دواءً إذا ارتفع طمثها شهراً وجاز وقتها الذي كانت تطمث فيه»(1).

فهاتان الروايتان صريحتان في تحريم إسقاط ما يصلح أن يكون منشأً للولد من الرحم ولو كان على مستوى النطفة، فإذا كان الاستتئام موجباً لفقد خليّة منها كما لعلّه الأغلب كان حراماً، فليجتنب عنه.

وقد يقال في جواب ذلك: إنّ ما وقعت في الرحم من الخلايا ليست عادةً كلّها قادرة لطيّ المسافة إلى حين تكوّن الولد في عرض واحد، وإنّما يتكوّن منها القليل كالواحدة مثلاً، فإذا كان ما أُخذ من الرحم بالطريقة الماضية يموت بعضها، وتتكوّن منها الواحدة، فهذا كاف لتلبية ما تتطلّبه حرمة الإسقاط أو الإعدام؛ إذ لا نعلم بقابلية أكثر من الواحدة على سبيل البدل لذلك.

إلّا أنّ هذا الإشكال إن صحّ، ولم نقل بكفاية قابلية ما يُعدم لنشوء الولد ولو بدلاً في الحرمة، يبقى أنّ احتمال موت الجميع بالعمليّة الماضية وعدم تمامية الإنجاب نهائيّاً واردٌ؛ فإنّ نجاح العمليّة ليس مضموناً في كلّ قضيّة قضيّة، وإنّما أثبت العلم النجاح في بعض العمليّات، وهذا تقريب آخر للحرمة، وهو كاف لضرورة الاجتناب.

إلّا أنّ هذا العمل المحرّم بكلا تقريبيه يقع في مقدّمة الوصول إلى الاستتئام، ونفس الاستتئام ليس بمحرّم بمقتضى هذه الروايات.

 


(1) وسائل الشيعة، ج2، ص338، الباب 33 من أبواب الحيض، ح1.

249

هذا حكم نفس الإقدام على هذه العمليّات.

وأمّا حكم ما يتحقّق من كلّ واحد من هذه الأقسام، فالبحث فيها ما يلي:

القسم الاݨٔوݧّل من الاستنساخ

القسم الأوّل من الاستنساخ هو الاستنساخ التقليدي المؤدّي إلى حصول عضو جديد كالجلد مثلاً، ولا ريب في جواز الانتفاع به في علاج صاحب الخليّة، أي: الذي أُخذت منه الخليّة إذا كان صاحبها إنساناً، ولا مجال لتوهّم حرمة هذا الانتفاع به؛ لشبهة اعتبار رضا صاحب العضو في الانتفاع بعضوه، ولو احتملت حرمة العلاج بنفسه يرفع الاحتمال بأصالة البراءة.

ولا ريب أيضاً في جواز الانتفاع به في علاج الأرحام لصاحب تلك الخليّة، وللأجانب برضا المالك أو بالشراء منه.

ولو قلنا: إنّ المالك أو صاحب الاختصاص هو صاحب الخليّة اشترط في الحلّ رضاه بمال أو مجّاناً.

نعم، قد يقال بنجاسة العضو الجديد إذا كان مشتملاً على اللحم والدم مثلاً بسبب أنّه كالأعضاء المقطوعة من الحيّ.

ولكن لا ينبغي الإشكال في عدم شمول روايات نجاسة الأعضاء المبانة من الحيّ لذلك(1)، فإذا شككنا في الطهارة والنجاسة، فإن قلنا بجريان أصالة الطهارة لدى الشكّ في نجاسة شيء من أوّل أمره انتهى الإشكال، وإن لم نقل بذلك بناءً على الإشكال الموروث من أُستاذنا الشهيد الصدر(رحمه الله)(2) الناتج من التشكيك في كيفيّة

 


(1) وسائل الشيعة، ج23، ص376، الباب24 من أبواب الصيد؛ وج24، ص71، الباب30 من أبواب الذبائح.

(2) بحوث في شرح العروة الوثقی، ج1، ص87.

250

قراءة «قذر» في جملة: «حتّى تعلم أنّه قذر»(1)، قلنا: إنّ الشكّ في الطهارة والنجاسة يكفي في إجراء الأُصول المؤمّنة عن أحكام النجاسة، فينتهي الإشكال بذلك أيضاً.

القسم الثاني من الاستنساخ

والقسم الثاني من الاستنساخ هو الاستتئام، ولا شكّ في أنّ ما يتحقّق منه يكون توأمين أو توائم متعدّدة أباً وأُمّاً، وحالها حال باقي الإخوة والأخوات في التوالد الطبيعي العادي، وكذلك النسبة بينهم وبين سائر الأقرباء.

نعم، يبقى الحديث عن النسبة بين الطفل وبين المرأة التي غذّته برحمها، ولم تكن صاحبة البُيَيْضَة، وهي المسمّاة بالأُمّ الحاضن.

فقد يقال: إنّها هي الأُمّ شرعاً دون التي قلنا إنّها هي الأُمّ الحقيقيّة؛ وذلك لقوله تعالى: ﴿إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ﴾(2)، وعلى هذا الأساس يقال في الأُمّ الحاضن _ سواء كان في مورد الاستتئام أو غيره _ : إنّها هي الأُمّ الحقيقيّة شرعاً، كما صرّح بذلك السيّد الخوئي(رحمه الله) على ما ورد في كتاب «مسائل وردود» مجيباً على سؤال موجّه إليه ما نصّه:

«مسألة (284): أ _ رجل زرع نطفته في رحم امرأة أجنبيّة بواسطة الوسائل الطبّيّة متّفقاً معها على حمل الجنين مقابل مبلغ معيّن من المال؛ لأنّ رحم زوجته لا يتحمّل حمل الجنين. والنطفة مكوّنة من مائه هو وماء زوجته الشرعيّة، وإنّما الامرأة الأجنبيّة وعاء حامل فقط، فمع العلم بحرمة ذلك لاختلاط المياه، لكن المشكلة التي حدثت بعدئذٍ هي أنّ المرأة المستأجرة للحمل طالبت بالولد الذي نما وترعرع في أحشائها، فما قولكم؟

 


(1) وسائل الشيعة، ج3، ص467، الباب37 من أبواب النجاسات والأواني والجلود، ح4.

(2) المجادلة: 2.

251

بسمه تعالى

المرأة المذكورة التي زُرِعَ المنيُّ في رحمها أُمٌّ للولد شرعاً؛ فإنّ الأُمّ هي المرأة التي تلد الولد، كما هو مقتضى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ﴾، وصاحب النطفة أب له، وأمّا زوجته فليست أُمّاً له، وعلى هذا فالمرأة المزبورة من حقّها أن تأخذ الولد إلى سنتين من جهة حقّ الحضانة لها. والله العالم.

ب _ وما حكم هذا الولد من حيث التوارث والنسب؟

بسمه تعالى

يترتّب عليه تمام أحكام الولد من السببيّة والنسبيّة بالنسبة إلى أبيه وأُمّه. والله العالم»(1).

انتهى ما في كتاب مسائل وردود.

إلّا أنّ هذا الكلام غير تامّ؛ إذ لا شكّ أنّ الأُمّ الحقيقيّة العرفيّة إنّما هي صاحبة البُيَيْضة، وأنّ الملاك للأُمومة واضح عند العقلاء، وهو كون النطفة حاصلة من بُيَيْضتها على حدّ أنّ والديّة الأب تكون بسبب أنّ خلايا الولد ولدت منه. والآية المشار إليها لا دلالة لها على خلاف ذلك في المقام؛ فإنّها _ على ما يظهر من سياقها _ ليست بصدد بيان أُمّ ولو تعبّديّة، وإنّما هي بصدد بيان الأُمّ الحقيقيّة لمن يظاهر من امرأته، وأنّ أُمّه الحقيقيّة هي التي ولدته، وليست التي ظاهر منها، قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً...﴾(2).

 


(1) مسائل وردود، ص 99 _ 100.

(2) المجادلة: 2.

252

وقد يقال: إنّ الأُمّ الحاضن هي بمنزلة الأُمّ الرضاعيّة؛ وذلك على أساس مقدّمتين:

الأُولى: أصل فكرة الأُمّ الرضاعيّة، فلو أنّها كانت ترضع ولداً من دون حضانة في الرحم ولا ولادة، فلا شكّ في أنّ ذلك كان يخلق قرابة رضاعيّة تحلّ محلّ قرابة النسب.

والثانية: أنّ تأثير الأُمّ الحاضن في اشتداد اللحم والدم والعظم للطفل أشدّ بكثير من اشتدادها بالرضاع، فتدّعى الأولويّة العرفيّة في نفس التأثير.

والجواب: أنّه لم يكن تمامُ الملاك في خلق القرابة الرضاعيّة الحالّة محلّ القرابة النسبيّة مسألة اشتداد لحم الطفل وبدنه بها، بل لذلك شروط تعبّديّة:

فمثلاً: قد دلّ النصّ التامّ السند على أنّه لو درّ اللبن من المرأة من غير ولادة، وأرضعت طفلاً، لم تنشر الحرمة، كما هو صريح صحيحة يونس بن يعقوب، ورواية موسى بن عمر البصري غير التامّة سنداً(1).

وأيضاً أفتى الأصحاب بعدم انتشار الحرمة بالإرضاع من الزنا.

وأيضاً دلّت النصوص التامّة على أنّ مقياس نشر الحرمة هو لبن الفحل، وليس بطن المرأة(2). وأنا أقتصر هنا على ذكر الرواية الأُولى من الباب، وهي:

صحيحة بريد العجلي: «سألت أبا جعفر(علیه السلام)عن قول رسول الله(صلى الله عليه و آله): يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، فسّر لي ذلك، فقال: كلّ امرأة أرضعت من لبن فحلها ولد امرأة أُخرى من جارية أو غلام، فذلك الذي قال رسول الله(علیه السلام). وكلّ امرأة أرضعت من لبن فحلين كانا لها واحداً بعد واحد من جارية أو غلام، فإنّ ذلك رضاع، ليس بالرضاع الذي قال رسول الله(صلى الله عليه و آله): يحرم من الرضاع ما يحرم من

 


(1) راجع وسائل الشيعة، ج20، ص398، الباب9 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

(2) المصدر السابق، ص388، الباب6 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

253

النسب، وإنّما هو من نسب ناحية الصهر رضاع، ولا يحرّم شيئاً، وليس هو سبب رضاع من ناحية لبن الفحولة فيحرّم».

نعم وجدنا روايتين تدلّان على أنّ وحدة البطن كوحدة الفحل في نشر الحرمة:

الأُولى: رواية محمّد بن عبيدة الهمداني، _ وهو رجل مجهول _ قال: «قال الرضا(علیه السلام): ما يقول أصحابك في الرضاع؟ قال: قلت: كانوا يقولون: اللبن للفحل حتّى جاءتهم الرواية عنك: إنّك تحرّم من الرضاع ما يحرم من النسب، فرجعوا إلى قولك. قال: فقال: وذلك أنّ أمير المؤمنين (يعني المأمون) سألني عنها البارحة، فقال لي: اشرح لي: اللبن للفحل وأنا أكره الكلام، فقال لي: كما أنت حتّى أسألك عنها، ما قلت في رجل كانت له أُمّهات أولاد شتّى، فأرضعت واحدة منهنّ بلبنها غلاماً غريباً أليس كلّ شيء من ولد ذلك الرجل من أُمّهات الأولاد الشتّى محرّماً على ذلك الغلام؟ قال: قلت: بلى. قال: فقال أبو الحسن(علیه السلام): فما بال الرضاع يحرّم من قبل الفحل، ولا يحرّم من قبل الأُمّهات؟! وإن كان لبن الفحل أيضاً يحرّم»(1).

وهذه الرواية مع سقوطها سنداً يُشمّ منها رائحة التقيّة.

والثانية: موثّقة جميل بن درّاج عن أبي عبدالله(علیه السلام)قال: «إذا رضع الرجل من لبن امرأة حرم عليه كلّ شيء من ولدها وإن كان من غير الرجل الذي كانت أرضعته بلبنه، وإذا رضع من لبن رجل حرم عليه كلّ شيء من ولده وإن كان من غير المرأة التي أرضعته»(2).

إلّا أنّ الظاهر أنّ المعمول به لدى معروف الأصحاب هو الأوّل دون الثاني، فوحدة البطن في باب الرضاع لا تنشر الحرمة حتّى يحمل المقام عليه بالأولويّة.

 


(1) المصدر السابق، ص391، الباب6 من أبواب ما يحرم بالرضاع، ح9.

(2) المصدر السابق، ص403، الباب15 من أبواب ما يحرم بالرضاع، ح3.

254

القسم الثالث من الاستنساخ

والقسم الثالث من الاستنساخ هو الاستنساخ التقليدي للبشر لو نجح العلم في ذلك ولو مستقبلاً.

والصحيح في ذلك: أنّ هذا الطفل: إمّا أنّ له أباً ولا أُمّ له، أو أنّ له أُمّاً ولا أب له؛ وذلك لأنّه اتّضح ممّا تقدّم أنّ بُيَيْضة المرأة التي أُفرغت من نواتها ليست هي المكوّنة للطفل بأكثر من أنّ سيتوبلازمها يعمل كغذاء مناسب لنموّ النطفة، فالنطفة الحقيقيّة إنّما هي نواة خليّة جزء من عضو رجل أو امرأة _ ولو كانت نفس تلك المرأة _ والذي أُريدَ استنساخ فرد مثله، فإن كان ذاك رجلاً فهو أبوه، وإن كان امرأة فهي أُمّه.

ولا يشترط في شرعيّة هذا الأب أو الأُمّ عقد شرعيّ؛ فإنّ العقد الشرعيّ إنّما ورد في تلاقح الخلايا الجنسيّة.

وبذلك يتعيّن كلّ نسب هذا الطفل، وتثبت جميع أحكام النسب بإطلاق أدلّتها.

وفرض انصرافها إلى باب التزاوج الطبيعي ليس إلّا انصرافاً بدويّاً ناتجاً من انحصار الفرد المتعارف في عصر النصّ بذلك.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

255

بحث في اللقطة ومجهول المالك

257

بحث في اللقطة ومجهول المالك

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطاهرين.

تعریف الضالة واللقطة

جرى اصطلاح الفقهاء على تسمية الطفل الضائع الملتقط بـ «اللقيط» والحيوان بـ «الضالّة» وغيرهما بـ «اللقطة». وبحثنا هنا يكون في الضالّة واللقطة ومجهول المالك. أمّا اللقيط فلا نبحث عنه هنا.

ويبدو أنّ الضالّة تستعمل لغةً وعرفاً في الحيوان بخصوصه وفي مطلق ما ضلّ ولو لم يكن حيواناً، ولذا تقول مثلاً: «الحكمة ضالّة المؤمن»(1). وكأنّ نكتة استعمال الضالّة بمعنى الحيوان بالخصوص هي ما يمتلكه الحيوان من نوع من الشعور والإرادة والتعلّق بمحلّه الخاص أو بمالكه، فإذا وقع في مكان آخر فقد أصبح ضالّاً، أي تائهاً عن الطريق وعن مكانه الأصلي وصاحبه لا يهتدي إليه سبيلاً. أمّا الجوامد فلا علاقة لها بمكان معيّن ومحلّ خاص أو مالك معيّن كي يقال: إنّها تاهت عن المكان أو المالك، وفي نفس الوقت يصدق عليها أيضاً الضالّة بمناسبة مالكها الذي يفهم ويعقل وله

 


(1) الكافي، ج8، ص167، حديث الناس يوم القيامة من كتاب الروضة، ح186.

258

تعلّق بها فقد ضيّعها وتاهت عنه. إذاً فكلمة «الضالّة» يناسب استعمالها في خصوص الحيوان وفي مطلق المال، وقد استعملت في الروايات بكلا المعنيين:

فقد روى الصدوق(رحمه الله) في الفقيه بسنده عن مسعدة بن زياد عن الصادق(علیه السلام)عن أبيه أنّ عليّاً قال: «إيّاكم واللقطة؛ فإنّها ضالّة المؤمن، وهي حريق من حريق جهنّم»(1). فهنا قد اطلق الضالّة على مطلق اللقطة، وسند الحديث تام.

وروى الشيخ(رحمه الله)(2) والصدوق(رحمه الله)(3) عن الحسين بن زيد عن جعفر عن أبيه(علیهما السلام) قال: «كان أمير المؤمنين(علیه السلام)يقول في الضالّة يجدها الرجل فينوي أن يأخذ لها جعلاً فتنفق؟ قال: هو ضامن، فإن لم ينو أن يأخذ لها جعلاً ونفقت فلا ضمان عليه». وسند الحديث غير تام. وقد استعملت الضالّة هنا في خصوص الحيوان بقرينة كلمة «تنفق» و«نفقت».

وروى علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن(علیه السلام)قال: «سألته عن جعل الآبق والضالّة؟ قال: لا بأس به»(4). وسند الحديث تام، والظاهر أنّ الضالّة هنا استعملت في خصوص الحيوان؛ بقرينة إقرانها بالآبق.

وعلى أيّ حال فلو ثبت حكم في الأخبار للضالّة ولم تكن هناك قرينة على استعمالها بمعنى مطلق اللقطة وكان يحتمل العرف الفرق، لم يصحّ التعدّي إلى غير الحيوان.

وأمّا كلمة «اللقطة» فقد ذكر صاحب الجواهر(رحمه الله) أنّها كلّ مال غير الحيوان ضائع أُخذ ولا يد عليه(5).

 


(1) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص292، باب اللقطة والضالة من کتاب المعيشة، ح4048.

(2) تهذيب الأحكام، ج6، ص396، باب اللقطة والضالة، ح32.

(3) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص296، باب اللقطة والضالة من کتاب المعيشة، ح4061.

(4) وسائل الشيعة، ج23، ص189، الباب الأول من كتاب الجعالة، ح۱، وص86، الباب٥٠ من كتاب العتق، ح۱.

(5) جواهر الكلام، ج ۳۸، ص ۲۷۱.

259

أقول: لا أظنّ تقيّد اللقطة لغةً أو عرفاً بغير الحيوان، وقد ورد في بعض الروايات إطلاقها على الحيوان، كرواية علي بن جعفر _ التامّة سنداً _ عن أخيه موسى بن جعفر(علیه السلام)قال: «سألته عن اللقطة إذا كانت جارية هل يحلّ فرجها لمن التقطها؟...»(1).

وعلى أيّ حال فلو ثبت حكم للّقطة وكان العرف يحتمل الفرق فيه بين اللقطة ومجهول المالك غير اللقطة، فإن كان مركز احتمال الفرق هو إمكانية التعريف في اللقطة وعدم إمكانيّته في كثير من الأحوال في مجهول المالك غير اللقطة إذاً نتعدّى إلى خصوص مجهول المالك الذي يمكن تعريفه ونتعدّى في الحكم من اللقطة التي لا يمكن تعريفها إلى كلّ مجهول المالك ممّا لا يمكن تعريفه، ويصبح المعيار هو عنوان إمكان التعريف وعدمه، لا عنوان اللقطة ومجهول المالك غير اللقطة. وإن كان مركز الاحتمال هو نفس عنوان الالتقاط، إذاً لا يمكن التعدّي إلى مجهول المالك غير اللقطة. فمثلاً لو حرم الالتقاط لم يدلّ ذلك على حرمة الأخذ من السارق؛ لأنّ احتمال الفرق عرفاً موجود، فلعلّه قد حرم الالتقاط برجاء أن يأتي صاحب المال ويأخذه، بينما الأخذ من السارق إنقاذ لمال صاحبه من يد السارق.

تبویب البحث

و على أيّ حال فمنهج البحث عندنا: هو أنّنا نبحث أولاً عن كلّ حكم حكم من أحكام اللقطة، وفي ذيل كلّ حكم نشير إلى أنّه هل هناك فرق في هذا الحكم بين الحيوان وغير الحيوان أو أنّ الحيوان لا يختلف فيه عن غيره؟

ثم نشير إلى حكم مجهول المالك غير اللقطة.

ثم نشير إلى أنّ الثغرات في مسألة اللقطة ومجهول المالك تملأ بولاية الفقيه.

 


(1) وسائل الشيعة، ج25، ص443، الباب2 من كتاب اللقطة، ح8.

260

أحکام اللقطة

أمّا ما نذكره من أحكام اللقطة:

الحکم الأول: حکم الالتقاط تکليفاً

فأوّلاً _ هل يجوز الالتقاط أو لا؟

قد ورد في الروايات النهي عن الالتقاط، من قبيل ما عن مسعدة بن زياد عن الصادق عن أبيه(علیهما السلام) أنّ عليّاً(علیه السلام)قال: «إيّاكم واللقطة؛ فإنّها ضالّة المؤمن، وهي حريق من حريق جهنّم»(1). وسند الحديث تام.

وما عن محمد بن مسلم عن أحدهما(علیهما السلام)، قال: «سألته عن اللقطة، قال: لا ترفعوها، فإن ابتليت فعرّفها سنة، فإن جاء طالبها وإلا فاجعلها في عرض مالك يجري عليها ما يجري على مالك إلى أن يجيء لها طالب»(2). وسند الحديث تام.

وما عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر(علیه السلام)قال: «سألته عن اللقطة؟ قال: لا ترفعها، فإن ابتليت بها فعرّفها سنة، فإن جاء طالبها وإلا فاجعلها في عرض مالك يجري عليها ما يجري على مالك حتّى يجيء لها طالب، فإن لم يجئ لها طالب فأوصِ بها في وصيّتك»(3). وسند الحديث تام.

وما عن الحسين بن أبي العلا قال: «ذكرنا لأبي عبدالله(علیه السلام)اللقطة، فقال لا تعرّض لها؛ فإنّ الناس لو تركوها لجاء صاحبها حتّى يأخذها»(4). وسند الحديث تام.

وقد يقال: إنّ النواهي الواردة عن التقاط اللقطة تحمل على الكراهة؛ وذلك للأخبار التي بيّنت أحكام اللقطة من مثل التعريف مع سكوتها عن النهي عن الالتقاط، بينما

 


(1) وسائل الشيعة، ج25، ص440، الباب الأول من كتاب اللقطة، ح8.

(2) المصدر السابق، ص442، الباب2 من كتاب اللقطة، ح۳.

(3) المصدر السابق، ص444، ح10.

(4) المصدر السابق، ص439، الباب الأول من كتاب اللقطة، ح2.

261

لو كان حراماً كان ينبغي النهي، من قبيل رواية علي بن جعفر(علیه السلام)قال: «...وسألته عن الرجل يصيب درهماً أو ثوباً أو دابّة كيف يصنع؟ قال: يعرّفها سنة، فإن لم يعرف حفظها في عرض ماله حتّى يجيء طالبها فيعطيها إيّاه، وإن مات أوصى بها، وهو لها ضامن»(1). وسند الحديث تام.

وقد يُستشکل في ذلك بأنّ هذا السكوت قد لا يقاوم النهي الوارد، ولكن هناك ما تكون دلالته على جواز الالتقاط أقوى من هذا السكوت:

فأوّلاً: الروايات التي اقترن السكوت فيها بما هو ظاهر في التملّك أو شبه التملّك بعد التعريف، من قبيل رواية حنان قال: «سأل رجل أبا عبدالله(علیه السلام)_ وأنا أسمع _ عن اللقطة، فقال: تعرّفها سنة، فإن وجدت صاحبها وإلا فأنت أحقّ بها وقال: هي كسبيل مالك. وقال: خيّره إذا جاءك بعد سنة بين أجرها وبين أن تغرمها له إذا كنت أكلتها»(2). فإذا ضممنا السكوت وما ظاهره التملّك أو شبه التملّك إلى استغراب التجويز في التملّك عرفاً مع فرض ارتكابه الحرام في أصل الالتقاط تقوى الدلالة العرفيّة على جواز الالتقاط.

ورواية الحلبي التامّة سنداً عن أبي عبدالله(علیه السلام)«في اللقطة يجدها الرجل الفقير، أهو فيها بمنزلة الغنيّ؟ قال: نعم. واللقطة يجدها الرجل ويأخذها؟ قال: يعرّفها سنة، فإن جاء لها طالب وإلا فهي كسبيل ماله. وكان علي بن الحسين(علیه السلام)يقول لأهله: لا تمسّوها»(3).

 


(1) من لا يحضره الفقيه، ج۳، ص292، باب اللقطة والضالة من کتاب المعيشة، ح4049؛ تهذيب الأحكام، ج ٦، ص397، باب اللقطة والضالة، ح38؛ وسائل الشيعة، ج25، ص444، الباب2 من كتاب اللقطة، ح13، مع بعض الفوارق اللفظية.

(2) وسائل الشيعة، ج25، ص442، الباب2 من كتاب اللقطة، ح5.

(3) تهذيب الأحكام، ج٦، ص389، باب اللقطة والضالة، ح3، وقد قطّعه صاحب الوسائل على الأبواب، وسائل الشيعة، ج25، ص441، الباب الأول من كتاب اللقطة، ح1، الباب2، ح1، وص461، الباب16، ح1، وفي الأخير لم يذكر المتن وإنّما ذكر رواية علي بن جعفر، وقال: إنّ رواية الحلبي نحوه.

262

فترى هنا يسكت عن النهي، ويحكم(علیه السلام)بأنّه كسبيل ماله بعد التعريف، ثم يذكر النهي بلسان لا يستفاد منه أكثر من الكراهة، حيث ينسب النهي إلى علي بن الحسين(علیه السلام)في مقام نصحه لأهله.

وتشبه هذه الرواية رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر(علیهما السلام) قال: «سألته عن اللقطة يصيبها الرجل؟ قال: يعرّفها سنة، ثم هي كسائر ماله...»(1). وسند الحديث تام.

وثانياً: قد ورد نهي المملوك عن الالتقاط معلّلاً بأنّه لا يملك من نفسه شيء، وأنّه لابدّ من التعريف سنة، فالمملوك الذي لا يستطيع القيام بهذه الوظيفة لا ينبغي له أن يلتقط، وهذا كما ترى يدل على جواز الالتقاط لمن يستطيع التعريف، والحديث الوارد بهذا الصدد هو ما رواه أبو خديجة(2)عن أبي عبدالله(علیه السلام)، قال: «سأله ذريح عن المملوك يأخذ اللقطة؟ فقال: وما للمملوك واللقطة؟! والمملوك لا يملك من نفسه شيئاً، فلا يعرض لها المملوك فإنّه ينبغي ينبغي أن يعرّفها سنة في مجمع، فإن جاء طالبها دفعها إليه، وإلا كانت في ماله، فإن مات كانت ميراثاً لولده ولمن ورثه، فإن

 


(1) وسائل الشيعة، ج25، ص444، الباب2 من كتاب اللقطة، ح12.

(2) المقصود منه هنا سالم بن مكرم لا سالم بن سلمة؛ بقرينة رواية الوشاء عن أحمد بن عائذ عنه، وسالم ابن مكرم قد ذكر بحقّه النجاشي أنّه «ثقة ثقة»(رجال النجاشي، ص188)، ولكن قال الشيخ: «سالم بن مكرم يكنى أبا خديجة، ومكرم يكنى أبا سلمة، ضعيف...»(فهرست الطوسي، ص226)، إلا أنّ هذا التضعيف ليس بحجّة؛ لأنّ الشيخ تخيّل أنّ أباه يكنى أبا سلمة، فلعلّه اشتبهه بسالم بن أبي سلمة الذي قال عنه النجاشي: «حديثه ليس بالنقي، وإن كنّا لا نعرف منه إلا خيراً». (رجال النجاشي، ص190).

وأمّا سالم بن مكرم فهو المكنّى بأبي سلمة لا أبوه، كما جاء في سند بعض الروايات تكنيته بذلك، وكنّاه النجاشي(رجال النجاشي، ص189) والبرقي(رجال البرقي، ص32) بذلك، ونقل النجاشي(رجال النجاشي، ص188)، والكشّي(رجال الكشي، ص352) أنّ أبا عبدالله(علیه السلام)كنّاه بأبي سلمة بعد أن كان مكنّى بأبي خديجة.

263

لم يجئ لها طالب كانت في أموالهم هي لهم، فإن جاء طالبها بعدُ دفعوها إليه»(1). وسند الحديث تام إن لم نناقش في أبي خديجة.

وثالثاً: قد ورد في لقطة الحرم التي تمتاز بنهي خاص عن الالتقاط _ أي: إنّ الأمر فيها أشدّ _ الترخيص بالالتقاط لمن يعرّف، فقد ورد عن فضيل بن يسار قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام)عن الرجل يجد اللقطة في الحرم، قال: لا يمسّها، وأمّا أنت فلا بأس لأنّك تعرّفها»(2).وسند الحديث ضعيف.

وأيضاً ورد عن الفضيل بن يسار قال: «سألت أبا جعفر(علیه السلام)عن لقطة الحرم، فقال: لا تمسّ أبداً حتّى يجيء صاحبها فيأخذها. قلت: فإن كان مالاً كثيراً، قال: فإن لم يأخذها إلا مثلك فليعرّفها»(3). وسند الحديث تام.

وقد ورد عن حريز بسند تام عن أبي عبدالله(علیه السلام)_ في حديث _ قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه و آله): ألا إنّ الله قد حرّم مكّة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة؛ لا ينفّر صيدها، ولا يعضد شجرها، ولا يختلى خلاها، ولا تحلّ لقطتها إلا لمنشد، فقال العبّاس: يا رسول الله، إلا الإذخر فإنّه للقبر والبيوت، فقال رسول الله(صلى الله عليه و آله): إلا الإذخر»(4).

فقوله: «لا تحلّ لقطتها» يدل على اشتداد النهي عن التقاط اللقطة في الحرم لغير المنشد؛ أي لغير المعرّف. وموضوع الكلام وإن كان هو مكّة ولكن المقصود منه كلّ الحرم؛ بقرينة كلامه عن تحريم الله مكّة، ونحن نعلم أنّ التحريم لكلّ الحرم، وتخصيص الحرم بالنهي عن الالتقاط إمّا يعني أنّ الالتقاط في غير الحرم لغير المنشد

 


(1) وسائل الشيعة، ج25، ص465، الباب20 من كتاب اللقطة، ح1.

(2) المصدر السابق، ج13، ص261، الباب۲۸ من أبواب مقدمات الطواف، ح٥.

(3) المصدر السابق، ص260، ح۲.

(4) المصدر السابق، ج 12، ص557، الباب۸۸ من أبواب تروك الإحرام، ح۱.

264

ليس حراماً وإن حرم عدم الإنشاد، أو يعني اشتداد الحرمة في الحرم، أو يعني ثبوت الحرمة حتّى على اللقطة التي يجوز التقاطها لغير المنشد في غير الحرم، وهي المحقّرات.

وعلى أيّ حال فقوله: «إلا لمنشد» يدل على جواز الالتقاط في الحرم لمن يعرّف، فكيف بغير الحرم؟! هذا.

بل بالإمكان القول بأنّ التقاط اللقطة ليس فقط غير مشتمل على الحرمة لمن يعرّف، بل غير مشتمل على الكراهة أيضاً بالمعنى المصطلح، وإنّما النهي الوارد عن التقاطها إرشاد إلى صعوبة التكليف المترتّب عليها أو إلى التخوّف عن الوقوع في الحرام من قبلها، كما يشهد لذلك تعليل النهي عن الالتقاط في ما مضى من رواية مسعدة بن زياد بأنّها حريق من حريق جهنّم، ويشهد لذلك أيضاً ما عرفته من روايات لقطة الحرم المخصّصة للنهي بغير من هو مثل فضيل بن يسار الذي يكون من المضمون قيامه بالتعريف.

يبقى أنّ هذا الشاهد الثاني ينافي التفصيل _ الوارد في حديث يعقوب بن شعيب _ بين لقطة الحرم ولقطة غير الحرم، فإذا كان النهي _ حتّى في لقطة الحرم بالنسبة لمن يعرّف _ إرشاداً إلى صعوبة العمل بالتكليف أو التخوّف من الوقوع في الحرام فما معنى التفصيل الوارد في حديث يعقوب بن شعيب بين لقطة الحرم أو عنوان آخر يشبه عنوان الحرم، وغيرها؟ فقد روى يعقوب بن شعيب قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام)عن اللقطة ونحن يومئذٍ بمنى، فقال: أمّا بأرضنا هذه فلا يصلح، وأمّا عندكم فإنّ صاحبها الذي يجدها يعرّفها سنة في كلّ مجمع، ثم هي كسبيل ماله»(1). فهذه الرواية التامّة السند دلّت على جواز الالتقاط في غير الحرم مثلاً ونهت عن الالتقاط في الحرم مثلاً، فلو كان النهي إرشاديّاً من هذا القبيل فما معنى هذا التفصيل؟!

 


(1) وسائل الشيعة، ج13، ص260، الباب2۸ من أبواب مقدمات الطواف، ح۱.

265

وقد يقال: يكفي في التفصيل اشتداد النهي في لقطة الحرم سواء أكان نهياً كراهتيّاً أو إرشاداً إلى عدم الابتلاء بالحرام أو مشقّة التكليف المترتّب على الالتقاط، فقد تكون حرمة الأكل مثلاً في لقطة الحرم أشدّ، أو يكون التكليف المترتّب على التقاط لقطة الحرم أشقّ، حيث يجوز الأكل بعد التعريف في لقطة غير الحرم ولا يجوز ذلك في لقطة الحرم، فلابدّ من التصدّق مثلاً كما يشهد لذلك ما عن إبراهيم بن عمر بسند تام عن أبي عبدالله(علیه السلام)قال: «اللقطة لقطتان: لقطة الحرم وتعرّف سنة؛ فإن وجدت صاحبها وإلا تصدّقت بها، ولقطة غيرها تعرّف سنة؛ فإن جاء صاحبها وإلا فهي كسبيل مالك»(1).

بقي أنّ وجود القرينة في بعض روايات النهي على عدم كونه نهياً كراهتيّاً بالمعنى المصطلح للكراهة وكونه إرشاداً إلى صعوبة التكليف أو خوف الوقوع في الحرام، لا يوجب حمل النهي الوارد في رواية أُخرى أيضاً على ذلك، من قبيل ما مضى من رواية الحسين بن أبي العلا قال: «ذكرنا لأبي عبدالله(علیه السلام)اللقطة، فقال: لا تعرّض لها؛ فإنّ الناس لو تركوها لجاء صاحبها حتّى يأخذها»(2). بل التعليل في هذه الرواية يشهد لثبوت الكراهة بنكتة أنّ الناس لو تركوها لجاء صاحبها حتّى يأخذها، وهذا غير مسألة صعوبة التكليف أو التخوّف من الوقوع في الحرام، فالظاهر كراهة التقاط اللقطة وخاصّة في الحرم، أو عنوان آخر يقرب من عنوان الحرم.

وقد ظهر إلى الآن: جواز التقاط اللقطة حتّى في الحرم رغم بعض النواهي عن الالتقاط مطلقاً، أو في الحرم، أو عنوان يقرب من عنوان الحرم، كقوله: «أمّا بأرضنا هذه فلا يصلح».

يبقى الكلام في أنّ جواز الالتقاط هل يختصّ بغير الحيوان أو يشمل الحيوان؟

 


(1) الكافي، ج8، ص144، باب لقطة الحرم من كتاب الحج، ح1.

(2) وسائل الشيعة، ج25، ص439، الباب الأول من كتاب اللقطة، ح۲.

266

يبدو من بعض الروايات التفصيل في الحيوان بين ما يخاف عليه التلف، وما يحمي نفسه ولا يخاف عليه التلف، ففي الأوّل يجوز الالتقاط على كراهية، وفي الثاني لا يجوز.

فعن هشام بن سالم عن أبي عبدالله(علیه السلام)قال: «جاء رجل إلى النبيّ(صلى الله عليه و آله) فقال: يا رسول الله(صلى الله عليه و آله) إنّي وجدت شاة، فقال رسول الله(صلى الله عليه و آله): هي لك أو لأخيك أو للذئب، فقال: يا رسول الله(صلى الله عليه و آله): إنّي وجدت بعيراً، فقال: معه حذاؤه وسقاؤه؛ حذاؤه خفّه، وسقاؤه كرشه، فلا تهجه»(1). وسند الحديث تام.

وعن معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله(علیه السلام)قال: «سأل رجل رسول الله(صلى الله عليه و آله) عن الشاة الضالّة بالفلاة، فقال للسائل: هي لك أو لأخيك أو للذئب، قال: وما أُحبّ أن أمسّها. وسئل عن البعير الضالّ، فقال للسائل: ما لك وله؟! خفّه حذاؤه، وكرشه سقاؤه؛ خلِّ عنه»(2). وسند الحديث تام.

وعن علي بن جعفر _ بسند تام _ عن أخيه موسى بن جعفر(علیهما السلام)، قال: «سألته عن رجل أصاب شاة في الصحراء هل تحلّ له؟ قال: قال رسول الله(صلى الله عليه و آله): هي لك أو لأخيك أو للذئب؛ فخذها وعرّفها حيث أصبتها، فإن عرفت فردّها إلى صاحبها، وإن لم تعرف فكلها وأنت ضامن لها؛ إن جاء صاحبها يطلبها أن تردّ عليه ثمنها»(3).

والكراهية في ما لا يحمي نفسه استفدناها من الحديث الثاني من هذه الأحاديث الثلاثة.

هذا. واحتمال الفرق بين الحيوان وغيره _ بأن يجوز التقاط ما لا روح فيه ولا يجوز التقاط ذي النفس أو يكره _ موجود عرفاً؛ فإنّ ذا النفس يتميّز بنكتة عرفية قد توجب اختصاصها بحكم من هذا القبيل، وكأنّه أُشير إلى هذه النكتة في الحديث الأوّل من

 


(1) وسائل الشيعة، ج25، ص457، الباب13 من كتاب اللقطة، ح1.

(2) المصدر السابق، ص459، ح٥.

(3) مسائل علي بن جعفر، ص104، ح5؛ وسائل الشيعة، ج25، ص459، الباب13 من كتاب اللقطة، ح۷، إلا أنّه جاء في الوسائل:«...إن جاء صاحبها يطلب ثمنها أن تردها علیه».

267

هذه الأحاديث الثلاثة بقوله: «لا تهجه».

يبقى الكلام في أنّ روايات لقطة الحيوان واردة في الحيوان الذي وجد في الصحراء إمّا صريحاً وإمّا بقرينة ذكر الذئب في قوله: «هي لك أو لأخيك أو للذئب»، فهل نتعدّى منها إلى ما إذا وجد في داخل البلد، أو لا؟

والجواب: إنّ المذكور في هذه الروايات حكمان:

أحدهما: عدم جواز الالتقاط في الحيوان الذي يحفظ نفسه، ولئن لم يجز الالتقاط فيه في الصحراء فالعرف لا يحتمل تخفيف الحكم في البلد بأن يجوز الالتقاط فيه.

والثاني: جواز الالتقاط ولو على كراهية في الحيوان الذي لا يحفظ نفسه، وهذا من المحتمل اختصاصه بمورد خوف الهلاك عليه من مثل الذئب كما هو الحال في الصحراء. لكن يمكن استفادة جواز التقاطه في البلد من بعض إطلاقات روايات جواز التقاط اللقطة الماضية، فراجع.

هذا. ولا يبعد أن يقال: إنّ المستفاد من روايات الحيوان الواردة في لقطة الصحراء أنّ المقياس هو خوف التلف من مثل الذئب أو العطش، فلو وجدت الشاة في البلد وكان عليها خوف التلف من العطش في الأيّام القريبة لولا الالتقاط جاز الالتقاط، وإلا فلا.

الحكم الثاني: التعريف سنة إن كان ممّا يمكن تعريفه

وقد دلّ على ذلك بعض الروايات، من قبيل: رواية حنان الماضية(1)، ورواية الحلبي(2) ورواية محمد بن مسلم(3) ورواية إبراهيم بن عمر(4) ورواية أبي خديجة(5)

 


(1) وسائل الشيعة، ج25، ص442، الباب2 من كتاب اللقطة، ح٥.

(2) تهذيب الأحكام، ج٦، ص389، باب اللقطة والضالة، ح3.

(3) وسائل الشيعة، ج25، ص442، الباب2 من كتاب اللقطة، ح۳، وص44، ح10.

(4) المصدر السابق، ج13، ص260، الباب۲۸ من أبواب مقدّمات الطواف، ح٤.

(5) المصدر السابق، ج25، ص465، الباب۲٠ من كتاب اللقطة، ح۱.

268

ورواية علي بن جعفر(1)، ورواية علي بن جعفر _ التامّة ببعض أسانيدها _ عن أخيه موسى بن جعفر(علیه السلام): «وسألته عن الرجل يصيب اللقطة دراهم(2) أو ثوباً أو دابّة، كيف يصنع؟ قال: يعرّفها سنة، فإن لم يعرف صاحبها(3) حفظها في عرض ماله حتّى يجيء طالبها فيعطيها إيّاه، وإن مات أوصى بها، فإن أصابها شيء(4) فهو ضامن»(5).

والرواية الأخيرة صريحة في سريان حكم التعريف إلى لقطة الحيوان، وأمّا ما قبلها فبالإطلاق تشمل لقطة الحيوان، إلا إذا قلنا باختصاص ما فيها من امتلاك اللقطة بعد التعريف أو جعلها في عرض ماله بغير الحيوان، وقلنا إنّ ذلك يضرّ باستفادة الإطلاق ممّا فيها من الحكم بالتعريف، وحينئذٍ قد يتعدّى إلى الحيوان بعدم احتمال الفرق. إلا أن يقال: نحتمل كون وجوب التعريف جاء بنكتة جواز التملّك الخاص بغير الحيوان. وعلى أيّ حال فتكفينا الرواية الأخيرة في التعدّي إلى الحيوان.

وقد تعارض هذه الروايات الدالّة على وجوب التعريف سنة بعدّة روايات:

۱_ ما عن أبان بن تغلب قال: «أصبت يوماً ثلاثين ديناراً، فسألت أبا عبدالله(علیه السلام)عن ذلك، فقال: أين أصبته؟ قال: قلت له: كنت منصرفاً إلى منزلي فأصبتها، قال:

 


(1) وسائل الشيعة، ج26، ص444، الباب2 من كتاب اللقطة، ح۱۲.

(2) في تهذيب الأحکام، ج6، ص397، باب اللقطة والضالة، ح38، ومن لا يحضره الفقيه، ج3، ص292، باب اللقطة والضالة من کتاب المعیشة: «درهماً».

(3) هكذا جاء في الوسائل: الباب2 من كتاب اللقطة نقلاً عن قرب الإسناد، ولكن كلمة «صاحبها» غير موجودة في الفقيه، ج ۳، ص291، ح ٤٠٤۹، ولا في التهذيب، ج٦، ص397، ح38. وفي الأوّل: «جعلها في عرض ماله».

(4) في التهذيب والفقيه لا توجد عبارة «فإن أصابها شيء»، وإنّما الموجود: «وهو لها ضامن». وصاحب الوسائل نقل الحديث في الباب ۲٠ من كتاب اللقطة وفقاً لما في التهذيب.

(5) وسائل الشيعة، ج25، ص445، الباب2 من كتاب اللقطة، ح۱۳. وص466، الباب۲٠ من كتاب اللقطة، ح۲. وقد جاء في الموضع الثاني «درهماً» بدل «دراهم».

269

فقال: صر إلى المكان الذي أصبت فيه فعرّفه، فإن جاء طالبه بعد ثلاثة أيّام فأعطه إيّاه، وإلا تصدّق به»(1). ولكنّه ضعيف سنداً.

۲_ ما عن ابن أبي يعفور قال: قال أبو عبدالله(علیه السلام): «جاء رجل من المدينة فسألني عن رجل أصاب شاة، فأمرته أن يحبسها عنده ثلاثة أيّام ويسأل عن صاحبها، فإن جاء صاحبها وإلا باعها وتصدّق بثمنها»(2). وهذا أيضاً سنده ضعيف، وهو خاص بالحيوان، ولو تمّ في الحيوان فقد يأتي احتمال الخصوصية فيه؛ باعتبار أنّ إبقاءه سنة يستوجب الإنفاق عليه.

۳_ ما عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر(علیهما السلام)، قال: «سألته عن رجل أصاب شاة في الصحراء، هل تحلّ له؟ قال: قال رسول الله(صلى الله عليه و آله): هي لك أو لأخيك أو للذئب، فخذها وعرّفها حيث أصبتها، فإن عرفت فردّها إلى صاحبها، وإن لم تعرف فكلها وأنت ضامن لها إن جاء صاحبها يطلبها أن تردّ عليه ثمنها»(3)، حيث لم يذكر وجوب كون مقدار التعريف سنة، وسند الحديث تام، وبالإمكان أن يقال إنّه مطلق يقيّد بما دلّ على وجوب التعريف سنة.

٤_ ما عن علي بن أبي حمزة عن العبد الصالح موسى بن جعفر(علیه السلام)، قال: «سألته عن رجل وجد ديناراً في الحرم فأخذه، قال: بئس ما صنع! ما كان ينبغي له أن يأخذه، قال: قلت: قد ابتلي بذلك؟ قال: يعرّفه. قلت: فإنّه قد عرّفه فلم يجد له باغياً؟ فقال: يرجع إلى بلده فيتصدّق به على أهل بيت من المسلمين، فإن جاء طالبه فهو له ضامن»(4). وسند الحديث تام.

 


(1) وسائل الشيعة، ج25، ص443، الباب2 من كتاب اللقطة، ح۷.

(2) المصدر السابق، ص459، الباب۱۳ من كتاب اللقطة، ح٦.

(3) مسائل علي بن جعفر ومستدركاتها، ص105؛ وسائل الشيعة، ج25، ص460، الباب۱۳ من كتاب اللقطة، ح7، مع اختلاف.

(4) وسائل الشيعة، ج25، ص463، الباب۱۷ من كتاب اللقطة، ح۲، وذكره بسند آخر تام أيضاً في ج13، ص260، الباب۲۸ من أبواب مقدمات الطواف، ح۳.

270

ومن الطبيعي أنّ الرجل المسافر إلى الحرم لا يبقى سنة في مكّة، فظاهر قوله: «يرجع إلى بلده فيتصدّق...» الاكتفاء بالتعريف أقلّ من سنة. وقد يقال: إنّ التعريف سنة إنّما هو لأجل التملّك أو ما يشبه التملّك، أمّا التصدّق فيكفي في جوازه أن يعرّف اللقطة ثم يتصدّق، فأكثر روايات التعريف تراها مذيّلة بالتملّك أو جعل اللقطة في عرض ماله.

ولكن قد مضت رواية إبراهيم بن عمر(1)، وهي تدل في لقطة الحرم على التعريف سنة ثم التصدّق.

ولا يبعد كون رواية علي بن أبي حمزة ناظرة إلى حالة الاضطرار؛ لأنّ هذا المسافر لا يتمكّن عادةً من البقاء سنة في الحرم. ومن المحتمل _ بقرينة قوله(علیه السلام): «يرجع إلى بلده» رغم أنّ السائل لم يكن قد فرض كون الملتقط مسافراً _ أنّ الرواية صدرت في زمن زيارة بيت الله، وكانت ناظرة إلى ظرف من هذا القبيل، وفي هذا الظرف حينما يرجع الملتقط إلى بلاده يكون أكثر الزوّار الآخرين أيضاً راجعين إلى بلادهم، وحينئذٍ يتعذّر التعريف ويحصل اليأس عن حصول المالك الذي هو في أغلب الظنّ أيضاً من الزوّار.

٥_ ما عن محمد بن قيس عن أبي جعفر(علیه السلام)قال: «قضى علي(علیه السلام)في رجل وجد ورقاً في خربة: أن يعرّفها، فإن وجد من يعرفها وإلا تمتّع بها»(2). وسند الحديث تام.

وقد يقال: إنّه وإن لم يقيّد التعريف هنا بسنة، لكنّه مطلق فنقيّده بالمقيّدات.

ولكن الظاهر أنّ أصل التعريف هنا يمكن حمله على الاستحباب؛ وذلك لعدم وجوب التعريف رأساً في ما يوجد في خربة باد أهلها، كما ورد بسند تام عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر(علیه السلام)، قال: «سألته عن الدار يوجد فيها الورق، فقال: إن كانت معمورة فيها أهلها فهي لهم، وإن كانت خربة قد جلا عنها أهلها فالذي وجد المال أحقّ به»(3).

 


(1) وسائل الشيعة، ج13، ص260، الباب۲۸ من أبواب مقدّمات الطواف، ح٤.

(2) المصدر السابق، ج25، ص448، الباب5 من كتاب اللقطة، ح٥.

(3) المصدر السابق، ص447، ح۱.

271

وورد أيضاً بسند تام عن محمد بن مسلم عن أحدهما(علیه السلام)، قال: «سألته عن اللقطة، قال: لا ترفعوها، فإن ابتليت فعرّفها سنة، فإن جاء طالبها وإلا فاجعلها في عرض مالك؛ يجري عليها ما يجري على مالك إلى أن يجيء لها طالب. قال: وسألته عن الورق يوجد في دار، فقال: إن كانت الدار معمورة فهي لأهلها، فإن كانت خربة فأنت أحقّ بما وجدت»(1).

فكأنّ كون المال في مكان خراب جلا أهله أمارة على جلاء ملّاكه، ويجوز في هذه الحالة تملّكه؛ إمّا لأجل احتمال هلاك ملّاكه، أو لأجل عدم إمكانية التعريف على أساس سعة دائرة الجهالة، وسنعود إن شاء الله إلى البحث عن ذلك.

٦_ ما عن داود بن أبي يزيد _ بسند تام _ عن أبي عبدالله(علیه السلام)، قال: «قال رجل: إنّي قد أصبت مالاً وإنّي قد خفت فيه على نفسي، ولو أصبت صاحبه دفعته إليه وتخلّصت منه، قال: فقال أبو عبدالله(علیه السلام): والله أن لو أصبته كنت تدفعه إليه قال: أي والله، قال: فأنا، والله ما له صاحب غيري. قال: فاستحلفه أن يدفعه إلى من يأمره، قال: فحلف، فقال: فاذهب فاقسمه في إخوانك ولك الأمن ممّا خفت منه، قال: فقسمته بين إخواني»(2). فقد يقال: إنّ ترك استفصاله(علیه السلام)عن كون ما أصابه لقطة أم لا وأنّه يمكن تعريفه أم لا وأنّه عرّفه سنة أم لا، دليلٌ على عدم وجوب التعريف في اللقطة.

ولكن قد يقال: إنّ هذا لا يتجاوز أن يكون إطلاقاً _ بملاك ترك الاستفصال _ لا يقاوم أدلّة وجوب التعريف سنة. بل قد يقال: إنّه(علیه السلام)أعمل هنا ولايته التي هو بها أولى بالمؤمنين من أنفسهم؛ بقرينة قوله: «والله ما له صاحب غيري»، فالرواية أجنبية عن المقام.

وقد يقال في مقابل ذلك: لعلّ الرواية تدل على أنّ اللقطة أو مجهول المالك يرجع

 


(1) تهذيب الأحكام، ج6، ص390، باب اللقطة والضالة، ح5.

(2) وسائل الشيعة، ج25، ص450، الباب7 من كتاب اللقطة، ح۱.