350

لها، وإن كانت سابقة عليها، فهما متعارضتان.

ونتيجة ذلك: أنّ الآيات الدالّة على عدم حجّيّة خبر الواحد ساقطة عن الحجّيّة؛ لأنّنا قطعنا بأنّها إمّا مبتلاة بالنسخ، أو بالمعارض؛ إذ لو كانت آيات الحجّيّة متأخّرة عنها فهي ناسخة لها، ولو كانت سابقة عليها فهما متعارضتان بالعموم من وجه. بينما الآيات الدالّة على الحجّيّة نعلم بعدم ابتلائها بالنسخ، ولا نجزم بابتلائها بالمعارض؛ لاحتمال تأخّرها عن آيات نفي الحجّيّة، وعلى تقدير تأخّرها لا تعارضها آيات عدم الحجّيّة. إذن فآيات الحجّيّة حجّة لنا؛ لعدم العلم بما يعارضها.

وقد يفرض إنكار الكبرى، وهي تعيّن ناسخيّة الآيات المتأخّرة، وعندئذ فيقع التعارض بين الآيات والتساقط، وتبقى السيرة الثابتة على الحجّيّة سليمة عن الرادع، فإنّ إطلاقاً قرآنيّاً معارضاً لإطلاق قرآنيّ آخر ليس ممّا يمكن للشارع الاكتفاء به في مقام الردع عن السيرة. فالنتيجة أيضاً هي حجّيّة خبر الواحد.

الثالث: أنّنا لو سلّمنا دلالة الآيتين على عدم الحجّيّة وعدم ابتلائهما بدليل لفظيّ مخصّص ولا ناسخ ولا معارض، قلنا: إنّ إطلاق خطاب أو خطابين بهذا النحو من الدلالة الظنّيّة لا يكفي للردع عن مثل السيرة القائمة على حجّيّة خبر الثقة.

 

2 ـ دعوى التمسّك بالسنّة:

وأمّا السنّة التي يستدلّ بها على عدم حجّيّة خبر الواحد: فيمكن تقسيمها إلى طائفتين:

الاُولى: ما دلّت على عدم جواز العمل بالأخبار التي لم يعلم صدورها عنهم(عليهم السلام).

والثانية: ما دلّت على تحكيم الكتاب الكريم في قبول الأخبار ورفضها.

أمّا الطائفة الاُولى: فقد وجدنا روايتين بهذا المضمون:

الاُولى: ما عن محمّد بن عليّ بن عيسى: كتب إليه(1) يسأله عن العلم المنقول


(1) يعني أبا محمّد العسكريّ(عليه السلام).

351

إلينا عن آبائك وأجدادك قد اختلف علينا فيه، فكيف العمل به على اختلافه، أوالردّ إليك فيما اختلف فيه؟ فكتب(عليه السلام): «ما علمتم أنّه قولنا فالزموه، وما لم تعلموا فردّوه إلينا»(1).

والثانية: ما عن محمّد بن عيسى قال: أقرأني داود بن فرقد الفارسيّ كتابه إلى أبي الحسن الثالث(عليه السلام)وجوابه بخطّه فقال: نسألك عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك قد اختلفوا علينا فيه، كيف العمل به على اختلافه؟ إذا نرد إليك فقد اختلف فيه. فكتب وقرأته: «ما علمتم أنّه قولنا فالزموه، وما لم تعلموا فردّوه إلينا»(2).

وهما روايتان وليستا رواية واحدة؛ لتغاير الراوي والإمام المرويّ عنه.

ويردّ الاستدلال بهاتين الروايتين بوجوه:

الأوّل: منع تماميّة الدلالة؛ لأنّ السؤال إنّما هو عن فرض تعارض الروايات، فالجواب بالأخذ بما علم صدوره عنهم ورفض ما لم يعلم بذلك مقياس راجع إلى باب التعارض، وهو مقياس صحيح، وليس ضابطاً للأخذ بالرواية وعدمها على الإطلاق.

لا يقال: إنّ المورد لا يخصّص الوارد.

فإنّه يقال: إنّ هذا إنّما يتمّ حينما يكون الوارد تامّ الإطلاق، فالمورد عندئذ لا


(1) الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 36، ص 86.

(2) مستدرك الوسائل، ج 3، ب 9 من صفات القاضي، ح 10، ص 186 نقلاً عن بصائر الدرجات، وكذلك البحار، ج 2، ب 29 من كتاب العلم، ح 33، ص 241 نقلاً عن بصائر الدرجات أيضاً. وفي هامش البحار: (وفي نسخة: إذا أفرد إليك).

352

يخصّصه، كما لو سئل عن إكرام الشيخ المفيد فأجاب: (أكرم العالم). ولكن الوارد في المقام لا إطلاق له؛ لأنّ (ما) الموصولة بمرونتها وإهمالها اللغويّ يكون حالها حال المشترك اللفظيّ، ويكون استعمالها في المقيّد بأن يقصد المقيّد من حاقّ لفظها حقيقة وليس مجازاً، غاية الأمر أنّه يحتاج إلى القرينة كما يحتاج المشترك إلى القرينة، ويكفي المورد قرينة على المراد من الوارد الذي هو بمنزلة المشترك اللفظيّ.

إلّا أنّ هذا الكلام(1) يمكن النظر فيه بمنع مرونة الموصول بالنسبة للمورد بدعوى أنّ مرونته إنّما هي من ناحية الصلة لا غيرها.

ولكن مع ذلك لا يتمّ الإطلاق في مثل هذا الحديث الذي يكون الجواب فيه ظاهراً في مطابقته للسؤال وعدم كونه جواباً عمّا هو أعمّ من المورد، وحتّى لو أبدل الموصول في هذا الحديث بغير الموصول كما لو قال: (خبر علمتم أنّه قولنا الزموه، وخبر لم تعلموا أنّه قولنا ردّوه) لم نحسّ فيه بالإطلاق، فلابدّ أن تكون هنا نكتة اُخرى(2) لعدم تماميّة الإطلاق غير كون (ما) من أدوات


(1) من هنا إلى آخر هذا الردّ الأوّل ممّا أفاده(رحمه الله) في خارج البحث. أمّا ما ذكره في داخل البحث فهو ما مضى: من دعوى عدم الإطلاق في الموصول لمرونته.

(2) لا يبعد القول بعدم تماميّة الإطلاق حتّى بغضّ النظر عن الموصول. وتوضيحه: أنّ الوارد إن كان عامّاً فلا إشكال في أنّ المورد لا يخصّصه، أمّا إن لم يكن فيه ما يدلّ على الشمول عدا الإطلاق، فإن كانت هناك نكتة عرفيّة توجب صرف الوارد عن اختصاصه بالمورد، تمّ فيه الإطلاق بلا إشكال، وعندئذ يأتي القول بأنّ المورد لا يخصّص الوارد. مثاله: ما لو قال: (هل اُكرم الشيخ المفيد؟) فقال: (أكرم العالم). فإنّ مقتضى طبيعة الكلام

353

الموصول التي تتمتّع بالإهمال والمرونة.

الثاني: أنّه لو سلّمنا دلالة هذا الكلام على عدم حجّيّة خبر الواحد، قلنا: إنّ هذا الخبر بنفسه أيضاً خبر الواحد، وعندئذ بالإمكان أن نقول: إنّنا لا نحتمل الفرق بين هذا الخبر وغيره من الأخبار بأن يكون هو حجّه وغيره غير حجّة، وعليه فحجّيّة هذا الخبر غير معقولة؛ إذ مفاده عدم حجّيّة الخبر المساوق لعدم حجّيّة نفسه، فنحن نعلم أنّه على تقدير حجّيّته خبر كاذب، وجعل الحجّيّة لخبر من هذا القبيل مقطوع العدم؛ إذ لا يترتّب عليه تنجيز أو تعذير، وإن شئت فقل: إنّ صدوره من الحكيم صدور اللغو منه، وهو غير محتمل. وإن شئت فقل: إنّ الحجّيّة بلا تنجيز وتعذير لا معنى لها، فلا تتصوّر الحجّيّة حتّى بغضّ النظر عن عدم معقوليّة صدور اللغو من الحكيم.

أمّا لو تنزّلنا وفرضنا احتمال ميزة لهذا الخبر عن غيره بأن يكون هذا الخبر


في ذلك لولا إرادة التعدّي عن المورد كان هو الجواب بمثل قوله: (نعم أكرمه)، فالعدول عن ذكر خصوصيّة الشيخ المفيد إلى ذكر عنوان أوسع ـ وهو العالم ـ قرينة على عدم الاختصاص بالمورد، فيتمّ الإطلاق في الوارد وتجري مقدّمات الحكمة لإثبات ما قد لا تثبته تلك القرينة العرفيّة، كشموله للعادل والفاسق مثلاً. أمّا إذا لم توجد نكتة عرفيّة من هذا القبيل ولم يكن في المقام شيء عدا مقدّمات الحكمة، فمن الواضح أنّ مجرّد وجود ما يصلح للقرينيّة كاف للإجمال وعدم تماميّة الإطلاق، والمورد صالح للقرينيّة، وإنّما لا يصلح المورد لتخصيص الوارد فيما لو تمّ عموم أو إطلاق للمورد بأن لم يخلّ المورد بمقتضى الإطلاق، فعندئذ نقول: إنّ المورد لا يصلح مانعاً عن الإطلاق بعد تماميّة مقتضيه.

354

حجّة دون غيره، قلنا: إنّه لا سبيل إثباتاً إلى هذا التفكيك بأن يصبح هذا الخبر حجّة في نفي حجّيّة غيره من الأخبار، فإنّ هذا التفكيك تارةً يكون بحسب الدلالة، واُخرى بحسب السند:

أمّا التفكيك بحسب الدلالة، فبأن يقال: إنّ هذا الحديث لا يشمل نفسه، إمّا بمعنى أنّ شمول الكلام لنفسه خلاف الظاهر عرفاً، أو بمعنى عدم معقوليّة حجّيّته في إثبات عدم حجّيّة نفسه؛ وذلك لما أشرنا إليه: من عدم ترتّب التنجيز والتعذير، أو لاستحالة استلزام الشيء لعدمه على ما مضى نقله عن الأصحاب في بحث الردع عن ظاهر الكتاب.

وهذا التفكيك بكلّ وجوهه التي أشرنا إليها لا مورد له في المقام؛ لأنّ نفي حجّيّة خبر الواحد الذي هو كلام صادر ـ بحسب الفرض ـ من الإمام لو شمل نقل الراوي لنفس هذا الكلام لم يكن ذلك شمولاً لكلام نفسه، فإنّ نقل الراوي له غير نفس هذا الكلام.

وأمّا التفكيك بحسب السند، فبأن يفترض ـ بعد تسليم كون مفاد هذا الكلام هو عدم حجّيّة خبر الواحد بما فيه خبر الواحد الناقل لنفس هذا الكلام ـ أنّ سند هذا الحديث حجّة لإثبات مفاده بلحاظ باقي الأخبار، وإن لم يكن حجّة في إسقاط حجّيّة نفسه.

وهذا التفكيك أيضاً غير صحيح؛ إذ لا دليل يدلّ على حجّيّة من هذا القبيل في المقام، فإنّ ما دلّ على حجّيّة سنده من السيرة ـ مثلاً ـ يكون مفاده ثبوت مضمون ما ينقله هذا السند، ومضمونه عبارة عن عدم حجّيّة مطلق خبر الواحد لا عدم حجّيّة خصوص غيره من الأحاديث، وليس نفس السند منحلاًّ إلى

355

أسانيد عديدة(1). نعم، لو كانت هذه الرواية متواترة لما أوردنا هذا الإشكال.

الثالث: أنّ هذين الحديثين لا دليل على حجّيّتهما؛ لضعفهما سنداً، وليس مضمونهما متواتراً كي يحصل العلم به(2).

 


(1) ومن الواضح أنّ دليل حجّيّة هذا الخبر لا يمكن أن يكون هو الكتاب أو السنّة الدالّين على حجّيّة خبر الواحد؛ لأنّ تقييد الكتاب بخصوص هذه الرواية الدالّة على عدم حجّيّة خبر الواحد تخصيص بالفرد النادر. فلابدّ أن يفترض أنّ دليلنا على حجّيّة هذا الخبر عبارة عن مثل السيرة، فيفترض أنّ هذه الرواية أصبحت حجّة بالسيرة، وهي منعت عن حجّيّة باقي الأخبار، وعندئذ نقول: إنّ السيرة لا تتحمّل تفكيكاً من هذا القبيل، فلا سيرة تدلّ على حجّيّة سند هذه الرواية في جزء من مفادها. وإذا اتّضح أنّه لا دليل على حجّيّة هذا الخبر الرادع عن حجّيّة خبر الواحد، رجعنا إلى الكتاب والسنّة الدالّين على حجّيّة خبر الواحد، لا إلى السيرة كي يقال: إنّ احتمال صدق هذا الخبر احتمال للردع عنها، ومع احتمال الردع لا يثبت الإمضاء.

(2) أمّا الحديث الأوّل: فقد نقله ابن إدريس(رحمه الله) في السرائر عن كتاب مسائل الرجال، عن محمّد بن أحمد بن محمّد بن زياد، وموسى بن محمّد بن عليّ بن عيسى، عن محمّد بن عليّ بن عيسى. والوسائط بين ابن إدريس وصاحب كتاب مسائل الرجال غير معلومة لنا، وصاحب كتاب مسائل الرجال أيضاً لا نعرفه، ولم نرَ توثيقاً لمحمّد بن أحمد بن محمّد بن زياد، ولا لموسى بن محمّد بن عليّ بن عيسى. وأمّا محمّد بن عليّ بن عيسى، فكلّ ما ورد بشأنه هو قول النجاشيّ: «كان وجهاً بقم وأميراً عليها من قبل السلطان».

وأمّا الحديث الثاني: فهو موجود في بصائر الدرجات، وقد جاء ذكره في جامع أحاديث الشيعة ـ ج 1، ح 459 ـ نقلاً عن بصائر الدرجات، وفي مستدرك الوسائلـ ج 3، ب 9 من صفات القاضي، ح 10 ـ نقلاً عن بصائر الدرجات. ولا إشكال في عدم

356


الحجّيّة لنسخة بصائر الدرجات التي تتواجد في زماننا أو زمان المحدّث النوريّ(رحمه الله)؛ لوضوح عدم ثبوت النسخة بسند معتبر.

نعم، جاء ذكر هذا الحديث أيضاً في البحار ـ ج 2 من المجلّدات الحديثة، ب 29 من كتاب العلم، ح 33، ص 241 ـ نقلاً عن بصائر الدرجات. وقد روى مؤلّف بصائر الدرجات ـ وهو الصفّار(رحمه الله) ـ هذا الحديث عن محمّد بن عيسى.

إلّا أنّ الشأن في ثبوت كتاب بصائر الدرجات حتّى في ذلك الزمان، فقد روى هذا الكتاب النجاشيّ والشيخ:

أمّا النجاشيّ: فله إلى كتب الصفّار سندان مذكوران في كتاب النجاشي حيث قال: «أخبرنا بكتبه كلّها ما خلا بصائر الدرجات أبو الحسين عليّ بن أحمد بن محمّد بن طاهر الأشعريّ القمّيّ، قال: حدّثنا محمّد بن الحسن بن الوليد عنه بها، وأخبرنا أبو عبدالله ابن شاذان، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن يحيى، عن أبيه، عنه بجميع كتبه وبصائر الدرجات».

والسند الأوّل ضعيف بأبي الحسين عليّ بن أحمد بن محمّد المعروف بابن أبي جيد؛ إذ لا دليل على وثاقته إلّا على مبنى السيّد الخوئيّ القائل بوثاقة مشايخ النجاشيّ. وعلى أيّ حال، فهذا السند قد استثني منه بصائر الدرجات. والسند الثاني الذي لم يستثن منه بصائر الدرجات ضعيف بأبي عبدالله ابن شاذان، وأحمد بن محمّد بن يحيى. والأوّل منمها ثقة على رأي السيّد الخوئيّ القائل بوثاقة مشايخ النجاشيّ، ولكن الثاني لم تثبت وثاقته حتّى على رأي السيّد الخوئيّ. ثمّ لو فرضت تماميّة سند النجاشيّ إلى بصائر الدرجات، فالظاهر أنّه لا يفيدنا شيئاً في المقام؛ إذ لا أظنّ ثبوت سند لصاحب البحار إلى النجاشيّ.

وأمّا الشيخ(رحمه الله): فله ثلاثة أسانيد إلى كتب الصفّار حيث قال في فهرسته:

357

الرابع: أنّنا لو سلّمنا تماميّة دلالة حديث من هذا القبيل، وتنزّلنا عن الإشكال


«أخبرنا بجميع كتبه ورواياته ابن أبي جيد، عن محمّد بن الحسن بن الوليد، عن محمّد بن الحسن الصفّار، وأخبرنا جماعة عن محمّد بن عليّ بن الحسين، عن محمّد بن الحسن، عن محمّد بن الحسن الصفّار، عن رجاله إلّا كتاب بصائر الدرجات، فإنّه لم يروه عنه محمّد بن الوليد. وأخبرنا الحسين بن عبيد الله، عن أحمد بن محمّد بن يحيى، عن أبيه، عن محمّد بن الصفّار».

والسند الثالث يشمل كتاب بصائر الدرجات إلّا أنّه ضعيف بالحسين بن عبيد الله، وأحمد بن محمّد بن يحيى، والأوّل منهما ثقة على رأي السيّد الخوئيّ القائل بوثاقة مشايخ النجاشيّ بخلاف الثاني. وأمّا السند الثاني فهو تامّ، فإنّ من جملة الواقعين بين الشيخ والصدوق هو المفيد، على أنّ إخبار جماعة من مشايخ الشيخ يورث الاطمئنان، ولكن هذا السند لا يشمل بصائر الدرجات. وأمّا السند الأوّل فهو ضعيف بابن أبي جيد، إلّا على مبنى السيّد الخوئيّ القائل بوثاقة مشايخ النجاشيّ، وهو على هذا المبنى أيضاً لا يفيدنا؛ لأنّه لا يشمل بصائر الدرجات. ومن الغريب ما ذهب إليه السيّد الخوئيّ من شموله لبصائر الدرجات بتخيّل أنّ استثناء بصائر الدرجات خاصّ بالسند الثاني مع أنّ الاستثناء معلّل بأنّ ابن الوليد لم يرو بصائر الدرجات، وابن الوليد نفسه موجود في السند الأوّل. وقد يفسّر ذلك بأنّ ابن الوليد لم يروه للصدوق الوارد في السند الثاني، وهذا لا ينافي فرض روايته لابن أبي جيد الوارد في السند الأوّل. إلّا أن ذلك غير عرفيّ، على أنّ النجاشيّ(رحمه الله) قد شهد باستثناء بصائر الدرجات من سنده الأوّل الذي هو عين السند الأوّل للشيخ الطوسيّ.

وقد يؤيّد ضعف كتاب بصائر الدرجات: أنّ الشيخ الحرّ(رحمه الله) ذكر في آخر الوسائل: أنّ لبصائر الدرجات نسختين صغرى وكبرى، بينما الشيخ والنجاشيّ لم يشيرا إلى وجود نسختين، ولا نعلم أنّ أسانيدهما هل تنتهي إلى إحدى النسختين أو كلتيهما.

358

الثاني والثالث أيضاً بفرضه متواتراً أو بنحو آخر، قلنا: إنّ هذا الحديث لا يقاوم أدلّة الحجّيّة. وتوضيح ذلك: إنّ أدلّة الحجّيّة ثلاثة:

الأوّل: الآيات. وهي على فرض تماميّة دلالتها تعارض هذا الحديث بالعموم من وجه، بيانه: أنّ آية النبأ تشمل بمفهومها فرض عدم النبأ، وتشمل هي أيضاً مع آية النفر الخبر الذي أورث العلم، فالآيتان من هذه الناحية أعمّ من هذا الحديث. وهذا الحديث من ناحية اُخرى أعمّ من الآيتين؛ لأنّه يشمل فرض التعارض، بل هو مورده، بينما آيات الحجّيّة لا تشمل فرض التعارض؛ لابتلائها في هذا الفرض بالتعارض الداخليّ المسقط للظهور. وأيضاً آية النفر تختصّ بباب الأحكام، بينما هذا الحديث مطلق بلحاظ باب الأحكام وغيره(1).

فإذا وقع التعارض بالعموم من وجه بين هذا الحديث والآيات، فإن لم نفرض هذا الحديث متواتراً وكان التنازل عن الإشكالات السابقة بوجه آخر، سقط هذا الحديث عن الحجّيّة؛ لأنّ الخبر الظنّيّ المعارض للكتاب بالعموم من وجه ليس حجّة؛ لورود الردع عنه في بعض الأخبار، كما سيأتي في محلّه إن شاء الله.

فإن قلت: كما أنّ بعض الأخبار يردع عن الأخذ بالخبر المخالف للكتاب ومنه هذا الحديث كذلك هذا الحديث يردع عن الأخذ بخبر الواحد، ومنه ذاك الخبر الرادع عمّا يخالف الكتاب، فالترادع من الطرفين.


(1) لا يقال: إنّ مورد الحديث هو روايات الأحكام؛ بدليل ما جاء في السؤال من قوله: «كيف العمل به»، فهذا الحديث لا يشمل غير موارد الأحكام.

فإنّه يقال: لو فرضنا أن مورد السؤال أخلّ بإطلاق الجواب، فقد رجع الإشكال الأوّل، وهو الإشكال الدلاليّ، والمفروض الآن هو التنزّل عن الإشكالات السابقة، فلنفرض أنّ مورد السؤال لا يخلّ بإطلاق الجواب، وعليه فإطلاق الجواب يشمل غير باب الأحكام.

359

قلنا: لو تمّ الترادع والتساقط، رجعنا إلى الآيات الدالّة على حجّيّة خبر الواحد.

وإن فرضنا هذا الحديث متواتراً، فقد وقع التعارض بينه وبين الآيات وتساقطا، وعندئذ نقول: إنّ مثل هذا الإطلاق لو صلح في نفسه للردع عن السيرة فمع فرض معارضته للآيات لا يصلح للردع عنها.

الثاني: السنّة المتواترة أو ما بحكم التواتر. وهذا الحديث إن لم نفرض تواتره، كفى في سقوطه عن الحجّيّة فرض معارضته للسنّة القطعيّة، فإنّها كالمعارضة للكتاب. وإن فرضنا تواتره فالسنّة الدالّة على الحجّيّة متقدّمة عليه بالأخصّيّة؛ لأنّها دلّت على حجّيّة خبر الثقة، بينما هذا الحديث دلّ على عدم حجّيّة مطلق الخبر غير المفيد للعلم.

ولا يتوهّم كون النسبة عموماً من وجه لشمول دليل الحجّيّة خبر الثقة المفيد للعلم؛ وذلك لوضوح أنّه مع حصول العلم لا مجال للحجّيّة التعبّديّة، فتخصيص دليل الحجّيّة بفرض العلم يعني إلغاءه.

ولو فرض التعارض والتساقط، رجعنا إلى السيرة؛ لأنّ إطلاقاً من هذا القبيل لو صلح في ذاته للردع عن السيرة، فهو لا يصلح عند التعارض مع السنّة القطعيّة للردع عنها.

الثالث: السيرة. وقد عرفت أنّ إطلاق الآية لم يصلح للردع عنها، فكيف بإطلاق مثل هذا الحديث.

وأمّا الطائفة الثانية ـ وهي ما دلّت على تحكيم الكتاب الكريم في خبر الواحد ـ: فيمكن تقسيم العناوين الواردة فيها بشكل رئيس إلى عنوانين: عنوان موافقة الكتاب، وعنوان مخالفة الكتاب:

أمّا العنوان الأوّل ـ وهو عنوان موافقة الكتاب ـ: فقد يقال: إنّ جعل المعيار

360

موافقة الكتاب وعدمها يسقط كلّ خبر واحد لم يرد بمضمونه نصّ في القرآنالكريم عن الحجّيّة(1).

وقد اُورد على هذا الاستدلال في كلمات المحقّقين بما يرجع محصّله إلى وجهين:

الوجه الأوّل: أنّ روايات الباب وإن كانت متواترة إجمالاً إلّا أنّ الذي يثبت بالتواتر الإجماليّ إنّما هو أخصّ العناوين، وهو عنوان مخالفة الكتاب، فالنتيجة إنّما هي سقوط ما خالف الكتاب عن الحجّيّة. أمّا ما تفرض فيه تماميّة الإطلاق لكلّ خبر لم يوافق الكتاب فليس إلّا من أخبار الآحاد، فلا يمكن الاستدلال به على عدم حجّيّة خبر الواحد.

وهذا الوجه ـ بقطع النظر عن تكميله بضمّ ضميمة ـ لا يتمّ ؛ إذ بالإمكان أن يقال


(1) وأمّا الخبر الموافق لمضمون الكتاب فبشأنه احتمالان أبداهما اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)في بحث التعادل والتراجيح:

أحدهما: أن لا يكون مشمولاً لما يستفاد من روايات عدم حجّيّة ما لم يوافق الكتاب؛ لأنّه خارج عن مفاد رواية نفي الحجّيّة موضوعاً؛ لأنّ موضوع نفي الحجّيّة من هذه الروايات إنّما هو ما لم يوافق الكتاب، وتظهر أثر حجّيّة ما وافق الكتاب في مثل ما إذا كان الحديث الموافق للكتاب أخصّ من الكتاب مثلاً، فتستفاد منه بعض الفوائد التي تستفاد من الخاصّ ولا تستفاد من العامّ كالتخصيص.

وثانيهما: أن يقال: إنّ الردع عمّا لا يوافق الكتاب من الأخبار الآحاد ردع عرفاً عن حجّيّة خبر الواحد إطلاقاً حتّى ما وافق الكتاب؛ وذلك لأنّ الثمرة التي أشرنا إليها لحجّيّة ما وافق الكتاب أمر نادر، فيكون المفهوم عرفاً من الردع عمّا لا يوافق الكتاب هو بيان أنّ خبر الواحد غير حجّة، وأنّه إن كان موافقاً للكتاب، فالأخذ بمضمونه أخذ في الحقيقة بالكتاب، وإن لم يكن موافقاً للكتاب لم يجز الأخذ بمضمونه، فخبر الواحد بشكل عامّ ساقط عن الحجّيّة. وقد استظهر اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)في بحث التعادل والتراجيح ـ بعد فرض دلالة الروايات على الردع عمّا لا يوافق الكتاب ـ الاحتمال الثاني، أي: الردع عن مطلق خبر الواحد.

361

في مقابل ذلك: إنّه إن لم يمكن الاستدلال بخبر الواحد على نفي حجّيّة نفس ذلك الخبر، فالاستدلال به على نفي حجّيّة باقي الأخبار لا عيب فيه، فنحن نثبت حجّيّة هذا الخبر بالسيرة العقلائيّة الدالّة على حجّيّة خبر الواحد، وهذا الخبر هو رادع عن الأخذ بتلك السيرة في باقي الأخبار.

الوجه الثاني: أنّنا نعلم إجمالاً بصدور أخبار كثيرة عنهم(عليهم السلام) لا يوجد مضمونها في القرآن الكريم، وهذا العلم الإجماليّ ليس موجوداً عندنا فقط، بل موجود عند كلّ أحد حتّى مَن سمع الإمام(عليه السلام) يقول: «إنّ ما لم يوافق الكتاب فهو زخرف». ومن الواضح أنّ إطلاق هذه الأخبار مناقض لهذا العلم الإجماليّ، فلابدّ إذن من التأويل. وإذا سقط ظهورها عن الحجّيّة وتعيّن التأويل انفتحت أبواب عديدة للتأويل، كالحمل على مورد التعارض وبيان مرجّحيّة الكتاب لأحد الخبرين المتعارضين، أو الحمل على مورد اُصول الدين ونحو ذلك من الوجوه.

وهذا الوجه أيضاً غير تامّ بحسب الصناعة ما لم تضمّ إليه الضمائم التي سنشير إليها إن شاء الله؛ وذلك لأنّ لسان جعل الموافقة معياراً يكون على نحوين. فتارةً يفرض كونه ناظراً إلى الإخبار عن عدم صدور ما لا يوافق الكتاب عنهم(عليهم السلام)، كما يظهر من كلمة زخرف(1). واُخرى يفرض كونه ناظراً إلى نفي الحجّيّة لا نفي الصدور، كما يظهر من قوله: «إذا ورد عليكم حديث، فوجدتم له شاهداً من كتاب الله، أو من قول رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وإلّا فالذي جاءكم به أولى به»(2).

 


(1) الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 12 و 14، ص 78 و 79.

(2) المصدر السابق، ح 11، ص 78. وقد أبدى اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في بحث التعادل والتراجيح في قوله: «أولى به» احتمالين:

أحدهما: أن يكون المقصود أولى به منكم؛ لأنّه أدرى بصدقه وكذبه. وهذا يعني نفي

362

فبالنسبة للأوّل ينفعنا العلم الإجماليّ بصدور ما لا يوافق الكتاب في المقام للقطع عندئذ بكذب ظاهر تلك الأخبار، فيحمل على بعض المحامل بعد عدم إمكان التخصيص فيها بأن يقال مثلاً: ما لم يوافق القرآن فهو زخرف إلّا الرواية الفلانيّة؛ لأنّ هذا لا ينسجم مع فرض جعل المقياس والمعيار(1).

وأمّا بالنسبة للثاني ـ وهو ما كان لسانه لسان نفي الحجّيّة ـ فالعلم الإجماليّ بالصدور لا ينفعنا في الردّ على ذلك؛ إذ لا منافاة بين عدم حجّيّة كلّ خبر من مجموعة من الأخبار وبين العلم الإجماليّ بصدور بعضها.

والتحقيق: أنّ هناك احتمالاً يتبادر إلى الذهن في تفسير معنى الموافقة الموجودة في هذه الروايات، فإن تمّ هذا الاحتمال وبلغت مؤيّداته إلى درجة توجب حصول الاطمئنان به أو انعقاد ظهور الكلام عليه، كانت هذه الأخبار أجنبيّة عن محلّ الكلام إطلاقاً، وإن لم يبلغ الأمر إلى درجة الاطمئنان أو الظهور بالنسبة لجميع روايات الباب، فلابدّ من استئناف البحث.

 


الحجّيّة. وقال(رحمه الله): «إنّ هذا الاحتمال هو الظاهر من الحديث».

والثاني: أن يكون المقصود أولى به منّي، أي: من الإمام. وهذا يعني نفي الصدور.

أقول: وعلى الثاني فالظاهر أنّه لا يبقى ما يدلّ على نفي حجّيّة ما لا يوافق الكتاب إلّا ما هو غير تامّ سنداً، من قبيل مرسلة ابن بكير عن أبي جعفر(عليه السلام) في حديث قال: «إذا جاءكم عنّا حديث فوجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من كتاب الله، فخذوا به، وإلّا فقفوا عنده، ثمّ ردّوه إلينا حتّى يستبين لكم». الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 18، ص 80 .

(1) جاء في كتاب تعارض الأدلّة ـ الطبعة الرابعة، ص 317 ـ تعليل إباء تلك الأحاديث عن التخصيص بأنّ لسانها لسان الاستنكار، وهو لا يناسب قبول التخصيص.

363

وذاك الاحتمال هو: أن يكون المقصود بموافقة الكتاب الكريم الملائمة للمزاج والإطار العامّ للقرآن، بأن لا يكون مخالفاً لمسلّمات الشريعة(1) التي يكون مثالها الكامل هو القرآن، باعتبار أنّ القرآن هو كتاب الشريعة ودستورها. وبناءً على هذا الاحتمال يكون محصّل هذه الأخبار هو: أنّه كلّما ورد حديث غير موافق في المضمون للإطار والذوق العامّ للكتاب الكريم كان هذا الحديث ساقطاً سواء كان في الأحكام أو في العقائد. وهذا الحديث في الحقيقة ممّا يقطع بعدم مطابقة مضمونه للواقع؛ لعدم ملائمته مع مسلّمات الشريعة(2). وعلى هذا لا ترتبط هذه الأخبار بما نحن فيه أصلاً، ويوجد لهذا الاحتمال بعض اُمور تكون مؤيّدة له أو موجبة لاستشعاره أو قرينة عليه على اختلاف مراتب التأييد:

فمنها: أنّه يوجد في جملة من الأخبار عنوانان، فقيل: «ما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه»(3)، ولم يفرض شقّ ثالث. فلو فرض أنّ المراد بالموافقة هي الموافقة لنصّ خاصّ للكتاب، وبالمخالفة هي المخالفة لنصّ خاصّ له، لكان الشقّ الثالث المسكوت عنه في المقام أكثر من كلا هذين القسمين


(1) يقصد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) حمل الروايات الواردة في تحكيم الكتاب بالموافقة وعدمها في الأخبار بشكل عامّ على الموافقة والمخالفة للمزاج والإطار العامّ للقرآن. أمّا روايات الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة، فخارجة عن مصبّ بحثه هنا. ومن الواضح عدم صحّة حملها على هذا المعنى.

(2) ومثّل اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في بحث التعادل والتراجيح لذلك بما إذا ورد ما يحلّل الكذب والإيذاء في اليوم التاسع من ربيع، فإنّ هذا مخالف للروح العامّة للكتاب، أو ما يذمّ طائفة من البشر ويبيّن خسّتهم ودناءتهم وأنّهم قسم من الجنّ، فإنّ هذا أيضاً مخالف للروح العامّة للكتاب المبنيّة على أساس المساواة بين الأقوام والشعوب.

(3) راجع الوسائل، ج 18، ب 9 من صفاة القاضي، ح 10 و15 و35.

364

إلّا أن يلتزم بتأويل أحد العنوانين، بأن تحمل الموافقة على عدم المخالفة أوالمخالفة على عدم الموافقة.

ومنها: أنّ ظاهر قوله: «ما وافق كتاب الله فخذوه» أنّ الأمر بالأخذ هنا أمر مولويّ في مقام جعل الحجّيّة. ولو كان المراد بالموافق الموافق لشخص آية معيّنة، لم يظهر لجعل الحجّيّة له أثر إلّا في فروض نادرة؛ إذ تكفينا تلك الآية. وهذا بخلاف ما إذا كان المقصود الموافقة للمزاج العامّ للكتاب، فزكاة التجارة ـ مثلاً ـ موافقة للمزاج العامّ للكتاب، لكنّها مع ذلك بحاجة إلى حجّيّة الخبر الدالّ عليها؛ لعدم دلالة آية عليها.

ومنها: ما ورد في بعض روايات الباب(1) من أنّه إن وجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من كتاب الله فخذوا به، فإنّ ظاهر ذلك: أنّ وجود شاهد ثان يوجب التأكيد في ملاك الأخذ مع أنّه لو كان المقصود الموافقة بمعنى دلالة آية على مفاده، لم تكن دلالة آية ثانية عليه موجباً لتأكيد ملاك الأخذ، كما هو واضح، وهذا بخلاف ما لو كان المراد الموافقة للمزاج العامّ، فإنّه كلّما كانت المناسبة مع عدد أكبر من المسلّمات وعدد أكثر من الأذواق المستكشفة للشريعة الإسلاميّة يكون ملاك الأخذ عندئذ أقوى لا محالة.

ومنها: أنّ قسماً من تلك الأخبار يدلّ على نفي صدور ما لا يوافق الكتاب منهم(عليهم السلام) واستنكار ذلك، لا مجرّد نفي الحجّيّة(2)، بينما من الواضح أنّ ورود ما لا يوافق نصّاً خاصّاً من الكتاب ليس بعيداً عن شأنهم، بل هو من شأنهم. ومن المعلوم لدى المسلمين جميعاً أنّ القرآن الكريم لا يحتوي على تمام أحكام الشريعة بلا خلاف في ذلك بين الشيعة والعامّة، فنحن نأخذ بقيّة الأحكام عن


(1) راجع المصدر السابق، ح 18.

(2) راجع المصدر السابق، ح 12 و 14 و 40.

365

رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأئمّتنا(عليهم السلام)، وهم يأخذونها عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأئمّتهم، وإنّما الذي لا يناسبهم(عليهم السلام) هو صدور ما لا يوافق الذوق العامّ للكتاب الكريم ولا يلائم المسلّمات.

ومنها: ما في بعض تلك الروايات من عنوان وجود ما يشبهه في الكتاب(1)، ولعلّه لا يخفى ظهور ذلك فيما ذكرناه.

وهذه الشواهد التي ذكرناها ليست متساوية، وليس كلّها قويّاً إلى حدّ يوجب صرف ظهور الرواية إلى الاحتمال المطلوب.

على أنّ هذه الشواهد لا تستوعب تمام روايات الباب، فيبقى ما لا يشتمل على شيء من هذه الشواهد(2).

 


(1) راجع المصدر السابق، ح 40.

(2) وهو الحديث الحادي عشر من ذاك الباب عن عبدالله ابن أبي يعفور بسند تامّ عن أبي عبدالله(عليه السلام): «إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وإلّا فالذي جاءكم به أولى به». والحديث السابع والثلاثون عن جابر بسند غير تامّ عن أبي جعفر(عليه السلام): «انظروا أمرنا وما جاءكم عنّا، فإن وجدتموه للقرآن موافقاً فخذوا به، وإن لم تجدوه موافقاً فردّوه، وإن اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وردّوه إلينا حتّى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا».

ويمكن أن يقال بالنسبة للحديث الأخير: إنّ التفصيل بين ما لم يوافق الكتاب وما اشتبه فيه الأمر بالتعبير بالردّ في الأوّل، وبالتوقّف في الثاني شاهد على كون المقصود بالموافقة الموافقة للمزاج العامّ للكتاب لا الموافقة لنصّ الكتاب؛ إذ لو كان المقصود هو الموافقة لنصّ الكتاب، فلا فرق في الحكم بين ما لو علمنا بعدم الموافقة وما لو اشتبه علينا الأمر، ولا نكتة في التفصيل في التعبير بالردّ في الأوّل والتوقّف في الثاني، فإنّ عدم الموافقة بمعنى عدم وجود مضمون الحديث في القرآن ليس دليلاً على كذب الحديث،

366

والتحقيق: أنّ أكثر الروايات التي جاء فيها ذكر موافقة الكتاب ـ بعد فرض عدم كون المقصود من الموافقة الموافقة مع المزاج العامّ ـ لا تدلّ في الحقيقة على أكثر من إسقاط ما خالف الكتاب عن الحجّيّة، فإنّ جملة منها ذكر فيه عنوان الموافقة والمخالفة معاً فقال: «ما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه». ومن الواضح أنّ هذا ظاهر في إعطاء الضابط الكلّي، وهذا لا يناسب مع ما هو معلوم: من أنّ الشقّ الثالث ـ وهو الذي لا يوافق ولا يخالف الكتاب ـ هو القسم الأوسع من الأخبار، فلابدّ إمّا من حمل الموافقة على عدم المخالفة، أو المخالفة على عدم الموافقة، فإن لم ندّع أنّ الظاهر عرفاً هو تحكيم الضابط الأخصّ في الضابط الأعمّ، وحمل عدم الموافقة (وهو الأعمّ) على المخالفة (وهي الأخصّ)، فلا أقلّ من فرض الإجمال، فلا يمكن التمسّك بهذه الأخبار لنفي الحجّيّة إلّا


وإنّما حال الحديث هنا حال ما اشتبه الأمر فيه. بينما لو كان المقصود هو الموافقة للمزاج العامّ للقرآن، فالفرق بين الموردين واضح؛ للقطع بخطأ الأوّل، والشكّ في خطأ الثاني.

وأمّا حديث عبدالله ابن يعفور فيمكن صرفه إلى معنى موافقة المزاج العامّ للكتاب لو تمّ ما جاء في كتاب تعارض الأدلّة ـ للسيّد الهاشميّ حفظه الله، الطبعة الرابعة،ص 334 ـ: من أنّ كلمة «شاهد» الواردة في هذا الحديث تشير إلى ذلك؛ لأنّ هذه الكلمة تعطي معنى أعمّ من الموافق.

كما أنّه جعل في هذا الكتاب ما نعرفه من وضع الأئمّة(عليهم السلام) ووظيفتهم: من شرح أحكام وتفاصيل غير موجودة في القرآن الكريم قرينة على صرف الموافقة في جميع هذه الروايات إلى معنى الموافقة للمزاج العامّ للقرآن.

ولكن لقائل أن يقول ـ كما مضى ـ: إنّ هذا قرينة على صرف ما ورد بلسان نفي الصدور، أمّا ما ورد بلسان نفي الحجّيّة، فلا تنافي بينه وبين علمنا بكون دأب الأئمّة(عليهم السلام)هو بيان الأحكام وتفاصيل غير موجودة في الكتاب الكريم.

367

بالقدر المتيقّن وهو المخالف للكتاب(1).

وكذلك الحال في الروايات التي اقتصرت على عنوان الموافقة وتوصيف ما لم يوافق الكتاب بأنّه زخرف(2) مثلاً، فإنّ الظاهر من التعبير بعدم موافقة الكتاب هو السلب بانتفاء المحمول، أي: أن توجد في الكتاب آية في بيان حكم مورد هذا الحديث ولا يوافقها هذا الحديث، لا السلب بانتفاء الموضوع. وهذا ظهور يتّفق كثيراً في الأعدام المضافة إلى جملة من العناوين. وإن شئت فعبّر عنه بالظهور في العدم المقابل للكلمة دون العدم بانتفاء الموضوع، فقولنا: (فلان ليس ببصير) أو (ليس بأعمى) ظاهر في أنّ من شأنه أن يكون بصيراً أو أعمى، لكنّه ليس ببصير أو ليس بأعمى، لا أنّه كالجدار، لا موضوع فيه للبصر أو للعمى(3).

إذن لا يبقى ما يدلّ على أنّ المقياس هو الموافقة عدا لسان واحد وهو لسان:


(1) وكذلك يمكن الاستشهاد على حمل الموافق على غير المخالف ببعض الشواهد الاُخرى من شواهد حمله على موافقة المزاج العامّ، كأن يقال: إنّ الأمر بالأخذ بما وافق الكتاب ظاهر في المولويّة، وهو لا معنى له غالباً في الموافق، بينما هو معقول في غير المخالف، كما أنّ نفي الصدور لا يناسب مجرّد عدم الموافقة؛ لعلمنا بأنّهم(عليهم السلام) كانوا يصدرون ما لا يوافق الكتاب، ولكنّه يناسب فرض المخالفة. وكذلك التفصيل بين ما لم يوافق وما اشتبه أمرهبالردّ في الأوّل والتوقّف في الثاني لا يناسب إرادة معنى الموافقة بالمعنى الحرفيّ، ولكن يناسب حمل عدم الموافقة على المخالفة.

(2) راجع الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 12 و14، ص 78 و79.

(3) لا يخفى أنّ هذا الوجه لو تمّ، لكان معنى ذلك أنّ حمل عدم الموافقة على المخالفة ليس فيه أيّ مؤونة لظهور العدم المضاف إلى عنوان في العدم المقابل للملكة. إذن فهذا الحمل أولى من الحمل على عدم الموافقة للمزاج العامّ للكتاب، بينما ظاهر كلام اُستاذنا (رضوان الله عليه) هو: أنّه إنّما نذهب إلى الحمل على معنى المخالفة فيما لم تتمّ شواهد الحمل على عدم الموافقة للمزاج العامّ.

368

«إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله(صلى الله عليه وآله)،وإلّا فالذي جاءكم به أولى به»(1). وقد مضى أنّنا لا نحتاج في مقام إثبات الردع إلى السنّة المتواترة، بل يكفي خبر واحد مشمول للسيرة العقلائيّة في نفسه، وهذا اللسان وارد في رواية ابن أبي يعفور من قِبل اُناس كلّهم ثقات، فهو مشمول للسيرة العقلائيّة رادع عن باقي الأخبار غير الموافقة للكتاب الكريم.

وهذا غاية ما يمكن أن ينتصر به للاستدلال بما ورد من الإرجاع إلى موافقة الكتاب على سقوط ما لا يوافق الكتاب رغم عدم المخالفة أيضاً عن الحجّيّة بعد تصفية روايات الباب، بحيث لم تبق منها عدا هذه الرواية، وبعد الاستدلال بها بهذه الكيفيّة نقول: إنّ لذلك ثلاثة أجوبة:

الجواب الأوّل: أنّه لو تمّ الاستدلال بهذا الحديث، فإنّما يتمّ بناءً على تماميّة دلالة الآيات الرادعة عن العمل بالظنّ وغير العلم على عدم الحجّيّة، كي يكون هذا الحديث بنفسه موافقاً للكتاب(2)، لكنّك عرفت عدم تماميّة دلالتها، فهذا الحديث يردع عن نفسه؛ لعدم موافقته للكتاب، وعندئذ لا يمكن الأخذ به. وهذا الجواب يتمّ ببركة تتميمه وتكميله بأحد الوجهين الماضيين في الجواب الثاني من أجوبة الطائفة الاُولى(3).

 


(1) الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 11، ص 78.

(2) هذا مبنيّ على أنّ هذا الحديث يردع عن حجّيّة ما لا يوافق الكتاب، أمّا لو قلنا: إنّه يردع عن مطلق خبر الواحد، أمكن القول بأنّ هذا الحديث يردع عن نفسه سواء فرض هو موافقاً للكتاب أو لا.

(3) كان الوجه الأوّل عبارة عن دعوى القطع بعدم خصوصيّة لهذا الحديث بأن يكون هو وحده حجّة، وغيره غير الحجّة. والوجه الثاني عبارة عن أنّه إن أمكن ثبوت التفكيك بحجّيّة هذا الحديث دون غيره، فهو غير ممكن إثباتاً؛ لعدم إمكان التفصيل لا بلحاظ الدلالة؛ لأنّ شمول كلام الإمام لنقل نفس هذا الكلام ليس شمولاً للكلام لنفسه،

369


ولا بلحاظ السند؛ لعدم إمكان تحليل السند في المقام على شرح مضى.

وتطبيق الوجه الأوّل من هذين الوجهين على روايتنا في المقام قد أورد عليه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في بحث التعادل والتراجيح بأنّ احتمال الفرق في خصوص المقام وارد؛ لأنّ هذه الرواية تريد أن تقرّبنا نحو الكتاب، فتمنع عن حجّيّة خبر ليس له شاهد من الكتاب، وهذه الرواية وإن لم يكن لها شاهد من الكتاب ـ بحسب الفرض ـ إلّا أنّها تقرّبنا نحو الكتاب؛ لأنّها تأمر بأن لا يؤخذ إلّا بما يوافق الكتاب، فاحتمال الفرق بينها وبين غيرها بحجّيّتها دون حجّيّة غيرها موجود.

وقد جاء في تعارض الأدلّة ذكر مفارقات على الاستدلال برواية ابن أبي يعفور لإسقاط خبر الواحد عن الحجّيّة:

منها: أنّ هذا لو تمّ، لا يسقط خصوص ما لا شاهد له من الكتاب، بل يسقط مطلق خبر الواحد؛ لأنّ حجّيّة ما له شاهد من الكتاب لا ثمرة له إلّا نادراً، فالمفهوم عرفاً من ذلك بيان أنّ الحجّة إنّما هي الكتاب لا خبر الواحد سواء وافق الكتاب أو لا، وإسقاط حجّيّة خبر الواحد بخبر الواحد خلف.

ومنها: أنّه لو جعلت هذه الرواية مسقطة لما لا شاهد له من الكتاب فهي تسقط نفسها؛ لأنّها لا شاهد لها من الكتاب. وهذا غير ممكن. وقد فرضت في كتاب تعارض الأدلّة المفارقة الاُولى تامّة والمفارقة الثانية غير صحيحة؛ لأنّ هذه الرواية لئن لم يمكن إسقاطها لنفسها فإسقاطها لغيرها ممكن، واحتمال الفرق عرفاً وارد؛ لأنّ هذه الرواية تقرّبنا من الكتاب(1).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع تعارض الأدلّة للسيّد الهاشميّ حفظه الله، الطبعة الرابعة، المفارقة الاُولى والثالثة، ص 319 ـ 320.

370


أقول: كأنّ توجيه الفرق بين المفارقتين بقبول الاُولى دون الثانية مبتن على النظر إلى الوجه الأوّل من وجهي تتميم الإشكال، وهو دعوى القطع بعدم الخصوصيّة والميزة لهذه الرواية بحيث تجعل حجّة دون غيرها. فيقال: إنّ هذا القطع يرتفع حينما يفرض أنّ مفاد الرواية هو إسقاط الخبر الذي لا شاهد له من الكتاب عن الحجّيّة، باعتبار أنّ هذه الرواية بالذات وإن كان لا شاهد لها من الكتاب لكنّها تقرّب إلى الكتاب؛ لأنّ المنع عمّا لا شاهد له من الكتاب بما هو كذلك تقريب إلى الكتاب، فلعلّه لهذا اختصّت بالحجّيّة. أمّا إذا فرض أنّ مفاد الرواية هو إسقاط خبر الواحد بما هو خبر الواحد عن الحجّيّة، فعندئذ نقطع بعدم مزيّة وخصوصيّة في هذه الرواية التي هي أيضاً خبر واحد.

وقد يقال: إنّ الردع عمّا لا شاهد له من الكتاب بما هو كذلك ليس تقريباً نحو الكتاب؛ لأنّ المفروض أنّ هذا العنوان يعمّ ما لا يخالف الكتاب ولا يوافقه، والردع عنه ليس تقريباً إلى الكتاب. أمّا لو اكتفينا بأنّ الردع عمّا لا شاهد له من الكتاب ردع ضمناً عمّا يخالف الكتاب، وهذا تقريب نحو الكتاب، فالردع عن مطلق خبر الواحد أيضاً ردع ضمناً عمّا يخالف الكتاب، فهو تقريب نحو الكتاب. إذن فالوجه الأوّل من وجهي تتميم الإشكال نسبته إلى المفارقتين الراجعتين بروحهما إلى مفارقة واحدة على حدّ سواء. وقد يجاب على ذلك بأنّه فرض مفاد الرواية الردع عن خصوص ما لا شاهد له من الكتاب، فهو تقريب نحو الكتاب ولو ضمناً، باعتبار أنّ ما لا شاهد له من الكتاب يشمل ما خالف الكتاب، وما عداه ليس مقرّباً نحو الكتاب سواء كان مبعّداً عنه من قبيل ما يخالف الكتاب، أو غير مبعّد ولا مقرّب من قبيل ما لا يخالف ولا يوافق الكتاب، فمن المحتمل كون مقرّبيّة هذه الرواية نحو الكتاب دون غيره هي المزية التي جعلتها حجّة دون غيرها. أمّا لو فرض مفاد الرواية الردع عن مطلق خبر الواحد الشامل لما وافق الكتاب، فاحتمال

371

الجواب الثاني: أنّنا لو سلّمنا عدم شمول هذا الحديث لنفسه، قلنا: إنّه تقع المعارضة بين هذا الحديث وبين الكتاب والسنّة القطعيّة بالعموم من وجه:

أمّا معارضته للكتاب بالعموم من وجه، فبناءً على فرض تماميّة دلالة آية النفر على حجّيّة خبر الواحد، فإنّ دلالتها على ذلك تكون بإطلاقها الدالّ على وجوب الحذر سواء حصل العلم أو لا، ففرض حصول العلم مادّة للافتراق للآية، وفرض ورود خبر في الأحكام لم يحصل العلم به ولا يوافق الكتاب(1) مادّة للاجتماع، والخبر الذي ورد في غير الأحكام من قبيل اُصول الدين، أو كتاب السماء والعالم، ونحو ذلك، ولم يوافق الكتاب، ولم يحصل العلم به مادّة للافتراق لهذا الحديث؛ لأنّ الآية تختصّ بباب الأحكام، بينما هذا الحديث ينفي حجّيّة الخبر غير الموافق للكتاب في باب الأحكام بالإطلاق، وليس صريحاً في خصوص باب الأحكام وتشخيص الوظيفة العمليّة، فإنّ الجزاء في قوله: «إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله، أو من قول رسول الله(صلى الله عليه وآله)» محذوف، ولا شاهد على كون المحذوف مثل (فاعملوا به في صلاتكم وصومكم)، بل المناسب والقدر المتيقّن من الجزاء هو (فاقبلوه)، أي: انسبوا مفاده إلى الدين. ولم نذكر هنا آية النبأ، واقتصرنا على آية النفر؛ لأنّ آية النبأ غير مختصّة بباب الأحكام.

 


المزيّة ينتفي في المقام؛ إذ كما هو مقرّب للكتاب كذلك ما وافق الكتاب مقرّب للكتاب. وعلى أيّ حال، فلو تمّ كلّ هذا فإنّما هو في إطار التتميم الأوّل للإشكال، فيفترض أنّ هذا التتميم إنّما يتمّ في المفارقة الاُولى دون الثانية، ولكن يبقى أنّ التتميم الثاني يتمّ في كلتا المفارقتين اللتين هما في روحهما شقّان لمفارقة واحدة.

(1) قيد عدم موافقة الكتاب ذكره مبنيّ على كون الرواية رادعة عمّا لا يوافق الكتاب، لا عن خبر الواحد بشكل مطلق.

372

وأمّا معارضته للسنّة القطعيّة بالعموم من وجه، فلأنّ السنّة القطعيّة دلّت كما سيأتي ـ إن شاء الله ـ على جعل الحجّيّة لخبر الثقة في الأحكام، ولا يمكن تقييدها بخصوص ما إذا كان مضمونه موجوداً في القرآن الكريم، فإنّ هذا تقييد بالفرد النادر، ولكن يمكن تقييد بعضها بباب أخذ العامي للفتوى من الفقيه، فإنّ السنّة القطعيّة لم تدلّ على حجّيّة خبر الثقة بالنصوصيّة، وإنّما دلّت على ذلك بالإطلاق، فإنّ مثل قوله: «أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما احتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: نعم»(1) يدلّ بالإطلاق على أمرين: أخذ العامي للفتوى من الفقيه، وأخذ الفقيه للخبر من الراوي، فإنّ كليهما أخذ لمعالم الدين. فالفتوى مادّة للافتراق للسنّة القطعيّة، والخبر الذي لا يوافق الكتاب إن كان في مثل اُصول الدين، وأخبار السماء والعالم، فهو مادّة للافتراق لهذا الحديث، وإن كان في باب الأحكام فهو مادّة للاجتماع.

فإذا كان هذا الحديث معارضاً للكتاب والسنّة القطعيّة كان مردوعاً عنه بما دلّ على طرح المخالف للكتاب والسنّة القطعيّة(2). فكما يقال: إنّ هذا الحديث مشمول للسيرة العقلائيّة ورادع عن باقي الأحاديث يمكن أن يقال: إنّ ما أمر بطرح مخالف الكتاب والسنّة مشمول للسيرة العقلائيّة ورادع عن هذا الحديث.

وما سيأتي من الخبر المختار تماميّة الاستدلال به على طرح المخالف ولو


(1) الوسائل، ج 18، ب 11 من صفات القاضي، ح 33، ص 107.

(2) هذا إن لم نحمله على المخالفة للروح العامّة للكتاب، وإلّا لم يدلّ على سقوط ما يعارض الكتاب بالعموم من وجه. وقد أشار إلى عدم دلالته على ما يعارض الكتاب بالعموم من وجه في تعارض الأدلّة(1).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تعارض الأدلّة، الطبعة الرابعة، ص 335.

373

بالعموم من وجه، وإن كان قد نصّ فقط على مخالفة الكتاب، لكنّا نفهم أنّ ذلك بنكتة قطعيّة الكتاب، فلا فرق في ذلك بين الكتاب والسنّة القطعيّة.

إن قلت: إنّ الردع ثابت من الطرفين، فرواية ابن أبي يعفور تردع عمّا يأمر بطرح ما يخالف الكتاب والسنّة؛ إذ لا شاهد له من الكتاب والسنّة، وما يأمر بطرح ما يخالف الكتاب والسنّة يردع عن رواية ابن أبي يعفور المخالفة للكتاب والسنّة الدالّين على حجّيّة خبر الواحد.

قلت: أوّلاً: يكفينا الترادع من الطرفين والتساقط؛ إذ نرجع بعد ذلك إلى الكتاب والسنّة القطعيّة الدالّين على حجّيّة خبر الواحد.

وثانياً: إنّ رواية ابن أبي يعفور لا تردع عن الأخذ بما يأمر بطرح ما خالف الكتاب والسنّة، فإنّ تلك الرواية إن كانت صادرة من الإمام، فما يأمر بطرح ما خالف الكتاب والسنّة قد وافق السنّة، فإنّ تلك الرواية تدلّ على عدم حجّيّة غير الموافق، وهذا يدلّ على عدم حجّيّة المخالف، والمخالف قسم من غير الموافق وداخل فيه.

وإن لم تكن صادرة عن الإمام، فدليل حجّيّة خبر الواحد ثابت على حاله، ولا إشكال عليه من ناحية هذه الرواية(1).

وثالثاً: إنّ الترادع يكون بين إطلاق رواية ابن أبي يعفور ونفس الحديث الدالّ على طرح ما خالف الكتاب والسنّة. وإطلاق الأوّل مبتلى بالمعارض، وهو أدلّة حجّيّة الخبر، فلا يفيد ردعه.

الجواب الثالث: أنّنا لو قطعنا النظر عمّا دلّ على عدم حجّيّة المخالف للكتاب


(1) هذا الجواب مبنيّ على تفسير رواية ابن أبي يعفور بالردع عمّا لا يوافق الكتاب. أمّا لو فسّرت بالردع عن مطلق خبر الواحد فلا مجال لهذا الجواب.

374

والسنّة القطعيّة، قلنا: إنّ السنّة القطعيّة الدالّة على حجّيّة خبر الثقة مقدّمة على رواية ابن أبي يعفور؛ لأنّ بعض الأخبار الدالّة على حجّيّة خبر الثقة ممّا يشكّل جزءاً من التواتر وإن كان دالّاً على ذلك بالإطلاق، فتكون دلالة السنّة القطعيّة على حجّيّة خبر الثقة دلالة إطلاقيّة؛ لأنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمات، ولكن بعض تلك الأخبار ممّا هو تامّ سنداً يدلّ على حجّيّة خبر الثقة بالخصوص. إذن فرغم أنّ النسبة بين السنّة القطعيّة الدالّة على حجّيّة خبر الثقة ورواية ابن أبي يعفور عموم من وجه نقول: إنّ تلك السنّة القطعيّة تصلح للقرينيّة والحاكميّة على إطلاق رواية ابن أبي يعفور على حدّ حكومة الخاصّ على العامّ وقرينيّته، ورواية ابن أبي يعفور لا تصلح للقرينيّة والحاكميّة على السنّة القطعيّة: أمّا عدم صلاحيّة رواية ابن أبي يعفور لذلك فواضح؛ لأنّ النسبة بينهما عموم من وجه، ولا نكتة لتقديمها على السنّة القطعيّة من سنخ تقديم الخاصّ على العامّ؛ وأمّا صلاحيّة إطلاق السنّة القطعيّة للتقدّم على إطلاق رواية ابن أبي يعفور كتقديم الخاصّ على العامّ؛ فلأنّ إطلاقها يدلّ على حجّيّة ذاك القسم منها الدالّ بالخصوص على حجّيّة خبر الثقة في الأحكام الذي نسبته إلى رواية ابن أبي يعفور نسبة الخاصّ إلى العامّ. وهذا المطلب يمكن بيانه بعدّة تقريبات صناعيّة تحت صياغة الدور ونحو ذلك(1)، وجوهر المطلب ما ذكرناه. ولعلّه لا نظير لهذين العامّين من وجه في تمام


(1) ذكر اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في بحث التعادل والتراجيح في مقام تقريب هذا البيان بصياغة الدور: أنّ تماميّة مقتضى الحجّيّة لإطلاق رواية ابن أبي يعفور فرع عدم تخصيصها بذاك الخبر الواحد الذي هو فرع عدم حجّيّته بإطلاق الكتاب والسنّة القطعيّة، أي: عدم حجّيّة إطلاق آية النفر أو السنّة القطعيّة، فتماميّة مقتضى الحجّيّة لإطلاق رواية ابن أبي يعفور فرع عدم حجّيّة إطلاق آية النفر والسنّة القطعيّة، وما يكون فرع عدم شيء يستحيل أن يمنع عن ذلك الشيء، وإلّا لزم الدور.