235

على المبنى المشهور

أمـّا إذا بنينا في ذلك على المبنى المشهور القائل بأنّ الوجه في عدم منجّزية العلم الإجمالي في فرض خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء، هو دورانه بين تكليف فعليّ وتكليف مشروط لم يحصل شرطه، فيمكن أنْ يقال في بداية الأمر: إنـّه يكفي في عدم العلم بالتكليف الفعليّ احتمال خروج أحد الطرفين عن محلّ الابتلاء؛ إذ يحتمل ـ عندئذ ـ عدم فعليّة التكليف على تقدير ثبوته في ذاك الطرف وإنْ كان يقطع بفعليّته على تقدير ثبوته في الطرف الآخر، ومن الواضح: أنّ احتمال عدم الفعليّة على أحد التقديرين المحتملين كاف في عدم الجزم بالفعلية؛ لأنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمتين .

إلّا أنـّه يُذكرُ في المقام مانعان عن التمسّك بالأصل:

المانع الأوّل: إطلاق دليل التكليف؛ لأنّ المفروض أنّنا لم نقطع بخروج ذاك الطرف عنه، فنتمسّك بإطلاق دليل التكليف، ويتشكّل لنا علم إجماليّ بتكليف يكون فعليّاً وجداناً على أحد التقديرين، وفعليّاً تعبّداً على التقدير الآخر.

وقد ظهرت مواقف ثلاثة تجاه التمسّك بهذا الإطلاق:

الأوّل: موقف المحقّق النائينيّ (رحمه الله) وهو الموافقة على التمسّك بهذا الإطلاق مطلقاً، أي: سواء كانت الشبهة مصداقيّة أو مفهوميّة(1) .

والثاني: موقف المحقّق الخراساني (رحمه الله) وهو عدم التمسّك به مطلقاً(2) .

والثالث: موقف المحقّق العراقي (رحمه الله) وهو التفصيل بين الشبهة المفهومية، فيتمسّك فيها بالإطلاق، والمصداقية فلا يتمسّك فيها به(3) .

والموقف الأوّل والأخير تطبيق لمبنى المحقّق النائيني والعراقي(رحمهما الله)العامّ على المقام، حيث إنّ المحقّق العراقي بنى في المخصّص المنفصل على التفصيل بين الشبهة المفهومية والمصداقية، بالتمسّك بالعامّ في الاُولى دون الثانية، فطبّق ذلك على المقام، والمحقّق النائيني بنى على التمسّك بالعامّ حتّى في الشبهة المصداقية إذا كان المخصّص لبّيّاً، فطبّق ذلك على المقام.

ويقع الكلام في وجه القول الوسط، حيث يبدو عدم ملائمته للمباني


(1) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 253 ـ 255، وفوائد الاُصول: ج 4، ص 19 ـ 21.

(2) راجع الكفاية: ج 2، ص 223 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق المشكيني.

(3) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 342 ـ 343.

236

المختارة في سائر موارد شبهات المخصّص، فما هي النكتة الثابتة فيما نحن فيه التي جعلته يشذّ عن سائر الموارد، وأوجبت عدم التمسّك بالإطلاق فيه مطلقاً؟ وقد ذُكِرَ لذلك تقريبان: ـ

التقريب الأوّل: ما في كلام المحقّق الخراساني(رحمه الله) في الكفاية، وهذا التقريب ـ إذا أخذنا بعبارة الكفاية على بساطتها وإجمالها ـ يكون عبارة عن أنـّه لو تمّ ثبوتاً إمكان إطلاق الحكم، وشككنا في التقييد والإطلاق، بنينا على الإطلاق في عالم الإثبات، أمـّا مع الشكّ في أصل إمكان كون الحكم مطلقاً ثبوتاً، فلا معنى للتمسّك بالإطلاق إثباتاً، فإنّ مقام الإثبات فرع مقام الثبوت، ومع الشكّ في إمكان الشيء لا يمكن إثباته بالإطلاق.

وأجاب عن ذلك المحقّق النائيني (رحمه الله)حلاّ ونقضاً:

أمـّا الحلّ: فبأنـّه ليس من شرائط الأخذ بإطلاق الكلام إثباتاً إحراز إمكان مفاده ثبوتاً مسبقاً على الأخذ به، بل بمجرّد احتمال الإمكان يأتي احتمال صدق الإطلاق الإثباتي، ومع احتمال الصدق يصبح حُجّة بدليل حجّيّة الظهور، ويثبت تعبّداً بالمدلول الالتزامي لذاك الظهور إمكان مفاده ثبوتاً.

وأمـّا النقض: فبأنّه لو كان من شرط الأخذ بالإطلاق إحرازُ إمكان مفاده، لبطل جميع الإطلاقات، فمثلاً لا يمكن الأخذ بإطلاق ﴿ أحل الله البيع﴾ لإثبات جعل صحّة البيع المعاطاتي، مع احتمال كون جعل صحّته مشتملاً ثبوتاً على مفاسد قبيحة على المولى، ولا يصدر القبيح من المولى، فقد شككنا في أصل صحّة هذا الجعل ثبوتاً، فكيف نتمسّك بالإطلاق في مقام الإثبات؟!

وما أفاده المحقّق النائيني (رحمه الله) نقضاً وحلاّ متينٌ، ووارد على هذا الوجه، بناءً على الأخذ فيه بنفس البيان الساذج الذي ذكرناه.

إلّا أنّ المحقّق العراقي (رحمه الله) فسّر(1) عبارة المحقّق الخراساني ببيان آخر أعمق، يسلم عمّا أورده عليه المحقّق النائيني، وهو: أنّنا إنّما نأخذ بالإطلاق لدى فرض جعل الحجّية للإطلاق، وجعل الحجّية حكم ظاهري، حاله حال الحكم الواقعي في كونه مشروطاً بالدخول في محلّ الابتلاء، وأيّ فرق في ذلك بين وجوب الاجتناب الواقعي ووجوب الاجتناب الظاهري؟! فمع الشكّ في الدخول في محلّ الابتلاء يشكّ في أصل معقوليّة جعل الحجّيّة للإطلاق في المقام.


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 345 ـ 346.

237

هذا ما أفاده المحقّق العراقي(رحمه الله) تفسيراً لكلام المحقق الخراساني(قدس سره) .

ولو اُورد على هذا الكلام: بأنـّنا نحرز في المقام إمكان الحكم الظاهري بنفس دليل الحكم الظاهري؛ لأنـّه دليل قطعي، وهذا هو الحال في كلّ حكم ظاهري، فمع احتمال قبحه ثبوتاً، وكون المصلحة في عدم جعله تثبت صحّته ثبوتاً بنفس دليله، والمفروض في الأحكام الظاهرية أنـّه يجب انتهاؤها إلى دليل قطعي، وبه ينتهي الإشكال.

أجبنا عن ذلك بأنّه في المقام لا يوجد دليل قطعي على حُجّيّة هذا الظهور، لأنّ دليله هو السيرة العقلائية وبناء العقلاء، والعقلاء إذا لاحظوا فرض الشكّ في الدخول في محلّ الابتلاء الذي هو شرط إمكان الحكم وصحّته ثبوتاً، فقد شكّوا في جعل الحجّيّة هنا.

نعم، إذا ورد من المعصوم نصٌّ قطعي يدلّ على صحّة الجعل هنا، ثبت به دخول ذلك الشيء في محلّ الابتلاء، وإمكان الحكم الواقعي في نفسه، وخرج عن محلّ الكلام.

ثم، انّ المحقق العراقي بعد أنْ فسّر كلام المحقّق الخراساني بما عرفت، أورد عليه إشكالاً ـ حسب تعبير وارد في تقرير بحثه ـ يحتمل أنْ يكون المقصود منه ما يلي: وهو أنّ الحكم الظاهري ليس حاله حال الحكم الواقعي، بحيث يكون احتمال الخروج عن محلّ الابتلاء مساوقاً لاحتمال عدم إمكانه، كما هو الحال في الحكم الواقعي، فإنّ روح الحكم الظاهري عبارة عن شدّة الاهتمام بالحكم الواقعي، وعدم الرضا بمخالفته على تقدير ثبوته، ومن المعلوم أنّ تقدير ثبوته هو تقدير الدخول في محلّ الابتلاء، والمفروض أنّ نفس العلم بشدة الاهتمام بالحكم على تقدير ثبوته يكفي في حكم العقل بالتنجيز الفعلي، فإشكال احتمال الخروج عن محل الابتلاء يفترض إخلاله بأي شيء؟ إن افترض إخلاله بالحكم الظاهري، قلنا: إنّ الحكم الظاهري عبارة عن شدّة الاهتمام المقيّدة بفرض الدخول في محلّ الابتلاء، وإنْ افترض إخلاله بحكم العقل بالتنجيز، قلنا: إنّ المفروض أنّ نفس العلم بشدّة الاهتمام على تقدير وجود الواقع منجّز بالفعل عقلاً.

بل إنّ الجواب لا يختصّ بفرض الالتفات إلى أنّ واقع الحكم الظاهري عبارة عن إبراز شدّة الاهتمام بالفرض الواقعي على تقدير وجوده، فحتّى لو افترضنا أنّ الحكم الظاهري عبارة عن جعل الحكم المماثل، أو نحو ذلك، وغفلنا عن أنّ هذا مجرّد صياغة للمطلب، وأنّ روح المطلب هو ذاك الاهتمام، فعلى أيّة حال ما دمنا لا

238

نؤمن بالسببيّة في الحكم الظاهري، وأنّ المطلوب في المقام هو الترك في ذاته، لا نبتلي بإشكال تحصيل الحاصل أو غيره، على أساس أنّ ذاك الفرد لو كان واقعاً خارجاً عن محلّ الابتلاء، فالترك مضمون، وإنّما نتيجة الحكم الظاهري المفسّر ـ بأيّ تفسير فرض في المقام ـ هي الانتهاء إلى تنجيز الواقع على تقدير وجوده، وفائدة ذلك وإن كانت لا تظهر إلّا على تقدير دخول الفرد واقعاً في محلّ الابتلاء، لكن ليس هذا بدعاً في باب الأحكام الظاهريّة، فإنّ الأحكام الظاهرية بطبيعتها تختصّ فائدتها بفرض المصادفة للواقع، وأُطلقت من باب عدم إمكان التمييز بين المصادف وغير المصادف، ولو تَمّ التمييز لانتفى موضوع الحاجة إلى الحكم الظاهري.

وقد اتّضح بهذا العرض أنّ كلام المحقّق الخراساني (رحمه الله) ـ سواء اُخذ على بساطته وسذاجته أو وجّه بما ذكره المحقّق العراقي (قدس سره) في تفسيره ـ غيرُ تامّ في المقام.

التقريب الثاني ـ ما في تقرير المحقّق النائيني (رحمه الله) : من أنّ المخصّص في المقام يكون لبّيّاً كالمتّصل، وعند دوران المخصّص المتّصل بين الأقلّ والأكثر لا يجوز التمسّك بالعامّ(1) .

وأجاب المحقق النائيني عن ذلك(2): بأنّه لو سلّم كون المخصّص هنا كالمتّصل ـ مع أنـّه ليس كذلك(3) ـ قلنا: إنـّه رغم هذا يجوز التمسّك بالعامّ في المقام؛ إذ ليس الخارج من العامّ بهذا المخصّص المتّصل مفهوماً من المفاهيم، مع الشكّ في دخول أمر ما في مفهومه وعدمه، كما في (اكرم العلماء إلّا الفساق) لدى الشكّ في فسق مرتكب الصغيرة، بل يكون الخروج عن محلّ الابتلاء مفهوماً ذا مراتب قطع بخروج بعض مراتبه العالية من العامّ، ويتمسّك في الباقي بالعامّ.

وكأنـّه ضاع مراد المحقّق النائيني (رحمه الله) على تقدير بحث المحقّق العراقي (قدس سره)بتخيّل أنّ المقصود هو أنّ مفهوم الخارج عن محلّ الابتلاء أمر ذو مراتب، وقد خرج عن العامّ بجميع مراتبه، وشكّ في أنّ المرتبة الضعيفة من أين تبدأ؟ وأنّ هذا


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 19 ـ 20.

(2) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 20. واجود التقريرات: ج 2، ص 252 ـ 254.

(3) لأنّ المخصّص في نظر المحقّق النائيني ليس ضرورياً مرتكزاً في الأذهان كالمتّصل. وأضاف في أجود التقريرات: أنّ المخصّص العقلي هنا يكون من سنخ استكشاف الملاك الذي يكون أمر تمييزه بيد المولى، لا من سنخ حكمه على العناوين، وفي مثل ذلك يجوز في رأي المحقّق النائيني (رحمه الله) التمسّك بالعامّ ولو فرض حكم العقل ضرورياً.

239

المصداق داخل في المرتبة الاُولى الضعيفة أو لا؟ فأورد عليه بأنّ هذا خلف فرض عدم جواز التمسّك بالعامّ، مع إجمال المخصّص المتّصل، ولا يفترق عن سائر موارد إجمال المخصّص المتّصل(1) .

إلّا أنّ مقصود المحقق النائيني (رحمه الله) ليس هو هذا، وإنّما مقصوده أنّ الخروج عن محلّ الابتلاء له مراتب، فبعض مراتبه يفترض خروجه عن العامّ بالمخصّص المتّصل؛ لكون عدم صحّة الحكم فيه واضحاً عند العقل، بحيث يُعَدُّ المخصّص متّصلاً، وتضعف مراتب الخروج عن محلّ الابتلاء إلى أنْ ينعدم وضوح عدم صحّة الحكم عند العقل، فلا يكون خارجاً بالمخصّص المتّصل قطعاً، فإنْ كان خارجاً فهو خارج بالمخصّص المنفصل، وحيثُ إنـّنا شككنا في خروجه نتمسّك فيه بالعامّ(2) .

والذي تَحَصَّل من البحث إلى هذا الحدّ هو أنّ ما نحن فيه حاله حال سائر موارد دوران الأمر في التخصيص بين الأقلّ والأكثر، مع عدم اتّصال الكلام بمخصّص تحتمل قرينيّته على خروج الأكثر، فلا بُدّ من أنْ تطبّق في المقام نفس القواعد المختارة هناك، ففصّل المحقّق العراقيّ بين فرض كون الشبهة مفهوميّة وكونها مصداقية؛ للخروج عن محلّ الابتلاء تطبيقاً لمبناه على محلّ الكلام، وكذلك السيّد الاُستاذ اختار نفس التفصيل(3) تطبيقاً لمبناه على ما نحن فيه، وقال المحقّق النائيني بجواز التمسّك بإطلاق دليل التكليف مطلقاً، تطبيقاً لمبناه ـ أيضاً ـ في المخصّص اللّبّي على المقام.

إلّا أنّ الصحيح مع هذا هو ما اختاره المحقّق الخراساني (رحمه الله) من عدم التمسّك بإطلاق دليل التكليف مطلقاً؛ وذلك لعدّة تقريبات ترجع بحسب الحقيقة إلى روح واحدة: ـ

التقريب الأوّل: أنّ الخارج عن تحت العامّ ليس هو الخارج عن محلّ الابتلاء


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 344.

(2) لا يخفى أنّ المخصّص اللبّي كالمتّصل لا يعقل تردّده مفهوماً بين الأقلّ والأكثر إلّا بهذا النحو، سواء كان الشكّ من ناحية الاختلاف في المراتب، أو من أيّ ناحية اُخرى، فإنّ الزائد المشكوك لا محالة لا يكون حكم العقل بالنسبة له ضرورياً كالمتّصل، وإلّا لما شكّ فيه، فإذا لم يكن حكم العقل بالنسبة له ضرورياً كالمتّصل، جاز التمسّك فيه بالعامّ. إذن فالتسليم بكون تردّد المخصّص اللبّي كالمتّصل بين الأقلّ والأكثر مفهوماً مانعاً عن التمسّك بالعامّ، ثم إخراج مثل ما نحن فيه عن هذه القاعدة تهافتٌ.

(3) راجع مصباح الاُصول: ج2، ص 398 ـ 399، والدراسات: ج 3، ص 256 ـ 257.

240

بهذا العنوان، فإنّه لم يرد مخصّص لفظي يدلّ على خروج الخارج عن محلّ الابتلاء عنه، وإنّما المخصّص هو العقل، وقد حكم بخروجه عن تحت العامّ من باب قبح التكليف بالخارج عن محلّ الابتلاء مثلاً، فالخارج عن تحت العامّ في الحقيقة هو عنوان ما يقبح التكليف به، لا عنوان الخارج عن محلّ الابتلاء بما هو، ومن المعلوم أنّ الشبهة المفهومية للخروج عن محلّ الابتلاء شبهة مصداقية لعنوان القبيح، فيكون التمسّك فيه تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.

التقريب الثاني: ما نترقّى فيه عن التقريب الأوّل، ونقول: إنـّه لا يجوز التمسّك بالعامّ هنا، ولو فرضت الشبهة مفهومية، وغضّ النظر عَمّا سبق؛ وذلك لما مضى في بحث العامّ والخاصّ من أنّ نكتة التفصيل بين الشبهة المفهومية والشبهة المصداقية بالتمسّك بالعامّ في الاُولى دون الثانية هي أنّ نسبة المولى ـ بما هو مولى ـ ونسبة العبد إلى الجهة الدخيلة في الحكم المشكوكة، على حدّ سواء في الشبهة المصداقية، فلا يجوز فيها التمسّك بالعامّ، وهذا بخلاف الشبهة المفهومية، فإنّ المولى أعرف بأنّه هل يكون عدم ارتكاب الصغيرة مثلاً دخيلاً في حكمه أو لا، فيرفع احتمال دخله بالإطلاق لدى خروج الفاسق بالتخصيص، وتردّده مفهوماً بين مرتكب الكبيرة ومطلق العاصي، ولكن لو شَكّ في أنّ زيداً هل هو مرتكب للكبيرة أو لا، فالمولى بما هو مولى ليس بأعرف منّا بالحال، وعلى هذا، فإنْ اتّفق في مورد في الشبهة المصداقية أنّ نسبة المولى بما هو جاعل للحكم، ونسبة العبد لم تكن على حدّ سواء، اُلحقَ ذلك بموارد الشبهة المفهومية، وإنْ اتّفق في مورد في الشبهة المفهومية أنّ النسبتين على حدّ سواء اُلحق ذلك بموارد الشبهة المصداقية.

وعليه نقول فيما نحن فيه: إنّ المولى بما هو جاعل ومشّرع حاله حال العبد في جهة الشكّ في الحكم عند الشك في الخروج عن محلّ الابتلاء، فإنّنا حتّى لو فرضنا أنّ الخارج عن تحت العامّ هو عنوان الخروج عن محلّ الابتلاء المشكوك هنا مفهوماً يكون حال المولى هو حال العبد في جهة الشكّ في الحكم، فقد يشكّ المولى كما يشكّ العبد، فلا مجال هنا للتمسّك بالعامّ.

التقريب الثالث: ما نترقّى فيه أكثر من ذي قبل، وهو أنّ غاية ما يمكن تحصيله بإطلاق الخطاب هي اعتقاد المولى، لكنّ اعتقاد المولى بما هو مولى للدخول في محلّ الابتلاء ليس هنا مساوقاً لإمكان جعل الحكم واقعاً، فلا يمكن التمسّك في إثبات الحكم بإطلاق دليل الحكم، وهذا مبنيّ على فرض كون المحذور في التكليف فيما هو خارج عن محلّ الابتلاء عبارة عن استحالة تحصيل الحاصل، مع فرض أنّ

241

الحكم بنفسه تحصيل وتحريك، كما ذهب إليه المحقّق الأصفهاني(1)، لا أنـّه تصدٍّ للتحريك والتحصيل، فنقول عندئذ: إنّ الحكم في الخارج عن محلّ الابتلاء بنفسه تحصيل للحاصل ومحال، واعتقاد الخلاف لا يجعله ممكناً، فمع احتمال الخروج عن محلّ الابتلاء لا يمكن التمسّك بالعامّ في إثبات الحكم.

ولا يقال: إنـّه لو كشفنا بالإطلاق عن اعتقاد المولى فعلى أساس علمنا بأنّ مولانا سبحانه لا يخطأ، ولا يشتبه، نستكشف بذلك أنّ ذاك الطرف ليس خارجاً عن محلّ الابتلاء.

فإنـّه يقال: إنّ مقصودنا ممّا ذكرناه كان عبارة عن أنـّه حيث لا تكون ملازمة بين اعتقاد المولى ـ بما هو مولى ـ والواقع، ولا يمكن أنْ يكشف الكلام في المحاورات العرفية بين الموالي والعبيد عن أزيد من الاعتقاد، أي لا يمكن أنْ يكشف الكلام عن الحكم في الواقع، لا يستكشف العرف نفس الاعتقاد أيضاً.

هذا. وجميع هذه التقريبات الثلاثة ترجع إلى روح واحدة، وهي أنـّه مهما كان القيد بوجوده الاعتقادي للمولى دخيلاً في الحكم، أمكن التمسّك بالعامّ، ونسبة المولى ـ بما هو جاعل ـ إلى جهة الشكّ في الحكم ليست ـ عندئذ ـ كنسبة العبد إليها، ومهما كان القيد بوجوده الواقعي دخيلاً في الحكم لم يمكن التمسّك بالعامّ، وكانت نسبة المولى ـ بما هو جاعل ـ إلى جهة الشكّ كنسبة العبد إليها، وفي الشبهات المصداقية يكون الدخيل في الحكم وهو القيد بوجوده الواقعي وهو عدم الفسق مثلاً، ونسبة المولى والعبد فيها إلى جهة الشك على حدّ سواء، فلا يتمسّك فيها بالعامّ، وفي الشبهات المفهومية ـ كما لو تردّد معنى الفاسق بين خصوص مرتكب الكبيرة ومطلق العاصي ـ يكون الدخيل في الحكم بوجوب اكرام من هو مرتكب للصغيرة اعتقاد المولى بكون إكرامه ذا مصلحة، لا ثبوت المصلحة واقعاً، ونسبة المولى تختلف عن نسبة العبد إلى جهة الشكّ في الحكم، فيُتمسّك فيها بالعامّ، وكلّ شبهة مصداقية تشارك الشبهة المفهومية في النكتة التي عرفتها، يلحقها حكمها، وكذلك العكس.

المانع الثاني: ما ذكره المحقّق العراقي(2) (رحمه الله) في المقام، بيانه: أنّ العلم الإجمالي هنا وإن لم يكن علماً بالتكليف الفعلي على كلّ تقدير، لكنّه فعليّ على


(1) راجع نهاية الدراية: ج 2 ص، 42 ـ 43.

(2) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 341 ـ 342.

242

تقدير، وموضوع لحكم العقل بالتنجيز على تقدير آخر، فيكون العلم علماً بما يقبل التنجيز على كلّ تقدير، فينجّز. والوجه في ذلك هو أنّ التكليف على تقدير كونه في الطرف الداخل حتماً في محلّ الابتلاء فهو فعليّ، وعلى تقدير كونه في الطرف المشكوك دخوله في محلّ الابتلاء فهو مشكوك الفعلية، لكنّ الشكّ في فعليّته نشأ من الشكّ في القدرة، بناءً على تفسير المحقق العراقي (رحمه الله) للخروج عن محلّ الابتلاء بعدم القدرة العرفية، واحتمال القدرة منجِّز.

هذا ما ذهب إليه المحقّق العراقي (رحمه الله)، ومن هنا لم يفصّل بين كون الشبهة مفهومية أو مصداقية، وقال بالتنجيز مطلقاً، لعدم اختصاص هذا التقريب بالشبهة الحكمية.

وبهذا البيان الذي ذكرناه ظهر عدم صحّة النقض الذي أورده الشيخ الكاظمي(رحمه الله) ، حيث يقول في حاشية تقريره(1): إنّ شيخنا الاُستاذ كان يبني على التنجيز؛ لكون الشكّ شكّاً فى القدرة، لكنّنا أوردنا عليه: بأنـّه لو تمّ ذلك للزم التنجيز حتى فى فرض القطع في بعض الأطراف بالخروج عن محلّ الابتلاء؛ إذ الملاك معلوم إجمالاً، والشكّ يكون في القدرة، حيث لا ندري أنّ الملاك هل هو ثابت في هذا الطرف، حتى نقدر عليه، أو فى ذاك الطرف، حتى لا نقدر عليه؟ فنعلم بالملاك ونشكّ في القدرة.

أقول: إنّ هذا قياس مع الفارق؛ لأنـّه ـ كما أورد عليه المحقق العراقي(2) (رحمه الله)ـ خلط بين فرض الشكّ في القدرة على شيء فيه الملاك والشكّ في كون الملاك فيما يعلم بالقدرة عليه، أو فيما يعلم بعدم القدرة عليه، وليس واحد من الشيئين مشكوك القدرة عليه، والفرض المنجّز باحتمال القدرة هو الأوّل، كما فيما نحن فيه، لا الثاني، كما في فرض القطع في بعض الأطراف بالخروج عن محلّ الابتلاء.

ولكن مع هذا لا يتمُّ ما ذهب إليه المحقّق العراقي (رحمه الله) من منجزيّة العلم الإجمالي؛ لدخول ذلك في باب الشكّ في القدرة، فإنّ فيه خلطاً بين الشكّ في القدرة على الامتثال والشكّ في القدرة على العصيان، فإنّ الذي يوجب التنجّز إنـّما هو احتمال القدرة على الامتثال، كما لو شكّ في قدرته على الغسل وعدمها، ومعنى تنجيزه أنـّه يوجب لزوم التصدّي لتحصيل الغسل إلى أن يغتسل أو يتبيّن له عدم


(1) في ج 4، ص 19.

(2) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 342.

243

القدرة على الغسل، فإذا وقع ذلك طرفاً للعلم الإجمالي، كما لو علم إجمالاً: إمـّا بوجوب الدعاء لرؤية الهلال، أو وجوب الغسل عليه، إلّا أنـّه يحتمل سقوط الخطاب بالغسل؛ لعدم القدرة مع فرض عدم دخل القدرة في الملاك، كان عليه الاحتياط بالدعاء والتصدّي للغسل، ولكنّ ما نحن فيه ليس من قبيل الشكّ في القدرة على الامتثال، وإنـّما هو من قبيل الشكّ في القدرة على العصيان، فإنّ موافقة التكليف بترك الشرب تحصل حتى مع فرض الخروج عن محلّ الابتلاء، وإنـّما الكلام في أنـّه هل يقدر على الشرب الذي هو مخالفة للتكليف أو لا؟ واحتمال القدرة على العصيان لا معنى لكونه منجِّزاً، كما كان احتمال القدرة على الامتثال منجّزاً، بمعنى لزوم التصدّي للامتثال ما لم ينكشف له عدم القدرة عليه، فهل يقال هنا مثلاً: إنـّه يلزم التصدّي للعصيان ما لم ينكشف له عدم القدرة عليه، أو يترتّب محذور المخالفة لو بنى على أنـّه غير قادر على العصيان، كما كان يترتّب ذلك لدى الشكّ في القدرة على الامتثال لو بنى على عدم القدرة على الامتثال.

نعم، لو كان الشكّ في القدرة على العصيان، بنحو يحتمل أنْ يلزم من تصدّيه لبعض مقدّمات العصيان والاتيان بها زوال قدرته على الامتثال، فاحتمال عدم قدرته على الامتثال على فرض الاتيان بتلك المقدّمة ينجّز عليه ترك تلك المقدّمة، كما لو شكّ في القدرة على قتل مؤمن، من باب الشكّ في أنـّه لو أطلق هذا الرصاص فهل يصيبه أو لا؟ فلا يجوز له الإطلاق؛ لاحتمال كون ذلك مفوّتاً للقدرة على الامتثال.

وقد تَحَصَّل من تمام ما ذكرناه: أنـّه بناءً على مبنى الأصحاب من كون الوجه في سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز بخروج بعض الأطراف هو عدم تعلّق التكليف به، يتّجه القول بعدم التنجيز عند احتمال خروجه عن محلّ الابتلاء، وبناءً على مبنانا: من كون الوجه في ذلك انصراف دليل الأصل عن ذاك الطرف بالارتكاز، يتّجه التفصيل في المقام بالنحو الذي مَضَى.

 

الخروج عن الابتلاء شرعاً:

الأمر الثالث: أنّ المحقّق النائيني (رحمه الله) ألحقَ بخروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء عادة خروجه عن محلّ الابتلاء شرعاً، ومثّل لذلك بما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين، مع العلم تفصيلاً بغصبيّة أحدهما، فالمغصوب خارج عن محلّ

244

الابتلاء شرعاً، ويبقى الطرف الآخر مؤمّناً عليه بأصالةِ الطهارة(1) .

وهذا الكلام غير صحيح كما نبّه عليه المحقّق العراقي (رحمه الله)(2)؛ إذ لو فُرض التكليفان من سنخين، كما في هذا المثال فحرمة شرب النّجس تكليف مستقلّ، وضيق جديد، غير حرمة شرب المغصوب، وهو أمر مفهوم للعرف، وموجب لتعدّد العقاب لو ارتكبه، وهذا المقدار كاف في ارتفاع القبح والاستحالة، وقد علم هذا التكليف إجمالاً في أحد الطرفين، ولا مانع من منجّزية هذا العلم الإجمالي، ولا مانع من إجراء الأصل في نفسه عن حرمة اُخرى للشيء غير حرمته المعلومة، فيعارض الأصل النافي للحرمة في الطرف الآخر. ولو فرض التكليفان من سنخ واحد كما لو علم إجمالاً بنجاسة أحدهما، وعلم تفصيلاً بنجاسة أحدهما المعيّن، اتّجه جواز ارتكاب الطرف الآخر بملاك ما مضى من الانحلال حقيقة أو حكماً، وليس في المقام شيء زائد باعتبار الخروج عن محلّ الابتلاء شرعاً.

وما ذكرناه على مبنى القوم واضح، وأمـّا على مبنانا ـ من أنّ الوجه في انحلال العلم الإجمالي بخروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء هو انصراف دليل الأصل عن ذاك الطرف بالارتكاز، وجريانه في الطرف الآخر بلا معارض ـ فيمكن أنْ يقال في المقام: إنّ دليل الأصل منصرفٌ عن الإناء المغصوب بالارتكاز، فإنـّه وإن كان بحسب الدقّة يوجد هنا أيضاً تزاحم بين ملاك الترخيص وملاك الإلزام؛ لأنـّه إذا كان الإناء حراماً بحرمة اُخرى يوجد نحو اشتداد في الضيق، لكنّ العرف لا يقبل مثل هذا التزاحم، ويقول: إنّ المفروض شرعاً هو أن لا يشرب هذا الإناء على أيّ حال لمغصوبيّته، وأيّ معنى للتزاحم بين ملاك الإلزام وملاك أنّ العبد لو أراد أنْ يعصي حرمة الغصب، فليكن على الأقلّ مستريحاً من حرمة شرب النجس، ومرخّصاً فيه من هذه الناحية .

إلّا أنّ الصحيح أنّ العرف لا يرى دليل الأصل منصرفاً عن حرمة زائدة محتملة، فلو علم بغصبيّة شيء، وشكّ في نجاسته، تمسّك العرف في رفع حرمة شرب النجس بدليل الأصل، ولا يوجد ارتكاز على خلافه، وإذا شربه لا يعاقب إلّا بعقاب واحد وإن فرض وجود نكتة الارتكاز في المقام، والسّر في ذلك أنّ قاعدة


(1) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 255، وفوائد الاُصول: ج 4، ص 22.

(2) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 348.

245

(قبح العقاب بلا بيان) مركوزة في ذهن العرف في المولويّات العرفية، وهذا يوجب اُنس الذهن بكون هذه الحرمة المشكوكة مستحقّة للرفع بالأصل، ويوجب عدم الانصراف والالتفات إلى جهة التسهيل(1) .

 


(1) قد تقول: ليكن الأمر كذلك في مثال الخروج عن محلّ الابتلاء أيضاً، فاُنس الذهن لنكتة البراءة العقلية، وبكون الحرمة المشكوكة مستحقّة للرفع يوجب الالتفات إلى جهة التسهيل وعدم انصراف دليل التأمين.

والجواب: أنّ نكتة عدم التفات العرف إلى جهة التسهيل في مورد الخروج عن محلّ الابتلاء كانت عبارة عن ضئآلة مصلحة التسهيل إلى حدّ لا تُرى بعين العرف، ومركوزيّة البراءة العقليّة لا تجعل مصلحة التسهيل الضئيلة كبيرة ومرئية، كي ينتهي انصراف الدليل عن موردها. أمّا هنا فالتسهيل قويّ ومنظور بعين العرف، ونكتة الانصراف إنـّما هي أنّ العبد العاصي كأنـّما لا يستحقّ فرض التسهيل له على تقدير عصيانه، بأنْ يقال له: لو أردتَ أنْ تعصي، فلتكن مستريحاً من العقاب الثاني المحتمل، ولكن مركوزيّة قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) تجعل هذا التسهيل في نظر العرف أمراً مقبولاً ومناسباً، فيبطل بذلك الانصراف.

246

 

 

 

استصحاب التكليف بعد الموافقة الاحتماليّة:

 

التنبيه الحادي عشر: قد عرفت حتّى الآن قاعدة تنجيز العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة، ويمكن استبدال هذه القاعدة بأمر آخر يؤدّي دورها، وهو استصحاب بقاء التكليف بعد الموافقة الاحتمالية، فيثبت لزوم الموافقة القطعيّة، حتى إذا أنكرنا قاعدة تنجيز العلم الإجمالي للموافقة القطعيّة. وهذا لو تمّ يؤثّر في نطاق أوسع من نطاق تأثير تلك القاعدة؛ لأنّك عرفت أنّ العلم الإجمالي إذا وجد بعد سقوط التكليف في بعض الأطراف بامتثال اتّفاقي أو عصيان اتّفاقي أو نحو ذلك، لم تتمّ قاعدة منجّزيّته، ولكنّ الاستصحاب لو تَمَّ يجري في المقام أيضاً(1)، وقد مضى ذكر هذا الاستصحاب في بعض جزئيّاته، وهو في فرض طروّ الاضطرار إلى أحد الطرفين بعينه بعد التكليف وقبل العلم، حيث مرّت هناك شبهة التنجيز بهذا الاستصحاب، وقلنا هناك: إنـّه إن اُريد استصحاب واقع الحكم المعلوم بالإجمال، فهو استصحاب للفرد المردّد بين ما يقطع بزواله وما يقطع بعدم زواله، وهو غير جار، وإن اُريد استصحاب الجامع، فهو جامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبل التنجيز، فيثبت الجامع بين حكم المولى القابل للتنجيز وطيران الطير في الهواء مثلاً، ولا يمكن تنجيز مثل هذا الجامع.


(1) ومن ناحية اُخرى يكون تأثير هذا الاستصحاب أضيق نطاقاً من تأثير منجّزيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة؛ لأنـّه لا يحرّم مخالفة بعض الأطراف في حين بقاء الطرف الآخر في محلّ الابتلاء، فمثلاً لو علمنا بحرمة أحد الإناءين، وكلاهما كانا داخلين في محلّ الابتلاء، وقلنا بعدم تنجيز العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة، حلّ شرب أحدهما، ولا استصحاب في المقام، ولو كان، فلم يكن أحسن حالاً من العلم نفسه. نعم، يفيد هذا الاستصحاب لو تَمَّ بعد خروج أحد الطرفين عن المورديّة بعصيان، أو زوال موضوع، أو بالامتثال، وهذا الثالث ـ وهو سقوط أحد الطرفين بالامتثال ـ يغلب وقوعه في الشبهات الوجوبية، كما لو علم إجمالاً بوجوب الظهر أو الجمعة، فصلّى الجمعة، وكأنـّه لهذا نرى أنّ المحقق العراقي (رحمه الله) إنـّما ذكر شبهة الاستصحاب في الشبهات الوجوبية، ولم يذكرها في الشبهات التحريمية.

247

ونقول هنا: إنّ للمحقّق العراقي (قدس سره) محاولة فنّيّة لتصحيح هذا الاستصحاب(1)، وذلك أنـّه (رحمه الله) لا يقصد بهذا الاستصحاب مجرّد إثبات الجامع، كي يرد عيله أنّ الجامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبل التنجيز لا يقبل بحدّه التنجيز، بل يقصد إثبات الوجوب في خصوص الطرف الذي لم يسقط بمثل الامتثال، أو العصيان، أو غيرهما، فلا يرد عليه هذا الإشكال، كما أنـّه ليس مقصوده إثبات هذا الفرد باستصحاب الجامع من باب إثبات أحد المتلازمين باستصحاب الآخر؛ لتلازم الفرد مع الجامع في الواقع، بعد القطع بعدم الفرد الآخر، كي يرد عليه إشكال المثبتيّة.

ونوضّح ذلك بعد استذكار شيء من بحث الاستصحاب، وهو: أنّ الشيء الذي يلازم واقع المستصحب لا يثبت بالاستصحاب، لعدم حُجّية مثبتات الاُصول، وأمـّا إذا كان الشيء ملازماً للثبوت الظاهري للمستصحب، فهو يثبت بالاستصحاب؛ إذ هو في الحقيقة من لوازم مفاد دليل الاستصحاب الذي هو أمارة، ولوازم الأمارة حُجّة.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ ثبوت الفرد هنا ملازم للثبوت الظاهري للجامع، فإنّ الحكم الظاهري بالصلاة مثلاً بعد أنْ صَلّى الجمعة، ثم علم بوجوب الظهر أو الجمعة، إمـّا يتمثّل في الحكم الظاهري بالجمعة، أو في الحكم الظاهري بالظهر، ويستحيل أنْ يوجد الجامع بين الحكم بالظهر والحكم بالجمعة لا في ضمن وجود الفرد.

وهذا الكلام يشبه ما نقوله في بحث الماء النجس المتمّم كراً بطاهر، من أنّ استصحاب حالة كل منهما يعارض استصحاب الآخر؛ لعدم تعقّل العرف لتحمّل ماء واحد حكمين، سواء كانا واقعيّين أو ظاهريّين، فتثبت باستصحاب نجاسة نصفه نجاسة الباقي، وباستصحاب طهارة نصفه طهارة الباقي، فيتعارضان، فلو انتهينا إلى أصالة الطهارة في النصف الذي كان طاهراً، ثبتت طهارة الجميع، وإنْ قلنا بعدم جريانها في النصف الآخر، بناءً على اختصاص أصالة الطهارة بما لا يكون مسبوقاً بالنجاسة.

ولكنّ التحقيق: أنّ ما نحن فيه ليس من قبيل مثال الماء النجس المتمّم كراً بطاهر، ولا يثبت بالاستصحاب وجود الفرد غير المأتّي به؛ وذلك لما يرد عليه: ـ


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 368 ـ 369.

248

أوّلاً(1): أنّ هذا مبنيّ على القول بجعل الحكم المماثل، حيث يقال بناء عليه: إنّ المقطوع به هو الجامع بين وجوب الظهر ووجوب الجمعة، وباستصحاب هذا الجامع يجب أنْ يثبت حكم ظاهري مماثل، وهذا الحكم الظاهري لا يكون متعلّقاً بالجامع بين الظهر والجمعة، لأنّ وجوب الجامع بين الظهر والجمعة ليس جامعاً بين وجوب الظهر ووجوب الجمعة، وليس فرداً لهذا الجامع حتى يقال: إنّ الجامع موجود في ضمنه، فلا يكون مماثلاً للمقطوع به، فيجب أنْ يكون متعلّقاً بالظهر بالخصوص، أو بالجمعة بالخصوص، ولا يعقل أنْ يوجد الجامع بين الحكم الظاهري بالظهر والحكم الظاهري بالجمعة، لا في ضمن أحدهما؛ إذ الجامع يستحيل أنْ يوجد مستقلاّ عن الأفراد، فتعيّن أنْ يوجد الجامع في ضمن أحد الفردين، والمفروض القطع بعدم وجوب الجمعة لأنـّه أتى بها، فتعيّن وجوب الظهر.

وهذا البيان: كما ترى ـ لا يتأتّى بناءً على ما هو المختار من أنّ الاستصحاب مهما كان لسان دليله، من جعل الحكم المماثل، أو جعل العلم واليقين، أو غير ذلك، فروحه عبارة عن الاهتمام بالواقع على تقدير وجوده، فإنـّه من المعلوم أنـّه يعقل أنْ يكون الاهتمام بالواقع بمقدار الجامع(2) لا أكثر، وهذا لا يستلزم وجوب صلاة الظهر، كما لا يخفى.

وثانياً: أنّ هذا الكلام لا يتمُّ حتّى بناءً على جعل الحكم المماثل، وذلك لأنـّه


(1) وقد تفطّن المحقّق العراقي (رحمه الله) لهذا الإشكال وذكره في نهاية الأفكار، ولكن وفق لغته ومتبنّياته الاُصولية، لا وفق لغة اُستاذنا الشهيد ومتبنّياته، فذكر: أنّ إجراء هذا الاستصحاب مبنيّ على كون مفاد الاستصحاب جعل المماثل، أمّا بناء على ما هو المختار ـ يعني مختاره ـ من كون نتيجة الاستصحاب عبارة عن مُجرّد الأمر بالتعامل مع المشكوك معاملة المتيقّن في لزوم الجري العملي على وفقه، من دون جعل مماثل، فمفاد الاستصحاب في المقام إنـّما هو لزوم الجري العملي وفق الجامع المعلوم، لا وفق خصوص الفرد الذي لم يأت به، فإثبات خصوص ذاك الفرد به تَمسّك بالأصل المثبت، ولا يبقى إلّا إثبات لزوم العمل بالجامع المعلوم، وهذا لغو، فيسقط الاستصحاب. وذكر في توضيح لغويّته: أنّ الفرد غير المأتي به تكون مصداقيّته للجامع مشكوكة، وهذا جريٌ منه على مبناه في معنى الجامع المعلوم بالإجمال، حيث لا يفسّر الجامع بالمعنى المنطبق على كلّ من الفردين، بل يفسّره بمعنى صورة منطبقة على الواقع فحسب، مع وجود إجمال وغبش في تلك الصورة.

(2) وبما أنّ هذا الجامع جامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبل التنجيز، فيلغو استصحابه.

249

إنـّما يعقل إثبات شيء زائد على المستصحب بالاستصحاب لملازمته للوجود الظاهري للمستصحب إذا لم يكن ضمّ ذلك الشيء الزائد إلى المستصحب موجباً لخروجه عن عموم دليل الاستصحاب، ومباينته للمدلول المطابقي لدليل الاستصحاب، وذلك نظير استصحاب الطهارة أو النجاسة في مثال الماء المتمّم كرّاً، حيث إنّ إثبات طهارة النصف الآخر أو نجاسته لا يجعل ما يثبت بالاستصحاب أمراً مبايناً للمدلول المطابقي لدليل الاستصحاب، غاية الأمر أنـّه يثبت المدلول المطابقي له مع زيادة.

وأمـّا فيما نحن فيه فليس الأمر كذلك. وتوضيح ذلك: أنّ الظاهر من دليل الاستصحاب هو الحكم ظاهراً بواقع ما كان، لكن في مرحلة البقاء، بحيث لا ينقص عن البقاء الحقيقي القطعي إلّا في كون البقاء مشكوكاً وتعبّدياً، فلو اُبدل التعبّد بالقطع الوجداني لثبت بقاء واقع ما كان حدوثاً، ومن المعلوم أنّ وجوب صلاة الظهر فيما نحن فيه محتمل المباينة لواقع ما كان؛ إذ على تقدير أنّ ما كان حدوثاً هو وجوب الجمعة ليس وجوب الظهر عبارة عن واقع ما كان وزيادة، كما في مثال الماء النجس المتمم كرّاً بطاهر، بل هو مباين لما كان، ولو اُبدل التعبّد به بالقطع، لما ثبت بقاءً واقع ما كان حدوثاً، فتحصّل: أنّ الاستصحاب فيما نحن فيه لا مورد له.

 

250

 

 

 

ملاقي بعض الأطراف

 

التنبيه الثاني عشر: في ملاقي بعض أطراف ما علم إجمالاً بنجاسته والمقدار المفروض في هذه المسألة علمان إجماليان: ـ

الأوّل: العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو مايقابله.

والثاني: العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو ما يقابل الملاقى.

وقد يفترض علم ثالث، وهو فيما إذا وجد لكلّ من الطرفين ملاق، فيعلم أيضاً بنجاسة أحد الملاقيين، وعندئذ لا إشكال في تنجّز وجوب الاجتناب عن الملاقيين، ولو بسبب العلم الثالث؛ إذ لا تأتي فيه أيّ شبهة تأتي في تنجيز العلمين الأوّلين للملاقي، وإنـّما وقع الكلام في تنجّز حرمة الملاقي وعدمه في غير هذا الفرض، والكلام هنا يقع في مقامين: أحدهما: في تنجّز حرمة الملاقي بالعلم الأوّل بالنجاسة وعدمه، والثاني: في تنجّزها بالعلم الثاني بالنجاسة وعدمه.

 

العلم الإجمالي في الملاقى

أمـّا المقام الأوّل: فقد ذهب الأصحاب (قدّس الله أسرارهم) إلى عدم تنجّز حرمة الملاقي بمجرّد العلم الأوّل، فالعلم بنجاسة الملاقى أو مايقابله لا يمنع عن شرب الملاقي أو التوضّوء به، ونحو ذلك، وذلك تطبيقاً لقانون بيّنوه في مقام ذكر ضابط ما يتنجّز من الاححكام بالعلم الإجمالي بشيء.

وحاصل هذا القانون هو: أنـّه متى ما كان الشيء المعلوم إجمالاً تمام الموضوع لذلك الحكم ـ كما في حرمة الشرب المترتّبة على الخمرية المعلومة إجمالاً بين مائعين ـ كان العلم بذاك الموضوع مقتضياً لتنجيز الحكم، ومتى ما لم يكن الشيء المعلوم بالإجمال تمام الموضوع لذلك الحكم، بل كان جزء الموضوع له، فالعلم به لا يقتضي تنجيز الحكم، فلو أنّ شخصاً شرب أحد المائعين اللذين علمنا بخمرية أحدهما لم يتنجّز علينا حكم ايقاع الحدّ عليه، لأنّ الخمرية المعلومة

251

بالإجمال ليست تمام الموضوع لوجوب ايقاع الحدّ، بل يكون موضوعه مركّباً من خمرية الشيء وشربه، ففي هذا المثال ـ أعني مثال العلم بخمرية أحد المائعين ـ يكون العلم الإجمالي منجّزاً لبعض أحكام متعلّقه، كحرمة الشرب، وغير منجّز لبعض أحكامه الاُخرى كوجوب إجراء الحدّ؛ لأنّ متعلّقه كان تمام الموضوع لبعض تلك الاحكام، وكان جزء الموضوع للبعض الآخر ولو كان جزء الموضوع لتمام أحكامه لما تنجّز شيء منها.

ففي ما نحن فيه لو فرض أنّ المعلوم إجمالاً نجاسته كان ماءً مثلاً، فقد نجّز هذا العلم بعض أحكامه، كحرمة شربه أو التوضّوء به؛ لأنّ نجاسته تمام الموضوع لذلك، ولكن لا ينجّز هذا العلم حرمة الملاقي، لأنّ نجاسة المعلوم ليست تمام الموضوع لهذه الحرمة، بل موضوعها مركّب من النجاسة والملاقاة، والعلم الإجمالي قد تعلّق بالجزء الأوّل فحسب، فقد حصل هنا التبعيض في أحكام المعلوم بالإجمال، فتنجّز بعضها ولم يتنجّز البعض الآخر، كما إنـّه قد لا يتنجّز بهذا العلم شيء من الأحكام أصلاً، كما لو فرض متعلّق العلم الإجمالي بالنجاسة عبارة عن أحد الدرهمين، فهذا العلم لا ينجّز شيئاً من الحرمات، لأنّ معلومه ليس إلّا جزء الموضوع لأحكامه، وليس موضوعاً تامّاً لحكم من الأحكام؛ إذ ليس الدرهم مأكولاً أو مشروباً أو ملبوساً في الصلاة. نعم إنْ لاقى لباسٌ الدرهمَ النجسَ برطوبة، حرمت الصلاة فيه، وإن لاقاه شيءٌ مأكولٌ أو مشروب حرم أكله أو شربه، ونجاسة الدرهم النجس لم تكن إلّا جزء الموضوع لهذه الحرمات، وكان الجزء الآخر عبارة عن الملاقاة.

وهكذا الحال لو فرضنا أنّ المعلوم بالإجمال في أحد الطرفين كان تمام الموضوع لحكم، ولكن في الطرف الآخر لم يكن كذلك، فمثل هذا العلم الإجمالي لا أثر له؛ لأنـّه لم يثبت العلم بشيء يكون تمام الموضوع للحكم، فلو كان أحد الطرفين المعلوم إجمالاً نجاسة أحدِهما ماءً، والآخر درهماً، حلّ شرب الماء أو التوضّوء به، ولم يتنجّز علينا أيّ حكم من الأحكام، إذ لم يحصل العلم بحكم، ومن هنا يحكم في الماءين المسبوقين بالكرّيّة، إذا نقص أحدهما غير المعيّن عن الكرّ، ثم لاقى أحدُهما النجاسة بطهارة ذلك الماء بحكم استصحاب الكرّيّة، من دون أن يكون هذا الاستصحاب معارضاً باستصحاب كرّيّة الآخر، إذ لا أثر فعلي لكرّيّة الآخر، وليس العلم بعدم كرية أحدهما علماً بالتكليف بالفعل.

252

أقول: إنّ القانون الذي ذكروه في المقام ـ من أنّ تنجيز العلم بشيء للحكم المتعلّق به مشروطاً بكونه تمام الموضوع له ـ في غاية المتانة، إلّا أنّ هنا اشتباهاً عامّاً في تطبيقه في كثير من الموارد، نشأ من الخلط بين الحرمة التكليفيّة والحرمة الوضعيّة، وسوقهما مساقاً واحداً. وتوضيح ذلك: أنّ هناك فرقاً بين الحرمة التكليفيّة المتعلّقة بالماء النجس ـ وهي حرمة الشرب ـ والحرمة الوضعيّة المتعلّقة به ـ وهي حرمة التوضّوء به مثلاً ـ فالحرمة الاُولى ليست فعليّة قبل وجود الماء النجس، سواء قدر العبد على إيجاده أو لم يقدر، فإن لم يقدر فمن المستحيل ثبوتاً فعليّة حرمة شرب الماء النجس عليه؛ لخروجه عن تحت القدرة، وإن قدر على ذلك، فالمانع الثبوتي وإن كان مرتفعاً عندئذ، لكن ظاهر دليل حرمة شرب النجس هو كون الحرمة مشروطة بوجود النجس خارجاً، فحرمة الشرب غير فعليّة قبل وجود الماء النجس(1) . وأمـّا حرمة التوضّوء به، وكذا حرمة لبس اللباس النجس في الصلاة،


(1) لعلّ هذا الكلام نتج من قياس مثل (لا تشرب النجس) بمثل (أكرم العالم)، فكما يقال في (أكرم العالم): إنّ الحكم ليس فعليّاً قبل وجود موضوعه؛ ولذا لو لم يوجد عالم لم يجب على المكلّف أنْ يوجد العالم كي يكرمه، كذلك يقال في، (لا تشرب النجس): ليس الحكم فعليّاً قبل وجود موضوعه.

ولكنّنا نرى أنّ الفهم العرفي يفرّق بين باب الأوامر وباب النواهي، ففي باب الأوامر يحمل عرفاً ـ في الأعم الأغلب ـ متعلّق المتعلّق على أنّ الحكم معلّق عليه، لا على كونه قيداً للمتعلّق، كي يجب إيجاده مقدّمة لإيجاد المتعلّق، ولعلّ السبب في ذلك أنّ الغالب في الأوامر العرفية اختصاص الملاك بفرض وجود متعلّق المتعلّق، فلو قال المولى العرفي مثلاً: «أكرم الضيف»، يكون الملاك في الإكرام إذا وجد الضيف، فلا يطلب استضياف أحد مقدمةً لإكرامه. أمّا في باب النواهي فالأمر على العكس من ذلك تماماً، أي: أنّ الملاك في النهي ـ الذي هو المفسدة في الفعل ـ غالباً يكون ثابتاً حتى لدى عدم وجود متعلّق المتعلّق، فالسمّ مثلاً ـ الذي فرضنا أنّ المولى العرفي نهى عن شربه، لما فيه من الضرر ـ لا يختصّ اتصافه بالضرر بفرض وجوده، ولذا ترى أنّ العقلاء يبغضون شرب السمّ، سواءً كان السمّ موجوداً، أو غير موجود.

ولا أقصد بهذا الكلام استحالة عدم فعلية الحكم في باب النواهي قبل فعليّة الموضوع، فإنـّه أولاً: قد يتّفق اختصاص الملاك بفرض وجود الموضوع، كما لو فرضنا أنّ ملاك الحكم كان في الجامع بين عدم الموضوع وترك ارتكابه، فلدى عدم الموضوع لا يوجد ملاك لحرمة الارتكاب؛ لأنّ المولى مرتو بتحقق الفرد الآخر من فردي الموضوع، فلا يطلب الفرد الآخر.

253


وثانياً: حتّى لو كان الملاك في خصوص ترك الارتكاب، فبما أنّ ترك الارتكاب حاصل قهراً لدى عدم الموضوع، فقد لا يشغل المولى عهدة العبد بالترك إلّا معلّقاً على تحقّق الموضوع. ولكنّني أقصد أنّ النكتة التي جعلت الأوامر ظاهرة في التعليق على تحقّق الموضوع غير موجودة في باب النواهي، ومقتضى الإطلاق عدم التعليق.

نعم، رغم كلّ هذا نلتزم بأنّ الحكم المترتّب على الملاقي لأحد الطرفين غير منجّز بالعلم الأوّل، وهو العلم بنجاسة الملاقى أو الطرف الآخر، وذلك لأنّ حرمة شرب الملاقي مثلاً ليست فعلية قبل تحقق الملاقاة. وما قلناه من أنّ حرمة شرب النجس فعلية قبل تحقق النجس وإن كان صحيحاً، ولكن هذا لا يمنع عن عدم فعليّة حرمة شرب الملاقي. وتوضيح ذلك: أنـّنا لا نقصد بعدم فعلية حرمة شرب الملاقي الحرمة الثابتة على عنوان شرب ملاقى النجس، وإنـّما نقصد بذلك حرمة شرب عين الملاقي وواقِعِه. ومن الواضح أنّ هذه العين قبل الملاقاة لا تكون حرمتها فعلية، أو قل: لا تكون طرفاً للحرمة، وإنـّما تصبح حرمتها فعلية، أو تصبح طرفاً للحرمة بالملاقاة، أما عنوان ملاقي النجس فليس المفروض أنْ يكون هو مصبّ بحثنا في المقام، لأنّ الحرمة لم تثبت على عنوان ملاقي النجس، وإنـّما ثبتت على عنوان النجس، فالحرام إنـّما هو عنوان شرب النجس، لا عنوان شرب ملاقي النجس، ولو كان ملاقي النجس غير نجس ـ فرضاً ـ لما حرم شربه، وعنوان النجس إنـّما يفنى في مصداقه، وهو واقع الملاقي وعينه، لا في عنوان آخر وهو عنوان الملاقى؛ إذ لا فناء للمفاهيم بعضها في بعض، وإنـّما الفناء ثابت للمفهوم في المصداق، بمعنى أنّ المفهوم والعنوان حينما ينظر إليه بنظر الحمل الأوّلي يرى أنـّه هو المصداق الواقع. ومن الواضح: أنّ حرمة مصداق الملاقي وواقعه إنـّما تكون فعليّة بعد حصول الملاقاة، أو قل: إنّ مصداق الملاقي وواقعه لا يكون طرفاً للحرمة قبل الملاقاة.

ومن هنا يتبيّن أنّ الأحكام الوضعيّة لملاقي أحد الطرفين أيضاً ليست فعلية قبل تحقق الملاقاة، وأنّها لا تتنجّز بالعلم الأوّل، فصحيح أنّ اشتراط الصلاة بطهارة الثوب أو بعدم نجاسته فعليّة قبل الملاقاة، ولكن كلامنا ليس في إجراء البراءة عن حرمة الصلاة في الثوب النجس، إذ لا شكّ في هذه الحرمة، ولا في إجراء البراءة عن حرمة الصلاة في عنوان ملاقي هذا الطرف، إذ لا حرمة بهذا العنوان، وليس عنوان النجس فانياً في عنوان ملاقي النجس، وإنـّما كلامنا في إجراء البراءة عن حرمة الصلاة في واقع ملاقي الطرف الذي لو كان نجساً، كان عنوان النجس فانياً فيه، ومن الواضح أنّ حرمة الصلاة فيه، أو قل: مانعيّته عن صحّة الصلاة معلّقة على تحقق الملاقاة، فليس الحكم الوضعي فعلياً بلحاظ قبل الملاقاة، أو قل: ليس هو طرفاً للحكم الوضعي قبل الملاقاة.

نعم، لو حصلت الملاقاة قبل خروج الطرف الآخر عن محلّ الابتلاء تنجّز حكم الملاقي

254

فهي أمر منتزع من تضيّق دائرة الواجب بعدم كونه في اللباس النجس، أو بكون الوضوء بالماء الطاهر، أو عدم كونه بالماء النجس، ومن المعلوم أنّ وجوب الصلاة في اللباس الطاهر مثلاً، أو وجوبها بالتوضّوء الذي لا يحصل إلّا بالماء الطاهر، فعليّ سواء وجد الثوب النجس أو لا، فوجود الماء النجس ليس شرطاً للحرمة، كما كان كذلك في الحرمة التكليفيّة، وإنـّما هو شرط للحرام، وإذا كان الأمر كذلك، فالعلم الإجمالي بنجاسة أحد شيئين علم بموضوع حرمة الصلاة في ملاقيه الفعلية، أو حرمة الوضوء بملاقيه الفعلية، فهو علم بتكليف فعليّ، فإذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الماءين فهذا العلم الإجمالي كما ينجّز حرمة شرب كلّ واحد منهما، وحرمة الوضوء بكلّ واحد منهما، كذلك ينجّز حرمة الوضوء بملاقي أحدهما، أو الصلاة فيه قبل حصول الملاقاة. والعلم الإجمالي بنجاسة أحد الدرهمين ينجّز حرمة الوضوء بملاقي أحدهما، أو الصلاة فيه قبل حصول الملاقاة، وكذلك العلم الإجمالي بنقصان أحد الماءين عن الكرّ علمٌ بحرمة الوضوء بالفعل بما نقص عن الكرّ إذا لاقى النجاسة، فتنجّز تلك الحرمة قبل حصول الملاقاة، وهذا التنجّز للحرمة الوضعيّة يمنع عن إجراء البراءة العقليّة، أو قل: هذا العلم الإجمالي يرفع موضوع قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، لو آمـنّا بتلك القاعدة، وكانت الحرمة الوضعيّة من باب مانعيّة النجاسة حتّى تكون انحلاليّة، ومجرىً للبراءة في نفسها، لا من باب شرطيّة الطهارة.

ثمّ لو قلنا: إنّ العلم الإجمالي علّة تامّة للتنجيز فقد تمّ التنجيز بمجرّد العلم بنجاسة أحد الشيئين لحرمة الوضوء بملاقي أحدهما أو الصلاة فيه، وأمـّا إنْ قلنا بالاقتضاء فبعد ما اتّضح لك من وجود المقتضي، يجب التفتيش عن وجود المانع، وهو الأصل الشرعي وعدمه، وعندئذ نقول: إنّ الاُصول الشرعية في المقام على قسمين: ـ

أحدهما: ما يكون مجراه هو الملاقى، فيؤمّن عن الملاقي أيضاً، وهو أصالة طهارة الملاقى، وهذا الأصل ساقط بمعارضته لأصالة الطهارة في الطرف الآخر، ولو


بالعلم الإجمالي الثاني، وهو العلم بنجاسة الملاقي، أو طرف الملاقى، ولو حصلت الملاقاة بعد خروج الطرف الآخر عن محلّ الابتلاء، ولكنّنا كنّا نعلم قبل خروجه عن محلّ الابتلاء بأنـّه ستحصل هذه الملاقاة للطرف الأوّل تنجّز حكم الملاقي أيضاً بالعلم الثاني، رغم عدم فعليّة الحكم في الزمان الأوّل، وذلك على أساس الايمان بمنجّزية العلم الإجمالي في التدريجيات.

255

فرض الطرف الآخر من قبيل الدرهم؛ لما عرفت من أنـّه يوجد بالفعل أثر لنجاسة ذاك الدرهم، وهو حرمة الوضوء بملاقيه أو الصلاة فيه.

ومن هنا يظهر أيضاً تعارض استصحابي الكرّيّة في مثال العلم بنقصان أحدهما عن الكرّيّة وتساقطهما.

والثاني: ما يكون مجراه هو الملاقي مباشرة، وهو أصالة طهارة الملاقي، وهذا الأصل أيضاً سقط بمجرّد العلم الأوّل قبل الملاقاة بالمعارضة، لأصالة طهارة ملاقي الآخر(1)؛ لما عرفت من فعليّة الحرمة الوضعيّة لأحد المتلاقيين قبل الملاقاة.

ومن هنا ظهر أنـّه يحرم الوضوء بالملاقي والصلاة فيه، حتّى إذا كانت الملاقاة بعد خروج الطرف الآخر عن محلّ الابتلاء، فلم يتشكّل العلم الإجمالي الثاني الذي سوف نوضّح إن شاء الله تنجيزه، وذلك لأنّ هذا الحكم تنجّز بمجرّد حصول العلم الإجمالي الأوّل.

نعم، إذا فرض الملاقي ماءً مضافاً، فلم يكن له حكم وضعي، فتكلّمنا في حكم شربه أو فرض ماءً مطلقاً، لكنّنا نظرنا إلى حكم شربه لا حكم التوضّوء به، لم تتنجز حرمة شربه بمجرّد العلم الإجمالي الأوّل بالنجاسة، فلو لاقى أحد الإناءين بعد خروج الآخر عن محلّ الابتلاء جاز شربه، لعدم تنجّز حرمة شربه، لا بالعلم الأوّل؛ لأنـّه لم يكن علماً بتمام موضوع الحرمة، ولا بالعلم الثاني؛ لأنـّه علم إجمالي مردّد بين الداخل فى محلّ الابتلاء والخارج عنه بتلف ونحوه قبل العلم(2)، فتجري


(1) إلّا إذا كانت الملاقاة غير ممكنة، وغير مقدورٌ للمكلف إيجادها، أو كان إيجادها خارجاً عن محلّ الابتلاء، وهي لا توجد بطبعها، أو كان ما يترقّب أنْ يلاقيه خارجاً عن محلّ الابتلاء، ففي هذه الفروض لا يكون للعلم الإجمالي أثر، وذلك لخروج الحكم الشرعي في أحد طرفيه عن محلّ الابتلاء.

هذا. والتحقيق: ما وضّحناه في التعليق السابق من أنّ الحرمة الوضعيّة لواقع الملاقي ليست فعلية قبل الملاقاة، والحرمة الوضعيّة لعنوان الملاقي غير ثابتة أصلاً، لأنّ الحرام إنـّما هو الصلاة في النجس، لا الصلاة في ملاقي النجس، ولو كان ملاقي النجس غير نجس ـ فرضاً ـ لما حرمت الصلاة فيه، والحرمة الوضعيّة لعنوان الصلاة في النجس ثابتة، لكن هذا العنوان لا يفنى في عنوان الصلاة في ملاقي النجس.

(2) ولا بالعلم الإجمالي بالحرمة التكليفيّة للملاقي الفعلي، أو الحرمة الوضعيّة

256

أصالة الطهارة في الملاقي من دون معارض.

نعم؛ لو لاقى أحدَ الإناءين قبل خروج الإناء الآخر عن محلّ الابتلاء تشكّل العلم الإجمالي الثاني، ولم تجر أصالة الطهارة في هذا الملاقي، ولا أقول ذلك لأجل معارضتها لأصالة الطهارة في طرف الملاقى، فإنّ هذا ما سنبحثه في المقام الثاني، ومفروضنا الآن غضّ النظر عنه، بل لأجل أنـّه لا أقلّ من معارضته لأصالة الطهارة في ملاقي الآخر، لنفي حرمته الوضعيّة الفعلية قبل الملاقاة.

ولو علمنا إجمالاً بنجاسة أحد شيئين، وكان أحدهما على تقدير نجاسته لا ينجّس ما يلاقيه؛ لكونه متنجّساً بالواسطة، وغير مائع، وكان الثاني على تقدير نجاسته ينجّس ما يلاقيه. فإن فرض أنّ الأوّل ليس مأكولاً، ولا مشروباً، ولا ملبوساً في الصلاة، فلا معارض لأصالة الطهارة في الثاني، وإنْ فرض أنّ الأوّل كان مأكولاً، أو مشروباً، أو ملبوساً في الصلاة، فأصالة الطهارة في الثاني ساقطة بالمعارضة؛ لأصالة الطهارة في الأوّل، فإنّ أصالة الطهارة في الأوّل تثبت عدم حرمته، وفي الثاني تثبت عدم حرمته أو عدم حرمة ما يلاقيه وضعاً، لكن يبقى الكلام في أصالة الطهارة في ملاقي الثاني.

وأمـّا ملاقي الأوّل فالمفروض عدم نجاسته بالملاقاة. وهنا لا يأتي ما ذكرناه من أنّ أصالة طهارة ملاقي أحد الطرفين تعارض أصالة طهارة ملاقي الآخر ولو قبل الملاقاة؛ لأنّ المفروض أنّ ملاقي الآخر لا ينفعل بالملاقاة، فهذا الأصل لا معارض له إلّا أصالة الطهارة في نفس الطرف الآخر، فهذا يبتني على ما سيأتي في المقام الثاني، من أنّ الأصل في الملاقي هل يقع طرفاً للمعارضة للأصل في طرف الملاقى أو لا؟

وإلى هنا قد عرفنا أنّ أصالة الطهارة ـ بلحاظ الأحكام الوضعيّة في الملاقي قبل فعلية الملاقاة ـ تصلح للمعارضة لأصالة الطهارة فيما لاقى الآخر بالفعل، وكذلك الأصلان في الملاقيين للطرفين يتعارضان قبل فعلية الملاقاة.

وهنا يأتي إشكال: وهو أنّ فعليّة جريان أصالة الطهارة مشروطة بوجود شيء بالفعل شكّ في نجساته، فكيف يمكن فعليّة جريان الأصل في الملاقي قبل فعليّة


للملاقي الفرضي للطرف المنعدم؛ لأنّ تلك الحرمة الوضعيّة وإن كانت فعلية حسب نظر اُستاذنا الشهيد (رحمه الله)؛ لأنـّها تعود إلى تحديد دائرة واجب فعلي، لكنّها خارجة عن محلّ الابتلاء، فلا يجري الأصل بشأنها.

257

الملاقاة، في حين أنـّه لا يوجد شكّ فعلي في نجاسة أمر موجود خارجاً؟ نعم، لو حصلت الملاقاة في أحد الطرفين، وعلمنا أنّها سوف تحصل فى الطرف الآخر، فبالإمكان القول بأنّ الأصل الاستقبالي في الملاقي الاستقبالي يعارض الأصل الحالي في الملاقي الحالي، كما هو الحال في تعارض الأصلين في موارد العلم الإجمالي التدريجي، ولكن إذا افترضنا أنـّنا لا نعلم بأنّ الملاقاة الاستقبالية ستتحقّق، فكيف نوقع المعارضة بين أصل سيصبح فعليّاً لو تحقق موضوعه والأصل الجاري بالفعل؟ أفليس هذا من قبيل ما لو علمنا إجمالاً: بإنـّه أمـّا أنْ تجب علينا الصلاة بالفعل، أو يجب علينا التصدّق لو نزل المطر، ونحن شاكّون في أنـّه هل سينزل المطر أو لا؟ ومن الواضح في هذا المثال أنّ أصالة البراءة عن الصلاة لا تعارض بأصالة البراءة عن التصدّق التي ستجري لو نزل المطر.

والتحقيق: أنّ قياس ما نحن فيه بمثال الصلاة والتصدّق على تقدير نزول المطر قياس مع الفارق؛ إذ في هذا المثال لا يوجد لدينا علم بتكليف فعليّ؛ لأنـّه من المحتمل أنْ لا ينزل المطر، وأن يكون الصحيح من طرفي العلم الإجمالي هو وجوب التصدّق على تقدير نزول المطر، لا وجوب الصلاة فعلاً، وعلى هذا الفرض لا تكليف فعلي أصلاً. وأمـّا فيما نحن فيه، فقد وضّحنا أنّ الحرمة الوضعيّة فعليّة قبل الملاقاة، فهو عالم بثبوت التكليف بالفعل قبل الملاقاة، وفعلية جريان أصل الطهارة في الشيء وإنْ كانت مشروطة بحصول الملاقاة، لكنّ فرض جريان أصل الطهارة على تقدير الملاقاة في ظرفه يُثبت الترخيص بالفعل، ونفي الحرمة الوضعيّة المعلومة من الآن، لأنّ الحرمة الوضعيّة الآن للوضوء بالماء ليس موضوعها نجاسة ذلك الماء في هذا الآن، ولو طهر عند الوضوء، وإنـّما موضوعها نجاسته في ظرفه(1)، فإن فرض أنـّه في ظرفه وعلى تقدير الملاقاة يجري أصل الطهارة، فالحرمة الوضعيّة منتفية فعلاً فيقع التعارض بين الأصلين والتساقط رغم عدم فعليّة أحدهما أو كليهما، وعدم الجزم بالفعلية الاستقبالية.

هذا تمام الكلام فيما هو المختار بالنسبة لمنجّزيّة العلم الإجمالي الأوّل


(1) قد عرفت فيما مضى: أنّ الحرمة الوضعيّة بالقياس إلى واقع الملاقي ليست فعلية قبل الملاقاة، وبالقياس إلى عنوان الملاقي لا توجد لنا حرمة وضعيّة، وبالقياس إلى عنوان الماء النجس لا شكّ لنا في حرمته، ولا بحث لنا عنه، ولا يفنى هذا العنوان في عنوان الملاقي.

258

بالنجاسة، وقد عرفت التفصيل في ذلك بين الحرمة التكليفيّة والوضعيّة بالبيان الذي مضى.

ويظهر أثر تنجيز الحرمة الوضعيّة بالعلم الأوّل مع أنـّنا نقول بمنجّزيّة العلم الثاني على أيّ حال كما ستعرف إن شاء الله، فيما إذا لاقى الثوب أو الماء أحد الطرفين بعد خروج الطرف الآخر عن محلّ الابتلاء بانعدامه أو تطهيره أو غير ذلك كما مرّ.

إلّا أنّ الأصحاب (قدّس الله أسرارهم) لم يفرّقوا في المقام بين الحرمة التكليفيّة والوضعيّة(1) ولم يفرّعوا منجّزيّة العلم الإجمالي بالنجاسة لحرمة الملاقي وعدمها


(1) قد يقال: إنّ التفصيل بين الحرمة التكليفيّة والحرمة الوضعيّة ـ بالتقريب الذي عرفت ـ إنْ كان له مجال بحسب التدقيق العقلي، فلا مجال له بالنظر العرفي، فإنّ الالتفات إلى أنّ الحرمة الوضعيّة أمر منتزع من تحديد دائرة الواجب بالوجوب التكليفي الفعلي إنـّما هو التفات عقليّ دقّيّ، وليس التفاتاً عرفيّاً، ويشهد لذلك عدم خطور هذا التفصيل في ذهن أحد من العلماء قبل اُستاذنا الشهيد بحدود ما وصلتنا من الأبحاث.

إلّا أنّ هذا الكلام لو تَمَّ فلا مجال له بالنسبة للبراءة العقليّة، فإنـّها أمر عقلي، ولا بأس بالرجوع إلى تدقيق عقلي في معرفة مورد جريانها.

وأمّا بالنسبة للاُصول الشرعية، فإن كان المقصود بهذا الإشكال دعوى أنّ شمول إطلاق دليل الأصل لنفي الحرمة الوضعيّة للملاقي قبل الملاقاة غير مفهوم عرفاً، قلنا ـ بعد تسليم ذلك ـ: إنّ شموله له على تقدير الملاقاة زائداً الأصل النافي في الملاقي الفعلي للطرف الآخر ينتج الترخيص الفعلي للتكليف المعلوم بالإجمال، بالبيان الذي مَضَى من اُستاذنا (رحمه الله) من توضيح فعليّة الحرمة الوضعيّة على أساس مُجرّد النجاسة على تقدير الملاقاة.

وإنْ كان المقصود بذلك غفلة العرف عن العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي، أو غفلته عن كون مجموع هذا الأصل التقديري زائداً ذاك الأصل الفعلي مستلزماً بالفعل نفي الإلزام المعلوم بالإجمال. قلنا ـ بعد تسليم ذلك ـ: إنّ غفلة العرف عن فعلية العلم الإجمالي بالتكليف، أو فعليّة نفي الأصلين للإلزام المعلوم بالإجمال لا تنفي تساقط الأصلين، فإنـّنا إنْ قلنا بأنّ سقوط الأصلين النافيين للإلزام المعلوم بالإجمال أمرٌ عقلي، كما عليه المحقق العراقي (رحمه الله)، فمن المعلوم أنّ عدم وضوح ذلك لدى العرف لا يضرّ به. وإن قلنا بأنـّه من الارتكازيات العرفية كما هو المختار، فالكبرى هي المرتكزة عرفاً، والصغرى قد تدرك بالدقّة العقليّة، أي: أنّ العرف يَرى أنـّه متى ما تَمَّ العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي الذي تكون الاُصول نافية له فالاُصول لا تجري؛ لارتكازيّة عدم إمكان الترخيص في المخالفة القطعيّة. أو قل: ارتكازية التناقض بين الغرض الإلزامي المعلوم

259

على كون الحرمة تكليفيّة أو وضعيّة، ولكن فرّعوها على مسألة فقهيّة، وهي أنّ نجاسة الملاقي هل هي بالسببيّة أو بالانبساط؟ فذهب المحقّق النائينيّ (رحمه الله)(1) إلى أنـّه إن قلنا بالسببيّة ـ بمعنى أنّ نجاسة الملاقي فرد آخر للنجاسة مستقلّ تحدث بسبب الملاقاة للنجس ـ فهذه النجاسة لا تتنجّز بالعلم الإجمالي الأوّل، لأنـّه لم يتعلّق به، وإنـّما تعلّق بالنجاسة الاُولى المردّدة بين الملاقى وطرفه. وإن قلنا بالانبساط ـ أي أنّها عين النجاسة السابقة ـ توسعت وانبسطت بعد ما كانت منكمشة، وواقفة على الملاقى، وإذا أردنا تقريب ذلك بالتشبيه بالاُمور التكوينية قلنا: إنّ هذا نظير التيّار الكهربائي الموجود في جسم على أساس اتّصاله بجسم آخر حامل لهذا التيار، حيث يُرى عرفاً أنّ نفس ذاك التيّار انبسط على هذا الجسم وتوسّع. فهذه النجاسة عين ما كانت طرفاً للعلم الإجمالي، فهي مُنجّزة به، وبما أنـّه (رحمه الله) يبني على السببيّة فلهذا يختار في المقام عدم التنجيز.

أقول: إنـّنا لو بنينا على عدم التنجيز بناءً على السببيّة، فلابدّ أنْ نبني على ذلك أيضاً بناء على الانبساط بالمعنى الذي ذكرناه. وتوضيح ذلك بعد غضّ النظر عن تحليل أصل فكرة الانبساط في النجاسة وأنّها هل تتعقّل ثبوتاً أو لا:

أوّلاً: أنّ المعلوم بالإجمال هو أصل النجاسة لا حدّها وسعتها، وحدّ النجاسة


بالإجمال والترخيص الشامل لتمام الأطراف، ولو فرضنا: أنّ الغرض الإلزامي لم يدركه عامّة الناس، وأدركه شخص بذكائه، أو لم يدرك عامّة الناس أنّ هذه الاُصول تودّي إلى مخالفته القطعيّة، وأدرك ذلك شخص بذكائه، فهذا كاف في تعارض الاُصول وتساقطها لدى هذا الشخص الذكيّ، فهو يأخذ من العرف كبرى عدم جريان الاُصول النافية للتكليف المعلوم بالإجمال، ويطبّقها على ما يعلمه، وبكلمة اُخرى: أنّ العرف يقول بنحو القضية الشرطية: متى ما أوجبت الاُصول الترخيص في المخالفة القطعيّة فهي لا تجري، وقد أدركنا الشرط بالدقّة العقليّة، فيثبت الجزاء، وذلك لأنّ المرتكز عند العرف إنـّما هو التناقض بين ذات الترخيص الشامل والتكليف المعلوم بالإجمال، لا بين ما يدركه العرف منهما، وإن كان لو لم يدركها العرف لم يعرف وجود التناقض بالفعل.

إذن فالعمدة في الإشكال على اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) ما وضّحناه في التعليقات السابقة من أنّ التفصيل بين الأحكام الوضعيّة والتكليفيّة ليس في محلّه حتى بالدقّة العقليّة؛ لأنـّه: أوّلاً: أنّ الحكم التكليفي في المحرمات فعليّ قبل فعليّة الحرام. و ثانياً: أنّ تلك الفعليّة في كلا الموردين لا توجب منجّزية العلم الأوّل، لأنّها غير ثابتة بالنسبة لواقع الملاقي.

(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 25 ـ 26، وأجود التقريرات: ج 2، ص 257 ـ 259.