319

حالة سكرات الموت.

3 ـ ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيق﴾(1).

 

هل الثواب أو العقاب البرزخيّان يعمّان جميع المؤمنين أو الفاسقين؟

قد ورد(2) في الروايات ما يدلّ بإطلاقه على أنّ الثواب أو العقاب يعمّان في البرزخ جميع المؤمنين والفاسقين، ولا يختصّ بالذين محضوا الإيمان محضاً أو محضوا الكفر محضاً، من قبيل:

1 ـ ما ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) من قوله: «القبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النار»(3).

2 ـ ما عن أبي بصير قال: قال أبو عبدالله(عليه السلام): «إنّ أرواح المؤمنين لفي شجرة من الجنّة يأكلون من طعامها ويشربون من شرابها ويقولون: ربّنا أقم الساعة لنا


(1) س 8 الأنفال، الآية: 50.

(2) قد يدّعى دلالة بعض الآيات على إطلاق الثواب والعقاب في البرزخ لكلّ الناس من قبيل قوله تعالى في سورة الواقعة (الآية: 83 ـ 94): ﴿فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ * فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيم * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيم * وَتَصْلِيَةُ جَحِيم﴾ بدعوى أنّ ظاهرها ثبوت الثواب والعقاب فور خروج الروح، أو أنّ الرَوح والريحان للبرزخ، وجنّة نعيم للآخرة، ونزل من حميم للبرزخ، وتصلية جحيم للآخرة، إلّا أنّ كلّ هذا غير واضح لدينا.

(3) البحار 6: 218.

320

وأنجز لنا ما وعدتنا وألحق آخرنا بأوّلنا»(1).

3 ـ ما عن أبي بصير قال: قال أبو عبدالله(عليه السلام): «إنّ الأرواح في صفة الأجساد في شجرة في الجنّة تعارف وتساءل، فإذا قدمت الروح على الأرواح يقول: دعوها فإنّها قد أفلتت من هول عظيم. ثُمّ يسألونها: ما فعل فلان وما فعل فلان؟ فإن قالت لهم: تركته حيّاً. ارتجوه، وإن قالت لهم: قد هلك. قالوا: قد هوى هوى»(2).

4 ـ ما عن أبي بصير عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن أرواح المؤمنين فقال: «في حجرات في الجنّة، يأكلون من طعامها ويشربون من شرابها ويقولون: ربّنا أقم الساعة لنا وأنجز لنا ما وعدتنا وألحق آخرنا بأوّلنا»(3).

إلّا أنّ عدداً من الروايات وردت بشأن المساءلة في القبر، تنصّ على أنّه لا يسأل في القبر إلّا من محض الإيمان محضاً أو محض الكفر محضاً والآخرون يلهى عنهم من قبيل:

1 ـ ما رواه أبو بكر الحضرمي قال: قال أبو عبدالله(عليه السلام): «لا يسأل في القبر إلّا من محض الإيمان محضاً أو محض الكفر محضاً والآخرون يلهون عنهم»(4).

2 ـ رواية عبدالله بن سنان عن الصادق(عليه السلام) قال: «إنّما يسأل في قبره من محض الإيمان محضاً والكفر محضاً، وأمّا ما سوى ذلك فيلهى عنهم»(5).

3 ـ صحيحة محمّد بن مسلم قال: قال أبو عبدالله(عليه السلام): «لا يسأل في القبر إلّا


(1) الكافي 3: 244، كتاب الجنائز، باب آخر في أحوال المؤمنين، الحديث 2.

(2) المصدر السابق، الحديث 3.

(3) المصدر السابق، الحديث 4.

(4) الكافي 3: 235، باب المسألة في القبر من كتاب الجنائز، الحديث 1.

(5) المصدر السابق، الحديث 2.

321

من محض الإيمان محضاً أو محض الكفر محضاً»(1).

ونحوها غيرها(2).

وربما يقال: إنّ القرآن الكريم قد أيّد هذه الفكرة؛ حيث صرّح في عدّة موارد بأنّ الكفّار يرون في يوم القيامة أنّهم لم يلبثوا إلّا قليلاً، كساعة من النهار أو يوم أو عشرة أيام، في حين أنّهم لو كانوا في العذاب في عالم البرزخ ولم يكونوا في سبات لأحسّوا بثقل العذاب وطوله، ولما تخيّلوا أنّهم ما لبثوا إلّا قليلاً.

والآيات التي تصرّح بعدم إحساسهم بشيء وبتخيّل عدم مرور الزمان عليهم عديدة من قبيل:

1 ـ ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذ زُرْقاً * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً﴾(3).

2 ـ ﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْم فَاسْأَل الْعَادِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُون﴾(4).

3 ـ ﴿وَقَالُوا ءَإِذا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً ءَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * قُل كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً﴾(5).

4 ـ ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَة كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالاِْيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ


(1) المصدر السابق: 236، الحديث 4.

(2) راجع نفس الباب.

(3) س 20 طه، الآية: 102 ـ 104.

(4) س 23 المؤمنون، الآية: 112 ـ 114.

(5) س 17 الإسراء، الآية: 49 ـ 52.

322

فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * فَيَوْمَئِذ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُون﴾(1).

فهذه الآيات كلّها واضحة في أنّهم كانوا في سبات، ولم يحسّوا بثقل العقاب وبمرور الزمان، أي أنّهم كانوا قبل ذلك في حالة من قبيل حالة الذي أماته الله مئة عام ثُمّ أحياه، أو من قبيل حالة أصحاب الكهف في منامهم؛ إذ ورد نظير هذا التعبير في هاتين القصّتين:

ففي القصّة الاُولى قال الله تعالى: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَة وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِـي هَـذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَام ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْم قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَام...﴾(2). فهذا طبعاً لم يكن المفروض به أن يمرّ بالإحساس بالحياة البرزخية، ولم يحسّ بشيء؛ لأنّه كان في سبات فقال: ﴿لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْم﴾.

وفي القصّة الثانية قال الله تعالى: ﴿فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً * وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْم قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ...* وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِئَة سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً﴾(3). فهؤلاء كانوا في سبات النوم؛ ولهذا لم يحسّوا بالزمان. فالذي يبدو أنّ عالم البرزخ أيضا تكون له في الغالب هكذا حالة، فيقول الكافرون في يوم القيامة: لم نلبث إلّا يوماً أو ساعة أو عشرة أيّام.

إلّا أنّ الظاهر هو أنّ تفسير هذه الآيات الراجعة إلى عالم البعث بهذا النحو غير صحيح؛ لأنّها تنظر إلى الكفّار والمجرمين، ومتيقّنها هم الذين محضوا الكفر


(1) س 30 الروم، الآية: 55 ـ 57.

(2) س 2 البقرة، الآية: 259.

(3) س 18 الكهف، الآية: 11 ـ 12 و 19 و 25.

323

محضاً، وقد عرفت أنّهم المتيقّن ممّن لهم عذاب البرزخ، كما أنّ الذين محضوا الإيمان محضاً هم المتيقّن ممّن يتنعّمون بثواب البرزخ، وإلّا فأين ذهبت آية عدّ الشهداء أحياءً عند ربّهم يرزقون، أو آية عذاب قوم فرعون في البرزخ؟! وعليه فالظاهر أنّ نظر تلك الآيات الدالّة على حالة السبات في ما قبل البعث ليس إلى عالم البرزخ، بل النظر إلى ما بين النفختين المتعلّقتين بيوم القيامة، قال الله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُون﴾(1)، والذي يظهر من إطلاق الآية المباركة هو أنّ الصعق الذي يحصل على أساس النفخة الاُولى يشمل كلّ من في السماوات والأرض بما فيهم الذين ماتوا قبلاً وانتقلوا إلى البرزخ، كما روي ذلك عن الاحتجاج للطبرسي عن أبي عبدالله(عليه السلام): «قال السائِل: أفيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق؟ قال: بل هو باق إلى وقت ينفخ في الصور، فعند ذلك تبطل الأشياء وتفنى فلا حسّ ولا محسوس، ثُمّ اُعيدت الأشياء كما بدأها مدبّرها، وذلك أربع مئة سنة يسبت فيها الخلق، وذلك بين النفختين»(2).

ويؤيّد فكرة السبات بين النفختين قوله سبحانه وتعالى بشأن الكفّار في يوم القيامة: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوج مِّن سَبِيل﴾(3). فتصوّر أنّ الموتين عبارة عن فقداننا للروح حينما كنّا جماداً وعن موتنا في آخر حياتنا الدنيوية، والحياتين عبارة عن حياتنا في الدنيا وبعثنا يوم القيامة، يبدو أنّه تصوّر ساذج؛ لأنّنا قبل الحياة الدنيا لم نمت وإنّما كنّا عادمين الحياة من أوّل الأمر، وهذا لا يصدق عليه عنوان الإماتة. فالظاهر أنّ


(1) س 39 الزمر، الآية: 68.

(2) كنز الدقائق 11: 337 نقلاً عن الاحتجاج: 350، وانظر البحار 6: 217.

(3) س 40 غافر، الآية: 11.

324

المقصود بالموتين موتنا في آخر حياة الدنيا وموتنا لدى النفخة الاُولى، وأنّ المقصود بالحياتين حياتنا في الدنيا وبعثنا لدى النفخة الثانية، فهذه الآية أيضاً داعمة لفكرة السبات بين النفختين.

أقول: فالمقصود بالآيات التي تحكي عن لسان الكفّار في يوم البعث: أنّهم ما لبثوا إلّا ساعة أو زمناً يسيراً ليست هي الإشارة إلى عالم البرزخ كي ينافي الثواب والعقاب البرزخيين الثابتين بآيات اُخرى، بل هي الإشارة إلى السبات الواقع بين النفختين.

وبهذا يتضح معنىً معقول للاستثناء الوارد في الآية الكريمة عن الصعق؛ حيث قالت: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّه﴾، وتوضيح الكلام في ذلك يبدأ بسؤال عن هذا الاستثناء حيث يقال: كيف يستثنى بعض من الموت؟ أفليس الموت ثابتاً للكلّ؟ ومن هنا جاء الجواب في بعض التفاسير بأنّ هذا استثناء لبعض الملائكة الذين يتأخّر موتهم عن المرّة الاُولى لنفخ الصور كإسرافيل صاحب الصور أو كملك الموت قابض الأرواح. أمّا بناءً على التفسير الذي قلناه فلا حاجة إلى أصل هذا السؤال؛ لأنّ من لا يصعق يمكن أن يكون من أرواح عالم البرزخ التي ماتت قبلاً، فليس هذا استثناءً من الموت، ويؤيّد ذلك ما ورد من تفسير المستثنون بالشهداء الذين قتلوا في سبيل الله(1).

وهنا نرجع إلى ما كنّا فيه من انقسام الروايات إلى قسمين:

فمنها ما قد يستظهر منه عموم الإحساس بالحياة البرزخية لجميع الأموات.

ومنها ما يستفاد منه اختصاص السؤال في القبر بمن محض الإيمان محضاً ومن محض الكفر محضاً والآخرون يلهى عنهم، فلو فسّر الإلهاء بالإلهاء


(1) كنز الدقائق 11: 335 نقلاً عن مجمع البيان.

325

حتّى عن الثواب والعقاب والإحساس بالحياة البرزخيّة وقع التعارض بين الطائفتين.

وهناك ما يمكن أن يفترض شاهد جمع بين الطائفتين من قبيل صحيح ضريس الكناسي عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) قال: «قلت له: جعلت فداك، ما حال الموحّدين المقرّين بنبوّة محمّد(صلى الله عليه وآله) من المسلمين المذنبين الذين يموتون وليس لهم إمام ولا يعرفون ولايتكم؟ فقال: أمّا هؤلاء فإنّهم في حفرهم لا يخرجون منها، فمن كان له عمل صالح ولم يظهر منه عداوة فإنّه يخدّ له خدّاً إلى الجنّة التي خلقها الله بالمغرب، فيدخل عليه الروح في حفرته إلى يوم القيامة حتّى يلقى الله فيحاسبه بحسناته وسيّئاته، فإمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النار، فهؤلاء الموقوفون لأمر الله. قال: وكذلك يفعل بالمستضعفين والبله والأطفال وأولاد المسلمين الذين لم يبلغوا الحلم، وأمّا النصّاب من أهل القبلة فإنّه يخدّ لهم خدّاً إلى النار التي خلقها الله في المشرق، فيدخل عليهم اللهب والشرر والدخان وفورة الحميم إلى يوم القيامة، ثُمّ بعد ذلك مصيرهم إلى الجحيم»(1).

فلعلّ هذه الرواية تشهد على أنّ الذين عبّرت عنهم بتعبير: «فهؤلاء الموقوفون لأمر الله» هم اُولئك الذين عبّرت عنهم الروايات السابقة بتعبير: «يلهى عنهم»، فليس المقصود بالإلهاء عنهم نفي إحساسهم بالحالة البرزخيّة نهائيّاً، بل المقصود هو تركهم من دون سؤال من ناحية، ومن دون إخراج الروح من القبر إلى جنّة البرزخ أو نار البرزخ من ناحية اُخرى، بل يدخل عليهم روح في حفرتهم من جنّة البرزخ ويُتركون هكذا إلى يوم القيامة، ثُمّ يحاسَبون هناك بحسابهم، فإمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النار.

 


(1) البحار 6: 286، باب جنّة الدنيا ونارها، الحديث 7 نقلاً عن تفسير عليّ بن إبراهيم، وانظر البحار 6: 289، نفس الباب، الحديث 14 نقلاً عن الكافي، وانظر أيضاً الكافي 3: 247، باب جنّة الدنيا من كتاب الجنائز، الحديث 1.

326

 

2 ـ البدن المثالي

 

إنّ المستفاد من بعض روايات البرزخ هو أنّ النفس تتعلّق بعد سلب البدن الدنيوي عنها بقالب مثالي يشبه القالب المادّي البحت، فتتعارف النفوس فيما بينها بذلك القالب، وبسببه يكون لها حظّ من المادّيّة ليست كمادّيّة البدن المفهومة لدينا هنا، ويتحقّق بذلك أخذ الحيّز والحلول في المكان والتحرّك وما إلى ذلك، ويجري لها ما يجري من الثواب والعقاب أو السؤال والجواب عن طريق القالب المثالي.

وكأنّ الثواب التامّ أو العقاب التامّ للنفس يتوقّف على امتلاك البدن المادّي التامّ، وبسلب البدن المثالي عنها بالنفخة الاُولى ينسلب عنها ما كان لها من الثواب والعقاب البرزخيين، وببعثها النهائي بالنفخة الثانية وإرجاع البدن المادّي البحت إليها في يوم القيامة يتحقّق لها الثواب التامّ أو العقاب التامّ.

وممّا يدلّ على هذا البدن المثالي أو القالب البرزخي صحيحة أبي ولاّد الحنّاط عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «قلت له: جعلت فداك، يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش فقال: لا، المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير، ولكن في أبدان كأبدانهم»(1)، ومعتبرة أبي بصير قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): إنّا نتحدّث عن أرواح المؤمنين أنّها في حواصل طيور خضر ترعى في الجنّة وتأوي إلى قناديل تحت العرش، فقال: لا، إذن ما هي في حواصل طير. قلت: فأين هي؟ قال: في روضة كهيئة الأجساد في الجنّة»(2).

 


(1) الكافي 3: 244، باب آخر في أرواح المؤمنين من كتاب الجنائز، الحديث 1.

(2) المصدر السابق: 245، الحديث 7.

327

 

3 ـ ضغطة القبر

 

إنّ ضغطة القبر هي أوّل شدّة من شدائد البرزخ على ما يبدو من بعض الأخبار، ففي الحديث عن الصادق(عليه السلام)عن أبائه(عليهم السلام) عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «ضغطة القبر للمؤمن كفّارة لما كان منه من تضييع النعم»(1).

وفي حديث آخر: «إنّه ليس من مؤمن إلّا وله ضمّة»(2).

وفي حديث آخر عن عبدالله بن سنان عن الصادق(عليه السلام) «قال: اُتي رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقيل له: إنّ سعد بن معاذ قد مات. فقام رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقام أصحابه معه، فأمر بغُسل سعد وهو قائم على عضادة الباب، فلمّا أن حنّط وكفّن وحمل على سريره تبعه رسول الله(صلى الله عليه وآله) بلا حذاء ولا رداء، ثُمّ كان يأخذ يمنة السرير مرّة ويسرة السرير مرّة حتّى انتهى به إلى القبر، فنزل رسول الله(صلى الله عليه وآله)حتّى لحّده وسوّى اللبن عليه وجعل يقول: ناولوني حجراً، ناولوني تراباً رطباً يسدّ به ما بين اللبن، فلمّا أن فرغ وحثا التراب عليه وسوّى قبره قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): إنّي لأعلم أنّه سيبلى ويصل البلى إليه، ولكن الله يحبّ عبداً إذا عمل عملاً أحكمه. فلمّا أن سوّى التربة عليه قالت اُمّ سعد: يا سعد، هنيئاً لك الجنّة! فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): يا اُمّ سعد، مَهْ لا تجزمي على ربّك! فإنّ سعداً قد


(1) البحار 6: 221، الباب 8 من أبواب الموت وما يلحقه إلى وقت البعث، الحديث 16.

(2) المصدر السابق، الحديث 19.

328

أصابته ضمّة. قال: فرجع رسول الله(صلى الله عليه وآله) ورجع الناس فقالوا له: يا رسول الله، لقد رأيناك صنعت على سعد ما لم تصنعه على أحد، إنّك تبعت جنازته بلا رداء ولا حذاء. فقال(صلى الله عليه وآله): إنّ الملائكة كانت بلا رداء ولا حذاء فتأسّيت بها. قالوا: وكنت تأخذ يمنة السرير مرّة ويسرة السرير مرّة. قال: كانت يدي في يد جبرئيل آخذ حيث يأخذ. قالوا: أمرت بغسله وصلّيت على جنازته ولحّدته في قبره ثُمّ قلت: إنّ سعداً قد أصابته ضمّة! قال: فقال(صلى الله عليه وآله): نعم إنّه كان في خلقه مع أهله سوء»(1).

وفي حديث آخر عن أبي بصير قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): أيفلت من ضغطة القبر أحد؟ قال: فقال: نعوذ بالله منها، ما أقلّ من يفلت من ضغطة القبر! إنّ رقيّة لمّا قتلها عثمان وقف رسول الله(صلى الله عليه وآله) على قبرها فرفع رأسه إلى السماء، فدمعت عيناه وقال للناس: إنّي ذكرت هذه وما لقيت فرققت لها واستوهبتها من ضمّة القبر. قال: فقال: اللهمّ هب لي رقيّة من ضمّة القبر. فوهبها الله له...»(2).

وفي صحيحة يونس قال: سألته عن المصلوب يعذّب عذاب القبر؟ قال: فقال: «نعم إنّ الله عزّ وجلّ يأمر الهواء أن يضغطه»(3).

وهناك روايات كثيرة تبيّن اُموراً تقتضي رفع ضمّة القبر عن الميّت من قبيل:

1 ـ ما ورد عن الصادق(عليه السلام): «من مات ما بين زوال الشمس يوم الخميس إلى زوال الشمس من يوم الجمعة أعاذه الله تعالى من ضغطة القبر»(4).

2 ـ ما ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «من قرأ سورة النساء في كلّ جمعة أمن


(1) المصدر السابق: 220، الحديث 14.

(2) الكافي 3: 236، باب المسألة في القبر من كتاب الجنائز، الحديث 6.

(3) المصدر السابق: 241، الحديث 16.

(4) سفينة البحار: «قبر».

329

ضغطة القبر»(1).

3 ـ ما ورد عن الصادق(عليه السلام): «من قرأ (ن والقلم) في فريضة أو نافلة أعاذه الله إذا مات من ضمّة القبر»(2).

4 ـ ما ورد في صحيحة منصور بن حازم: «من حجّ أربع حجج لم تصبه ضغطة القبر أبداً»(3).

وقال المرحوم الشيخ عبّاس القمي(رحمه الله) في سفينة البحار في مادّة النجف: «من خواصّ تربته إسقاط عذاب القبر، وترك محاسبة منكر ونكير للمدفون هناك كما وردت به الأخبار الصحيحة عن أهل البيت(عليهم السلام)».

قال(رحمه الله): «وروي عن القاضي بن بدر الهمداني الكوفي ـ وكان رجلاً صالحاً ـ قال: كنت في جامع الكوفة ذات ليلة، وكانت ليلة مطيرة، فدقّ باب مسلم جماعة ففتح لهم، وذكر بعضهم أنّ معهم جنازة فأدخلوها وجعلوها على الصفّة التي تجاه مسلم بن عقيل(عليه السلام)، ثُمّ إنّ أحدهم نعس فرأى في منامه قائلاً يقول لآخر: ما تبعثر(4) حتّى نبصر هل لنا معه حساب؟ وينبغي أن نأخذه منه عَجَلاً قبل أن يتعدّى الرصافة فما يبقى لنا معه طريق. فانتبه وحكى لهم المنام فقال: خذوه عَجَلاً. فأخذوه ومضوا به في الحال إلى المشهد الشريف»(5).

وورد بشأن المؤمن بمذهب أهل البيت(عليهم السلام) عن الصادق(عليه السلام): «إذا حيل بينه وبين الكلام أتاه رسول الله(صلى الله عليه وآله) ومن شاء الله(6)، فجلس رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن يمينه


(1) المصدر السابق.

(2) المصدر السابق.

(3) البحار 99: 20، الباب 2 من أبواب الحجّ والعمرة، الحديث 74.

(4) بعثر: نظر وفتّش.

(5) سفينة البحار 8: 189 ـ 190.

(6) كأنّه كناية عن أمير المؤمنين(عليه السلام) وحذف الاسم للتقيّة.

330

والآخر عن يساره، فيقول له رسول الله(صلى الله عليه وآله): أمّا ما كنت ترجو فهو ذا أمامك، وأمّا ما كنت تخاف منه فقد أمنت منه. ثُمّ يُفتح له باب إلى الجنّة فيقول: هذا منزلك من الجنّة، فإن شئت رددناك إلى الدنيا ولك فيها ذهب وفضّة. فيقول: لا حاجة لي في الدنيا. فعند ذلك يبيضّ لونه ويرشح جبينه و...، فإذا خرجت النفس من الجسد فيعرض عليها كما عرض عليها وهي في الجسد، فتختار الآخرة، فتغسّله في من يغسّله وتقلّبه في من يقلّبه، فإذا اُدرج في أكفانه ووضع على سريره خرجت روحه تمشي بين أيدي القوم قُدُماً، وتلقاه أرواح المؤمنين يسلّمون عليه ويبشّرونه بما أعدّ الله له جلّ ثناؤه من النعيم، فإذا وضع في قبره رُدّ إليه الروح إلى وَرِكَيه ثُمّ يسأل عمّا يعلم، فإذا جاء بما يعلم فتح له ذلك الباب الذي أراه رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فيدخل عليه من نورها وضوئها وبردها وطيب ريحها».

قال قلت: جعلت فداك فأين ضغطة القبر؟ فقال: «هيهات ما على المؤمنين منها شيء، والله إنّ هذه الأرض لتفتخر على هذه فتقول: وطأ على ظهري مؤمن ولم يطأ على ظهرك مؤمن. وتقول له الأرض: والله لقد كنت اُحبّك وأنت تمشي على ظهري، فأمّا إذا وُلّيتك فستعلم ما أصنع بك فتفسح له مدّ بصره»(1).

 

4 ـ ارتباط أهل البرزخ بنا

 

يبدو أنّ عالم البرزخ باعتبار وسطيّته بين عالم الدنيا وعالم الآخرة ليس منقطعاً تمام الانقطاع عن عالم الدنيا، فقد يصل أهل البرزخ شيء من عالمنا وإن


(1) اُنظر الكافي 3: 129 ـ 130، باب ما يعاين المؤمن والكافر من كتاب الجنائز، الحديث 2.

331

كنّا نحن لانحسّ بوصول شيء إلينا من عالمهم:

فأوّلاً: قد تتفق لمن انتقل إلى البرزخ إمكانية زيارة أهله، كما دلّت على ذلك صحيحة حفص بن البختري عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «إنّ المؤمن ليزور أهله فيرى ما يحبّ ويستر عنه ما يكره، وإنّ الكافر ليزور أهله فيرى ما يكره ويستر عنه ما يحبّ، قال: ومنهم من يزور كلّ جمعة، ومنهم من يزور على قدر عمله»(1).

وثانياً: قد يسمعون صوتنا حينما نكون قريبين من مكان تواجدهم، كما قد يُفهم ذلك من كلام عليّ(عليه السلام) وقد رجع من صفّين فأشرف على القبور بظاهر الكوفة: «يا أهل الديار الموحشة والمحالّ المقفرة والقبور المظلمة، يا أهل التربة، يا أهل الغربة، يا أهل الوحدة، يا أهل الوحشة، أنتم لنا فَرَط سابق ونحن لكم تبع لاحق. أمّا الدور فقد سُكنت، وأمّا الأزواج فقد نُكحت، وأمّا الأموال فقد قُسّمت. هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم؟» ثُمّ التفت إلى أصحابه فقال(عليه السلام): «أما لو اُذن لهم في الكلام لأخبروكم: أنّ خير الزاد التقوى»(2).

وقد روى في تفسير پيام قرآن(3) عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) حينما ألقوا أجساد المشركين في معركة بدر في البئر أنّه(صلى الله عليه وآله) وقف إلى جنب البئر وقال: «يا أهل القليب، هل وجدتم ما وعد ربّكم حقّا؟ فإنّي وجدت ما وعدني ربّي حقّا»، قالوا: يا رسول الله هل يسمعون؟ قال(صلى الله عليه وآله): «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكن اليوم لا يجيبون».

وفي البحار عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنّه وقف على قليب بدر ـ يعني بئر بدر ـ فقال


(1) الكافي 3: 230، باب أنَّ الميت يزور أهله من كتاب الجنائز، الحديث 1.

(2) نهج البلاغة، الحكمة 130.

(3) پيام قرآن 5: 457.

332

للمشركين الذين قتلوا يومئذ وقد اُلقوا في القليب: «لقد كنتم جيران سوء لرسول الله ـ (صلى الله عليه وآله) ـ، أخرجتموه من منزله وطردتموه، ثُمّ اجتمعتم عليه فحاربتموه، فقد وجدت ما وعدني ربّي حقّاً»، فقال له عمر: يا رسول الله ما خطابك لهام قد صديت ـ أي ماتت ـ ؟ فقال(صلى الله عليه وآله) له: «مَهْ يا بن الخطاب، فوالله ما أنت بأسمع منهم، وما بينهم وبين أن تأخذهم الملائكة بمقامع الحديد إلّا أن أعرض بوجهي هكذا عنهم»(1).

وتشهد لذلك روايات التلقين بعد الدفن أيضاً(2).

وكذلك ورد في زيارة القبور عن الصادق(عليه السلام): «إذا زرتم موتاكم قبل طلوع الشمس سمعوا وأجابوكم، وإذا زرتموهم بعد طلوع الشمس سمعوا ولم يجيبوكم»(3).

وثالثاً: وصول شيء من الثواب إليهم من هذه الدنيا على ما نطقت به العديد من رواياتنا(4)، كصحيح الحلبي عن أبي عبدالله الصادق(عليه السلام) قال: «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلّا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته، وصدقة(5) مبتولة لا تورث، أو سنّة هدى يعمل بها بعد موته، أو ولد صالح يدعو له»(6)، ورواية معاوية بن عمار قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): ما يلحق الرجل بعد موته؟ فقال: سنّة يعمل بها بعد موته فيكون له مثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص من اُجورهم شيء، والصدقة الجارية تجري من بعده،


(1) البحار 6: 254 ـ 255، الباب 8 من أبواب الموت وما يلحقه إلى وقت البعث.

(2) وسائل الشيعة 3: 201 ـ 203، الباب 35 من الدفن.

(3) سفينة البحار: «قبر».

(4) وسائل الشيعة 19، الباب 1 من الوقوف والصدقات.

(5) كأنها عطف تفسير.

(6) المصدر السابق: 172، الحديث 2.

333

والولد الطيّب يدعو لوالديه بعد موتهما، ويحجّ ويتصدّق ويعتق عنهما ويصلّي ويصوم عنهما، فقلت: اُشركهما في حجّتي؟ قال: نعم»(1).

فالذي يبدو من مجموعة الأخبار التي أشرنا إليها ضمن هذه الاُمور الثلاثة التي عددناها لارتباط أهل البرزخ بنا يؤدّي بنا إلى القطع نتيجة التواتر المعنوي، أو الاستفاضة المعنوية بأنّ هناك شيئاً من الاتّصال بين عالمنا وعالم البرزخ وإن كان الإحساس به من طرف واحد أي من طرفهم، أمّا من طرفنا فلا يوجد لنا إحساس بذلك، اللهمّ إلّا لأولياء الله الذين هم من أهل الكرامات.

 

 

 

* * *

 


(1) المصدر السابق: 172 ـ 173، الحديث 4.

334

 

فلسفة البرزخ

 

ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في نهج البلاغة أنّه قال: «فإنّ الغاية أمامكم، وإنّ وراءكم الساعة تحدوكم، تخفّفوا تلحقوا، فإنّما ينتظر بأوّلكم آخِركم»(1). وفي خطبة اُخرى: «فإنّ الناس أمامكم وإنّ الساعة تحدوكم من خلفكم، تخفّفوا تلحقوا، فإنّما ينتظر بأوّلكم آخركم»(2).

وخلاصة الكلام في المقام: أنّ الدنيا خلقت لفسح المجال للبشر إلى سلّم الكمال، وإخراجه لما فيه بالقوّة إلى الفعل، وبالتالي يستفيد من كماله هو في عالم الآخرة، وعالم الجزاء الكامل هو عالم ما بعد نفخ الصور، أمّا عالم البرزخ فالذي يتبادر إلى أذهاننا القاصرة والعاجزة عن إدراك حقائق الاُمور بشأنه هو أحد تصوّرات ثلاثة:

إمّا الاحتياج إليه للتدرّج في الانتقال من هذا العالم إلى عالم الآخرة بوصفه واجداً لبعض خصائص هذا العالم وبعض خصائص عالم الآخرة، فكأنّ الإنسان في الغالب لا يستطيع العيش في ذاك العالم الذي يختلف تماماً عن عالمه إلّا بعد المرور بعالم وسط بين العالمين.

وإمّا افتراض أنّ عالم البرزخ وإن كان لا يوجد للإنسان فيه تكامل كبير؛ لأنّ محلّ التكامل وموطن الامتحان للإنسان ـ كي يرى هل يختار سبيل التكامل أو الانحطاط ـ إنّما هي الدنيا، ولكن لا ينافي ذلك وجود شيء من


(1) نهج البلاغة، الخطبة 21.

(2) نهج البلاغة، الخطبة 167.

335

التكامل للإنسان المؤمن في عالم البرزخ.

وإمّا الاحتياج إليه لأجل أنّ تحطّم هذه الدنيا وتحقّق يوم القيامة يكون دفعة واحدة، أي إنّ قيامة الجميع متقارنة وليست تدريجية فلابدّ للسابقين في الموت من انتظار اللاحقين، ويتمّ ذلك بواسطة عالم البرزخ.

وهذه الفرضيات الثلاث ليست متنافية، فيمكن صدق الكلّ.

والعبارة التي بدأنا الحديث بنقلها عن أمير المؤمنين(عليه السلام) دلّت على الاحتمال الثالث حيث قال(عليه السلام): «فإنّما ينتظر بأوّلكم آخركم».

وقد عرفت أنّ العبارة متكرّرة مرّتين في نهج البلاغة، مرّة في الخطبة: (21)، واُخرى في الخطبة: (167) بتغيير يسير، والتغيير إنّما هو في صدر العبارة لا في المقطع الذي كان هو محل الشاهد.

والشريف الرضي(رحمه الله) حينما نقل العبارة الاُولى قال: إنّ هذا الكلام لو وزن بعد كلام الله سبحانه وبعد كلام رسول الله(صلى الله عليه وآله) بكلّ كلام لمال به راجحاً وبرز عليه سابقاً، فأمّا قوله(عليه السلام): «تخفّفوا تلحقوا» فما سمع كلام أقل منه مسموعاً ولا أكثر محصولاً، وما أبعد غورها من كلمة وأنقع نطفتها(1) من حكمة.

وقد وردت الإشارة في بعض الروايات إلى ما جعلناه الاحتمال الثاني، وهي رواية حفص قال: «سمعت موسى بن جعفر(عليهما السلام) يقول لرجل: أتحبّ البقاء في الدنيا؟ فقال: نعم. فقال: ولم؟ قال: لقراءة قل هو الله أحد. فسكت عنه، فقال له بعد ساعة: يا حفص، من مات من أوليائنا وشيعتنا ولم يحسن القرآن علّم في


(1) النطفة: ما صفا من الماء. اُنظر مجمع البحرين 5: 125، وكتاب العين 7: 436. وما أنقع هذا الماء أي: ما أرواه من عطش.

336

قبره ليرفع الله به من درجته؛ فإنّ درجات الجنّة على قدر آيات القرآن، يقال له: إقرأ وارق، فيقرأ ثمّ يرقى. قال حفص: فما رأيت أحداً أشدّ خوفاً على نفسه من موسى بن جعفر(عليهما السلام) ولا أرجأ الناس منه، وكانت قراءته حزناً فإذا قرأ فكأنّه يخاطب إنساناً»(1).

أمّا الاحتمال الأوّل فلم أرَ نصّاً يدلّ عليه، إلّا أنّه حدسٌ يحدس.

 

 

 

* * *

 


(1) الكافي 2: 606، باب فضل حامل القرآن من كتاب فضل القرآن، الحديث 10.

337

 

ختم الكلام

 

وهنا نختم حديثنا عن البرزخ بذكر هذه الرواية عن سعيد بن المسيّب قال: كان عليّ بن الحسين (صلوات الله عليه) يعظ الناس ويزهّدهم في الدنيا ويرغّبهم في أعمال الآخرة بهذا الكلام في كلّ جمعة في مسجد الرسول(صلى الله عليه وآله)، وحفظ عنه وكتب، كان يقول: «أيّها الناس، اتّقوا الله واعلموا أنّكم إليه ترجعون، فتجد كلّ نفس ما عملت في هذه الدنيا من خير محضراً وما عملت من سوء، تودّ لو أنّ بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذّركم الله نفسه. ويحك ابن آدم الغافل وليس بمغفول عنه! ابن آدم، إنّ أجلك أسرع شيء إليك، قد أقبل نحوك حثيثاً يطلبك ويوشك أن يدركك، وكأن قد اُوفيت أجلك وقبض الملك روحك وصرت إلى منزل وحيداً فردّ إليك فيه روحك، واقتحم عليك فيه ملكاك: منكر ونكير لمساءلتك وشديد امتحانك، ألا وإنّ أوّل ما يسألانك عن ربّك الذي كنت تعبده، وعن نبيّك الذي اُرسل إليك، وعن دينك الذي كنت تدين به، وعن كتابك الذي كنت تتلوه، وعن إمامك الذي كنت تتولاّه، ثُمّ عن عمرك في ما أفنيته؟ ومالك من أين اكتسبته؟ وفي ما أتلفته؟ فخذ حذرك وانظر لنفسك، وأعدّ للجواب قبل الامتحان والمساءلة والاختبار، فإن تك مؤمناً تقيّاً عارفاً بدينك متّبعاً للصادقين موالياً لأولياء الله لقّاك الله حجّتك، وأنطق لسانك بالصواب فأحسنت الجواب، فبشّرت بالجنّة والرضوان من الله والخيرات الحسان، واستقبلتك الملائكة بالروح

338

والريحان، وإن لم تكن كذلك تلجلج لسانك ودحضت حجّتك، وعميت عن الجواب، وبشّرت بالنار، واستقبلتك ملائكة العذاب بنزل من حميم وتصلية جحيم(1). فاعلم ابن آدم: إنّ من وراء هذا ما هو أعظم وأفظع وأوجع للقلوب يوم القيامة، ذلك يوم مجموع له الناس، وذلك يوم مشهود...»(2).

 

 

 

 

 


(1) إلى هنا ورد في البحار 6: 223 ـ 224.

(2) والحديث طويل، اُنظر البحار 78: 143 ـ 146.

339

الفصل الخامس

 

 

 

المعاد

 

 

○ 1 ـ نفخة الصور الاُولى.

○ 2 ـ نفخة الصور الثانية والمعاد الجسماني.

○ 3 ـ الحساب.

○ 4 ـ سوق الكفّار والمؤمنين إلى مثواهم الأخير

○ خاتمة في الشفاعة.

○ ختامه مسك.

 

 

341

 

 

 

 

 

قال الله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الاَْرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْس مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ * وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الاَْرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين﴾(1).

يظهر لنا من هذه الآيات المباركات تسلسل مراحل يوم القيامة إلى أربع مراحل نذكرها واحدة بعد اُخرى، وبعد ذلك نتعرّض إلى مسألة الأعراف.


(1) س 39 الزمر، الآية: 68 ـ 75.

342

 

1 ـ نفخة الصـور الاُولـى

 

المرحلة الاُولى لمراحل عالم الآخرة أو يوم القيامة هي نفخة الصور الاُولى، وقد مرّ بنا استظهار كونها مرحلة الموت الثانية للبشر، فالموت الأوّل عبارة عن موت البدن الدنيوي ومع بقاء النفس أو الروح حيّة حسّاسة تحسّ بعالم البرزخ وما فيه من ثواب أو عقاب، والموت الثاني عبارة عن موت الروح أو النفس لا بمعنى الفناء المطلق الذي يوجب فلسفياً استحالة إعادتها، بل بمعنى الوقوع في حالة السبات الكامل وانتهاء ثواب البرزخ أو عقابه أو أيّ إحساس فيه، ويستثنى من هذا السبات من شاء الله كالشهداء.

والظاهر أنّ هذا هو المقصود بالصعق في قوله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّه﴾(1)، كما أنّ الظاهر أنّ هذا هو المقصود بالموتة الثانية التي صرّح بها القرآن الكريم في موردين:

أحدهما: قوله تعالى عن لسان الكفّار: ﴿رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوج مِّن سَبِيل﴾(2).

ثانيهما: قوله تعالى عن لسان المؤمنين بعد أن يسكنوا الجنّة ويشرفوا على جهنّم ليخاطب كلّ واحد منهم صاحبه الذي سكن النار: ﴿فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِين﴾(3)،


(1) س 39 الزمر، الآية: 68.

(2) س 40 غافر، الآية: 11.

(3) س 37 الصافّات، الآية: 55 ـ 57.

343

وهنا يقول الله تعالى عن لسان المؤمنين ضمن خطابهم هذا للكفّار والمشركين: ﴿أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الاُْولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِين﴾(1).

وهذا البحث بحاجة فلسفيّاً إلى إثبات الثنائية بين النفس والبدن وإثبات تجرّد النفس، وقد مرّ كلّ هذا في ضمن الأبحاث السابقة فلا حاجة إلى إعادته.

 

 

 

* * *

 


(1) س 37 الصافّات، الآية: 58 ـ 59.