307

 

بقاء النفس بعد الموت

 

يقع البحث عن أنّ موت الجسم بمعنى فناء الروح النباتية فيه ممّا يوجب فساده وتعفّنه وتفسّخه، هل يوجب فناء تلك النفس، أو أنّها تبقى حيّة بعد موت الجسم؟

القرآن صريح في الثاني كما مضى من قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الاَْنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا...﴾(1)، والمفروض بنا حين نتحدث عمّا بعد الموت أنّنا فرغنا عن إثبات التوحيد والنبوّة والقرآن.

والاعتبار العقلي أيضا يدعم بقاء النفس؛ لأنّ الله تعالى خلق الغرائز الأصيلة في الإنسان لتسييره في الطريق الذي اُريد له، أو للتوفيق بين غرائزه وبين ما اُريد له. فمثلاً من الغرائز الأصيلة في الإنسان: شهوة الأكل والشرب لتسييره إلى حفظ بقائه بهما، وشهوة الجنس الملحّة لتسييره إلى ما اُريد له من التوالد وحفظ جنسه من الانقراض ما دامت الدنيا باقية؛ ولعلّ أشدّ الغرائز الأصيلة على الإطلاق في الإنسان ـ أو من أشدّها ـ هي غريزة حبّ البقاء، فلولا أنّ الإنسان خلق للبقاء لا للفناء لما اُودعت فيه هذه الغريزة.

أضف إلى ذلك دليلاً آخر على البقاء وهو مجموع حكم العقل بضرورة عالم الآخرة والجزاء من ناحية، وحكمه باستحالة إعادة المعدوم من ناحية اُخرى، فلو فرضنا فناء النفس بموت البدن وبانعدام الروح النباتية فيه ـ وهي روح النموّ وتوالد الخلايا والتغذّي ـ لما أمكن إرجاعها، ولو لم يمكن إرجاعها استحال له


(1) س 39 الزمر، الآية: 42.

308

الدخول في الآخرة، واستحالة ذلك توجب محذورين عقليين يبدو من القرآن الكريم الإصرار على التنبيه عليهما:

المحذور الأوّل: أن يكون خلق الإنسان عبثاً؛ فإنّ المفروض بنا أنّنا قد فرغنا من إثبات وجود الله وعلمه وحكمته، وعندئذ نقول: كلّ من تقدّم في السنّ في هذه الدنيا يعلم بالتجربة أنّ الحياة الدنيا ـ وبغضّ النظر عن عالم الآخرة ـ إن هي إلّا مجموعة آمال تتبخَّر، وآلام تغلب على اللذائذ، وفجائع تؤلم القلب وشيء من اللهو واللعب:﴿وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور﴾(1).

ولو قايس كلّ واحد منّا في ساعة وفاته بين أن يكون لم يولد ولم يمض عليه كلّ ما مضى، أو يكون قد ولد ومضى عليه كلّ ما كان وها هو الآن يفنى وينعدم وينهدم كلّ ما بنى وقد تحطّمت أكثر آماله، وسيبقى أولاده يعانون في حياتهم شبيها بما عانى هو، وينتهون إلى ما انتهى إليه هو وافترضنا عدم الإيمان بعالم آخر، لرجّح أغلب الناس ـ إن لم يكن جميعهم ـ الأوّل على الثاني ولو كانوا في ملكهم كسليمان بن داود، فكيف بالناس الاعتياديين والمحرومين الذين أدركوا بالحسّ والوجدان وبشكل واسع مغزى كلمة ﴿فَتَشْقَى﴾(2) التي أوحاها الله تعالى في أوّل يوم إلى أبينا آدم؟! أفلا يعني كلّ هذا أنّ خلقنا في أوّل يوم كان عبثاً؟

ولو طالعنا حياة حيوان قصير العمر يلتهي بتنفّس أيام وانتاج عدد من بني جنسه ثُمّ يموت وينعدم ألا نحسّ بتفاهة حياته ودناءة عالَمه؟ أو ليست حياتنا


(1) س 3 آل عمران، الآية: 185.

(2) إشارة إلي قوله تعالى: ﴿فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾. س 20 طه، الآية: 117.

309

كحياته بفرق امتداد في الزمن مئة مرّة مثلاً، وما هو بمزحزحنا من الفناء أن نعمّر ألف سنة، وبفرق أنّ آلامنا تفوق آلامه بكرّات المرّات؟ أفلا ترى أنّ هذا العبث لا ينتهي إلّا بأن يجد الإنسان طعم الحياة الحقيقية في عالم الآخرة، ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الاْخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون﴾(1)؟

ثُمّ إنّ الإنسان هو أرقى موجود سخّرت له السماوات والأرض والأفلاك والأملاك والهواء والطيور والحيتان والبهائم والطاقات وسائر النعم، ومع كلّ هذا نرى أنّ الشقاء والتعب لا ينفصلان عن أحد في الغالبية العظمى ـ على الأقل ـ إن لم يكن في الكلّ، فهل كان كلّ هذا عبثاً ولعباً من المولى سبحانه وتعالى؟!

وتنبيه القرآن الكريم على هذا الوجه قد ورد متكرّراً كقوله تعالى:

1 ـ ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُون﴾(2). اُنظر كيف ربط الله سبحانه وتعالى نفي العبث بالرجوع إليه، يعني لولا المعاد لكان خلقكم عبثاً، بل وردت هذه الآية في أعقاب آيات الجزاء من الثواب والعقاب حيث قال تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ * فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ


(1) س 29 العنكبوت، الآية: 64.

(2) س 23 المؤمنون، الآية: 115.

310

سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ * قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الاَْرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْم فَاسْأَل الْعَادِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ﴾(1).

2 ـ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُون﴾(2).

3 ـ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيل﴾(3).

وفي هذه الآية ترى أيضا أنه أعقب ذكر خلق السماوات والأرض بالحق لا باللعب بالتذكير بالمعاد.

4 ـ﴿أَيَحْسَبُ الاِْنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاُْنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِر عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾(4).

وفي هذه الآيات أعقب الله تعالى نفي ترك الإنسان سدىً بذكر القيامة من ناحية، وجعل كلّ هذا تعقيباً على ذكر الموت وأنّ الموت رجوع إلى الله تعالى من ناحية اُخرى؛ حيث قال سبحانه قبل هذه الآيات: ﴿كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ *


(1) س 23 المؤمنون، الآية: 101 ـ 115.

(2) س 21 الأنبياء، الآية: 16 ـ 18.

(3) س 15 الحجر، الآية: 85.

(4) س 75 القيامة، الآية: 36 ـ 40.

311

وَقِيلَ مَنْ رَاق * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذ الْمَسَاقُ * فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى * وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * أَيَحْسَبُ الاِْنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى﴾(1).

5 ـ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً﴾(2).

6 ـ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾(3).

7 ـ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الليْلِ وَالنَّهَارِ لآيَات لاُِّوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾(4).

وقد ورد في الحديث عن محمّد بن عمارة عن أبيه قال: سألت الصادق جعفر بن محمّد(عليه السلام)فقلت له: لِمَ خلق الله الخلق؟ فقال: «إنّ الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقه عبثاً ولم يتركهم سدىً، بل خلقهم لإظهار قدرته، وليكلّفهم طاعته فيستوجبوا بذلك رضوانه، وما خلقهم ليجلب منهم منفعة ولا ليدفع بهم مضرّة، بل خلقهم لينفعهم ويوصلهم إلى نعيم الأبد»(5).

وورد أيضاً في الحديث: «قال رجل لجعفر بن محمّد(عليه السلام): يا أباعبدالله، إنّا خلقنا للعجب! قال: وما ذاك الله أنت(6)؟ قال: خلقنا للفناء؟ فقال: مه يا ابن أخ خلقنا للبقاء، وكيف تفنى جنّة لا تبيد ونار لا تخمد؟! ولكن قل إنّما نتحوّل من


(1) س 75 القيامة، الآية: 26 ـ 36.

(2) س 38 ص، الآية: 27.

(3) س 44 الدخان، الآية: 38 ـ 40.

(4) س 3 آل عمران، الآية: 190 ـ 191.

(5) البحار 5: 313، الباب 15 من أبواب العدل، الحديث 2.

(6) الظاهر أن الصحيح: لله أنت.

312

دار إلى دار»(1).

المحذور الثاني: لو كان الموت نهايةً للإنسان فأين عدل الله؟

إنّ الحديث عن المعاد مترتّب على الفراغ من الاُصول الأوّليّة أي التوحيد والعدل والنبوّة والتكليف، ومن حقّنا أن نستفيد من تلك الاُصول الأوّليّة لإثبات الأصل الأخير، وعليه نقول: إنّ عدل الله سبحانه وتعالى ـ على ما يبدو لنا ـ يقتضي حقّانيّة المعاد لوجهين:

أحدهما: الجزاء على الأعمال، فصحيح أنّ مبدأ المالكيّة والمملوكيّة الحقيقيتين قد لا يُبقي في بعض مراحل الفهم العرفاني مجالاً لاستحقاق الأجر، ولكن مبدأ الاثنينيّة ـ ولو على مستوى الوجود الأصيل والوجود التعلّقي بحسب ما ثبت فلسفيّاً ـ يقتضي الأجر، ولا يحتمل بشأنه ـ وهو تعالى غنيّ على الإطلاق ـ التخلّف عن ذلك، ومن الواضح ضيق الدنيا عن هذا الجزاء، ولا سيّما بالقياس إلى المستويات الراقية من أنواع الفداء والإيثار والتضحية والطاعة، وبالمستوى المناسب لشأنه جلّ جلاله، لا المستوى المناسب لنا نحن العبيد


(1) المصدر السابق، الحديث 3.

وقد يقال: لو كان خلق الآخرة لأجل إخراج خلق الدنيا عن العبث فلم لم يقتصر الله سبحانه وتعالى على خلق الآخرة دون أن يجعلنا نمرّ على شقاء الدنيا؟ أفليست الحياة الاُخرويّة التي هي الحَيَوان بعيدة عن العبث واللغو؟ فلو كنّا مخلوقين للآخرة وكان بدؤنا فيها لما كان ذلك عبثا.

والجواب: لم يشأ الله سبحانه لنا أن نقتصر على السعادة المادّيّة عن طريق العيش في جنّة عرضها السماوات والأرض، بل شاء لنا أيضاً ما هو أكبر من ذلك، ألا وهو الكمال الروحي الذي يستحيل حصوله إلّا على أساسين: الاختيار والاختبار، فخلق الدنيا لأجل هذين الأمرين.

313

الخسيسين. أضف إلى ذلك أنّ خلف الوعد القطعي القرآني بمكافأة المؤمنين والمطيعين يقبح عليه تعالى، فيعتبر لوناً من مخالفة العدل.

ثانيهما: إنّ خلق الله جلّ جلاله للعالم وللبشر وللحياة ـ بكلّ ما تزخر بها من أنواع القدرة والاختيار اللذين قامت عليهما مختلف مصاديق العدل والظلم ـ استلزم وقوع الظلم والطغيان من قبل الطغاة على المظلومين من دون حدّ. وها نحن نشهد هذه الأيام الاستكبار العالمي الذي أثبت بظلمه لأفغانستان ولفلسطين وللعراق وغيرها فقدانه لأقلّ ذرّة من الوجدان والإنسانية، فهل يبقى ذلك بدون تدارك من قبل الحَكَم العدل؟! بل حتّى المصائب والمحن والآلام التي لا تطاق ممّا يقع على بعض الناس من جرّاء الطبيعة والحياة والأسباب التكوينية، لا نحتمل بشأنه تعالى تركها دون مكافأة فضلا عن ألوان الظلم والطغيان، وعالمنا هذا يضيق عن كلّ هذه المكافآت فلابدّ من عالم آخر يستحيل الوصول إليه لو كان الموت فناءً للنفس؛ وذلك لاستحالة إعادة المعدوم.

ونكتة العدل هذه قد أصرّ القرآن الكريم على الإشارة إليها في عديد من الموارد بشكل محرّك للوجدان البشري، وموقظ إيّاه من السبات نحو قوله تعالى:

1 ـ ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾(1) علماً بأنّ الآية وردت من بعد الإشارة إلى عذاب الآخرة ونعيمها بقوله تعالى: ﴿وَلَعَذَابُ الاْخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِين...﴾.

 


(1) س 68 القلم، الآية: 35 ـ 36.

314

2 ـ ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الاَْرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّار﴾(1).

ومن الطريف في هذه الآية المباركة أنّها متصلة بآية الدليل الأوّل، أعني لزوم العبث في خلق الدنيا، حيث وردت الآية هكذا: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الاَْرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّار﴾(2).

3 ـ﴿أمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون﴾(3).

وهذه الآية أيضا كما ترى جمعت بين لفت النظر إلى نكتة العدل والجزاء، ولفته إلى أنّه لولا ذلك لما كان خلق السماوات والأرض بالحقّ، بل كان باطلاً وعبثاً.

وهناك اعتبار عقليّ آخر يؤيّد فكرة وجود محكمة العدل الإلهية في يوم القيامة، وهو: أنّنا نرى هنا أنّه لم يُترك كلّ إنسان إلّا وزوّد بمحكمة إلهيّة بين جنبيه، تحكم وتقضي له وعليه بنور الله عزّ وجلّ، ألا وهو الوجدان، اللهمّ إلّا المجرمين الذين أطفؤوا نور وجدانهم بأيديهم بكثرة الإجرام، فكيف يترك هذا العالم المليء بالظلم والطغيان من ناحية، وبالتضحية والفداء والإيثار من ناحية اُخرى، من دون محكمة إلهيّة لا تقبل الخطأ ولا الدجل ولا تدع شكّاً في النفس


(1) س 38 ص، الآية: 28.

(2) س 38 ص، الآية: 27 ـ 28.

(3) س 45 الجاثية، الآية: 21 ـ 22.

315

تماماً كالمحكمة الصغيرة الموجودة هنا مع كلّ إنسان؟ وواضحٌ أنّ محكمة من هذا النمط لهذا العالم الكبير غير موجودة في الحياة الدنيا، أفلا يعني كلّ هذا أنّ هذه المحكمة هي المعبّر عنها في قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَكُلَّ إِنسَان أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً﴾(1)؟

 

 

* * *

 


(1) س 17 الإسراء، الآية: 13 ـ 14.

316

 

مصير النفس في البرزخ بين الموت والبعث

 

لا سبيل لنا إلى فهم مصير النفس البشريّة المجرّدة عن الجسم والباقية بعد موته ـ كما تقدّم البحث عن ذلك ـ إلّا بالأدلّة النقلية من الكتاب والسنّة، والمستفاد منها اُمور:

 

1 ـ الثواب والعقاب البرزخيّان

 

صرّح الكتاب الكريم في بعض أقسام الأموات بالمجازاة البرزخية لهم ثواباً أو عقاباً:

أمّا ما دلّ من الكتاب على الثواب فمن قبيل الآيات التالية:

1 ـ ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَة مِّنَ اللّهِ وَفَضْل وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِين﴾(1). فهذه الآية صريحة بشأن الشهداء بتمتّعهم بثواب الله وفضله في عالم البرزخ، وبالرزق الذي يحتمل فيه أن يكون معنوياً بحتاً منسجماً مع تجرّد النفس الذي دلّنا عليه العقل كما مضى، ويحتمل فيه أن يكون له حظّ بسيط شفّاف من المادّية بأن يفترض أنّ النفس تحلّ في عالم البرزخ ببدن مثاليّ وقالب لطيف مشابه لقالب البدن في هذه الدنيا، والله أعلم بالحقيقة.

2 ـ ﴿وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا


(1) س 3 آل عمران، الآية: 169 ـ 171.

317

مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ * وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَل مُّبِين * إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ * وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُند مِّنَ السَّمَاء وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُون﴾(1). وبالرغم من أنّ محلّ الشاهد هو قوله تعالى: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِين﴾ لكنني وجدت نفسي مضطرّاً لنقل هذا المقطع بكامله؛ كي تتّضح صراحة الآية في المطلوب. والقصّة التي تشير إليها هذه الآيات حسب ما هو المشهور لدى المفسّرين هي قصة رجل يسمّى حبيب النجّار، والدليل على أنّ قوله: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ...﴾راجع إلى ما بعد استشهاده لدى تكذيب قومه إيّاه، وبلحاظ ما بعد موته مباشرة وليس بلحاظ عالم القيامة، هو قوله تعالى بعد إخباره عن دخوله الجنّة: ﴿وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُند ...﴾، فإنّ هذا واضح في ارتباطه بالدنيا وبعد موته، فكأنّ الله تعالى يقول بعد أن استشهد الرجل: لم نكن بحاجة في إهلاك قومه إلى إنزال جند من السماء تهلكهم، ولم يكن من عادتنا ذلك، بل كفتهم صيحة واحدة لإهلاكهم وإخمادهم فكأنّهم لم يكونوا. إذن فهذا صريح في أنّ الأمر يخصّ ما بعد استشهاد الرجل ولا يرجع إلى يوم القيامة، فالآية إخبار عن دخوله الجنّة فور استشهاده، وهذا لا يكون إلّا عبارة عن جنّة البرزخ.

وأمّا ما دلّ من الكتاب على العقاب فمن قبيل الآيات التالية:

1 ـ ﴿وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَاب﴾(2). فهذه الآية صريحة في عذاب


(1) س 36 يس، الآية: 20 ـ 29.

(2) س 40 غافر، الآية: 45 ـ 46.

318

البرزخ؛ بدليل أنّها فصّلت بالأخير بين عذاب القيامة والعذاب الأوّل حيث قالت: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَاب﴾.

ويبدو من الآية المباركة أنّ عذاب البرزخ أهون من عذاب القيامة لشاهدين:

أحدهما: ذيل الآية وهو قوله: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَاب﴾.

ثانيهما: تخصيص عرضهم على النار في البرزخ بالغدوّ والعشيّ مع إطلاق إدخالهم العذاب يوم تقوم الساعة.

وقد يشهد لذلك أيضاً كلمة العرض، فكأنّهم لا يدخلون النار حتّى في الغدوّ والعشي وإنّما يُعرَضون عليها.

إلّا أنّ الذي يبدو لي أنّ العرض هنا من قبيل قولهم: عرضهم على السيف، بمعنى قتلهم بالسيف لا بمعنى مجرد إراءتهم إيّاه. ويشهد لهذا التفسير قوله سبحانه وتعالى: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً﴾(1)، فإنّ حمله على الإخبار عن المستقبل المحقّق الوقوع خلاف الظاهر، فيبدو أنّ عالم البرزخ ليس مجرد عالم إراءة الاُمور بل فيه جنّة حقيقية ورزق حقيقي ونار حقيقية، وهذا يؤيد احتمال أنّ النفس البشرية ترتبط في البرزخ ببدن برزخي وبمستوى رقيق من مستويات المادّة، والله أعلم بحقيقة الحال.

2 ـ ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُون﴾(2)، فالذي يظهر لنا من هذه الآية المباركة أنّ عذاب الهون يكون بعد إخراج الأنفس مباشرة والملائكة يبشّرون الظالم به في


(1) س 71 نوح، الآية: 25.

(2) س 6 الأنعام، الآية: 93.

319

حالة سكرات الموت.

3 ـ ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيق﴾(1).

 

هل الثواب أو العقاب البرزخيّان يعمّان جميع المؤمنين أو الفاسقين؟

قد ورد(2) في الروايات ما يدلّ بإطلاقه على أنّ الثواب أو العقاب يعمّان في البرزخ جميع المؤمنين والفاسقين، ولا يختصّ بالذين محضوا الإيمان محضاً أو محضوا الكفر محضاً، من قبيل:

1 ـ ما ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) من قوله: «القبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النار»(3).

2 ـ ما عن أبي بصير قال: قال أبو عبدالله(عليه السلام): «إنّ أرواح المؤمنين لفي شجرة من الجنّة يأكلون من طعامها ويشربون من شرابها ويقولون: ربّنا أقم الساعة لنا


(1) س 8 الأنفال، الآية: 50.

(2) قد يدّعى دلالة بعض الآيات على إطلاق الثواب والعقاب في البرزخ لكلّ الناس من قبيل قوله تعالى في سورة الواقعة (الآية: 83 ـ 94): ﴿فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ * فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيم * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيم * وَتَصْلِيَةُ جَحِيم﴾ بدعوى أنّ ظاهرها ثبوت الثواب والعقاب فور خروج الروح، أو أنّ الرَوح والريحان للبرزخ، وجنّة نعيم للآخرة، ونزل من حميم للبرزخ، وتصلية جحيم للآخرة، إلّا أنّ كلّ هذا غير واضح لدينا.

(3) البحار 6: 218.

320

وأنجز لنا ما وعدتنا وألحق آخرنا بأوّلنا»(1).

3 ـ ما عن أبي بصير قال: قال أبو عبدالله(عليه السلام): «إنّ الأرواح في صفة الأجساد في شجرة في الجنّة تعارف وتساءل، فإذا قدمت الروح على الأرواح يقول: دعوها فإنّها قد أفلتت من هول عظيم. ثُمّ يسألونها: ما فعل فلان وما فعل فلان؟ فإن قالت لهم: تركته حيّاً. ارتجوه، وإن قالت لهم: قد هلك. قالوا: قد هوى هوى»(2).

4 ـ ما عن أبي بصير عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن أرواح المؤمنين فقال: «في حجرات في الجنّة، يأكلون من طعامها ويشربون من شرابها ويقولون: ربّنا أقم الساعة لنا وأنجز لنا ما وعدتنا وألحق آخرنا بأوّلنا»(3).

إلّا أنّ عدداً من الروايات وردت بشأن المساءلة في القبر، تنصّ على أنّه لا يسأل في القبر إلّا من محض الإيمان محضاً أو محض الكفر محضاً والآخرون يلهى عنهم من قبيل:

1 ـ ما رواه أبو بكر الحضرمي قال: قال أبو عبدالله(عليه السلام): «لا يسأل في القبر إلّا من محض الإيمان محضاً أو محض الكفر محضاً والآخرون يلهون عنهم»(4).

2 ـ رواية عبدالله بن سنان عن الصادق(عليه السلام) قال: «إنّما يسأل في قبره من محض الإيمان محضاً والكفر محضاً، وأمّا ما سوى ذلك فيلهى عنهم»(5).

3 ـ صحيحة محمّد بن مسلم قال: قال أبو عبدالله(عليه السلام): «لا يسأل في القبر إلّا


(1) الكافي 3: 244، كتاب الجنائز، باب آخر في أحوال المؤمنين، الحديث 2.

(2) المصدر السابق، الحديث 3.

(3) المصدر السابق، الحديث 4.

(4) الكافي 3: 235، باب المسألة في القبر من كتاب الجنائز، الحديث 1.

(5) المصدر السابق، الحديث 2.

321

من محض الإيمان محضاً أو محض الكفر محضاً»(1).

ونحوها غيرها(2).

وربما يقال: إنّ القرآن الكريم قد أيّد هذه الفكرة؛ حيث صرّح في عدّة موارد بأنّ الكفّار يرون في يوم القيامة أنّهم لم يلبثوا إلّا قليلاً، كساعة من النهار أو يوم أو عشرة أيام، في حين أنّهم لو كانوا في العذاب في عالم البرزخ ولم يكونوا في سبات لأحسّوا بثقل العذاب وطوله، ولما تخيّلوا أنّهم ما لبثوا إلّا قليلاً.

والآيات التي تصرّح بعدم إحساسهم بشيء وبتخيّل عدم مرور الزمان عليهم عديدة من قبيل:

1 ـ ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذ زُرْقاً * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً﴾(3).

2 ـ ﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْم فَاسْأَل الْعَادِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُون﴾(4).

3 ـ ﴿وَقَالُوا ءَإِذا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً ءَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * قُل كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً﴾(5).

4 ـ ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَة كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالاِْيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ


(1) المصدر السابق: 236، الحديث 4.

(2) راجع نفس الباب.

(3) س 20 طه، الآية: 102 ـ 104.

(4) س 23 المؤمنون، الآية: 112 ـ 114.

(5) س 17 الإسراء، الآية: 49 ـ 52.

322

فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * فَيَوْمَئِذ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُون﴾(1).

فهذه الآيات كلّها واضحة في أنّهم كانوا في سبات، ولم يحسّوا بثقل العقاب وبمرور الزمان، أي أنّهم كانوا قبل ذلك في حالة من قبيل حالة الذي أماته الله مئة عام ثُمّ أحياه، أو من قبيل حالة أصحاب الكهف في منامهم؛ إذ ورد نظير هذا التعبير في هاتين القصّتين:

ففي القصّة الاُولى قال الله تعالى: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَة وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِـي هَـذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَام ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْم قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَام...﴾(2). فهذا طبعاً لم يكن المفروض به أن يمرّ بالإحساس بالحياة البرزخية، ولم يحسّ بشيء؛ لأنّه كان في سبات فقال: ﴿لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْم﴾.

وفي القصّة الثانية قال الله تعالى: ﴿فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً * وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْم قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ...* وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِئَة سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً﴾(3). فهؤلاء كانوا في سبات النوم؛ ولهذا لم يحسّوا بالزمان. فالذي يبدو أنّ عالم البرزخ أيضا تكون له في الغالب هكذا حالة، فيقول الكافرون في يوم القيامة: لم نلبث إلّا يوماً أو ساعة أو عشرة أيّام.

إلّا أنّ الظاهر هو أنّ تفسير هذه الآيات الراجعة إلى عالم البعث بهذا النحو غير صحيح؛ لأنّها تنظر إلى الكفّار والمجرمين، ومتيقّنها هم الذين محضوا الكفر


(1) س 30 الروم، الآية: 55 ـ 57.

(2) س 2 البقرة، الآية: 259.

(3) س 18 الكهف، الآية: 11 ـ 12 و 19 و 25.

323

محضاً، وقد عرفت أنّهم المتيقّن ممّن لهم عذاب البرزخ، كما أنّ الذين محضوا الإيمان محضاً هم المتيقّن ممّن يتنعّمون بثواب البرزخ، وإلّا فأين ذهبت آية عدّ الشهداء أحياءً عند ربّهم يرزقون، أو آية عذاب قوم فرعون في البرزخ؟! وعليه فالظاهر أنّ نظر تلك الآيات الدالّة على حالة السبات في ما قبل البعث ليس إلى عالم البرزخ، بل النظر إلى ما بين النفختين المتعلّقتين بيوم القيامة، قال الله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُون﴾(1)، والذي يظهر من إطلاق الآية المباركة هو أنّ الصعق الذي يحصل على أساس النفخة الاُولى يشمل كلّ من في السماوات والأرض بما فيهم الذين ماتوا قبلاً وانتقلوا إلى البرزخ، كما روي ذلك عن الاحتجاج للطبرسي عن أبي عبدالله(عليه السلام): «قال السائِل: أفيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق؟ قال: بل هو باق إلى وقت ينفخ في الصور، فعند ذلك تبطل الأشياء وتفنى فلا حسّ ولا محسوس، ثُمّ اُعيدت الأشياء كما بدأها مدبّرها، وذلك أربع مئة سنة يسبت فيها الخلق، وذلك بين النفختين»(2).

ويؤيّد فكرة السبات بين النفختين قوله سبحانه وتعالى بشأن الكفّار في يوم القيامة: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوج مِّن سَبِيل﴾(3). فتصوّر أنّ الموتين عبارة عن فقداننا للروح حينما كنّا جماداً وعن موتنا في آخر حياتنا الدنيوية، والحياتين عبارة عن حياتنا في الدنيا وبعثنا يوم القيامة، يبدو أنّه تصوّر ساذج؛ لأنّنا قبل الحياة الدنيا لم نمت وإنّما كنّا عادمين الحياة من أوّل الأمر، وهذا لا يصدق عليه عنوان الإماتة. فالظاهر أنّ


(1) س 39 الزمر، الآية: 68.

(2) كنز الدقائق 11: 337 نقلاً عن الاحتجاج: 350، وانظر البحار 6: 217.

(3) س 40 غافر، الآية: 11.

324

المقصود بالموتين موتنا في آخر حياة الدنيا وموتنا لدى النفخة الاُولى، وأنّ المقصود بالحياتين حياتنا في الدنيا وبعثنا لدى النفخة الثانية، فهذه الآية أيضاً داعمة لفكرة السبات بين النفختين.

أقول: فالمقصود بالآيات التي تحكي عن لسان الكفّار في يوم البعث: أنّهم ما لبثوا إلّا ساعة أو زمناً يسيراً ليست هي الإشارة إلى عالم البرزخ كي ينافي الثواب والعقاب البرزخيين الثابتين بآيات اُخرى، بل هي الإشارة إلى السبات الواقع بين النفختين.

وبهذا يتضح معنىً معقول للاستثناء الوارد في الآية الكريمة عن الصعق؛ حيث قالت: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّه﴾، وتوضيح الكلام في ذلك يبدأ بسؤال عن هذا الاستثناء حيث يقال: كيف يستثنى بعض من الموت؟ أفليس الموت ثابتاً للكلّ؟ ومن هنا جاء الجواب في بعض التفاسير بأنّ هذا استثناء لبعض الملائكة الذين يتأخّر موتهم عن المرّة الاُولى لنفخ الصور كإسرافيل صاحب الصور أو كملك الموت قابض الأرواح. أمّا بناءً على التفسير الذي قلناه فلا حاجة إلى أصل هذا السؤال؛ لأنّ من لا يصعق يمكن أن يكون من أرواح عالم البرزخ التي ماتت قبلاً، فليس هذا استثناءً من الموت، ويؤيّد ذلك ما ورد من تفسير المستثنون بالشهداء الذين قتلوا في سبيل الله(1).

وهنا نرجع إلى ما كنّا فيه من انقسام الروايات إلى قسمين:

فمنها ما قد يستظهر منه عموم الإحساس بالحياة البرزخية لجميع الأموات.

ومنها ما يستفاد منه اختصاص السؤال في القبر بمن محض الإيمان محضاً ومن محض الكفر محضاً والآخرون يلهى عنهم، فلو فسّر الإلهاء بالإلهاء


(1) كنز الدقائق 11: 335 نقلاً عن مجمع البيان.

325

حتّى عن الثواب والعقاب والإحساس بالحياة البرزخيّة وقع التعارض بين الطائفتين.

وهناك ما يمكن أن يفترض شاهد جمع بين الطائفتين من قبيل صحيح ضريس الكناسي عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) قال: «قلت له: جعلت فداك، ما حال الموحّدين المقرّين بنبوّة محمّد(صلى الله عليه وآله) من المسلمين المذنبين الذين يموتون وليس لهم إمام ولا يعرفون ولايتكم؟ فقال: أمّا هؤلاء فإنّهم في حفرهم لا يخرجون منها، فمن كان له عمل صالح ولم يظهر منه عداوة فإنّه يخدّ له خدّاً إلى الجنّة التي خلقها الله بالمغرب، فيدخل عليه الروح في حفرته إلى يوم القيامة حتّى يلقى الله فيحاسبه بحسناته وسيّئاته، فإمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النار، فهؤلاء الموقوفون لأمر الله. قال: وكذلك يفعل بالمستضعفين والبله والأطفال وأولاد المسلمين الذين لم يبلغوا الحلم، وأمّا النصّاب من أهل القبلة فإنّه يخدّ لهم خدّاً إلى النار التي خلقها الله في المشرق، فيدخل عليهم اللهب والشرر والدخان وفورة الحميم إلى يوم القيامة، ثُمّ بعد ذلك مصيرهم إلى الجحيم»(1).

فلعلّ هذه الرواية تشهد على أنّ الذين عبّرت عنهم بتعبير: «فهؤلاء الموقوفون لأمر الله» هم اُولئك الذين عبّرت عنهم الروايات السابقة بتعبير: «يلهى عنهم»، فليس المقصود بالإلهاء عنهم نفي إحساسهم بالحالة البرزخيّة نهائيّاً، بل المقصود هو تركهم من دون سؤال من ناحية، ومن دون إخراج الروح من القبر إلى جنّة البرزخ أو نار البرزخ من ناحية اُخرى، بل يدخل عليهم روح في حفرتهم من جنّة البرزخ ويُتركون هكذا إلى يوم القيامة، ثُمّ يحاسَبون هناك بحسابهم، فإمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النار.

 


(1) البحار 6: 286، باب جنّة الدنيا ونارها، الحديث 7 نقلاً عن تفسير عليّ بن إبراهيم، وانظر البحار 6: 289، نفس الباب، الحديث 14 نقلاً عن الكافي، وانظر أيضاً الكافي 3: 247، باب جنّة الدنيا من كتاب الجنائز، الحديث 1.

326

 

2 ـ البدن المثالي

 

إنّ المستفاد من بعض روايات البرزخ هو أنّ النفس تتعلّق بعد سلب البدن الدنيوي عنها بقالب مثالي يشبه القالب المادّي البحت، فتتعارف النفوس فيما بينها بذلك القالب، وبسببه يكون لها حظّ من المادّيّة ليست كمادّيّة البدن المفهومة لدينا هنا، ويتحقّق بذلك أخذ الحيّز والحلول في المكان والتحرّك وما إلى ذلك، ويجري لها ما يجري من الثواب والعقاب أو السؤال والجواب عن طريق القالب المثالي.

وكأنّ الثواب التامّ أو العقاب التامّ للنفس يتوقّف على امتلاك البدن المادّي التامّ، وبسلب البدن المثالي عنها بالنفخة الاُولى ينسلب عنها ما كان لها من الثواب والعقاب البرزخيين، وببعثها النهائي بالنفخة الثانية وإرجاع البدن المادّي البحت إليها في يوم القيامة يتحقّق لها الثواب التامّ أو العقاب التامّ.

وممّا يدلّ على هذا البدن المثالي أو القالب البرزخي صحيحة أبي ولاّد الحنّاط عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «قلت له: جعلت فداك، يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش فقال: لا، المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير، ولكن في أبدان كأبدانهم»(1)، ومعتبرة أبي بصير قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): إنّا نتحدّث عن أرواح المؤمنين أنّها في حواصل طيور خضر ترعى في الجنّة وتأوي إلى قناديل تحت العرش، فقال: لا، إذن ما هي في حواصل طير. قلت: فأين هي؟ قال: في روضة كهيئة الأجساد في الجنّة»(2).

 


(1) الكافي 3: 244، باب آخر في أرواح المؤمنين من كتاب الجنائز، الحديث 1.

(2) المصدر السابق: 245، الحديث 7.

327

 

3 ـ ضغطة القبر

 

إنّ ضغطة القبر هي أوّل شدّة من شدائد البرزخ على ما يبدو من بعض الأخبار، ففي الحديث عن الصادق(عليه السلام)عن أبائه(عليهم السلام) عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «ضغطة القبر للمؤمن كفّارة لما كان منه من تضييع النعم»(1).

وفي حديث آخر: «إنّه ليس من مؤمن إلّا وله ضمّة»(2).

وفي حديث آخر عن عبدالله بن سنان عن الصادق(عليه السلام) «قال: اُتي رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقيل له: إنّ سعد بن معاذ قد مات. فقام رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقام أصحابه معه، فأمر بغُسل سعد وهو قائم على عضادة الباب، فلمّا أن حنّط وكفّن وحمل على سريره تبعه رسول الله(صلى الله عليه وآله) بلا حذاء ولا رداء، ثُمّ كان يأخذ يمنة السرير مرّة ويسرة السرير مرّة حتّى انتهى به إلى القبر، فنزل رسول الله(صلى الله عليه وآله)حتّى لحّده وسوّى اللبن عليه وجعل يقول: ناولوني حجراً، ناولوني تراباً رطباً يسدّ به ما بين اللبن، فلمّا أن فرغ وحثا التراب عليه وسوّى قبره قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): إنّي لأعلم أنّه سيبلى ويصل البلى إليه، ولكن الله يحبّ عبداً إذا عمل عملاً أحكمه. فلمّا أن سوّى التربة عليه قالت اُمّ سعد: يا سعد، هنيئاً لك الجنّة! فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): يا اُمّ سعد، مَهْ لا تجزمي على ربّك! فإنّ سعداً قد


(1) البحار 6: 221، الباب 8 من أبواب الموت وما يلحقه إلى وقت البعث، الحديث 16.

(2) المصدر السابق، الحديث 19.

328

أصابته ضمّة. قال: فرجع رسول الله(صلى الله عليه وآله) ورجع الناس فقالوا له: يا رسول الله، لقد رأيناك صنعت على سعد ما لم تصنعه على أحد، إنّك تبعت جنازته بلا رداء ولا حذاء. فقال(صلى الله عليه وآله): إنّ الملائكة كانت بلا رداء ولا حذاء فتأسّيت بها. قالوا: وكنت تأخذ يمنة السرير مرّة ويسرة السرير مرّة. قال: كانت يدي في يد جبرئيل آخذ حيث يأخذ. قالوا: أمرت بغسله وصلّيت على جنازته ولحّدته في قبره ثُمّ قلت: إنّ سعداً قد أصابته ضمّة! قال: فقال(صلى الله عليه وآله): نعم إنّه كان في خلقه مع أهله سوء»(1).

وفي حديث آخر عن أبي بصير قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): أيفلت من ضغطة القبر أحد؟ قال: فقال: نعوذ بالله منها، ما أقلّ من يفلت من ضغطة القبر! إنّ رقيّة لمّا قتلها عثمان وقف رسول الله(صلى الله عليه وآله) على قبرها فرفع رأسه إلى السماء، فدمعت عيناه وقال للناس: إنّي ذكرت هذه وما لقيت فرققت لها واستوهبتها من ضمّة القبر. قال: فقال: اللهمّ هب لي رقيّة من ضمّة القبر. فوهبها الله له...»(2).

وفي صحيحة يونس قال: سألته عن المصلوب يعذّب عذاب القبر؟ قال: فقال: «نعم إنّ الله عزّ وجلّ يأمر الهواء أن يضغطه»(3).

وهناك روايات كثيرة تبيّن اُموراً تقتضي رفع ضمّة القبر عن الميّت من قبيل:

1 ـ ما ورد عن الصادق(عليه السلام): «من مات ما بين زوال الشمس يوم الخميس إلى زوال الشمس من يوم الجمعة أعاذه الله تعالى من ضغطة القبر»(4).

2 ـ ما ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «من قرأ سورة النساء في كلّ جمعة أمن


(1) المصدر السابق: 220، الحديث 14.

(2) الكافي 3: 236، باب المسألة في القبر من كتاب الجنائز، الحديث 6.

(3) المصدر السابق: 241، الحديث 16.

(4) سفينة البحار: «قبر».

329

ضغطة القبر»(1).

3 ـ ما ورد عن الصادق(عليه السلام): «من قرأ (ن والقلم) في فريضة أو نافلة أعاذه الله إذا مات من ضمّة القبر»(2).

4 ـ ما ورد في صحيحة منصور بن حازم: «من حجّ أربع حجج لم تصبه ضغطة القبر أبداً»(3).

وقال المرحوم الشيخ عبّاس القمي(رحمه الله) في سفينة البحار في مادّة النجف: «من خواصّ تربته إسقاط عذاب القبر، وترك محاسبة منكر ونكير للمدفون هناك كما وردت به الأخبار الصحيحة عن أهل البيت(عليهم السلام)».

قال(رحمه الله): «وروي عن القاضي بن بدر الهمداني الكوفي ـ وكان رجلاً صالحاً ـ قال: كنت في جامع الكوفة ذات ليلة، وكانت ليلة مطيرة، فدقّ باب مسلم جماعة ففتح لهم، وذكر بعضهم أنّ معهم جنازة فأدخلوها وجعلوها على الصفّة التي تجاه مسلم بن عقيل(عليه السلام)، ثُمّ إنّ أحدهم نعس فرأى في منامه قائلاً يقول لآخر: ما تبعثر(4) حتّى نبصر هل لنا معه حساب؟ وينبغي أن نأخذه منه عَجَلاً قبل أن يتعدّى الرصافة فما يبقى لنا معه طريق. فانتبه وحكى لهم المنام فقال: خذوه عَجَلاً. فأخذوه ومضوا به في الحال إلى المشهد الشريف»(5).

وورد بشأن المؤمن بمذهب أهل البيت(عليهم السلام) عن الصادق(عليه السلام): «إذا حيل بينه وبين الكلام أتاه رسول الله(صلى الله عليه وآله) ومن شاء الله(6)، فجلس رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن يمينه


(1) المصدر السابق.

(2) المصدر السابق.

(3) البحار 99: 20، الباب 2 من أبواب الحجّ والعمرة، الحديث 74.

(4) بعثر: نظر وفتّش.

(5) سفينة البحار 8: 189 ـ 190.

(6) كأنّه كناية عن أمير المؤمنين(عليه السلام) وحذف الاسم للتقيّة.

330

والآخر عن يساره، فيقول له رسول الله(صلى الله عليه وآله): أمّا ما كنت ترجو فهو ذا أمامك، وأمّا ما كنت تخاف منه فقد أمنت منه. ثُمّ يُفتح له باب إلى الجنّة فيقول: هذا منزلك من الجنّة، فإن شئت رددناك إلى الدنيا ولك فيها ذهب وفضّة. فيقول: لا حاجة لي في الدنيا. فعند ذلك يبيضّ لونه ويرشح جبينه و...، فإذا خرجت النفس من الجسد فيعرض عليها كما عرض عليها وهي في الجسد، فتختار الآخرة، فتغسّله في من يغسّله وتقلّبه في من يقلّبه، فإذا اُدرج في أكفانه ووضع على سريره خرجت روحه تمشي بين أيدي القوم قُدُماً، وتلقاه أرواح المؤمنين يسلّمون عليه ويبشّرونه بما أعدّ الله له جلّ ثناؤه من النعيم، فإذا وضع في قبره رُدّ إليه الروح إلى وَرِكَيه ثُمّ يسأل عمّا يعلم، فإذا جاء بما يعلم فتح له ذلك الباب الذي أراه رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فيدخل عليه من نورها وضوئها وبردها وطيب ريحها».

قال قلت: جعلت فداك فأين ضغطة القبر؟ فقال: «هيهات ما على المؤمنين منها شيء، والله إنّ هذه الأرض لتفتخر على هذه فتقول: وطأ على ظهري مؤمن ولم يطأ على ظهرك مؤمن. وتقول له الأرض: والله لقد كنت اُحبّك وأنت تمشي على ظهري، فأمّا إذا وُلّيتك فستعلم ما أصنع بك فتفسح له مدّ بصره»(1).

 

4 ـ ارتباط أهل البرزخ بنا

 

يبدو أنّ عالم البرزخ باعتبار وسطيّته بين عالم الدنيا وعالم الآخرة ليس منقطعاً تمام الانقطاع عن عالم الدنيا، فقد يصل أهل البرزخ شيء من عالمنا وإن


(1) اُنظر الكافي 3: 129 ـ 130، باب ما يعاين المؤمن والكافر من كتاب الجنائز، الحديث 2.

331

كنّا نحن لانحسّ بوصول شيء إلينا من عالمهم:

فأوّلاً: قد تتفق لمن انتقل إلى البرزخ إمكانية زيارة أهله، كما دلّت على ذلك صحيحة حفص بن البختري عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «إنّ المؤمن ليزور أهله فيرى ما يحبّ ويستر عنه ما يكره، وإنّ الكافر ليزور أهله فيرى ما يكره ويستر عنه ما يحبّ، قال: ومنهم من يزور كلّ جمعة، ومنهم من يزور على قدر عمله»(1).

وثانياً: قد يسمعون صوتنا حينما نكون قريبين من مكان تواجدهم، كما قد يُفهم ذلك من كلام عليّ(عليه السلام) وقد رجع من صفّين فأشرف على القبور بظاهر الكوفة: «يا أهل الديار الموحشة والمحالّ المقفرة والقبور المظلمة، يا أهل التربة، يا أهل الغربة، يا أهل الوحدة، يا أهل الوحشة، أنتم لنا فَرَط سابق ونحن لكم تبع لاحق. أمّا الدور فقد سُكنت، وأمّا الأزواج فقد نُكحت، وأمّا الأموال فقد قُسّمت. هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم؟» ثُمّ التفت إلى أصحابه فقال(عليه السلام): «أما لو اُذن لهم في الكلام لأخبروكم: أنّ خير الزاد التقوى»(2).

وقد روى في تفسير پيام قرآن(3) عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) حينما ألقوا أجساد المشركين في معركة بدر في البئر أنّه(صلى الله عليه وآله) وقف إلى جنب البئر وقال: «يا أهل القليب، هل وجدتم ما وعد ربّكم حقّا؟ فإنّي وجدت ما وعدني ربّي حقّا»، قالوا: يا رسول الله هل يسمعون؟ قال(صلى الله عليه وآله): «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكن اليوم لا يجيبون».

وفي البحار عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنّه وقف على قليب بدر ـ يعني بئر بدر ـ فقال


(1) الكافي 3: 230، باب أنَّ الميت يزور أهله من كتاب الجنائز، الحديث 1.

(2) نهج البلاغة، الحكمة 130.

(3) پيام قرآن 5: 457.