32

قبيل: قبح قتل الناس وإيذائهم بلا سبب، وحسن إعانة العاجز ونحو ذلك، فالذي لا يدرك ـ حتّى بعد إلفاته إلى مثل هذه الأمثلة الواضحة ـ الحسن والقبح والفضيلة والرذيلة لا يمكن إثبات ذلك له بأيِّ برهان من البراهين، والذي يدرك ذلك فبالإمكان أن يُطرَح أمامه احتمالان:

الأوَّل: احتمال أن يكون هذا الإدراك حقَّانيّاً ونابعاً من حاقِّ النفس.

والثاني: احتمال أن يكون ذلك ناشئاً من العادة أو الشهرة أو الدين أو القانون أو العاطفة أو ما إلى ذلك، فبعد طرح هذين الاحتمالين عليه إن احتمل صحّة الثاني، زال عنه ذلك الإدراك، ولا يمكن إرجاعه إليه ببرهان صحيح، وإن لم يحتمل صحّة الثاني لم يحتج إلى برهان.

ونحن نؤمن بهذا المِقياس، ونعتقد رجوع المقاييس الأُخرى الصحيحة ولو في الجملة بقدر مِقياسيَّتها إلى هذا المِقياس، كمِقياس الدين، أو مِقياس المصلحة والمفسدة.

ومن أراد التوسع أكثر من هذا فليراجع كتابنا مباحث الأُصول الجزء الأوَّل من القسم الثاني بحث الاعتماد على الحكم العقليِّ لاستنباط الأحكام الشرعيّة في قبال الأخباريين المنكرين لذلك.

 

المِقياس السابع ـ نظريّة الأوساط أو الوسط العادل:

إنَّ لحكماء اليونان ومن تابعهم في الأُسلوب كلمات كثيرة في بيان الفضيلة والرذيلة، ولم نعلم هل كانوا حقّاً بصدد ذكر ضابط يُرجَع إليه في مقام تمييز الفضيلة عن الرذيلة، أو لا؟ ونحن نذكر منها هنا ثلاث كلمات:

الكلمة الأُولى: ما نُقِل عن سقراط: من أنَّه ليست هناك في الحقيقة إلاَّ فضيلة

33

واحدة، وهي: المعرفة. وقد نُقِل عنه(1) ما يرجع إلى تحديد مِقياسيّة المعرفة. وتفسيرها بجانبين:

الأوَّل ـ الجانب السلبيُّ، وهو: أنَّه لا خير إلاَّ بالعلم، فإنَّ الإنسان لو عمل عملاً لا يعلم بخيريَّته فليس خيراً ولا فضيلة.

والثاني ـ الجانب الإيجابي، وهو: أنَّ من عَلِم علماً تاماً بأنَّ الشيء خير، فعلمه يحمله حتماً على عمله، ومعرفته بضرر شيء تحمله حتماً على تركه، وليس أحد يعمل الشرَّ وهو عالم بنتائجه، فكلُّ الشرور ناتجة من الجهل.

وشيء من الجانبين غير صحيح:

أمَّا الجانب السلبيُّ فلأنَّ الخير لا يتقوّم بالعلم بكونه خيراً، فمَنْ يُكرِم الناس أو المجتمع ويُعين المظلوم فقد فعل خيراً، وكان متَّصِفاً بصفة حسنة، ولو لم يعلم هو بخيريّة هذا الفعل وهذه الصفة. وقد ثبت في علم الأُصول أنَّ الشيء يستحيل أن يتقوَّم بالعلم بنفسه.

نعم، حسن السريرة وسوء السريرة يتقوَّمان بمدى انكشاف موضوع حسن الفعل وقبحه، ومدى قصد الفاعل لذلك الموضوع، كما أنَّ سوء السريرة يتقوَّم بمدى انكشاف نفس قبح الفعل، وليس فقط بانكشاف موضوعه، فمن تربّى ـ مثلاً ـ في بيئة تعتبر أنَّ النهب والغارة والتهجّم شجاعة حسنة واعتقد بذلك، ففعله لذلك لا يدلُّ على سوء سريرته، ولكن فعله قبيح على أيِّ حال، والذم ينصبُّ على الفعل ولا ينصبُّ على سريرة الفاعل.

وأمّا الجانب الإيجابيُّ فلأَنَّه ليس كلُّ مَنْ يعلم بخيريّة الخير وشريَّة الشرِّ وكان ملتفتاً إلى الآثار والنتائج كان من المحتَّم أنّه سوف يتَّجه نحو الخير ويترك الشر؛ لأنَّ الحاكم في النفس البشريّة ليس منحصراً في العقل حتّى يتبع ما يراه حقّاً


(1) كتاب الأخلاق: 193.

34

وصحيحاً، بل العواطف والشهوات والميولات النفسيّة كلُّها ممَّا يُصدِر الحكم في نفس الإنسان، بمعنى تأثيره في تحديد إرادة الإنسان وشوقه. وما أكثر مَنْ يعرف الحقَّ أو الخير أو الصلاح ويخالفه، ومن يعلم الشرَّ أو المفسدة ويرتكبه.

على أنَّه لو كان مقصود صاحب هذا الكلام جعل مِقياس وضابط يرجع إليه في مقام تمييز الفضيلة عن الرذيلة، قلنا: لا يمكن جعل الضابط عبارة عن العلم ـ حتّى لو آمنَّا بالجانبين السلبي والإيجابي ـ بل الضابط بهذا المعنى يجب أن يكون شيئاً آخر؛ لأنَّ الضابط المميِّز هو الذي يُورِث العلم بالخيريّة أو الشرِّيّة، فلا يمكن أن يكون هو نفس العلم.

الكلمة الثانية: ما اشتهر بينهم: من أنَّ أُصول الفضائل أربعة: الحكمة، والعفَّة، والشَّجاعة، والعَدل، وبياناتهم في حصر أُصول الفضائل مختلفة:

فمنها: ما نُقِلَ عن أفلاطون تلميذ سقراط: من أنَّ في الإنسان قوى ثلاث:

العاقلة، وهذه إذا اعتدلت نشأت عنها فضيلة الحكمة.

والقوّة الغضبيّة، وهذه إذا اعتدلت نشأت عنها الشَّجاعة.

والقوّة الشهويّة أو البهيميّة، وهذه إذا اعتدلت نشأت عنها العفَّة. وهذه الفضائل الثلاث باعتدالها ينشأ عنها العَدل، فالعَدل تتَّصف به النفس عند أداء هذه القوى الثلاث وظائفها باعتدال وعندما تكون متساندة بحيث تتعاون كلُّ قوَّة مع الأُخرى(1).

ومنها: أنَّ النفس ذات قوى أربع: العاقلة، والعاملة، والشهويّة والغضبيَّة. وتنشأ الفضيلة من إطاعة القوى الثلاث الأخيرة للأُولى، فبإطاعة القوّة العاملة للعاقلة واعتدالها تحصل الحكمة، وبإطاعة القوّة الشهويّة لها واعتدالها تحصل العفَّة، وبإطاعة القوّة الغضبيّة لها واعتدالها تحصل الشَّجاعة. ثُمَّ تحصل من حصول هذه


(1) منقول عن كتاب الأخلاق: 196.

35

الفضائل الثلاث ـ المترتب على تسالم القوى الأربع وانقهار الثلاث تحت الأُولى ـ حالة متشابهة هي كمال القوى الأربع وتمامها، وهي: العَدالة(1).

ولا يخفى أنَّه على هذين الوجهين لا يمكن عدُّ العَدالة فضيلة مستقلَّة تجاه الفضائل الثلاث الأُخرى إلاَّ بلقلقة اللسان، ولا تتحصَّل من وراء الحكمة والعفَّة والشَّجاعة من هذين البيانين فضيلة أُخرى اسمها العدالة. وبعد فرض اعتدال القوى الثلاث ونشوء الحكمة والعفَّة والشَّجاعة ما معنى فرض اعتدال آخر فيما بينها ؟!

( هذا. وهم يقصدون بالقوّة الغضبيّة مبدأ دفع غير الملائم وبقوّة الشهوة مبدأ جلب الملائم )(2).

ومنها: أنَّ النفس ذات قوى أربع، وهي ما مضت: من العاقلة، والعاملة، والشهويّة، والغضبيّة. ويحصل من تهذيب العاقلة العلم والحكمة، ومن تهذيب العاملة العَدالة، ومن تهذيب الغضبيّة الحلم والشَّجاعة، ومن تهذيب الشهويّة العفَّة والسخاء(3).

والنراقيُّ في جامع السعادات بالرغم من ذهابه إلى هذا الوجه يرى أنَّ العَدالة ليست فضيلة مستقلَّة في مقابل سائر الفضائل حيث يقول: إنَّ العَدالة عبارة عن انقياد العاملة للعاقلة في استعمال نفس العاقلة وقوَّتي الغضب والشهوة. فليست وراء فضائل العاقلة والغضب والشهوة ـ التي تحصل باستعمال العاملة لها ـ فضيلةٌ أُخرى(4).


(1) مأخوذ من جامع السعادات 1/70.

(2) مأخوذ من المصدر السابق: 69.

(3) المصدر السابق: 69.

(4) راجع المصدر السابق: 72.

36

وليس من الصحيح ما جاء في الوجهين الأخيرين: من افتراض قوّة عاملة في النفس (وهي مبدأ تحريك البدن) في مقابل قوَّتي الغضب والشهوة، وهما مبادئ دفع غير الملائم وجلب الملائم، فإنَّهما بنفسهما عاملتان ومحرِّكتان بلا حاجة إلى فرض قوَّة عاملة أُخرى.

كما أنَّ ما في هذه الوجوه الثلاثة من حصر قوى النفس المرتبطة بالأوصاف والأفعال في هذه القوى الثلاث أو الأربع لا مُبرِّر له، فمثلاً: قوّة العطف والرقَّة والترحُّم على الضعيف والمظلوم قوّة تحبِّذ للإنسان نصرة الضعيف والمظلوم، لا من باب أنَّ هذا جلب لما يلائم النفس أو دفع لما ينافرها، بل تكون نصرة الضعيف والمظلوم ملائمة للنفس، وتركها منافراً لها في طول هذه القوّة.

هذا بناءً على افتراض وجود قوّة ـ حقّاً باسم قوّة جلب الملائم، وقوّة أُخرى ـ حقّاً باسم قوّة دفع المنافر وراء نفس القوى التي جعلت الملائم ملائماً والمنافر منافراً.

وأمَّا بناءً على ما لا تبعد صحته من أنَّ قوّة جلب الملائم أو دفع المنافر عبارة عن نفس القوى الملائمة لبعض الأشياء والقوى المخالفة لبعضها، فهي بمعونة القدرة وقوّة العضلات تحرّك الإنسان نحو الجلب والدفع. إذن ففرض كلٍّ من قوتي جلب الملائم ودفع المنافر أو كلٍّ من قوتي الشهوة والغضب قوّة واحدة ليس إلاّ لعباً بالالفاظ وتسميةً لعنوان انتزاعيٍّ انتزع من مجموعة قوى باسم قوّة واحدة.

وأمّا كلمة الاعتدال التي جاءت في بعض هذه الوجوه فقد ترجع إلى نظريَّة الأوساط التي سيأتي الكلام عنها في الكلمة الثالثة.

الكلمة الثالثة: هي نظريّة الأوساط أو الوسط العادل. فقد نُقِلَ عن أرسطو أنّه كان يذهب إلى أنّ جِماع الفضائل «خضوع الشهوات لحكم العقل وتسليم زمام الشهوات للعقل يقودها» فللفضيلة عنصران: العقل والشهوة، فلا بدَّ من شهوة

37

لتُضبَط. فالزهَّاد الذين يقتلعون الشهوات من جذورها في ضلال مبين، إنَّهم ينسون أو يجهلون أنَّ الشهواتِ جزء أساس من الإنسان، فاستئصالها ضارٌّ بطبيعته مُضيِّع لشطر منه، بل إنَّ استئصال الشهوات مضيِّع للفضيلة؛ لأنَّ الفضيلة ـ كما بيَّنا ـ معناها شهوات موجودة يضبطها العقل، لا شهوات مستأصلة.

وبكلمة أُخرى: الفضيلة شهوات معتدلة، ومن ثمَّ كان هناك طرفان ينبغي تجنُّبهما: الطرف الأوّل محاولة استئصال الشهوات. والطرف الثاني إرخاء العنان لها، إنَّما الفضيلة الاعتدال بحيث لا تطغى الشهوات على العقل ولا يطغى العقل عليها فتستأصل. فهذا القول جرَّ أرسطو إلى وضع نظريّة الأوساط، أي: أنَّ كلَّ فضيلة وسط بين رذيلتين: رذيلة الإفراط ورذيلة التفريط، فالشَّجاعة وسط بين التهوُّر والجبن، والكرم وسط بين السرف والبخل، والعفَّة وسط بين الفجور والخمود ... وهناك فضائل لم تضع اللُّغة أسماء لطرفيها الرذيلين، ولكن هذا لا ينفي أنَّ الفضيلة في هذه الحالة ـ أيضاً ـ وسط بين رذيلتين(1).

وهل المقصود الوسط الحقيقيُّ أو الوسط النسبيُّ والإضافيُّ؟

يظهر من كتاب جامع السعادات أنَّ الفضيلة الكاملة هي الوسط الحقيقيُّ، ولكن الوسط المعتبر هنا هو الإضافيّ؛ لتعذّر وجدان الحقيقيّ والثبات عليه؛ لكونه في حكم نقطة غير منقسمة؛ ولذا تختلف الفضيلة باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان، فربَّما كانت مرتبة من الوسط الإضافيِّ فضيلة بالنظر إلى شخص أو حال أو وقت، ورذيلة بالنسبة إلى غيره، ومَنْ هو متصف بفضيلة من الفضائل لا يمكن الحكم بكون تلك الفضيلة هي الوسط الحقيقيّ إلاّ أنّه لمَّا كانت تلك الفضيلة قريبة إليه ولا يمكن وجود الأقرب منها إليه له يحكم بكونها وسطاً إضافيّاً؛ لأقربيتها إليه بالنسبة إلى سائر المراتب، فالاعتدال الإضافيُّ له عرض،


(1) مأخوذ من كتاب الأخلاق: 196.

38

وسطه الاعتدال الحقيقيُّ، وطرفاه طرفا الإفراط والتفريط، إلاّ أنَّه ما لم يخرج عن هذين الطرفين يكون اعتدالاً إضافيّاً، وكُلَّما كان أقرب إلى الحقيقيِّ كان أكمل وأقوى، وإذا خرج عنهما دخل في الرذيلة(1).

ولم نعرف من هذا الكلام ماهو الميزان في حدود الوسط الإضافيّ إلاَّ أن يكون المقصود: أنَّ الميزان هو قدرة الشخص، أي: أنّه إذا عجز عن الوصول إلى الوسط الحقيقيِّ فالفضيلة بالنسبة لكلِّ شخص هي أقرب النقاط إلى الوسط الحقيقي ممّا يمكنه الوصول إليه.

ثُمَّ لو كان مقصودهم ـ حقّاً ـ جعل الوسط مِقياساً يرجع إليه لتشخيص الفضيلة والرذيلة، وتمييز إحداهما عن الأُخرى، فهذا أمر غير ممكن؛ إذ لا يمكن تعيين الوسط بمثل الشبر والذراع قبل معرفة الفضيلة، بل يجب أن نعرف الفضيلة أوَّلاً، وعن طريق معرفتنا لها نعرف أنَّ طرفيها إفراط وتفريط، وأنَّها هي الوسط، فهذا ليس مِقياساً بمعنى كونه مميِّزاً للفضيلة والرذيلة.

على أنّه لا برهان ولا وجدان يحكم على أنَّ الفضيلة في كلِّ شيء وبالقياس إلى كلِّ صفة إنَّما هي الوسط.

وقد قال أحمد أمين في كتاب الأخلاق(2): إنَّ هناك كثيراً من الفضائل لا يظهر فيها أنَّها أوساط بين رذائل كالصدق والعَدل، فليس هناك إلاّ كذب أو صدق، وعدل أو ظلم. وقول ابن مسكويه: إنَّ العَدل وسط بين الظلم والانظلام لعب بالألفاظ دعاه إليه تصحيح كلام أرسطو، فليس الانظلام إلاَّ أثر الظلم.

أقول: إنَّ الاعتراض عليهم بالنقض بمثل الصدق والكذب، أو الإرشاد والتضليل باعتبار أنّه لا تُتصوَّر في طرفي الفضيلة رذيلتان تعتبر الفضيلة وسطاً


(1) مأخوذ من جامع السعادات 1/78 و 79.

(2) كتاب الأخلاق: 197.

39

بينهما، لو عُرِضَ عليهم فمقتضى المشي على مشاربهم وأساليب بحثهم أن يجيبوا عن ذلك بأنَّ الصدق والكذب، أو الإرشاد والتضليل(1) ـ مثلاً ـ ليسا من الفضائل والرذائل الأصيلة، بل يرجعان إلى الفضائل الأربع وأطرافها، كما قال في جامع السعادات(2): إنَّ الكذب في القول إذا نشأ من العداوة أو الحسد أو الغضب، كان من رذائل قوّة الغضب، وإذا نشأ من حبّ المال والطمع أو الاعتياد الحاصل من مخالطة أهل الكذب، كان من رذائل قوّة الشهوة.

فالنراقيُّ(رحمه الله) يعدِّد مناشئ الكذب في القول ويرجعها إلى أُصولها، فمثلاً إذا نشأ الكذب من قوّة الغضب فهو واقع في أحد طرفي الإفراط أو التفريط للغضب، والحدُّ الوسط له هو الشَّجاعة، وهكذا.

إلاَّ أنَّ هذا الجواب ـ الذي في أكبر الظنّ سوف يجيبون به لو وجِّه إليهم الإشكال ـ لا يسمن ولا يغني من جوع؛ إذ هذا إنَّما يتمُّ لو قلنا: إنَّ الصدق والكذب، أو الإرشاد والتضليل ليسا بما هما حسناً وقبيحاً، وإنَّما يتصفان بالحسن والقبح لدخولهما ـ مثلاً ـ في التهوُّر أو الجبن، وهما قبيحان، أو في الشَّجاعة، وهي حسن، في حين أنّه ليس الأمر كذلك، فقبح الكذب أو التضليل ـ مثلاً ـ ثابت حتّى لو فرض عدم نشوئهما من التهوُّر أو الجبن، أو من أيِّ طرفين من طرفي الإفراط والتفريط التي تذكر للفضائل الأربع.

وممَّا يشهد لذلك أنَّهم قد فسَّروا التهوُّر الذي هو طرف الإفراط للشجاعة بالإقدام على ما ينبغي الحذر منه، والجبن الذي هو طرف التفريط للشجاعة


(1) هذا التعبير الثاني فرقه عن التعبير الأوّل أنّه يشمل التورية ـ أيضاً ـ ولا يختصّ بالكذب.

(2) جامع السعادات 2/246.

40

بالحذر ممّا ينبغي الإقدام عليه(1) فأَخذوا في موضوع التهوُّر والجبن عنوان ما ينبغي، وهذا معناه ثبوت انبغاء وعدم انبغاء (وهو حقيقة الأخلاق) قبل التهوُّر والجبن.

ولو تأمّلت فيما ذكرناه لا نفتح عليك باب واسع لنسف الأُسس التي أُسِّس عليها علم الأخلاق في مثل كتاب جامع السعادات.

وأمّا النقض بالعَدالة والظلم فإنَّما يرد على مبنى عدِّ العَدالة فضيلة مستقلَّة في مقابل سائر الفضائل، ولا يرد على مثل النراقيّ في جامع السعادات.

وعلى أيِّ حال، فما قيل من أنَّ العَدالة وسط بين الظلم والانظلام مَهْزلةٌ من الكلام، فإنَّ الانظلام يُقصَد به هنا قبول الظلم وعدم دفعه، فإن عُدَّ هذا مشاركة في الظلم مع الظالم؛ لأنَّه كما لا يجوز ظلم الآخرين كذلك لا يجوز ظلم النفس إذن، فالانظلام ظلم وليس طرفاً آخر للعدالة غير الظلم، وإلاَّ فليس الانظلام قبيحاً.

ومن النقوض التي ترد عليهم مثال الحكمة لو بنينا على ما بنوا عليه من عدِّ الحكمة من الفضائل.

وقد جاء في كتاب جامع السعادات(2): أَنَّ حقيقة الحكمة هو العلم بحقائق الأشياء على ماهي عليه، وهو موقوف على اعتدال القوّة العاقلة، فإذا حصلت لها حِدَّة خارجة عن الاعتدال تخرج عن الحدِّ اللائق، وتستخرج أُموراً دقيقة غير مطابقة للواقع، والعلم بهذه الأُمور هو ضدُّ الحكمة من طرف الإفراط، وإذا حصلت لها بلادة لا ينتقل إلى شيء فلا يحصل لها العلم بالحقائق، وهذا هو الجهل، وهو ضدُّه من طرف التفريط، فالحكمة وسط بين طرفين: الجربزة والبله، أو السفسطة (أي الحكمة المموّهة) والجهل (أي البسيط منه).


(1) جامع السعادات 1/81 .

(2) جامع السعادات 1 /80 و 81 .

41

أقول: لا أدري كيف جعل استخراج أُمور دقيقة غير مطابقة للواقع إفراطاً في القوّة العاقلة وحِدَّة لها، أفهل ترى لو استعملت القوّة العاقلة أكثر ممّا يُسمّى بالحدِّ الوسط أوجبت خطأً ولماذا؟ أوليست قوّة العقل والإدراك كلَّما اشتدَّت في الإنسان وقوي الإنسان على استعمالها كان ترقُّب كشف الحقائق أكثر؟! وليس استعمال قوّة التفكير بمنهج غير صحيح وموجب للوقوع في الخطأ إلاَّ نقصاً في عرض نقص عدم استعمال تلك القوّة أو البلادة الموجب للجهل البسيط، وجعل استعمال القوّة العاقلة بالنحو الصحيح وسطاً بين عدم استعمالها رأساً واستعمالها بشكل غير صحيح ليس ـ أيضاً ـ إلاَّ تلاعباً بالألفاظ.

 

المِقياس الثامن ـ حسن العَدل وقبح الظلم:

بمعنى أنَّ العناوين التي تحمل بذاتها الحسن والقبح إنَّما هي العَدل والظلم، وما سواهما يكون حسناً إذا دخل في العَدل، وقبيحاً إذا دخل في الظلم، فضرب اليتيم ـ مثلاً ـ ليس في ذاته حسناً أو قبيحاً، ولكنّه حينما يدخل في العَدل كما في ضرب وليِّه إيّاه لغرض التأديب يكون حسناً، وحينما يدخل في الظلم كما لو كان لغرض الإيذاء لا التأديب يكون قبيحاً. ومن هنا لا ترى مجتمعاً أو شخصاً اعتياديّاً يناقش في حسن العدل أو قبح الظلم، ولكن يجري الاختلاف في حسن أو قبح عناوين أُخرى؛ نظراً لاختلافهم في دخولها في العَدل أو الظلم.

ثُمَّ إنَّنا لو فسَّرنا العَدالة بمعنىً يكون مترتِّباً على سائر الفضائل، من قبيل ما مضى عن بعضهم: من أنَّ الفضائل الثلاث ـ وهي: الحكمة، والعفَّة، والشجاعة ـ إذا اعتدلت نشأ عنها العَدل، فلا معنى لفرض العَدالة والظلم مِقياساً للفضيلة والرذيلة، بمعنى كونهما رأس الخيط لذلك.

ولو فسَّرنا العَدالة ـ كما مضى عن بعض آخر ـ بأنَّها عبارة عن انقياد العاملة للعاقلة في استعمال نفس العاقلة وقوتيْ الغضب والشهوة، كان هذا عبارة أُخرى عن أنَّ مِقياس الفضيلة والرذيلة هو العقل.

42

إلاَّ أنَّ هذه التفاسير للعَدالة لا ترجع إلى محصَّل، ولا نتصوَّر قوّة عاملة في البشر محرِّكة لسائر القوى كالقوة الغضبيّة التي فسَّروها بقوّة دفع المنافر، والشهويّة التي فسَّروها بقوّة جلب الملائم، أفليست هاتان القوّتان هما العاملتين، فتحتاجان إلى قوّة أُخرى تحركهما تُسمّى بالقوّة العاملة؟! كما لا نتصوّر فرضيّة كون سائر الفضائل موجبة لانتزاع فضيلة جديدة اسمها العَدالة.

وخير ما يقال في تفسير العَدالة والظلم هو: أنَّ العَدالة عبارة عن إعطاء ذي الحقِّ حقَّه، والظلم عبارة عن سلب ذي الحقِّ حقَّه.

وما قد يقال من: (أنَّ العَدالة عبارة عن وضع الشيء في موضعه، والظلم عبارة عن وضعه في غير موضعه) لا نفهم له مفهوماً إلاَّ برجوعه إلى ما قلناه: من إعطاء ذي الحقِّ حقَّه، وسلب ذي الحقِّ حقَّه. وأنت ترى أنّه لا معنى لثبوت الحقِّ إلاّ الانبغاء والضرورة الخُلُقيّة، فمعنى أنَّ فلاناً له حقٌّ عليَّ أن لا أُوذيه أو حقُّ أن أُحسن إليه هو: أنّه من الضرورة الخُلُقيّة وممّا ينبغي أن لا أُوذيه أو أُحسن إليه، وليس هذا إلاّ عبارة عن الحسن والقبح أو الفضيلة والرذيلة، إذن، فقولنا: العدل حسن أو الظلم قبيح قضيّة ضروريّة بشرط المحمول، وقد أُخذ محمولها في موضوعها، ويرجع روحها إلى أنَّ الحسن حسن والقبيح قبيح. وهذا هو السرُّ في أنّك لا ترى إنساناً اعتياديّاً يشكّك في هاتين القضيتين، فإنَّ الإنسان الاعتياديَّ لا يشكّك ـ طبعاً ـ في الضروريّة بشرط المحمول.

ومن هنا يتّضح أنَّ جعل العَدل والظلم مِقياساً للفضيلة والرذيلة ليس ـ أيضاً ـ إلاّ لَعِباً بالألفاظ.

وقد تحصَّل بكلِّ ما ذكرناه أنَّ الحسن والقبح أمران واقعيّان يدركهما العقل، وأنَّ المِقياس الأوّلي لهما هو درك العقل بالضرورة، ولهما مقاييس أُخرى مؤيَّدة من قبل العقل: كالدين الصحيح، وكالمصلحة والمفسدة في الجملة، كما أشرنا إليه فيما مضى.

43

 

 

 

 

النقطة الثانية

حقيقة الوجوب والاستحباب

أو الحرمة والكراهة في منطق العقل العملي

 

بعد أن عرفنا واقعيّة الحسن والقبح وإدراك العقل لهما، ولو على مستويات مختلفة ممّا وصل إليه الناس من الدرك بحسب اختلافهم في مستوى كمالهم العقليِّ بالحركة الجوهريّة، وأسمينا ذلك بالعقل العمليِّ، يقع الكلام في حقيقة الوجوب والاستحباب، أو الحرمة والكراهة في منطق العقل العمليِّ.

والواقع: أنَّ الحديث عن الفرق بين الوجوب والاستحباب، أو بين الحرمة والكراهة في منطق العقل العمليِّ يختلف عن الحديث عن ذلك في فقه الشريعة، ففي الفقه يقال عادة: إنَّ الفرق بين الوجوب والاستحباب هو: أنَّ الوجوب طلبٌ من الشريعة لا يطيب المشرِّع نفساً بمخالفة العبد له. والاستحباب طلبٌ من الشريعة يطيب المشرِّع نفساً بمخالفة العبد له.

وبتعبير أدقّ ـ حسب تحقيق نقَّحناه في علم الأُصول ـ: إنَّ الاستحباب طلبٌ مرافق لرغبة المولى في كون العبد حرَّاً في تصرّفه وأن لا يحسّ بالحرج ولا بدّيّة الإتيان بذلك الفعل. والوجوب طلب لا يرافق رغبة من هذا القبيل، بل يريد المولى إلزام العبد وتقيُّده بذلك المطلوب. وقلْ بنظير ذلك في الفرق بين الحرمة والكراهة.

وسواءٌ عبَّرنا بتعبير طيب نفس المولى بالترك وعدمه أو عبَّرنا بتعبير رغبة

44

المولى في حرّيّة العبد وعدمها، فالتعبير بكلا شكليه إنَّما يناسب فقه الشريعة؛ لأنَّ للمولى أمراً ونهياً ورغبةً وحكماً، وهذا لا يأتي في بحثنا عن العقل العملي؛ لأنَّ العقل ليس له حكم ورغبة بمعنى الكلمة، وإنَّما العقل شأنه الدرك لا أكثر، فلابدَّ من بيان فرق آخر في المُدرَك بالعقل العملي بين الوجوب والاستحباب، أو الحرمة والكراهة.

وما يمكن أن يُفتَرض في المقام كتفسير للفرق بين الأمرين أحد تفاسير ثلاثة:

فأوَّل تفسير قد يخطر في الذهن هو التفسير باختلاف الدرجة، بأن نقول: إنَّ الحَسَن الشديد الحُسن هو الواجب والقبيح الشديد القبح هو الحرام، وما بينهما متوسطات، والمتوسط الحقيقيُّ بينهما يكون مباحاً عقلاً لا يعدُّ فضيلة ولا رذيلة، فكأنَّ لدينا سُلَّماً واحداً، وقع في الدرج الأسفل النهائيِّ منه أشدُّ الرذائل المحرّمة، وفي الدرج الأعلى النهائيِّ منه أشدُّ الفضائل الواجبة، وبينهما متوسطات يخفُّ قبحها أو حسنها بمقدار بُعدها عن أحد القطبين، ويكون الوسط الحقيقيُّ في هذا السُلَّم هو رفُّ المباحات.

إنَّ هذا التفسير يشتمل على بعض المفارقات من قبيل:

1 ـ إنَّنا لا نمتلك حَدّاً مشخِّصاً لفصل الواجبات عن المستحبات، فيا تُرى هل يُفترض أنَّ الحسنَ البالغَ المترتبة السبعين هو الواجب، وما نقص عنه ولو مرتبة واحدة هو المستحب مثلاً أم ماذا؟

2 ـ إنّ لازم ذلك أن يصحَّ القول بأنَّ كلَّ ماهو حسن فنقيضه قبيح؛ لأنَّ الفعل ونقيضه ككفَّتي الميزان، وبقدر ما يصعد أحدهما ينزل الآخر، فبقدر ما يقترب الحُسن إلى ذروة السُلَّم يقترب نقيضه إلى أسفله، في حين أنّ هذا خلاف الوجدان، فإنّنا نرى بوجداننا أنَّ العفو حَسن وفي مرتبة عالية من الحسن، ولكنَّ القصاص ليس قبيحاً، وكيف يكون قبيحاً وهو حقٌّ؟! والحقَّانيّة لا تجتمع مع القبح.

45

3 ـ إنَّه لو وقع التزاحم بين قبيح في أقلِّ مراتب الحرمة وحَسَن غير بالغ مرتبة الوجوب، لزم أن يجوز ارتكاب ذاك القبيح، وتنتفي حرمته؛ وذلك لأنّه سيتنزَّل عن قبحه ولو جزئيّاً بالمزاحمة مع الحَسَن، وبهذا التنزَّل يخرج من حريم الحرمة؛ لأنّنا كنَّا قد فرضناه في المراتب الدنيا من الحرمة.

مثال ذلك:

ما لو كان كشف سرٍّ مختصر عن أَمر له ألف طرف يؤدِّي إلى الإضرار بواحد منهم إضراراً خفيفاً، وفي نفس الوقت يؤدِّي إلى نفع تسع مئة وتسعة وتسعين نسمة نفعاً كبيراً، فكانوا راضين بكشف السرِّ، ولم يكن تحقيق هذا النفع واجباً علينا، فياتُرى هل يصبح كشف السرِّ هذا جائزاً عقلاً، ولا نكون مُلزَمين أمام ذاك الواحد؛ لأجل أنّه استلزم نفع كثير من الناس ممّا لم يكن واجباً؟! كلاَّ إنّ ضميرنا لا يدلَّ على ذلك. وكذلك ضرب يتيم ضربةً ضعيفة لا يبكي منها إلاّ دقائق موجباً لنفع آخرين نفعاً هائلاً في غير ما يكون واصلاً حَدَّ الوجوب كإنجاء النفس من الهلكة مثلاً، فهل يجوز ظلم هذا اليتيم باقلِّ ظلم في سبيل إدخال نفع هائل في جيب آخرين والذي لولا استيجابه لظلم اليتيم لكان من أفضل الأعمال غير الواجبة؟! كلاَّ.

وعليه فلننتقل إلى تفسير ثان للوجوب والاستحباب، أو للحرمة والكراهة في باب الفضائل والرذائل العقليتين، وهو: أن نفترض للفضائل والرذائل سُلَّمين متباينين بدلاً عمّا مضى من افتراض سُلَّم واحد لها جميعاً، فهناك سُلَّم للفضائل، وهي: ما يكون فعلها حسناً، وسلم آخر للرذائل، وهي: ما يكون فعلها قبيحاً. وهما سُلَّمان متوازيان لا يلتقيان، ولا يستلزم حسن الشيء قبح نقيضه وبالعكس. ونفترض الفرق بين الوجوب والاستحباب فرق درجة، وكذلك الفرق بين الحرمة والكراهة.

46

وهذا التفسير ـ أيضاً ـ باطل؛ لأنّه لا يخلو من بعض المفارقات، من قبيل:

1 ـ لم يتّضح لنا ما هو الحَدُّ الدقيق بين الوجوب والاستحباب، والمفروض أنَّ الواجبات والمستحبَّات في سُلَّم واحد، والفرق بينهما فرق درجة. وكذلك لم يتَّضح لنا ما هو الحَدُّ الدقيق بين الحرمة والكراهة، والمفروض أنَّ المحرمات والمكروهات في سُلَّم واحد، والفرق بينهما فرق درجة. ولا أظن إمكان الوصول إلى حدٍّ مائز إلاّ بالاعتباط.

2 ـ يلزم من ذلك عدم استبطان الوجوب لعنصر الإلزام؛ لأنَّ الإلزام مساوق للذَّم على الترك، والذَّم على الترك مساوق لقبح الترك، وقد فرضنا عدم استلزام الحُسن قبح النقيض، وبالعكس. ولا معنى لفرض مساوقة شدة الحسن لقبح النقيض، فإنَّ الحسن الشديد لو ساوق قبح النقيض شديداً لكان الحسن الخفيف ـ أيضاً ـ مساوقاً لقبح النقيض، ولكن بدرجة أخفّ. وهذا رجوع إلى التصوير الأوّل الذي كان السلم فيه واحداً، أيْ: كان الحسن والقبح فيه عبارة عن نسبة كلّ من الفعل والترك إلى نقيضه في درجة الرجحان.

وعليه، فينحصر الأمر في التفسير الثالث، وهو أن يقال: إنَّ للحسن والقبح سُلَّمين: سُلَّم للحسن وسُلَّم للقبح، ويكون سُلَّم الحسن هو سُلَّم المستحبات والمكروهات، أيْ: أنَّ كلَّ حسن مستحب ونقيضه مكروه، وسلم القبح هو سلم الواجبات والمحرّمات، أيْ: أنَّ كلَّ قبيح حرام ونقيضه واجب.

وبكلمة أُخرى: إنَّ الحسن مهما بلغ ذروته لا يستبطن الإلزام، وإنَّما الإلزام عنصر مستبطن في القبح، فإنَّ الإلزام عبارة أُخرى عن استحقاق الذم على المخالفة، وهو عبارة أُخرى عن قبح المخالفة.

إذن، فالفرق بين الواجب والمستحبِّ في منطق العقل العملي عبارة عن أنَّ المستحبَّ ما لا يحكم العقل العملي بقبح تركه وإن حكم بحسن فعله، وعنصر

47

الحسن غير عنصر قبح الترك. ومهما صعد الحسن في سُلَّمه لا يعني قبح الترك، فالمستحبُّ ما يكون حسناً وليس تركه قبيحاً، كالعفو، والواجب ما يكون تركه قبيحاً، سواءٌ كان فعله حسناً بحسن آخر أو كان حسن فعله عبارة أُخرى عمَّا فيه من الاحتراز عن القبيح. وأيضاً نقول: المكروه العقليُّ ما يكون تركه حسناً من دون أن يكون فعله قبيحاً، وذلك من قبيل: القِصاص في مورد يحسن العفو. والحرام العقلي ما يكون فعله قبيحاً، سواءٌ كان تركه حسناً بحسن آخر أو كان حسن تركه عبارة أُخرى عمَّا فيه من الاحتراز عن القبيح.

ومثال ذلك:

إيذاء شخص بلا سبب فإنَّه قبيح وحرام عقلاً، وتركه لا حسن فيه إلاّ بمعنى مجانبة القبح؛ ولذا ترى أنَّ فاعل الإيذاء يستحقُّ الذمَّ والتقاصَ من قبل الشخص المؤذى، ولكن تارك الإيذاء لا يستحقَّ شكراً من قبل الشخص الذي لم يؤذه(1).


(1) مأخوذ من كتابنا مباحث الأُصول الجزء الأوّل من القسم الأوّل مبحث دلالة الأمر على الوجوب. تحت الخط ( مخطوط ).

48

 

49

 

 

 

 

النقطة الثالثة

في الجبر والاختيار

 

لا يخفى أنَّنا لو لم نؤمن بالحسن والقبح كمفهومين واقعيَّين خُلُقيَّين يستتبعان ـ عقلاً ـ استحقاق المدح والذمِّ، لا من سنخ مدح اللؤلؤ على ضوئه وبهائه وذمِّ حجر كريه المنظر على كراهة منظره، بل من سنخ استحقاق خُلقيٍّ يستتبع الثواب والعقاب، بل فرضنا أنّ الحسن والقبح ـ مثلاً ـ ليسا إلاّ أمرين اعتباريَّين ومجعولين من قبل العقلاء أو الشرع أو القانون؛ لحفظ المصالح ودرْء المفاسد، فهذا المعنى الخاوي للحسن والقبح عن المغزى الخُلُقيِّ ينسجم مع الجبر، كما ينسجم مع الاختيار، فحتَّى لو قلنا بالجبر قلنا: إنَّ جعل الحسن والقبح من قبل العقلاء أو القانون أو الشرع وفرض ثواب وعقاب على ذلك، إنَّما كان لفائدة انعطاف الإنسان إلى حفظ المصالح ودرْء المفاسد ولو جبراً.

ولكن بعد فرض الإيمان بأنَّ الضرورة الخُلُقيّة ـ وهي الانبغاء وعدم الانبغاء ـ أمرٌ واقعيٌّ يتبعه المدح والذمُّ الخُلُقيّان عن استحقاق عقليٍّ، وكذلك الثواب والعقاب، (وهذا ما ادَّعينا أنَّ الضمير والوجدان شاهدان عليه) فهذا لا ينسجم إلاَّ مع فرض الاختيار؛ لشهادة الوجدان بأنَّ المجبور لا يستحقُّ مدحاً ولا ذمّاً ولا ثواباً ولا عقاباً؛ كما أنَّ حركة يد المرتعش لا تمدح ولا تذمُّ ولا يثاب عليها ولا يعاقب عليها إن ترتّب عليها شيء.

50

والواقع: أنَّ اختيار الإنسان ليس شيئاً يثبت بالبرهان، وإنَّما هو أمر ثابت بالوجدان.

وقد اشتهر لتوضيح الاختيار التمثيل برغيفيْ الجائع وطريقيْ الهارب، فياتُرى لو آمَنَّا بالجبر وعدم صدور الفعل إلاّ بمرجِّح يؤثِّر قهراً في النفس أفلا يعني ذلك: أنَّ هذا الجائع لو لم يكن له مرجِّح لأحد الرغيفين فسوف يموت جوعاً. وهذا الهارب لو لم يكن له مرجِّح لأحد الطريقين فسوف يستسلم لافتراس الأسد مثلاً أو لوقوعه في أسر العدوِّ؟! أوليست هذه النتيجة أمراً بديهيِّ البطلان؟!

والواقع: أنَّ ذكر هذه الأمثلة لو قُصِدت به البرهنة على الاختيار بما اتَّفق حتَّى الآن في العالَم من أمثال هذه الأمثلة، وأنَّنا لم نرَ ـ ولا مرّة واحدة ـ أنَّ مَنْ ابتُلي بشيء من هذا القبيل ـ مع دوران حاله بين فعلين لم يعرف مرجِّحاً لأحدهما على الآخر ـ ترك الفعلين واستسلم للمحذور الذي يقع فيه لدى ترك الفعلين، أمكن الإيراد عليه باحتمال وجود مرجِّح في الواقع مؤثِّر في لا شعوره غير ملتفت هو إيّاه تفصيلاً.

أمّا لو قُصِد بذكر مثل هذه الأمثلة مجرّد تنبيه الوجدان على الاختيار، فهذا الاعتراض لا يرد عليه؛ لأنَّ المقصود بذكر هذه الأمثلة ـ عندئذ ـ تنبيه الوجدان الحاكم بأنّه حتَّى لو لم يكن في الواقع وفي اللاّشعور مرجِّح لأحد الأمرين لن يستسلم هذا الشخص للموت بالجوع أو بافتراس الأسد أو لأيِّ مشكلة أُخرى، بل يختار أحد الأمرين من دون مرجِّح.

والانصاف: أنَّ هذه الأمثلة من خير المنبِّهات على الوجدان الحاكم بالاختيار.

وكذلك من خير المنُبِّهات على ذلك الوجدان الخُلُقيّ والاستحقاق الخُلُقيّ للمدح والذمِّ والثواب والعقاب في أفعال الناس؛ لأنّ ذلك لا يمكن أن يكون على الأفعال غير الاختياريّة.

51

والذي يقف أمام الخضوع لحكم الوجدان بالاختيار هو البرهان الفلسفي المتخيَّل لإثبات الجبر، فنحن لسنا بحاجة إلى إقامة البرهان على الاختيار، وإنّما نحن بحاجة إلى بطلان برهان الجبر؛ كي يعمل الوجدان بعد إبطال برهان الجبر عمله في النفس، ويتَّضح لصاحب الشبهة الاختيار بعد زوال شبهته.

والبرهان الفلسفيُّ للجبر مؤتلف من مقدّمتين:

الأُولى: أنَّ الاختيار ينافي الضرورة، فإنَّ الضرورة تساوق الاضطرار المقابل للاختيار، من قبيل حركة يد المرتعش التي هي ضروريّة.

والثانية: أنَّ صدور الفعل من الإنسان يكون بالضرورة؛ لأنَّ الفعل الصادر منه ممكن من الممكنات، فتسوده القوانين السائدة على عالَم الإمكان والتي منها أنَّ الممكن ما لم يجب بالغير لم يوجد، فبالجمع بين هاتين المقدّمتين يثبت أنَّ الإنسان غير مختار في أفعاله؛ إذ لا يصدر عنه فعلٌ إلاَّ بالضرورة والضرورة تنافي الاختيار.

والبحث هنا مفصَّل، والوجوه والآراء حول الجواب عن ذلك متشعِّبة، وذكرها مع تقييمها لا يناسب المقام وبإمكانك ـ لو أردت التفصيل ـ أن تراجع كتابنا مباحث الأُصول الجزء الأوّل من القسم الأوّل ضمن بحث (دلالة الأمر على الوجوب) والجزء الأوّل من القسم الثاني ضمن بحث (الحسن والقبح العقليين)(1).

ونحن نقتصر هنا على ذكر ما أفاده أُستاذنا الشهيد الصدر(رحمه الله) في المقام ردّاً على مبنى فلسفيّ معروف.

ذلك أنَّ الفلاسفة ذكروا: إنَّ نسبة شيء إلى شيء ـ بعد فرض إخراج الامتناع من المقسم ـ إمّا هي الوجوب أو الإمكان، فنسبة الشيء إلى قابله هي الإمكان


(1) مباحث الأُصول الجزء الأوّل من القسم الثاني: 527 ـ 534.

52

وإلى فاعله هي الوجوب، وقد قالوا بذلك في تمام عوالم الإمكان، بلا فرق بين الأفعال الاختياريّة وغيرها، فحركة يد المشلول وتحريك اليد اختياراً سيَّان في هذا الأمر، ومن هنا جاءت شبهة الجبر.

ولكنَّ الواقع: أنَّ تخيّل انحصار النسبة في الوجوب والإمكان غير صحيح، وأنَّ نسبة الفعل الاختياري إلى فاعله نسبة ثالثة، هي: بالتعبير الاسمي: نسبة (السلطنة) وبالتعبير الحرفي: نسبة (له أن يفعل وله أن لا يفعل) والقاعدة العقليّة المعروفة القائلة: (إنَّ الشيء ما لم يجب لم يوجد) ليست ـ بدقيق معنى الكلمة ـ صادقة، وإنَّما الصحيح لو أردنا أن نعبِّر بتعبير دقيق هو: أنَّ الشيء لا يوجد إلاَّ بالوجوب أو السلطنة، فموضوعها هو الجامع بين الوجوب والسلطنة لا نفس الوجوب فحسب. نعم، بما أنَّ السلطنة غير موجودة في العلل التكوينيّة فوجود معلولاتها لا يكون إلاّ بالوجوب.

وما ادَّعيناه من وجود نسبة أُخرى إلى صفِّ نسبة الوجوب والإمكان يكون ـ بحسب عالم التصور ـ بديهيّاً كبداهة الوجوب والإمكان، والوجود والعدم، فلا غبار ـ بحسب عالم التصور ـ على وجود نسبة ثالثة في قِبال نسبة الوجوب والإمكان، فهذه غير الوجوب وغير الإمكان.

أمّا أنَّها غير الوجوب فللتضادِّ الواضح بين عنوان (له أن يفعل) وعنوان (لا بدَّ له أن يفعل).

وأمَّا أنَّها غير الإمكان فلأَنَّ الإمكان عبارة عن القابليّة، وهي: التأهُّل للقبول، وهذا مفهوم لا يُتصوَّر إلاَّ بين الشيء وقابله دون الشيء وفاعله بخلاف مفهوم (له).

وقاعدة أنَّ (الشيء ما لم يجب لم يوجد) ليست قاعدة قام برهان عليها، وإنَّما هي قاعدة وجدانيّة ومن المُدرَكات الأوَّليّة للعقل، فإنَّه وإن كان قد يُبرهَن عليها

53

بأنَّ الحادث لو وُجِدَ بلا علَّة ووجوب لَزِمَ ترجيح أحد المتساويين على الآخر بلا مرجِّح، وهو محال، لكنَّك ترى أنَّ استحالة الترجيح أو الترجُّح بلا مرجِّح هي عبارة أُخرى عن أنَّ المعلول لا يوجد بلا علَّة. إذن، فلابدَّ من الرجوع في هذه القاعدة إلى الفِطرة السليمة مع التخلُّص من تشويش الاصطلاحات والألفاظ؛ لنرى ماهو مدى حكم الفطرة والوجدان بهذه القاعدة؟

والفِطرة السليمة تحكم بأنَّ مجرّد الإمكان الذاتي لا يكفي للوجود.

وهنا أمران إذا وُجِد أحدهما رأى العقل أنّه يكفي لتصحيح الوجود:

أحدهما: الوجوب بالغير، فانه يكفي لخروجه من تساوي الطرفين ويصحِّح الوجود.

والثاني: السلطنة، فلو وجدت لفاعل ما السلطنة رأى العقل بفطرته السليمة أنَّ هذه السلطنة تكفي للوجود.

وتوضيح ذلك: أنَّ السلطنة تشترك مع الإمكان في شيء، ومع الوجوب في شيء، وتمتاز عن كلّ منهما في شيء:

فهي تشترك مع الإمكان في أنَّ نسبتها إلى الوجود والعدم متساوية، لكن تختلف عن الإمكان في أنَّ الإمكان لا يكفي لتحقق أحد الطرفين، بل يحتاج تحقّقه إلى مؤونة زائدة، وأمّا السلطنة فيستحيل فرض الحاجة معها إلى ضمِّ شيء آخر إليها لأجل تحقّق أحد الطرفين؛ إذ بذلك تخرج السلطنة عن كونها سلطنة، وهو خلف، بينما في الإمكان لا يلزم من فرض الحاجة إلى ضمِّ ضميمة خلفُ مفهوم الإمكان، إذن، فالسلطنة لو وُجِدت فلابدَّ من الالتزام بكفايتها.

وهي تشترك مع الوجوب في الكفاية لوجود شيء، بلا حاجة إلى ضمِّ ضميمة، وتمتاز عنه بأنَّ صدور الفعل من الوجوب ضروريٌّ، ولكن صدوره من السلطنة ليس ضروريّاً؛ إذ لو كان ضروريّاً لكان خلف السلطنة. وفرق بين حالة (له أن

54

يفعل) وحالة (عليه أن يفعل). والعقل ينتزع من السلطنة ـ باعتبار وجدانها لهذه النكات ـ مفهوم الاختيار بالمعنى المنسجم مع الحسن والقبح الخُلُقيَّين.

يبقى شيء وهو: أنَّنا لو حصلنا على برهان على ثبوت هذه السلطنة في الإنسان ثبت الاختيار بالمعنى المصحِّح لقضايا الأخلاق بالبرهان، ولو لم نحصل على برهان على ذلك فمجرد تصوُّرنا البديهيِّ لمفهوم السلطنة في مقابل مفهوم الوجوب والإمكان، وتصديقنا بأنَّه لو وجد لذلك مصداق ثبت الاختيار، وصحَّ وجود الفعل من دون أن يجب، كاف في إبطال برهان الجبر القائم على أساس تخيُّل أن المصحِّح للوجود لا يمكن أن يكون إلاَّ الوجوب، فإذا بطل برهان الجبر سهل على الإنسان الرجوع إلى وجدانه الذي كان لدى صاحب الشبهة مغطَّى بالبرهان المتُخيَّل.

والسلطنة التي تكلَّمنا عنها بعد فرض عدم امتلاك برهان عليها ينحصر أمر إثباتها خارجاً للإنسان بالشرع أو بالوجدان، بأن يقال مثلاً: إنَّنا ندرك مباشرة بالوجدان ثبوت السلطنة فينا، وأنَّنا حينما يتمُّ الشوق الأكيد في أنفسنا نحو عمل ما لا نقدم عليه قهراً، ولا يدفعنا إليه أحد، بل نقدم عليه بالسلطنة بناءً على دعوى أنَّ حالة السلطنة من الاُمور الموجودة لدى النفس بالعلم الحضوريِّ، من قبيل: حالة الجوع، أو العطش، أو حالة الحبِّ، أو البغض، وهذا يعني: وجدانيّة الاختيار.

55

 

 

 

 

النقطة الرابعة

ما هي مَغْزى الربط بين الخالق والمخلوق؟

 

وهنا ننقل ما أوردناه في مباحث الأُصول الجزء الأوّل من القسم الأوّل ضمن بحث (دلالة الأمر على الوجوب) في ذيل بحث ( الأمر بين الأمرين ) تحت الخط. وهو ما يلي:

تعارف القول بأنَّ الماهيّة من حيث هي ليست إلاّ هي، وأنّها في مرتبة ذاتها ليست وجوداً ولا عدماً، وإن كان لابدَّ أن يحمل عليها إمّا الوجود وإمّا العدم، فهي إمّا موجودة وإمّا معدومة.

ولكن لا يخفى أنَّ هذا النوع من التصوُّر يشتمل على شائبة أصالة الماهيّة وعروض الوجود على الماهيّة شاء صاحبه أم أبى، ويفترض أنَّ للماهيّة ثبوتاً في عالم التقرُّر، وتتلبَّس إمَّا بثوب الوجود أو بثوب العدم، في حين أنَّ من الواضح: أنّه لا يُتصوَّر قبل الوجود شيء يلبس ثوب الوجود.

وبهذا ينهار البيان الفلسفيُّ القائل: إنَّ العالم مركَّب من وجود وماهيّة، وإنَّ الماهيّة إن كان ينبع من ذاتها الوجود كانت واجبة الوجود، وإلاّ كانت ممكنة الوجود، أو ممتنعة الوجود، وبما أنَّ العالم لا ينبع من ذاته الوجود؛ لأنّه متغير والمتغير حادث، إذن، فلابدَّ له من علّة، ولابدَّ من انتهاء العلَّة إلى واجب الوجود.

والبيان الصحيح الذي يحلُّ محلَّ هذا البيان هو: أنّه لا شيء في العالَم إلاّ

56

الوجود، وأمّا الماهيّة فليست إلاّ عبارة عن حَدِّ الوجود وانتهاء الوجود، أيْ: أنَّ الماهيّة عدم صِرف، والذي يكون بذاته هو حقيقة الوجود المستقل يكون واجب الوجود، ولا يتَصوَّر العقل له حداً، وما لا يكون كذلك يكون عدماً صِرفاً، إلاّ أن يوجد ويخلَق، وبما أنَّ كلَّ ما في هذا العالم محدود وكذلك هو متغيّر فيستحيل أن يكون هو واجب الوجود، فلابدَّ من انتهائه إلى واجب الوجود.

وبكلمة أُخرى: أنَّنا بدلاً عن أن نُقسِّم الشيء إلى ما يكون الوجود واجباً لماهيّته، أو ممتنعاً عليها، أو ممكناً لها، نُقسِّمه إلى الوجود المستقل الواجب، أو الوجود التعلّقي، أو العدم.

وبما ذكرناه إنهار ـ أيضاً ـ ما عن المحقّق الإصفهاني(رحمه الله): من أنَّ كلَّ وجود محدود له حدَّان: حَدّ وجوديّ، وهو: مقدار وجدانه المصحوب بالفقدان، وحَدّ عدميّ، وهو: اللازم لحدِّه الوجوديِّ، وإن كان من ذوات الماهيّة فله حَدٌّ ثالث، وهو: الحَدُّ الماهويُّ(1).

وعلى أيّة حال، فإذا صحَّ أنَّ الوجود اللاَّمحدود هو واجب الوجود لا غيره، ثبت بذلك بعد ثبوت أصل الواجب تعالى:

أوّلاً: استحالة تعدُّد واجب الوجود؛ إذ لو تعدَّد لشكّل كلُّ واحد منهما حَدّاً للآخر؛ لأنَّ أحدهما يجب أن ينتهي منذ أن يبدأ الآخر.

وثانياً: استحالة ثبوت وجود آخر ولو ممكناً إن كان بحيث يحدُّ وجود ذلك الواجب؛ لأنّه لو صار الواجب محدوداً لكان ذلك خلف وجوبه.

ولتطبيق هذه النتيجة الثانية على واقع الحال من وجود إله خالق وعالم مخلوق


(1) راجع كتاب توحيد علمي وعيني الرسالة الرابعة للشيخ الإصفهاني(رحمه الله) جواباً عن رسالة السيّد أحمد الكربلائي(رحمه الله): 96. والصحيح: أنَّ للوجود المحدود حدّاً واحداً، إن شئت فسمِّه بحدِّه العدميِّ، وإن شئت فسمِّه بحدِّه الماهويِّ.