المولفات

المؤلفات > تزكية النفس

50

والواقع: أنَّ اختيار الإنسان ليس شيئاً يثبت بالبرهان، وإنَّما هو أمر ثابت بالوجدان.

وقد اشتهر لتوضيح الاختيار التمثيل برغيفيْ الجائع وطريقيْ الهارب، فياتُرى لو آمَنَّا بالجبر وعدم صدور الفعل إلاّ بمرجِّح يؤثِّر قهراً في النفس أفلا يعني ذلك: أنَّ هذا الجائع لو لم يكن له مرجِّح لأحد الرغيفين فسوف يموت جوعاً. وهذا الهارب لو لم يكن له مرجِّح لأحد الطريقين فسوف يستسلم لافتراس الأسد مثلاً أو لوقوعه في أسر العدوِّ؟! أوليست هذه النتيجة أمراً بديهيِّ البطلان؟!

والواقع: أنَّ ذكر هذه الأمثلة لو قُصِدت به البرهنة على الاختيار بما اتَّفق حتَّى الآن في العالَم من أمثال هذه الأمثلة، وأنَّنا لم نرَ ـ ولا مرّة واحدة ـ أنَّ مَنْ ابتُلي بشيء من هذا القبيل ـ مع دوران حاله بين فعلين لم يعرف مرجِّحاً لأحدهما على الآخر ـ ترك الفعلين واستسلم للمحذور الذي يقع فيه لدى ترك الفعلين، أمكن الإيراد عليه باحتمال وجود مرجِّح في الواقع مؤثِّر في لا شعوره غير ملتفت هو إيّاه تفصيلاً.

أمّا لو قُصِد بذكر مثل هذه الأمثلة مجرّد تنبيه الوجدان على الاختيار، فهذا الاعتراض لا يرد عليه؛ لأنَّ المقصود بذكر هذه الأمثلة ـ عندئذ ـ تنبيه الوجدان الحاكم بأنّه حتَّى لو لم يكن في الواقع وفي اللاّشعور مرجِّح لأحد الأمرين لن يستسلم هذا الشخص للموت بالجوع أو بافتراس الأسد أو لأيِّ مشكلة أُخرى، بل يختار أحد الأمرين من دون مرجِّح.

والانصاف: أنَّ هذه الأمثلة من خير المنبِّهات على الوجدان الحاكم بالاختيار.

وكذلك من خير المنُبِّهات على ذلك الوجدان الخُلُقيّ والاستحقاق الخُلُقيّ للمدح والذمِّ والثواب والعقاب في أفعال الناس؛ لأنّ ذلك لا يمكن أن يكون على الأفعال غير الاختياريّة.