7

 

 

 

 

المقدّمة

 

 

﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا * وَالاَْرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْس وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴾(1). صدق الله العليّ العظيم

الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصلوات على أفضل النبيِّين محمَّد وآله الطيِّبين الطاهرين.

وبعد: إنَّ تحصيل علوم الإسلام: من أُصول الدين وفروعها، ومن الفقه والأُصول، وتفسير القرآن الكريم وما إلى ذلك، لهو سيف ذو حدَّين، فهي علوم تنفع مَنْ تعلَّمها إِن كان قد حظي بتزكية نفسه، ممَّا يؤدِّي إِلى العمل بتلك العلوم، وتضرُّه إِن انفصلت عن تزكية النفس، ممَّا يؤدِّي إِلى ترك العمل بتلك العلوم. وقد قال عزَّ مِنْ قائل: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زكَّاهَا * وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾(2).

وها هو بين يديك كتابٌ متواضع يتحدَّث عن تزكية النفس بشكل مختصر، وهو مُقسَّم إِلى أربع حلقات:

الحلقة الأُولى: تشتمل على البحث العلمي عن الموضوع.

والحلقة الثانية: تشتمل على مدخل البحث العملي عن الموضوع.

والحلقة الثالثة: تشتمل على البحث العملي عن تزكية النفس.

والحلقة الرابعة: تشتمل على بحث المثبِّطات عن تزكية النفس والمحفِّزات إِليها.


(1) السورة 91، الشمس، الآيات: 1 ـ 10.

(2) السورة 91، الشمس، الآيات 9 ـ 10.

9

 

 

 

 

 

الحلقة الاُولى

 

البحث العلمي لتزكية النفس

 

 

 

 

 

11

 

 

 

 

وها هي الحلقة الاُولى بين يديك تتحدَّث عن أُمور:

أوّلاً: عن مِقياس الحسن والقبح، أو الفضيلة والرذيلة.

ثانياً: عن مِقياس الوجوب والاستحباب، أو الحرمة والكراهة في منطق العقل العملي، أو قلْ: في منطق الأخلاق.

ثالثاً: عن الجبر والاختيار؛ إذ لا فضيلة ولا رذيلة لو أَنكرنا الاختيار.

رابعاً: ما هو مَغْزى الربط بين الخالق والمخلوق، وما معنى كون المخلوق تجلِّياً من تجلِّيات الخالق، وهل هذا يعني العينيَّة، وأَنَّ ما عدا الربّ ـ سبحانه وتعالى ـ عدم محض، كما عليه بعض العرفاء، أَو أَنَّ هناك تغايراً بين الوجودين: الوجود الأصيل والوجود التعلّقيّ، كما هو المشهور في الرأي الفلسفيّ؟

خامساً: ماهو مدى إِمكان تنامي البشريَّة في سُلَّم العرفان والذوبان في الله تعالى، وفي تزكية النفس وتهذيبها؟

فها هي نقاط خمس نبحثها في هذه الحلقة إنْ شاء الله:

13

 

 

 

 

النقطة الأُولى

في مِقياس الحسن والقبح أو الفضيلة والرذيلة

 

ونذكر بهذا الصدد عمدة ما قيل أو يقال من المقاييس.

 

المِقياس الأوَّل ـ العرف أو بناء العقلاء:

فكلّ ما تطابق العرف أو العقلاء على حسنه أصبح حسناً، وكلّ ما تطابقوا على قبحه أصبح قبيحاً.

ومقياسيَّة ذلك تكون بأحد وجوه أربعة:

الأَوَّل: دعوى حكم العقل بوجوب اتِّباع العقلاء فيما تطابقوا عليه من حسن أو قبح، بمعنى ولاية العقلاء علينا. فما هو الحَسَن ذاتاً هو اتَّباع العقلاء، وما هو القبيح ذاتاً هو مخالفتهم. فهذا مرجعه إلى مقياسيَّة العقل مع تطبيق مصداق حكم العقل في اتِّباع العقلاء.

ولكنَّ الواقع أَنَّنا لا نجد في عقولنا ووجداننا دلالة على ولاية العقلاء علينا.

والثاني: دعوى أَنَّ العرف أو العقلاء هم المؤَسِّسون للحسن والقبح. وهذا ما يُفهَمُ من روح كلام المرحوم الشيخ محمّد رضا مظفَّر(قدس سره)(1). وقد صرَّح(رحمه الله) بأَنَّ قضايا الحسن والقبح داخلة في المشهورات الصرفة التي لا واقعية لها إِلاَّ الشهرة.


(1) راجع أُصول الفقه: مج1 / 2 / 225.

14

وأَمَّا المرحوم آية الله الشيخ الإصفهاني(قدس سره) فقد صرَّح ـ أيضاً في بحث التجرِّي ـ بأنَّ هذه القضايا داخلة في القضايا المشهورة المسطورة في علم الميزان في باب الصناعات الخمس. وبَرْهَن على عدم كونها قضايا برهانيَّة أو مضمونة الصحَّة(1).

ولكنْ لم أَجد له تصريحاً بأنَّ هذه القضايا أو مطلق ما يُسمّى بالقضايا المشهورة لا واقع لها إلاَّ شهرتها.

والواقع: أَنَّ إرجاع الحسن والقبح إلى جعل العرف أو العقلاء يساوق ـ في الحقيقة ـ إنكار واقع الحسن والقبح؛ لأنَّ ما يكون قابلاً للجعل والاعتبار، ويكون أَمره بيدِ الجاعل والمُعتبِر، إنّما هو عنوان الحسن والقبح لا واقعهما، فَمَنْ يدرك بضميره وجود حسن وقبح حقيقيّين، أو فضيلة ورذيلة واقعيّتين، لا يصحُّ له أَنْ يذهب إلى هذا المقياس.

والثالث: دعوى أَنّ ما تطابق عليه العرف أو العقلاء، قد أعطى كلُّ إنسان عرفيِّ أو كلُّ عاقل التزاماً بالوفاء به، وباتِّباع ما عليه العرف أو العقلاء، ويجب عقلاً الوفاء بهذا الالتزام. فالمِقياس الأصليّ ـ في الحقيقة ـ هو الوفاء بالالتزام، أو قلْ: هو حكم العقل المنطبق مصداقاً على هذا الوفاء.

ولكن لو صحَّ هذا لأمكن لكلِّ فرد أن يتحرَّر من جميع الأخلاقيَّات بعدم إعطاء التزام من هذا القبيل، فيصحُّ له مثلاً ضرب اليتيم، أو الأخذ في فصل المرافعات بجانب الظالم لا المظلوم، وما إلى ذلك ممَّا هو خلاف ما يحكم به الوجدان والضمير، سواءٌ التزمنا باتِّباع العرف أو العقلاء أو لم نلتزم.

وخلاصة الأَمر: أَنَّ إدراك الضمير للقضايا الخُلُقيّة لا يدور مدار هذا الالتزام نفياً وإثباتاً.

والرابع: دعوى أَنَّ تطابق آراء العرف أو العقلاء على الآراء المحمودة والآداب


(1) راجع نهاية الدراية 2 / 8 .

15

العامَّة نشأت ممَّا تحفظه هذه الآداب والأَخلاق من المصالح واتِّقاء المفاسد، فترجع مقياسيّة هذا المقياس إلى مقياسيّة المصلحة والمفسدة. وهذا ما سنبحثه فيما بعد إنْ شاء الله.

إلاَّ أَنّ الذي نشير إليه هنا هو: أَنَّ الشخص قد يعتقد أنَّ الفضيلة المفروضة المتّفق عليها مشهور الآراء ليست في مصلحته في الظرف المفروض.

وهذا علاجه ينحصر إمَّا بدعوى أَنَّ المِقياس هي: المصلحة العامَّة لا مصلحة الشخص، أو بدعوى أَنَّ الفضيلة المفروضة لئن خالفت مصلحة هذا الشخص هذه المرَّة لصالح الآخرين، فهي تعوِّضه بحفظ مصلحته في مقابل الآخرين في مرّات اُخرى. فهي على العموم في صالح الجميع.

وعلى أيِّ حال، فنحن لو آمنَّا بمقياسيّة المصلحة والمفسدة ـ وهذا ما سيأتي بحثه إنْ شاء الله ـ لا نؤمن بأنَّ بناء العرف أو العقلاء على الأخلاق والآداب ينشأُ دائماً من حفظ المصالح واتِّقاء المفاسد الواقعيّتين؛ ولذا ترى التناقضات العجيبة بين المجتمعات في ذلك، فقد يعتقد مجتمع ما أنَّ احتجاب النساء من الرجال وحفظ العِرض والحياء من أفضل الصفات الحسنة والفضائل الراقية، ويعتقد مجتمع آخر أَنَّ هذا وهم وخرافة، وأنَّ المصلحة تكون في سفور النساء وتحرُّرهن من القيود الجنسيّة والحياء.

وقد تحصَّل أنَّ هذا المقياس غير صحيح بكلِّ معانيه الأربعة.

 

المِقياس الثاني ـ القانون:

وهو قد يكون نابعاً من أعلى، كما لو كان من قبل شريعة سماويّة، أو من قبل سلطان مستبدٍّ برأيه، أو حزب متسيطر على رقاب الناس أو ما شابه ذلك. وقد يكون نابعاً من الناس أنفسهم، كما لو انتُخِب القانون بالتصويت ولو عن طريق

16

البرلمان الذي اُنتُخِب أعضاؤه من قبل الناس.

أمّا ما كان من قِبل شريعة سماويّة فلكي يختلف عن مِقياس الدين ـ الذي سيأتي ذكره فيما بعد إنْ شاء الله ـ بالإمكان تفسيره: بأنَّ القانون هو الدستور الذي يكون بيد القوّة المجرية، في حين أنَّ الدين ليس سوى الدستور الذي يُتديَّن به ولو لم يكن بيد قوّة مجرية، فكان الناس يعصونه جهاراً.

وأمَّا ما كان نابعاً من الناس فلكي يختلف عن المِقياس الأوَّل ـ وهو العرف أو العقلاء ـ بالإمكان تقييده بنوع من التحدُّد والصرامة غير الموجودين في مجرّد بناء العرف والعقلاء، أو تفسيره ـ أيضاً ـ بالدستور الذي يكون بيد القوّة المجريّة، في حين أنَّ بناء العرف والعقلاء ربَّما لا يكون على شكل دستور يجرى بيد القوّة المجرية رغماً لمن يحاول التمرُّد والخلاف.

وأمّا قيمة هذا المِقياس فالقانون النابع من سلطان مستبدٍّ برأيه، أو فئة متسيطرة بالقهر والغلبة على الناس، لا قيمة له، ولا ينبغي لعاقل أن يتصوَّر كونه مِقياساً للفضيلة والرذيلة.

وأمَّا القانون النابع من الدين فقيمته قيمة ذلك الدين، ولا ينبغي ـ أيضاً ـ لعاقل أَن يتصوّر قيمة أخلاقيّة لقانون تجريه القوّة المجرية على أساس دين باطل غير ذي قيمة حقيقيّة.

إذن، فلا معنى لفرض القانون النابع من الدين مِقياساً للفضيلة والرذيلة وراء الدين الذي هو مِقياس آخر يأتي بحثه إِن شاء الله.

وأمّا القانون النابع من الناس فهو وإِن اختلف موضوعاً عن العرف وبناء العقلاء بما مضى من تفسيره بما يتَّسم بنوع من التحدُّد والصرامة غير الموجودين في مجرّد بناء العرف والعقلاء، أو بالدستور الذي يكون بيد القوّة المجرية، إلاَّ أنَّه بلحاظ التقييم يرجع إلى نفس روح المِقياس السابق أعني: مِقياس العرف أو

17

العقلاء، وتأتي هنا نفس الوجوه الأربعة: فإمَّا أَن يُدَّعى أنَّ مقنِّن القانون ـ وهم الأكثريّة المشتركون في تقنينه ـ له حقُّ الولاية على مَنْ أراد مخالفة القانون، أو يُدَّعى أنَّ الحسن والقبح أمران جعليان واعتباريان يُجعلان عن طريق جعل القانون، أو يُدَّعى أَنَّ مَنْ ساهم في جعل هذا القانون ولو بمعنى مساهمته لإمضاء جعل حقِّ تشريع القانون بيد الأكثرية، لا ينبغي له أن يخالف وعده وشرطه، بل يجب عليه الوفاء بذلك، أو يُدَّعى أنَّ القانون حافظ للمصالح ودافع للمفاسد. ومناقشة هذه الوجوه ـ أيضاً ـ هي عين المناقشات الماضية في المِقياس السابق.

نعم، يمتاز هذا المِقياس عن المقياس السابق بأنَّ انطباق عنوان الوفاء بالشرط والالتزام هنا قد يكون أوضح وأوسع من انطباقه على المِقياس الأوَّل، أعني: العرف وبناء العقلاء؛ وذلك على أساس الفكرة المعروفة في بناء أساس الدولة عن جان جاك روسو.

وهناك رأيٌ يقول: بأنَّ مَنْ رأَى عدم صحّة قانون ومخالفته للمصلحة فما دام القانون قائماً يجب على هذا الشخص كسائر الناس اتِّباعه، إلاَّ أنَّه يجدُّ ويجتهد في تغيير القانون بمثل: تقديم اقتراح على مجلس النوَّاب يوضِّح فيه ضرر هذا القانون، وكالكتابة في الجرائد وما إلى ذلك، وفي أثناء جهاده في تغيير القانون يجب أن يحترمه ويخضع له، كما جاء في كتاب الأخلاق لأحمد أمين(1)، قال: «ومن خير الأمثلة على ما يجب أن يعمل في مثل هذا الموقف ما حُكي عن جُون همْبدِنْ (Hampden) أحد أعضاء البرلمان الانجليزي في حكم شارل الأوّل، ذلك أنّ الملِك سنة 1636 م كان في حاجة إلى المال، ففرض على الأهالي ضريبة من غير أن يستشير البرلمان في فرضها، واحتجّ أعوان الملِك بأنَّ له الحقَّ قديماً أن يفرض الضرائب من غير برلمان، واحتجَّ معارضوه بأنَّ سلطة الملِك قد تقيَّدت


(1) كتاب الأخلاق: 154 ـ 155.

18

بالبرلمان، فلم يعد من سلطانه فرض الضرائب. فلمّا ذهب المحصّلون إلى همبدن قالوا له: «يجب أن تدفع الضريبة بحكم القانون» فأجاب: «أنَّ القانون لم يُوجِبْ عليَّ شيئاً، وإنَّ طلبكم غير قانوني» (ويجب أن يلاحظ هنا: أنَّه لم يُجِبْ بأنَّ القانون سيِّئ، وإنَّما أجاب بأنّه لم يكن قانوناً مستوفياً لشروط التشريع) ثُمَّ قُدِّم للمحاكمة، وعيِّن لمقاضاته اثنا عشر قاضياً، انحاز ثمانية منهم إلى رأي الملِك، فكانت الأغلبيّة على همبدن، فحُكِم عليه، فاحترم الحكم، وخضع له، ودفع الضريبة؛ لأنَّه بحكم المحكمة صار الدفع قانونيّاً، ولكنّه رأى أنَّه قانون ظالم، فجدَّ في تغييره. ولما رأى همبدن أنّ ملِك انجلترا وأعوانه يخرجون على القانون، ويضعون القوانين الظالمة، اجتهد في تأليف جماعة كبيرة على رأيه، وجاهد في سبيل ما يعتقده الحقَّ، وفي تغيير ما يراه ظالماً حتّى قتل سنة 1643 م».

أقول: وأمّا مناقشة فكرة جان جاك روسو فهي مشروحة مفصَّلاً في كتاباتنا الأُخرى من قبيل كتابنا المُسمَّى بـ (أَساس الحكومة الإسلاميّة) ولا نعيدها هنا.

وقد تحصَّل أنّ هذا المِقياس معطوف على المِقياس السابق في عدم صحته.

 

المِقياس الثالث ـ الدين أو الوحي:

وطبعاً مِقياسيّة الدين تتوقَّف على كونه ديناً حقّاً. وقد ثبت في محلِّه أنّه ليس لأحد حقُّ العبادة والتديّن بدينه على آخر إلاّ الله سبحانه وتعالى، ولا دين يجب اتِّباعه عدا الدين النازل حقاً من السماء.

والدين الحقُّ يكون مِقياساً للحسن والقبح بأحد معنيين:

إمَّا بمعنى كشفه عن الحسن والقبح؛ لأنَّ الله يأمر بالحسن وينهى عن القبيح، كما قد يكشف الدين ـ أيضاً ـ عن المصالح والمفاسد.

وإمَّا بمعنى أنَّ أمر الله ونهيه موضوع لحسن الطاعة وقبح المعصية على أساس

19

ولاية الله ـ سبحانه وتعالى ـ القائمة إمَّا على مبدأ وجوب شكر المنعم، أو على مبدأ المالكيّة الحقيقيّة نتيجة الخالقيّة والمخلوقيّة.

فالدين في الحقيقة: إمَّا كاشف عن الحسن والقبح الثابتين بمِقياس آخر أو محقّق لمصداق حسن وقبح ثابتين بمِقياس آخر. وإِن شئت فاجعل هذا الكلام تصديقاً لمِقياسيّة الدين في الحسن والقبح بمعنى صغروي لا كبروي.

 

المِقياس الرابع ـ المصلحة والمفسدة، أو اللذّة والألم، أو الكمال والنقص، أو السعادة والشقاء، أو النفع والضرر:

والواقع أنَّ هنا عنوانين قد يُفترض أحدهما أو كلاهما مِقياساً للفضيلة والرذيلة: أحدهما عنوان اللذّة والألم، والآخر عنوان الكمال والنقص. وهذان العنوانان أحدهما غير الآخر: فالعلم والقدرة والشجاعة مثلاً كمال ولو لم يلتذّ صاحبها بها، والجهل والعجز والجبن نقص ولو لم يتأ لَّم صاحبها بها، فقد يُفترض أنَّ الأوّل هو المِقياس للفضيلة والرذيلة، وقد يُفترض أنَّ الثاني هو المِقياس لهما، إلاَّ أنَّنا لم نشأ أن نفرد لكلِّ واحد منهما بحثاً مستقلاً؛ لأنَّ الفوارق البحثيّة بينهما ليست بنحو تقتضي الإفراد.

وقد يُفترض أنَّ المِقياس هو الجامع بينهما الذي إِن شئت فعبِّر عنه بالسعادة والشقاء، أو بالنفع والضرر، أو بالمصلحة والمفسدة.

وعلى أيّة حال فتعليقنا على كون المِقياس للفضيلة والرذيلة هي اللذّة والألم، أو الكمال والنقص هو: أنَّه يكفي لتنبيه الوجدان إلى بطلان ذلك إلفات النظر إلى بعض الأمثلة ولو الافتراضيّة التي لا واقع خارجي لها: فلو كان كشفك سرّ أخيك موجباً لالتذاذك الكبير بذلك من دون أن يتأ لَّم أخوك به؛ وذلك على أساس أنَّ أخاك لا يطَّلع على هذا الكشف كي يتألَّم به، أو كان كشفك سرّ أخيك مُقدَّمة

20

لتحصيلك درجة كبيرة من العلم، فكان مقدار تأثير ذلك في كمالك النفسي بالعلم أكثر بكثير من مقدار تأثير ذلك في نقص ملكة كتمان السرِّ التي هي ـ أيضاً ـ كمال نفسي، أو ضمن لك قادر تثق بقدرته أنَّك لو كشفت لنا سرَّ فلان فسوف نعيد لنفسك ملكة كتمان السرّ بأقوى ممّا كانت قبل الكشف بكثير، فالوجدان والضمير المدركان للقضايا الخُلُقيّة ـ والتي هي أُمور واقعيّة في رأينا وأُمور وهميّة في رأي بعض ـ يقضيان بأنَّ كلَّ هذا لا يكون مسوِّغاً لكشف السرِّ الموجب للإحساس بالخيانة والخجل ووخز الضمير واقعاً أو وهماً.

وهذا يعني: أنَّ عنوان الفضيلة والرذيلة على ماهما عليه من واقعيّة أو وهميّة عنوان ثالث غير عنواني اللذّة والألم، والكمال والنقص، وإِن أمكن التعبير عن الجامع بين اثنين منها أو الثلاثة بالمصلحة والمفسدة، أو الضرر والنفع، أو السعادة والشقاء.

فهذا المِقياس حاله حال المِقياسين الأوَّلين في عدم الصحَّة.

وأيضاً يمكن أن نمثِّل في خصوص اللذّة والألم بأنَّ المريض الذي تضعف نفسه عن الحِمْية من الغذاء الذي يضرُّه، فيأكل ذلك الغذاء، ويضرِّر به نفسه، لا يحسُّ بتأنيب الضمير والوجدان في ترك الحِمْية ولا بالخيانة والخسَّة، في حين أنّه حينما يكشف سرَّ أخيه مثلاً يحسُّ بكلِّ ذلك. فهذه وأمثالها من الأمثلة الوجدانيّة خير دليل على بطلان هذا المِقياس على تحقيق وتفصيل موجودين في تقريرنا لبحث الأُصول لأُستاذنا الشهيد الصدر(رحمه الله) في الجزء الأوّل من القسم الثاني من مباحث الأُصول(1).

وللمحقِّق الخراسانيّ(رحمه الله) بيان لربط الحسن والقبح بالمصلحة والمفسدة


(1) ص515 ـ 517.

21

وبالملائمة والمنافرة للقوّة العاقلة(1).

وحاصله: الاستفادة ممَّا ذهب إليه الفلاسفة: من أنَّ الوجود خير محض، وأنَّ العدم شرٌّ محض، فكلُّ شيء كان أوسع وجوداً كان أوسع خيريّة، وكلُّ ما كان أضأل وجوداً وجانب العدم أغلب عليه كان أكثر شرِّيّة، واتِّصافُ بعض الوجودات بالشرِّ يكون باعتبار ما يلازمها أو يترتَّب عليها من الأعدام، كما أنَّ اتِّصاف بعض الأعدام بالخير يكون باعتبار ما يلازمها أو يترتَّب عليها من الوجودات، فالإنسان مثلاً أكثر خيراً وآثاراً من الحيوان؛ لكونه أوسع وأرقى وجوداً منه. وكذلك الحيوان أكثر بركة وآثاراً من النبات، والنبات من الجماد، وكذلك الكلام في تطبيق القاعدة على الأفعال، فكلُّ فعل يكون جانب الوجود فيه أوسع فهو أكثر خيريّةً، وكلُّ ما كان من الأفعال ضئيلاً وحقيراً، وكان جانب العدم هو الغالب عليه، كان أشدُّ شرِّيّة.

وكما أنَّ كلَّ قوّة من القوى في الإنسان كقوّة البصر والذوق والشمِّ وغير ذلك تنبسط وتنشرح بإدراك ما يلائمها، وتتضجَّر وتنكمش بإدراك ما ينافرها، فالباصرة ـ مثلاً ـ تنبسط لرؤية الحديقة والأزهار، وتتضجَّر لرؤية ما تستقبحه من صور الأشياء الكريهة، وكذلك الشامّة بالنسبة للروائح وغيرها من القوى، كذلك الحال في رئيس تلك القوى، وهي: القوة العاقلة، فتنبسِط لإدراك ما يلائمها، وتنكمش من إدراك ما ينافرها. ومِقياس الملائمة والمنافرة لها هي: درجة التسانخ وعدمه. وبما أنَّ القوّة العاقلة موجود بسيط ومجرَّد ومن أوسع الوجودات وأرقاها، فكلُّ فعل كان أوسع وجوداً كان أشبه وأنسب بالقوّة العاقلة وأكثر سنخيّة لها، فتنبسط القوّة العاقلة بإدراكه لها تصوِّراً وتصديقاً، وكلُّ فعل كان أضيق وجوداً


(1) راجع الفوائد للمحقِّق الخراسانيّ: 330 ـ 332، ط ـ منشورات مكتبة بصيرتي في ذيل طبعة حاشيته على فرائد الأُصول.

22

وجانب العدم أكثر غلبةً عليه كان أكثر مباينة لتلك القوّة، فتنكمش منه، وهذا معنى إدراك العقل للحسن والقبح. وهذا يُوجِب لا محالة صحَّة مدح الفاعل وذمّه على الفعل الحسن أو القبيح.

أقول: إنَّ هذا المدح والذمِّ الوليدين لمجرد ملائمة القوّة العاقلة أو منافرتها إنَّما هو من سنخ مدح ذي الصورة الحسنة أو ذي الصورة القبيحة الملائمة للقوة الباصرة أو المنافرة لها، ومن سنخ مدح ذي الطعم الشهيّ أو ذمِّ ذي الطعم الكريه، أو الرائحة الشهيّة والكريهة الملائمين أو المنافرين للذائقة والشامَّة. وهذا غير المدح والذمِّ الخُلُقيين.

ولاُستاذنا الشهيد الصدر(رحمه الله) حديث مفصَّل في مناقشة كلام المحقِّق الخراساني (قدس سره) أقتصر هنا على نقل قطعة منه مع تلخيصها، وهي: أنَّ المقصود بملائمة العقل ومنافرته لما يدركه من الفعل بسبب السنخيّة وعدم السنخيّة إِن كان هو التسانخ وعدمه مع المُدرَك بالعرض ـ وهو واقع الفعل ـ فقد حُقِّق في محله أنَّ المُدرَك الحقيقيّ ليس هو ذاك، وأنّ الإدراك وكذلك الحبّ والبغض ونحو ذلك كلِّها تُصَبُّ على الصور لا على ذوات الصور الخارجيّة.

وإِن كان هو التسانخ وعدمه مع المُدرَك بالذات ـ وهي الصورة ـ فالمُدرَك بالذات دائماً على حدٍّ سواء من حيث التجرد وسعة الوجود، بلا فرق بين أن يكون المُدرَك بالعرض وسيعاً أو ضيقاً، فإنَّ من أَوليّات علم النفس في الفلسفة أنَّ إدراكات قوّة واحدة تناسب تلك القوّة في التجرّد وسعة الوجود على نهج واحد، فليس ـ مثلاً ـ إدراك الأمر المادِّي مادِّياً والمجرّد مجرّداً، بل إدراك ماهو من أرقى الوجودات يساوي من حيث التجرُّد والمسانخة للعقل إدراك ماهو من أخسِّ الوجودات، كالبياض ـ مثلاً ـ الذي هو وجود عرضيٌّ حالٌّ في وجود مادِّيٍّ وما للمُدرَك بالعرض من السعة والضيق أو الخيريّة والشرِّيّة لا يسري إلى المُدرَك

23

بالذات، وإنَّما يحكم على المُدرَك بالذات بأحكام وخصائص المُدرَك بالعرض بمنطق الفناء، ولا يُوجب الفناء سريان الخصائص والآثار من الخارج إلى الصورة حقيقة، فصورةُ النار ـ مثلاً ـ لن تحرق بفنائها في ذي الصورة، وإدراك الوسيع أو الضيِّق لن يكون وسيعاً أو ضيقاً بلحاظ المدرك بالعرض، كي يترتَّب على ذلك انبساط القوّة العاقلة وانقباضها؛ ولذا ترى وجداناً أنَّ القوّة العاقلة ليس الأولى بها أن تدرك العدل فقط دون الظلم، كما كان الأَولى بالقوّة الباصرة أن تدرك الصورة الحسنة دون القبيحة، والأولى بالقوّة الشامّة أن تشمَّ الروائح العطرة دون الكريهة. هذا ما أردنا الاقتصار عليه من نقل كلام أُستاذنا الشهيد (رحمه الله)(1).

وفي نهاية البحث عن مقياسيّة المصلحة والمفسدة بودِّي أن أُشير إلى أنَّ إنكارنا لهذا المِقياس إنَّما يعني مغايرة عنوانيْ الحسن والقبح أو الفضيلة والرذيلة لعناوين اللذّة والألم أو الكمال والنقص، وعدم الملازمة فيما بينها، فلو كنتَ تلتذُّ بإيذاء الآخرين أو تحصل على كمال علميِّ من وراء اغتصاب شخص لتعليمه إيّاك من دون رضاه مثلاً، فهذه رذيلة لك وليست فضيلة، وهذا لا ينافي كون حفظ مصالح الناس أو درء المفاسد عنهم أمراً حسناً في ذاته بحكم العقل، وتوريطهم في المفاسد أمراً قبيحاً بحكم العقل، ولكنْ لا يجوز لك ـ أيضاً ـ توفير المصلحة لشخص بإدخال المفسدة على شخص آخر وإِن صغرت المفسدة وكبرت المصلحة؛ لأنَّ توفير المصلحة للناس مستحب في منطق العقل العملي، وإدخال المفسدة على الناس حرام في منطق العقل العملي.

وقد اتّضح بما ذكرناه: أنَّ مِقياسيّة المصلحة والمفسدة أو اللذّة والألم إِن كانت بمعنى مِقياسيّة المصلحة أو اللذّة الشخصيتين، فهذا مِقياس باطل؛ لما أشرنا إليه من بعض النقوض.


(1) راجع كتابنا مباحث الأُصول الجزء الأوَّل من القسم الثاني: 519 ـ 523.

24

وإِن كانت بمعنى مِقياسيّة المصلحة أو اللذّة النوعيتين، فتوفير مصلحة الناس يمكن أن يجعل مصداقاً من مصاديق الفضيلة الثابت حسنها بمِقياس آخر، وليس هذا العنوان هو المِقياس الأوّلي للحسن والقبح وإلاّ لورد عليه النقض أيضاً، وإن شئت فاجعل هذا تصديقاً في الجملة بمِقياسيّة المصلحة والمفسدة بالمعنى الصغرويّ دون الكبرويِّ.

 

المِقياس الخامس ـ العواطف:

ومعنى مِقياسيّة العواطف: أنَّ ما نحسُّ به من حسن بعض الأُمور وقبح بعضها ليس مرجعه عدا العواطف الموجودة فينا، فنحن إنَّما نقول: إنَّ ضرب اليتيم قبيح، وإنَّ الترفيه عنه حسن؛ لما نملكه في أنفسنا من صفة الرقَّة والحنان والشفقة عليهم، في حين أنَّنا لا نقول بقبح قتل الحشرات المزاحمة لراحة الإنسان؛ لأنَّنا لا نملك رأفة وشفقة عليها.

ولو فرضنا مجتمعاً قسيَّ القلب لا يعطف على يتيم أو ضعيف، ولا يتأ لَّم بأذاهم، ولا يرتاح براحتهم لما قالوا بقبح ضرب اليتيم وحسن مساعدة الضعيف.

ويمكن تنبيه الوجدان إلى خطأ فكرة من هذا القبيل بالفاته إلى بعض الأمثلة الوجدانيّة: من قبيل إحساس وجداننا بحقَّانيّة القِصاص حتّى لو كان القِصاص يجرح عواطفنا؛ لأنَّه كان يرد على ابننا مثلاً، فيؤدِّي إلى قتله أو جرحه أو نحو ذلك، فتنجرح عاطفتنا الرحميّة باصابة ابننا الأذى، ولكننا مع ذلك نحسُّ بحقَّانيّة هذا القِصاص.

وأيضاً نرى أنَّ الضمير والوجدان يحكمان بحسن العفو وبحقانيّة القِصاص في مورد واحد وفي وقت واحد، في حين أنَّه لو أُرجع ذلك إلى العواطف لكان هذا تناقضاً؛ لأنَّ الشخص إمّا أن تنحاز عاطفته بعد الكسر والانكسار نحو العفو أو نحو

25

القِصاص، فما معنى حسن العفو وحقَّانيّة القِصاص في وقت واحد ؟!

وبالإمكان افتراض أنَّ المِقياس في الحسن والقبح هو العادة، فالذين تعوَّدوا على ترك أكل لحم الحيوانات يحكمون بقبح ذلك، والذين تعوَّدوا على احتجاب النساء من الرجال يحكمون بحسن ذلك وبقبح سفورهن، والذين تعوَّدوا على سفورهن يحكمون بحسن السفور وبقبح الحجاب للنساء.

إلاَّ أنَّنا لم نرَ حاجة إلى إفراز العادة بالبحث المستقل، فمِقياس العادة إمّا هو شبيه بمِقياس العواطف، ويمكن تنبيه الوجدان على خطأ ذلك بمثل الطريقة التي سلكناها لتنبيه الوجدان على خطأ مِقياسيّة العواطف، فحتى الشخص أو المجتمع الذي تعوَّد على إيذاء الضعيف لو لم يبلغ أمره إلى حدِّ موت الوجدان والضمير يحكم وجدانه وضميره بقبح ذلك، إلاَّ أنَّه يستهين بارتكاب القبيح.

وإمّا هو شبيه بمِقياس العرف والعقلاء، وبإمكانك أن تسمِّيه باسم مِقياس العرف والعقلاء، إلاَّ أنَّه كان المقصود فيما مضى رأيهم، والمقصودُ هنا عادتهم، وقد مضى الجواب عن مِقياسيّة العرف والعقلاء.

 

المِقياس السادس ـ العقل:

وهذا يعني: أنَّ العقل يدرك الحسن والقبح كما يدرك الوجوب والاستحالة وما إلى ذلك. وقد يُسمَّى الثاني بالعقل النظريِّ، والأوّل بالعقل العمليِّ. وقد يُسمّى ما يدرك بالعقل النظريِّ بما ينبغي أن يعلم، وما يدرك بالعقل العمليِّ بما ينبغي أن يُعمل.

وخلاصة المدَّعى لأصحاب هذا المِقياس: أنَّ الحسن والقبح ليسا مجرّد أمر مشهوريٍّ واقعه نفس تطابق العرف أو العقلاء أو المجتمع عليه، بل لهما ثبوت في أُفق الواقع يدركهما العقل، وما يصحُّ من المقاييس الأُخرى يُشكِّل ـ بقدر ما

26

يصحّ ـ مصداقاً لهذا المِقياس. فمثلاً: مِقياس المصلحة والمفسدة وإن لم نقبله بشكل العموم، وقلنا: إنّ الحسن والقبح غير اللذّة والألم وغير الكمال والنقص، إلاَّ أنَّه لا إشكال في حسن مراعاة مصالح الناس أو مصالح المجتمع في حد ذاتها، ولا في قبح الإضرار والإفساد فيما بين الناس أو في المجتمع في ذاته.

ونقول: إنَّ هذا الحسن والقبح ـ أيضاً ـ ليسا مجرّد أمر اعتباري تطابق عليه المجتمع، أو حكم به العقلاء أو القانون مثلاً، بل هما أمران واقعيَّان أدركهما العقل. وكذلك مِقياس الدين بمعنى وجوب اتِّباع الدين الحقّ يعني حسن اتِّباعه عقلاً وقبح مخالفته على أساس مولويّة المولى ـ سبحانه وتعالى ـ المدركة بالعقل العملي.

والواقع: أنَّ العقل العمليَّ والعقل النظريَّ أمر واحد، وهي: القوّة المُدركة المُودَعة من قبل الله ـ سبحانه وتعالى ـ في الإنسان، وإن كان قد يُصطَلح عليهما باسمين مختلفين؛ نتيجة اختلاف المدرَكات من حيث كونها علميّة بحتة أو عمليّة، أو كونها ممّا هو كائن أو ممّا ينبغي أن يكون.

وللمحقِّق الإصفهاني(رحمه الله) برهان على عدم ضمان حقَّانيّة مُدرَكات العقل العملي، وأنَّها ليست بأعلى مستوى ممّا يُسمَّى في علم الميزان بالقضايا المشهورة. وحاصل كلامه مع تغيير يسير في تعبيره ما يلي(1): يقول(رحمه الله): وهذا الحكم العقليُّ من الأحكام العقليّة الداخلة في القضايا المشهورة المسطورة في علم الميزان في باب الصناعات الخمس، وأمثال هذه القضايا ممّا تطابقت عليه آراء العقلاء؛ لعموم مصالحها، وحفظ النظام، وبقاء النوع بها.

وأمَّا عدم كون قضيّة حسن العدل وقبح الظلم ـ بمعنى كونه بحيث يستحقّ عليه المدح أو الذم ـ من القضايا البرهانيّة.


(1) راجع نهاية الدراية 2 / 8 .

27

فالوجه فيه: أنَّ مواد البرهان منحصرة في الضروريّات الستِّ: فإنَّها إمَّا أوليَّات، ككون الكلّ أعظم من الجزء، وكون النفي والإثبات لا يجتمعان. أو حسِّيات سواءٌ كانت بالحواس الظاهرة المسمَّاة بالمشاهدات، ككون هذا الجسم أبيض أو هذا الشيء حلواً أو مرّاً، أو بالحواس الباطنة المسمَّاة بالوجدانيِّات، وهي: الأُمور الحاضرة بنفسها للنفس. كحكمنا بأنَّ لنا علماً وشوقاً وشجاعة. أو فطريات، وهي: القضايا التي قياساتها معها، ككون الأربعة زوجاً؛ لأنَّها منقسمة بالمتساويين، وكلُّ منقسم بالمتساويين زوج. أو تجربيَّات بتكرّر المشاهدة، كحكمنا بأنَّ مادَّة الاسبرين تقطع الحمّى مثلاً. أو متواترات، كحكمنا بوجود البلاد النائية التي هي غائبة عنَّا، ولكن ثبت لنا وجودها بأخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكَذِب عادة. أو حدسيَّات موجبة لليقين، كحكمنا بأنَّ نور القمر مستفاد من الشمس؛ للتشكلات البدرية والهلاليّة وأشباه ذلك.

ومن الواضح: أنَّ استحقاق المدح والذم بالإضافة إلى العَدل والظُّلم ليس من الأوَّليَّات بحيث يكفي تصور الطرفين في الحكم بثبوت النسبة، كيف وقد وقع النزاع فيه من العقلاء. وكذا ليس من الحسِّيات بمعنييها كما هو واضح؛ لعدم كون الاستحقاق مشاهداً، ولا بنفسه من الكيفيات النفسانيّة الحاضرة بنفسها للنفس. وكذا ليس من الفطريّات؛ إذ ليس معها قياس يدلُّ على ثبوت النسبة. وأمّا عدم كونه من التجربيَّات والمتواترات والحدسيَّات ففي غاية الوضوح، فثبت أنَّ أمثال هذه القضايا غير داخلة في القضايا البرهانيّة، بل من القضايا المشهورة.

أقول: من الصحيح ما ذكره من أنَّ أصل الحسن والقبح بوصفهما أمرين واقعيين قد وقع الخلاف فيه؛ لأنَّ بعض الفلاسفة والمفكرين أنكروا إدراك ذلك، وجعلوه من سنخ المشهورات، أو العادات أو المسلَّمات المأخوذة من أعلى، إلاّ أنَّ مجرّد وقوع الخلاف ليس دليلاً على نفي بداهة القضيّة وأوَّليتها؛ إذ قد يكون الخلاف

28

على أساس شبهة حصلت للمخالف غطَّت إدراكه النابع من حاقِّ نفسه، وقد يكون ـ بغضّ النظر عن فرض عروض شبهة ـ غير قادر على إدراك ما أدركه غيره بالبداهة؛ لأنَّ البشر المتمتع بشيء من التكامل في الإدراك وفق الحركة الجوهريّة ليسوا سواءً في ذلك، بل هم مختلفون في الاستعداد والإدراك، فلو أدرك أحد شيئاً ولم يدرك الآخر لم يكن ذلك مساوقاً؛ لفرض أنَّ إدراك المُدرِك ناشئ من تدخل أُمور خارجيّة: كالعادة والشهرة وغير نابع من حاقِّ نفسه.

وفي مقابل هذا البرهان الذي أفاده المحقِّق الإصفهاني(رحمه الله) لنفي إدراك واقعيّة الحسن والقبح وحقَّانيتهما على مستوى الواقع، لا على مستوى مجرّد تطابق العقلاء، يوجد برهان معاكس قد يُبرهَن به على واقعيّة الحسن والقبح وحقَّانيّتهما.

وهذا البرهان يأتلف من مُقدّمتين:

الاُولى: أنَّ المعارف الناشئة من حاقِّ النفس تُصيب الواقع ولا تخطأ، ومن هنا كانت الضروريّات ـ على حدِّ تعبير علم الميزان ـ مضمونة الحقَّانيّة؛ إذ نشأ فهمها من حاقِّ النفس البشريّة، لا بتأ ثُّر من أمر خارجيٍّ: كعرف، أو عادة وقانون، أو بناء المجتمع، أو العقلاء، أو ما إلى ذلك.

أمَّا المعارف الناشئة بمعونة هذه المؤثِّرات الخارجيّة ونحوها، فليست مضمونة الواقعيّة والحقَّانيّة؛ لأنَّ هذه المؤثِّرات الخارجيّة ربَّما لا تصيب الواقع.

والثانية: أنَّ كثيراً من قضايا الحسن والقبح والأحكام الخُلُقيّة ناشئة من حاقِّ النفس؛ والذي يشهد لنشوئها من حاقِّ النفس البشريّة تطابق الناس عليها عادةً وغالباً، برغم اختلافهم في البيئات والظروف والعادات وما إلى ذلك. فلو كانت ناشئة من البيئات والملابسات الخارجيّة لاختلفت باختلاف الناس.

نعم، نحن نحسُّ بوقوع الخلاف في القضايا الخُلُقيَّة في ثلاثة موارد، وكلُّها لا تضرُّ بما شرحناه: من أنَّ إطباق النفوس على درك قضايا خُلُقيّة دليل على

29

نشوئها من حاقِّ النفس:

الأوّل: الاختلاف الصغرويُّ الذي قد يقع في التطبيق لا في أصل الفكرة، فلا يضرُّ ببداهة الفكرة وضروريّتها، مثال ذلك: أنَّ مجتمعاً ما وفي زمان ما يطبّق حسن إحسان فرد على فرد بالتصدُّق عليه، ويعتبر هذا فضيلة وعملاً ممدوحاً، في حين أنّ مجتمعاً آخر أو نفس المجتمع في زمن آخر يعتقد أنّ هذا الأُسلوب من العطاء والإحسان لا يُميَّز فيه بين المستحقّ وغيره ويُميت الهمم، ويميت ما في النفوس من شرف وإباء واستعداد للعمل، فالصحيح هو: إنشاء جمعيّات للإحسان تجتمع عندها عطاءات الناس، وهي التي تتولَّى الإنفاق على المعوزين بعد أن تدرس أحوالهم، وتحاول إيجاد عمل لمن لا عمل له.

وهذا كما ترى ليس خلافاً في كبرى حسن إعانة العاجز وفضيلة الإحسان إلى الناس، وإنّما الكلام في تشخيص الطريقة التي تكون أوصل إلى المطلوب.

والثاني: إنكار واقعيّة الحسن والقبح أو التشكيك فيها؛ لشبهة حصلت للمنكر أو المشكِّك، من قبيل البرهان الذي مضى ذكره عن المحقّق الإصفهاني(رحمه الله)؛ لنفي كون إدراك ذلك من سنخ إدراك الضروريّات. وقد مضى الجواب عن ذلك، فترى أنَّ الإنكار أو التشكيك ـ على أساس تخيُّل ذلك البرهان ـ إنكارٌ أو تشكيك عن شبهة غطَّت الفهم الناشئ من حاقِّ النفس، وحالت دون الوصول إلى إدراك الحسن والقبح، ولا يكون ذلك شاهداً لعدم ضروريّة هذا الإدراك أو عدم نشوئها من حاقِّ النفس.

والثالث: بعض القضايا الخُلُقيّة الناشئة من المؤثِّرات الخارجيّة، فإنَّنا حينما نقول بواقعيّة الحسن والقبح وضروريتهما ونشوء إدراكهما من حاقِّ النفس لا ندَّعي أنَّ جميع الأخلاقيَّات من هذا القبيل، فربَّما يكون الإيمان بحسن الحجاب أو السفور أو قبحه للنساء ناشئاً من المؤثِّر الخارجيِّ: من دين، أو عادة،

30

أو ملاحظة المصالح والمفاسد المختلف فيها؛ ولذا ترى اختلاف مجتمع عن مجتمع في كون الحجاب والعفَّة فضيلة، والسفور وترك الحياء رذيلة، أو العكس. وهذا لا يضرُّ بالاعتراف بواقعيّة الحسن والقبح في قضايا أُخرى يؤمن بها الجميع أو الغالبية الساحقة من غير منْ حصلت له الشبهة، من قبيل: حسن الصدق والوفاء والإيثار، وقبح الكذب والغدر والإيذاء، وما شابه ذلك.

فقد اتَّضح بهذا العرض: أنَّ كثيراً من القضايا الخُلُقيّة قد نتج إدراكها من حاقِّ النفس؛ لتطابق غالبيّة الناس عليها البعيدين عن شبهة تغطِّي الفهم الأوَّليَّ، ولا قاسم مشترك فيما بينهم ممَّا يمكن أن يكون منشأً للفهم والإدراك عدا النفس البشريّة، فنستكشف أنَّ علَّة هذا الفهم المشترك بينهم هي: حاقُّ النفس التي هي القاسمة المشتركة بينهم.

إلاَّ أنَّ هذا الدليل لواقعيّة الحسن والقبح قابل للمناقشة؛ وذلك بالمناقشة في المُقدّمة الثانية، وهي: انحصار العامل المشترك بين غالبيّة الناس في النفس البشريّة، فإنَّهم مشتركون ـ أيضاً ـ في غريزة جلب المصالح ودفع المفاسد، فلعلَّ ذلك جرَّهم بشكل وآخر إلى أن يجنحوا إلى القول بحسن جملة من الأشياء وقبح جملة منها، ممَّا يشتمل على مصالح نوعيَّة أو مفاسد نوعيّة، وأيضاً نقول: إنَّ النماذج التي عاشرناها من المجتمعات البشريّة مشتركون في أصل خضوعهم لقوانين وحكومات وانتظامات، فلعلَّ هذا أوحى إليهم بالحسن والقبح.

وكأنَّه لعلاج هذا الإشكال قد يُطوَّر من صياغة الاستدلال وتُغيَّر إلى الصيغة التالية، وهي ما يلي:

لو أنَّ أحداً خُلِقَ منفرداً في مكان، وعاش وحده من دون أن يشاهد أيَّ مجتمع، أو يُؤثِّر فيه أيُّ تعليم ونحوه، ثُمَّ قال له أحد مثلاً: أنا أُعطيك طعاماً شهيَّاً في كلِّ يوم على أن تتكلَّم بخبر سواءٌ كان صدقاً أو كذباً، فذلك الشخص سوف

31

يختار الصدق إن لم توجد له أدنى فائدة في الكذب. وهذا شاهد على أنَّه يُدرِك حسن الصدق وقبح الكذب، فهذا إدراك ناشئ من حاقِّ النفس؛ لعدم وجود مؤثِّرات خارجيّة حسب الفرض.

وبكلمة أُخرى: إنَّ الإنسان الذي ينمو ويترعرع بعيداً عن كلِّ المؤثِّرات الخارجيّة ـ حسب الفرض ـ لو سألناه عن شيء وقرَّر أن يجيب عن سؤالنا فهو بطبعه الأوَّلي يجنح إلى الصدق لا الكذب. فهذا ليس على أساس المؤثِّرات الخارجيّة، ولا على أساس حبِّ الذات؛ إذ هو لا يعلم أنَّ الصدق نافع والكذب ضار حتّى يدفعه حبُّ الذات إلى ذلك.

 

والجواب:

أوَّلاً: أنَّ هذا الميل إلى الصدق قد يكون بنفسه طبعاً وغريزة، أو أنَّ أوَّل وأشدَّ ما يجلب ذهن المخبر إلى نفسه هو الواقع الذي علمه، لا خلافه، ولا يكون هذا راجعاً إلى باب الإدراك أصلاً؛ ولذا نرى أنَّ حالة الصدق موجودة لدى الأطفال الصغار الذين لم يبلغوا بعدُ مبلغاً يُدرِكون قبح الكذب أو حسن الصدق.

وثانياً: لو غضضنا النظر عن الميل الطبيعيِّ والغريزيِّ إلى الصدق، أو كون الواقع المعلوم أكثر جلباً للنظر من خلافه مثلاً، فمن أين لنا العلم بأنَّ هذا الشخص الذي فرضنا أنّه عاش منفرداً وترعرع منفرداً يجنح إلى الصدق لا الكذب؟! فإنَّ هذه الفرضيّة لم نجرِّبها خارجاً، ولو عَلِمنا بذلك عن طريق إيماننا بحسن الصدق وقبح الكذب، أو عن طريق إيماننا بغريزيّة الصدق مثلاً فأَيُّ فائدة تترتَّب على افتراض هذه الفرضيَّة؟!

والواقع: أنَّ حقَّانيّة الإدراك العمليِّ لا يمكن أن تثبت ببرهان، ولا أن تُرَدُّ ببرهان، وإنَّما الأمر الممكن هو تنبيه الوجدان بذكر بعض الأمثلة الواضحة، من