المولفات

المؤلفات > تزكية النفس

49

 

 

 

 

النقطة الثالثة

في الجبر والاختيار

 

لا يخفى أنَّنا لو لم نؤمن بالحسن والقبح كمفهومين واقعيَّين خُلُقيَّين يستتبعان ـ عقلاً ـ استحقاق المدح والذمِّ، لا من سنخ مدح اللؤلؤ على ضوئه وبهائه وذمِّ حجر كريه المنظر على كراهة منظره، بل من سنخ استحقاق خُلقيٍّ يستتبع الثواب والعقاب، بل فرضنا أنّ الحسن والقبح ـ مثلاً ـ ليسا إلاّ أمرين اعتباريَّين ومجعولين من قبل العقلاء أو الشرع أو القانون؛ لحفظ المصالح ودرْء المفاسد، فهذا المعنى الخاوي للحسن والقبح عن المغزى الخُلُقيِّ ينسجم مع الجبر، كما ينسجم مع الاختيار، فحتَّى لو قلنا بالجبر قلنا: إنَّ جعل الحسن والقبح من قبل العقلاء أو القانون أو الشرع وفرض ثواب وعقاب على ذلك، إنَّما كان لفائدة انعطاف الإنسان إلى حفظ المصالح ودرْء المفاسد ولو جبراً.

ولكن بعد فرض الإيمان بأنَّ الضرورة الخُلُقيّة ـ وهي الانبغاء وعدم الانبغاء ـ أمرٌ واقعيٌّ يتبعه المدح والذمُّ الخُلُقيّان عن استحقاق عقليٍّ، وكذلك الثواب والعقاب، (وهذا ما ادَّعينا أنَّ الضمير والوجدان شاهدان عليه) فهذا لا ينسجم إلاَّ مع فرض الاختيار؛ لشهادة الوجدان بأنَّ المجبور لا يستحقُّ مدحاً ولا ذمّاً ولا ثواباً ولا عقاباً؛ كما أنَّ حركة يد المرتعش لا تمدح ولا تذمُّ ولا يثاب عليها ولا يعاقب عليها إن ترتّب عليها شيء.