9

 

 

المقدّمة

إنّ بحثنا في التفسير الموضوعي بمنزلة استمرار لبحث أُستاذنا الشهيد(1)، ولا أستطيع أن أقول استمرار؛ لأنّه كما يقال: «أين الثرى من الثريّا».

ومن الواضحات أنّ الكتاب الوحيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه هو القرآن الكريم، وهو الذي يُعتَبر وسيطاً بيننا وبين اللّه تعالى، وأنّ قراءته بتأنٍّ، ومطالعته بدقّة، والتأمّل في آياته في كلّ وقت وكلّ زمان، هي عبادة من أفضل العبادات.

وسيكون بحثنا في بعض الآيات المباركة وتفسيرها على مـنـهـج مـا سـمّـاه أُسـتـاذنا الشهـيد بالتفسـير الموضوعي، فلا نتناول آيات القرآن آية آية، ولا نبدأ من أوّل القرآن لنفسّر كلّ آية منه، وإنّما نتناول موضوعاً ما،


(1) المفكّر الإسلامي الكبير سماحة آية اللّه العظمى الشهيد السيّد محمدباقر الصدر(قدس سره).

10

ونعرضه على القرآن المجيد؛ لنستضيء بنور آياته المباركة.

وبودّي أن أبدأ البحث في آخر ما أشار إليه أُستاذنا الشهيد(قدس سره) _ ولم يكمل بحثه _ من موضوعات أبحاثه القيّمة التي بحثها في النجف الأشرف، والتي طبعت ونشرت تحت عنوان: (المدرسة القرآنية).

كما أودّ أن أُشير إلى أبحاثه(قدس سره) إشارة عابرة؛ لأبدأ من حيث انتهى.

ففي المحاضرات الأربع عشرة التي أفادها أُستاذنا الشهيد(قدس سره) ذكر قسمين من التفسير، وبيّن الفوارق بينهما، وسمّى أحدهما بـ (التفسير الموضوعي)، وقصد به التفسير الذي يدور حول موضوع معيّن، ويحاول أن يطرح المفهوم القرآني فيه. وسمّى القسم الآخر بـ (التفسير التجزيئي)، وهو الذي يأخذ كلّ آية من القرآن، ويحاول أن يفسّرها.

وقد بحث أُستاذنا الشهيد(قدس سره) عن الفرق بين هذين التفسيرين، وشرح الفوارق بينهما، وبيّن الفوائد المهمّة التي تترتّب على التفسير الموضوعي التي يفتقدها التفسير التجزيئي، علماً بأنّ التفسير التجزيئي هو مقدّمة للتفسير الموضوعي، أي: إنّ التفسير الموضوعي يجب أن يمرّ أوّلاً بالتفسير التجزيئي.

ثم بدأ بعد ذلك بالبحث في بعض المواضيع التي ينبغي أن نكوّن حولها المفهوم القرآني، فبدأ أوّلاً ببيان سُنن التاريخ والركائز الأساسية

11

التي تستفاد من القرآن الكريم حولها، وبيّن أنّ القرآن الكريم قد صرّح بأنّ التاريخ ليس مجرّد وقائع مبعثرة، وإنّما هو عبارة عن وقائع مترابطة، وأنّ كلّ أُمّة من الأُمم لا تتولّد بشكل عفوي، ولا تموت بشكل عفوي، وإنّما لكلّ أُمّة أجل محتّم، واستشهد(قدس سره) بآيات عديدة تدلّ على ذلك، من قبيل قوله تعالى: ﴿وَلِكُلَّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾(1).

ثم شرح الأُسس التي تتحكّم في التاريخ: من قبيل أسـاس: ﴿إِنَّ اللّٰهَ لَا يُـغَيَّرُ مَـا بِـقَوْمٍ حَـتَّى يُـغَيَّرُوا مَـا بِأَنْفُسِهِمْ﴾(2).

ومن قبيل أساس: أنّ الأُمّة لو ظلمت وفسقت ستهلك، وهذا ممّا لا مناص ولا مفرَّ منه، كما دلّ على ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرَاً﴾(3).

ومن قبيل الأساس أو القانون الاجتماعي الآخر الذي يقول: إنّ البشرية لو طبّقت العدالة، وعملت بالفرائض المفروضة عليها من


(1) الأعراف: 34.

(2) الرعد: 11.

(3) الإسراء: 16.

12

قبل السماء، لانتشرت النعمة، وكثرت البركة، وعمّت الرحمة، كما يدلّ على ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيْلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبَّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾(1).

ثم بـحث أُستاذنا(قدس سره) مـوضوعاً ثانيـاً، وربطه بهذا الموضوع (سُنن التاريخ)، ولم يفصل بينهما، فبحث في عناصر المجتمع، فكان عبارة عن تكملة للبحث في سُنن التاريخ، فقد ذكر أنّ سُنن التاريخ على قسمين:

الأوّل: السُنن الصارمة التي لا يمكن أن تتخلّف: من قبيل أنّ النار تحرق، وأنّ اللّه تعالى لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم، وأنّ البشرية لو التفّت حول العدل لانتشرت النعم. فهذه وأشباهها سُنن تاريخية تشبه السُنن التكوينية في صرامتها كإحراق النار.

والقسم الآخر: هي السُنن الإلهية المودعة في التركيبة البشرية والتاريخ والعالم، وليست هي ممّا لا يمكن أن يتخلّف؛ إذ يستطيع الإنسان _ الفرد أو الأُمّة _ أن يتحدّى هذا النوع من السُنن، غير أنّ نتيجته ستكون الاضمحلال والانتهاء والهلاك عاجلاً أم آجلاً؛ وذلك بسبب تحدّيه لها. وذكر أُستاذنا(قدس سره) مثالين لذلك:


(1) المائدة: 66.

13

الأوّل: سُنّة الزواج؛ إذ إنّ الارتباط الجنسي بين الرجل والمرأة سُنّة أودعها اللّه تبارك وتعالى في طبيعة البشر، إلّا أنّها ليست من قبيل السُنن الصارمة التي لا يمكن أن يتحدّاها الإنسان، فقد تحدّت بعض المجتمعات والأُمم هذه السُنّة، من قبيل قوم لوط؛ إذ إنّهم انحرفوا عن هذه السُنّة، واكتفوا بممارسة ذلك العمل القبيح، غير أنّ النتيجة كانت هي اضمحلال هذه الأُمّة وانتهائها.

والمثال الآخر: الدين، فذكر(قدس سره): أنّ الدين سُنّة إلهية ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدَّينِ حَنِيفَاً فِطْرَتَ اللّٰهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّٰهِ ذَلِكَ الدَّينُ الْقَيَّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾(1).

فالدين سُنّة من سُنن التاريخ، إلّا أنّه يختلف عن السُنن الصارمة التي لا يمكن تخلّفها؛ إذ إنّ الدين سُنّة من سنخ سُنّة الزواج التي تحدّاها بعض الكافرين والمشركين، وإنّ تحدّيها سيؤدّي بالمتحدّي إلى الانتهاء عاجلاً أم آجلاً.

ولتوضيح أنّ الدين كيف أصبح سُنّة تاريخية، وكيف أمكن تحدّيها بدأ أُستاذنا(قدس سره) ببحث الموضوع الثاني، وهو عناصر المجتمع؛ لكي


(1) الروم: 30.

14

يبيّن موقع الدين من عناصر المجتمع، فذكر أنّ عناصر المجتمع _ أيّ مجتمع من المجتمعات _ ثلاثة:

العنـصر الأوّل: البشـر أو الإنسان؛ إذ لا مجتمع بلا إنسان، كما هو واضح.

العنـصر الثاني: الطبيعة التي يتصارع الإنسان معها.

الـعنصر الثالـث: العـلاقة الـمعنوية الـموجودة بـين الإنسان والطبيعة أوّلاً، والعلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان ثانياً، وهذا ما يتّفق عليه الجميع، والعلاقة بين الإنسان واللّه تعالى ثالثاً، وهذا على رأي المؤمنين باللّه تعالى فقط.

فبيّن أُستاذنا(قدس سره) أنّ العلاقة الموجودة بين الإنسان وأخيه الإنسان من ناحية، والعلاقة الموجودة بين الإنسان والطبيعة من ناحية أُخرى متعاكستان، وتؤثّر كلّ واحدة منهما بالأُخرى بعكس ما تؤثّر الأُخرى بها، أي: إنّ علاقة الإنسان بأخيه الإنسان تتناسب عكسيّاً مع علاقته بالطبيعة، وإنّها سوف تنتكس بقدر ما تزدهر علاقته بالطبيعة.

فعندما تكون علاقة الإنسان بالطبيعة على مستوى أن ينغمس فيها، ويتعلّق بها، وتزداد سيطرته عليها، وتتحكّم هيمنته على خيراتها وثرواتها، فإنّه سوف يصبح مترفاً ومتنعّماً، وهذا يؤثّر عكسيّاً على علاقته بالبشر، أي: إنّ علاقته بأخيه الإنسان تكون سيَّئة، وذلك

 

15

كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَآهُ اسْتَغْنَى﴾(1).

هذا إذا لم يكمل الإنسان نفسه بالالتزام بقيم السماء وتعاليم الدين.

كما أنّ علاقة الإنسان بأخيه الإنسان تؤثّر طرديّاً على علاقته بالطبيعة، فعندما تتحسّن علاقة الإنسان بأخيه الإنسان تتذلّل له الطبيعة، وتنفتح أمامه آفاق الرحمة وأبواب النعم، كما قال تعالى: ﴿وَأَن لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَاءً غَدَقَاً﴾(2).

وبهذا أنهى أُستاذنا(قدس سره) بحثه، وبعد انتهائه من هذين الموضوعين أشار إلى موضوع ثالث مكمّل لهذين الموضوعين، وهو: أدوار التاريخ في القرآن، وقد أشار إليه في آخر محاضرة له، إلّا أنّه لم يتطرّق له بصورة مفصّلة.

كاظم الحسيني الحائري

 


(1) العلق: 6 _ 7.

(2) الجن: 16.

17

 

 

 

 

⬤ الأدوار التاريخية لحياة الإنسان على الأرض في القرآن الكريم.

⬤ الأدوار في الحياة الأُخرى.

⬤ دور القضاء والقدر.

 

 

 

 

 

 

19

 

 

 

الأدوار التاريخية لحياة الإنسان على الأرض في القرآن الكريم

⬤ دور الحضانة

⬤ دور الوحدة

⬤ دور التشتّت

⬤ دور العدل

 

 

 

 

 

 

21

ما هي

ما هي أدوار التاريخ البشري من زاوية القرآن الکريم؟

لقد أشار أُستاذنا(قدس سره) إلى أنّ أدوار التاريخ في القرآن الكريم ثلاثة أدوار، وهي:

الأوّل: دور الحضانة: دور حضانة البشر.

الثاني: دور الوحدة: دور وحدة البشر.

الثالث: دور التشتّت: دور تشتّت البشر.

ويشير أُستاذنا(قدس سره) بدور حضانة البشر إلى قصّة آدم وحوّاء(عليهما السلام) اللذين أُحتُضِنا بمكان اسمه (الجنّة)، وهناك الكثير من الآيات الكريمة التي تشير إلى هذه القصّة، كقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنَّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدَّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبَّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدَّسُ لَكَ قَالَ إِنَّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾(1).

 


(1) البقرة: 30.

22

وأشار أُستاذنا(قدس سره) بدور الوحدة إلى تاريخ ما قبل بروز الخلافات في المجتمع بما هو مجتمع لا بما هو أفراد، كخلاف قابيل وهابيل؛ لأنّه ليس خلافاً عامّاً وشاملاً.

كما أشار أُستاذنا(قدس سره) بدور التشتّت إلى ما بعد بروز الخلافات والظلم والطغيان، فذكر أنّ المجتمع البشري الذي كان موحّداً ولا خلاف فيه قد تشتّت بعد ذلك، وبرزت فيه الخلافات، وظهرت عوامل البغي والفساد، وهناك عدد من الآيات القرآنية يشير إلى ذلك، من قبيل قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّٰهُ النَّبِيَّينَ مُبَشَّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقَّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيَّنَاتُ بَغْيَاً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّٰهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقَّ بِإِذْنِهِ وَاللّٰهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾(1).

وهناك آيات كثيرة أُخرى تشير إلى هاتين المرحلتين من حياة الإنسان على الأرض: (مرحلة الوحدة، ومرحلة التشتّت). فالأدوار التاريخية التي مرّت البشرية بها على أرضنا هذه هي ثلاثة أدوارٍ، كلّها مشار إليها في القرآن الكريم، وهي:

 


(1) البقرة: 213.

23

دور الحضانة

ولا نقصد به حضانة شخص أو فرد؛ لأنّ كلّاً مِنّا قد مَرَّ بدور حضانةٍ حينما كان طفلاً لا يعقل ولا يعي، فكان أبواه يحتضنانه، وإنّما نقصد به حضانة البشر بوصفهم بشر.

وهنا يرى أُستاذنا(قدس سره) _ بحسب ما يُفهم من عباراته_ أنّ قصّة آدم وحوّاء من هذا القبيل، أي: هو دور حضانة البشرية، وليس من قبيل حضانة الفرد. فيبدو من الآيات أنّ آدم وحوّاء كانا يدركان ويعيان؛ ولذلك قد وُجِّه إليهما التكليف؛ لأنّ غير الواعي _ كالطفل مثلاً _ لا يعقل تكليفه؛ ولذلك أيضاً تمكّن آدم من أن يكون أشرف من الملائكة، واستطاع أن يتعلّم الأسماء ويعرفها، فلو لم يكن آدم واعياً مدركاً، لما استطاع ذلك؛ ولهذا فإنّ دوره ليس دور حضانة فرد، وإنّما أسميناه بـ (دور الحضانة) قياساً إلى تاريخ البشرية، فهو دور حضانة البشر على وجه هذه الأرض.

ويشهد لذلك _ أي: لكون دور الحضانة دوراً تاريخيّاً أرضيّاً_ أنّه يستفاد من بعض الآيات أنّ الجنّة التي دخلها آدم وحوّاء لم تكن هي جنّة الآخرة، وإنّما كانت جنّة دنيوية (أرضية)، وذلك كقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنَّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا

24

مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدَّمَاءَ...﴾(1)، فظاهر الآية هو: أنّ آدم قد خُلِقَ على وجه الأرض، وهي التي يكون فيها الفساد وسفك الدماء دون جنّة الآخرة.

هذا، إضافة إلى أنّ قوله تعالى: ﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى* وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى﴾(2) يؤيّد أنّ قصّة آدم قد وقعت على أرضنا هذه؛ وذلك لأنّ الجوع والعري والظمأ وتعرّض الإنسان للشمس، إنّما يكون على الأرض؛ ولذلك فإنّ اللّه تبارك وتعالى قد ضمن لآدم أن لا يجوع فيها، ولا يعرى، ولا يظمأ، ولا يتعرّض للشمس فيها.

أمّا جنّة الآخرة، فليس فيها جوع ولا عري لكي يضمن تعالى لآدم أن لا يجوع فيها ولا يعرى، فهذا شاهد إذاً على أنّ القصّة قد وقعت على أرضنا هذه.

كما توجد في بعض الروايات إشارة إلى أنّ هذه الجنّة كانت جنّة أرضية؛ إذ تقول الرواية: «سئل الصادق(عليه السلام) عن جنّة آدم: أ مِن جنان الدنيا كانت أم من جنان الآخرة؟ فقال(عليه السلام): كانت من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنان الآخرة، ما أُخرج منها

 


(1) البقرة: 30.

(2) طه: 118 _ 119.

25

أبداً آدمُ، ولم يدخلها إبليس»(1).

وعليه نستطيع أن نجعل هذا الدور دوراً تاريخيّاً لهذه الأرض ولهذه البشرية، وأنّه ليس خارجاً عن عالمنا هذا وأرضنا هذه، وذلك خلافاً لبعض الروايات التي فرضت الجنّة في هذه القصّة هي جنّة الآخرة.

ويقول بعض المفسّرين: إنّ آدم كان في الجنّة السماوية والأُخروية، وإنّما قال اللّه تبارك وتعالى: ﴿إِنَّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾؛ لأنّه كان يعلم بأنّ آدم سيعصي، وسيخرج من الجنّة، ويهبط إلى الأرض؛ ولهذا فإنّه تعالى قال من أوّل الأمر: ﴿إِنَّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾.

غير أنّ هذا خلاف الظاهر؛ لأنّ ظاهر الآية المباركة هو أنّ آدم قد خُلِقَ أوّل ما خُلِقَ على الأرض كخليفة.

كما أنّ هناك عبارة في الآيات المباركة كُرَّرت مرّتين قد توحي إلى أنّ الجنّة ليست جنّة أرضية، وإنّما هي جنّة سماوية، وهي عبارة ﴿اهْبِطُوا﴾ و﴿اهْبِطَا﴾؛ إذ قال تعالى: ﴿... وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ


(1) تفسير القمّي، ج1، ص43؛ وراجع أيضاً البرهان في تفسير القرآن، ج1، ص180، ح2، 3 و4.

26

عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾(1). وقال تعالى أيضاً: ﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعَاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾(2).

فقد يقال: إنّ كلمة ﴿اهْبِطُوا﴾ أو ﴿اهْبِطَا﴾ يستفاد منها أنّ آدم في جنّة سماوية؛ ولهذا يقول: ﴿اهْبِطُوا﴾ أي: انزلوا؛ لأنّه لو كان آدم في الأرض، لما كان هناك معنىً لكلمة ﴿اهْبِطُوا﴾ أو ﴿اهْبِطَا﴾.

ولكن الجواب عن هذا واضح؛ لأنّ كلمة (هبط) صحيح أنّها جاءت في اللغة بمعنى النزول، ولكن معناها ليس منحصراً بالنزول، وإنّما استعملت في معنىً آخر، وهو معنى الانتقال، أو الدخول من مكان إلى آخر، كما وردت في القرآن الكريم آية تدلّ على ذلك، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَا سَأَلْتُمْ...﴾(3). فهنا كلمة ﴿اهْبِطُوا﴾ لا تعني: (انزلوا)؛ لأنّ بني إسرائيل كانوا على الأرض دون شكّ، ومع هذا فإنّ اللّه تبارك وتعالى قد قال


(1) البقرة: 36.

(2) طه: 123.

(3) البقرة: 61.

27

لهم: ﴿اهْبِطُوا مِصْراً﴾، فكلمة ﴿اهْبِطُوا﴾ أو ﴿اهْبِطَا﴾ لا تدلّ إذاً على أنّ آدم كان في جنّة الآخرة، وليس في جنّة الأرض.

ويشهد لكون قصّة آدم قصّة للبشرية بوصفهم بشرية لا قصّة له بوصفه فرد قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾(1)؛ إذ يفترض أنّ القصّة لم تكن قصّة آدم كشخص؛ ولذا خاطب البشرية كلّها بقوله: ﴿خَلَقْنَاكُمْ﴾ و﴿صَوَّرْنَاكُمْ﴾ في صورة آدم، فكان آدم إذاً هو المثال والفرد الذي يرمز إلى هذه البشرية.

فيبدو من هذه الآية المباركة أنّ القضية كانت قضية الإنسانية كلّها، ولم تكن قضية شخص آدم، وأنّ دور آدم لم يكن دوراً فرديّاً، وإنّما كان دوراً بشريّاً وإنسانيّاً.

ويشهد على ذلك ما أبدته الملائكة من التخوّف من الفساد وسفك الدماء؛ فإنّهما لم يكونا من قِبل آدم كفرد، وإنّما كانا من قِبل البشرية ككلّ، فلا ينظر إلى قصّة آدم إذاً كقصّة فرد، وإنّما ينظر إليها كقصّة إنسانية؛ ولذا فإنّ سجود الملائكة لم يكن سجوداً لآدم، فهو وإن كان


(1) الأعراف: 11.

28

بمعنىً من المعاني سجوداً لآدم، ولكنّه كان سجوداً للبشرية باعتبار أنّ البشرية في مقياس اللّه تعالى أفضل المخلوقات وأرقى الموجودات بما فيها الملائكة، فالإنسان أفضل حتّى من الملائكة.

صحيح أنّ فرداً من الإنسان قد يهبط إلى مستوى البهائم، ويصبح أضلّ من الحيوان والأنعام، إلّا أنّ البشرية هي أشرف عند اللّه من المَلَك الذي جُبِلَ على الطاعة، ولا يمتلك عدا العقل؛ إذ ليس له شيء من الشهوات، ولا يمكن المجبولَ على الطاعة أن يصل في مستوى الشرف إلى درجة ذلك الموجود غير المجبول على الطاعة الذي هداه اللّه تعالى النجدين، والذي يتمكّن من المعصية كما يتمكّن من الطاعة، ويمتلك قوى الشرّ كما يمتلك قوى الخير، ولكنّه صُمَّمَ وخُلِقَ بنحو يمكنه من تغليب قوى الخير على قوى الشرّ، فالسجود إنّما كان لآدم باعتباره رمزاً للبشرية.

فإذا اتّضح أنّ قصّة آدم وقعت على وجه الأرض، وأنّها هي قصّة البشرية لا قصّة فرد، اقترب إلى الذهن أنّ دوره كان هو دور حضانة البشرية على هذه الأرض.

مزايا وخصوصيّات دور الحضانة

لقد خلق اللّه تبارك وتعالى البشرية للكمال وتنمية قابليّاتها، وقد جعل اللّه تبارك وتعالى للإنسان ثلاث طرق أو أساليب من أجل أن

29

يمكَّنه من ارتقاء سلّم الكمال من خلالها:

الطريق الأوّل: العلم والمعرفة، فبقدر ما يكمل علم الإنسان وتكتمل معرفته، يستطيع أن يرقى ويكتمل، ولا يعني هذا: أنّ المعرفة والعلم _ بما هي معرفة وعلم _ كمال؛ لأنّ العلم قد يكون أحياناً وعند ترك العمل به أو استخدامه للشرّ وبالاً، ولكن هذا _ على أيّ حال _ طريق من طرق الكمال، وأُسلوب من أساليب الارتقاء، ولا يمكن الإنسانَ أن يكتمل من دونه.

الطريق الثاني: إلقاء المسؤولية على عاتق الإنسان، فهذا هو الطريق الثاني من طرق تكامل الإنسان؛ وذلك باعتبار أنّ الإنسان يعتمد هذه المسؤولية، ويعمل بموجبها.

فلو لم تلق المسؤولية على عاتق الإنسان، لما اختلف عن الحيوان؛ إذ إنّ سبب عدم نموّ الحيوان واكتماله يعود إلى عدم مسؤوليّته وكونه كائناً غير مسؤول.

الطريق الثالث: تحـمّل البلايـا والمـحن والصعـاب والمشاكل ابتداءً من المشاكل غير الاختيارية (الخارجة عن القدرة)، من قبيل المرض، وانتهاءً بالمصاعب التي يتحمّلها الإنسان بمحض إرادته واختياره، من قبيل الجهاد في سبيل اللّه، والقتل في سبيله؛ لنصرة كلمة الحقّ الذي

 

30

يستوجب الوصول إلى أعلى مراتب الكمال.

ويفترض أن يعفى الإنسان الذي يعيش مرحلة الحضانة _ أي: الإنسان المُحتضَن _ من النقطة الثالثة (وهي مجابهة المشاكل ومقارعة الصعاب)، فلابدّ إذاً من أن يكفل مـن هـذه النـاحية من قبل المـحتَضِن. ويمـكن أن نمـثّل لذلك بالطفل الذي يحتضنه أبواه باعتباره ليس بمستوى تحمّل المكاره ومجابهتها، وهذا مثال مع الفارق؛ لأنّ العلم غير موجود في حضانة الطفل؛ إذ إنّه لا يعقل شيئاً ولا يعي، كما أنّ المسؤولية غير ملقاة على عاتقه.

أمّا بالنسبة إلى دور حضانة البشرية التي مثّلها آدم، فإنّ اللّه تبارك وتعالى أراد أن يكمّل آدم في دور الحضانة؛ لكي يلقي على عاتقه المسؤوليّات كافّة، أي: الخلافة على وجه الأرض، فكفله من الجانب الثالث، ولم يبله بمقارعة المكاره والمصاعب، بل إنّه كفله حتّى من أقلّ الصعاب، كلبس الثياب والسعي وراء تحصيل الشبع، فصرّح له بقوله تعالى: ﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى﴾(1).

 


(1) طه: 118 _ 119.

31

إلّا أنّ اللّه تعالى قد فتح أمامه البابين الآخرين: باب العلم؛ إذ علّمه الأسماء ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾(1)، وباب تحميله المسؤولية حينما نهاه عن الأكل من هذه الشجرة(2).

ولو أنّ آدم(عليه السلام) كان قد أطاع اللّه تعالى، ولم يخالفه، وعمل بالمسؤولية الملقاة على عاتقه، لما أُخرج من الجنّة كما يبدو من ظاهر الآية، ولبقي فيها طيلة حياته؛ إذ إنّه إنّما أُخرج من الجنّة بسبب مخالفته للّه ‌تعالى، وهذا يعني: أنّ آدم لو استطاع أن ينجح في التجربة، لبرهن بذلك _ مع علم اللّه تعالى بذلك _ على أنّ البابين الأوّلين كافيان لرقيِّهِ ووصوله إلى مرتبة الكمال، ولا حاجة إلى باب مقارعة المشاكل والمصاعب، أي: إنّه لو تمكّن من النجاح في تلك التَجْربة، لكان هذا القدر كافياً لصعود الإنسان سلّم الكمال، ولكنّه(عليه السلام) تورّط، وأثبتت التَجْربة إخفاقه ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمَاً﴾(3). فإذا كان هذا الإنسان الذي هو

32

أشرف منّا وأطهر _ ما عدا الرسول(صلى الله عليه وآله) وآله الطاهرين(عليهم السلام) _ قد أخفق، فإنّ هذا يعني: إخفاق الإنسانية كلّها، ويعني: أنّ العلم والمعرفة وباب تحميل المسؤولية غير كافيين لكمال الإنسان ورقيّه، بل لابدّ من إضافة الجانب الثالث، وهو مواجهتهم للمشاكل؛ فإنّنا نلاحظ أنّ ذلك الوعد الإلهي ﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى...﴾ قد انتهى بمجرّد أن عصى آدم ربّه، فقد بدت لهما سوآتهما، وكان لابدّ لآدم أن يفكّر بعد المعصية بالثياب ﴿وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾؛ ذلك باعتبار أنّ الدور الذي تعهّد اللّه تعالى لهما به وتكفّل بهما قد انتهى عندما خالف آدم؛ لأنّه قد برهن بتلك المخالفة على أنّ البشرية غير ناجحة في الاكتفاء بطريق العلم والمسؤولية لترقى إلى مراتب الكمال، بل لابدّ من الطرق الثلاثة مجتمعة، وهي: العلم، والمسؤولية، وتحمّل الصعاب ومقارعتها.

وهذا واضح وبشكل أعمق بالنسبة إلى حياة غير آدم من البشر؛ إذ إنّه ممّا لا إشكال فيه هو أنّ البشرية لو كُفلت من زاوية المصاعب، لانحرفت حتماً. وإذا كان آدم(عليه السلام) قد اكتفى بالمعصية وترك الأولى، فإنّ أبناءه لن يكتفوا بمعصية واحدة ولطغوا، وهذا هو صريح القرآن: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾، وقد قهر اللّه عباده بالموت والفناء والأمراض وسائر الآفات؛ كي يجعلهم يسيرون على طريق الحقّ، ولولا هذا القهر وهذه المصاعب، لطغت البشرية، وادّعت

 


(1) البقرة: 31.

(2) ربما يرى بعض منّا أنّ هذه المسؤولية شيء بسيط، ولكنّها في الحقيقة ليست كذلك إذا لاحظنا أنّ آدم كان إنساناً بدور الحضانة، ولا يمتلك شيئاً من التجارب، وأنّ اللّه تبارك وتعالى مع علمه بذلك أراد أن يجرّبه بهذا الجانب.

(3) طه: 115.

33

الربوبية كما ادّعاها بعضهم.

ولكنّ إخراج اللّه تعالى لآدم من الجنّة لم يكن عقاباً له، ومجازاةً بمعنى مجازاة العاصين والمذنبين؛ لأنّ اللّه تعالى أجلّ وأعزّ وأرفع من أن يجازي ويعاقب المخطئ _ حتّى لو فرضنا أنّ ذلك الخطأ كان معصية، وليس تركاً للأولی _ ما لم يصل إلى مستوى الخبث، أو إلى المستويات التي لا يمكن أن يتقبّل فيها رحمة الربّ؛ لأنّ رحمة اللّه تعالى قد وسعت كلّ شيء، وسبقت غضبه، وليس من المحتمل أن يكون الخطأ الذي وقع فيه آدم(عليه السلام) قد عرّضه لعقاب تمثّل في إخراجه من الجنّة، وإنّما كان إخراجه من الجنّة باعتبار أنّ طريق تكامل البشر كان بحاجة إلى الخطوط الثلاثة معاً، وقد ثبت بالتَجْربة عدم كفاية الخطّين الأوّلين لتكامل البشرية مع علم اللّه تعالى بذلك قبل التَجْربة طبعاً.

هذا كلّه بلحاظ دور الحضانة على حدّ تعبير أُستاذنا الشهيد(قدس سره)، غير أنّه يجدر بنا الوقوف عند بعض النقاط التي لها علاقة بقصّة آدم(عليه السلام):

1_ عملُ الشيطان ومعصيتُه

قد خالف الشيطان ربّه وعصاه عندما أمر اللّه تعالى الملائكة بالسجود لآدم، فأطاعوا ما عدا إبليس، وهذا يستدعي منّا أن نقف اتّجاه ذلك العمل من زاويتين: