1

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أدوار حياة الإنسان
في القرآن الکريم

3

 

 

 

 

أدوار حياة الإنسان في القرآن الکريم

 

 

 

تأليف

 

سماحة آية الله العظمى السيد كاظم الحسيني الحائري دام ظله

 

 

4

حسيني حائري، كاظم، 1317

أدوار حيآة الإنسان في القرآن الکريم/ محاضرات کاظم الحسیني الحائري

قم: انتشارات دار الرسالة، 1443ق = 1401ش.

165ص.

                 شابك: 8_ 2_ 98061_ 622_ 978

فیپا

عربی

چاپ أول.

انسان _ _ تكامل _ _ جنبه هاي قرأني.

Human evolution - - Quranic teaching

رده بندي کنگره:         BP104              رده بندي ديويي: 159/297

شماره کتابشناسی ملی: 8912731

 

 

 

 

 

اسم الكتاب: أدوار حياة الإنسان في القرآن الکريم

المؤلف: سماحة آية الله العظمى السيد كاظم الحسيني الحائري

الناشر: دار الرسالة

الطبعة: الأُولی

المطبعة: گلوردی _ قم

تاريخ الطبع: 1443 هـ

الكميّة: 1000 نسخة

رقم الشابك: 8_ 2 _ 98061_ 622_ 978

5

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

 

 

 

7

 

 

 

کلمة المکتب

الكتاب الذي بين یديك هو في أصله سلسلة محاضرات عامّة لسماحة آية اللّه العظمى السيّد كاظم الحسيني الحائري دام ظلّه الوارف، ألقاها كتفسير موضوعي للقرآن الكريم في ليالي شهر رمضان المبارك في إحدى السنين بأُسلوب بسيط بعيد عن العمق والغور في المباحث العلمية والتفسيرية؛ لكي تتسنّى للجميع الاستفادة منها، ثم تمّ جمعها ونشرها في بعض أعداد مجلّة الحوار الفكري والسياسي عام (1405 هـ) إلى عام (1407 هـ) تحت عنوان سُنن التاريخ في القرآن الكريم، وبعد ذلك تمّ إعدادها بالشكل الماثل حاليّاً بمباشرة بعض المحققين.

راجين المولی(عز وجل) أن يتقبل هذا الجهد العلمي من سماحته وأن ينفع به أهل الفضل من المؤمنين. إنّه سميع مجيب.

قم المقدّسة

25 جمادی الأولی 1443هـ

 

9

 

 

المقدّمة

إنّ بحثنا في التفسير الموضوعي بمنزلة استمرار لبحث أُستاذنا الشهيد(1)، ولا أستطيع أن أقول استمرار؛ لأنّه كما يقال: «أين الثرى من الثريّا».

ومن الواضحات أنّ الكتاب الوحيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه هو القرآن الكريم، وهو الذي يُعتَبر وسيطاً بيننا وبين اللّه تعالى، وأنّ قراءته بتأنٍّ، ومطالعته بدقّة، والتأمّل في آياته في كلّ وقت وكلّ زمان، هي عبادة من أفضل العبادات.

وسيكون بحثنا في بعض الآيات المباركة وتفسيرها على مـنـهـج مـا سـمّـاه أُسـتـاذنا الشهـيد بالتفسـير الموضوعي، فلا نتناول آيات القرآن آية آية، ولا نبدأ من أوّل القرآن لنفسّر كلّ آية منه، وإنّما نتناول موضوعاً ما،


(1) المفكّر الإسلامي الكبير سماحة آية اللّه العظمى الشهيد السيّد محمدباقر الصدر(قدس سره).

10

ونعرضه على القرآن المجيد؛ لنستضيء بنور آياته المباركة.

وبودّي أن أبدأ البحث في آخر ما أشار إليه أُستاذنا الشهيد(قدس سره) _ ولم يكمل بحثه _ من موضوعات أبحاثه القيّمة التي بحثها في النجف الأشرف، والتي طبعت ونشرت تحت عنوان: (المدرسة القرآنية).

كما أودّ أن أُشير إلى أبحاثه(قدس سره) إشارة عابرة؛ لأبدأ من حيث انتهى.

ففي المحاضرات الأربع عشرة التي أفادها أُستاذنا الشهيد(قدس سره) ذكر قسمين من التفسير، وبيّن الفوارق بينهما، وسمّى أحدهما بـ (التفسير الموضوعي)، وقصد به التفسير الذي يدور حول موضوع معيّن، ويحاول أن يطرح المفهوم القرآني فيه. وسمّى القسم الآخر بـ (التفسير التجزيئي)، وهو الذي يأخذ كلّ آية من القرآن، ويحاول أن يفسّرها.

وقد بحث أُستاذنا الشهيد(قدس سره) عن الفرق بين هذين التفسيرين، وشرح الفوارق بينهما، وبيّن الفوائد المهمّة التي تترتّب على التفسير الموضوعي التي يفتقدها التفسير التجزيئي، علماً بأنّ التفسير التجزيئي هو مقدّمة للتفسير الموضوعي، أي: إنّ التفسير الموضوعي يجب أن يمرّ أوّلاً بالتفسير التجزيئي.

ثم بدأ بعد ذلك بالبحث في بعض المواضيع التي ينبغي أن نكوّن حولها المفهوم القرآني، فبدأ أوّلاً ببيان سُنن التاريخ والركائز الأساسية

11

التي تستفاد من القرآن الكريم حولها، وبيّن أنّ القرآن الكريم قد صرّح بأنّ التاريخ ليس مجرّد وقائع مبعثرة، وإنّما هو عبارة عن وقائع مترابطة، وأنّ كلّ أُمّة من الأُمم لا تتولّد بشكل عفوي، ولا تموت بشكل عفوي، وإنّما لكلّ أُمّة أجل محتّم، واستشهد(قدس سره) بآيات عديدة تدلّ على ذلك، من قبيل قوله تعالى: ﴿وَلِكُلَّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾(1).

ثم شرح الأُسس التي تتحكّم في التاريخ: من قبيل أسـاس: ﴿إِنَّ اللّٰهَ لَا يُـغَيَّرُ مَـا بِـقَوْمٍ حَـتَّى يُـغَيَّرُوا مَـا بِأَنْفُسِهِمْ﴾(2).

ومن قبيل أساس: أنّ الأُمّة لو ظلمت وفسقت ستهلك، وهذا ممّا لا مناص ولا مفرَّ منه، كما دلّ على ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرَاً﴾(3).

ومن قبيل الأساس أو القانون الاجتماعي الآخر الذي يقول: إنّ البشرية لو طبّقت العدالة، وعملت بالفرائض المفروضة عليها من


(1) الأعراف: 34.

(2) الرعد: 11.

(3) الإسراء: 16.

12

قبل السماء، لانتشرت النعمة، وكثرت البركة، وعمّت الرحمة، كما يدلّ على ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيْلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبَّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾(1).

ثم بـحث أُستاذنا(قدس سره) مـوضوعاً ثانيـاً، وربطه بهذا الموضوع (سُنن التاريخ)، ولم يفصل بينهما، فبحث في عناصر المجتمع، فكان عبارة عن تكملة للبحث في سُنن التاريخ، فقد ذكر أنّ سُنن التاريخ على قسمين:

الأوّل: السُنن الصارمة التي لا يمكن أن تتخلّف: من قبيل أنّ النار تحرق، وأنّ اللّه تعالى لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم، وأنّ البشرية لو التفّت حول العدل لانتشرت النعم. فهذه وأشباهها سُنن تاريخية تشبه السُنن التكوينية في صرامتها كإحراق النار.

والقسم الآخر: هي السُنن الإلهية المودعة في التركيبة البشرية والتاريخ والعالم، وليست هي ممّا لا يمكن أن يتخلّف؛ إذ يستطيع الإنسان _ الفرد أو الأُمّة _ أن يتحدّى هذا النوع من السُنن، غير أنّ نتيجته ستكون الاضمحلال والانتهاء والهلاك عاجلاً أم آجلاً؛ وذلك بسبب تحدّيه لها. وذكر أُستاذنا(قدس سره) مثالين لذلك:


(1) المائدة: 66.

13

الأوّل: سُنّة الزواج؛ إذ إنّ الارتباط الجنسي بين الرجل والمرأة سُنّة أودعها اللّه تبارك وتعالى في طبيعة البشر، إلّا أنّها ليست من قبيل السُنن الصارمة التي لا يمكن أن يتحدّاها الإنسان، فقد تحدّت بعض المجتمعات والأُمم هذه السُنّة، من قبيل قوم لوط؛ إذ إنّهم انحرفوا عن هذه السُنّة، واكتفوا بممارسة ذلك العمل القبيح، غير أنّ النتيجة كانت هي اضمحلال هذه الأُمّة وانتهائها.

والمثال الآخر: الدين، فذكر(قدس سره): أنّ الدين سُنّة إلهية ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدَّينِ حَنِيفَاً فِطْرَتَ اللّٰهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّٰهِ ذَلِكَ الدَّينُ الْقَيَّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾(1).

فالدين سُنّة من سُنن التاريخ، إلّا أنّه يختلف عن السُنن الصارمة التي لا يمكن تخلّفها؛ إذ إنّ الدين سُنّة من سنخ سُنّة الزواج التي تحدّاها بعض الكافرين والمشركين، وإنّ تحدّيها سيؤدّي بالمتحدّي إلى الانتهاء عاجلاً أم آجلاً.

ولتوضيح أنّ الدين كيف أصبح سُنّة تاريخية، وكيف أمكن تحدّيها بدأ أُستاذنا(قدس سره) ببحث الموضوع الثاني، وهو عناصر المجتمع؛ لكي


(1) الروم: 30.

14

يبيّن موقع الدين من عناصر المجتمع، فذكر أنّ عناصر المجتمع _ أيّ مجتمع من المجتمعات _ ثلاثة:

العنـصر الأوّل: البشـر أو الإنسان؛ إذ لا مجتمع بلا إنسان، كما هو واضح.

العنـصر الثاني: الطبيعة التي يتصارع الإنسان معها.

الـعنصر الثالـث: العـلاقة الـمعنوية الـموجودة بـين الإنسان والطبيعة أوّلاً، والعلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان ثانياً، وهذا ما يتّفق عليه الجميع، والعلاقة بين الإنسان واللّه تعالى ثالثاً، وهذا على رأي المؤمنين باللّه تعالى فقط.

فبيّن أُستاذنا(قدس سره) أنّ العلاقة الموجودة بين الإنسان وأخيه الإنسان من ناحية، والعلاقة الموجودة بين الإنسان والطبيعة من ناحية أُخرى متعاكستان، وتؤثّر كلّ واحدة منهما بالأُخرى بعكس ما تؤثّر الأُخرى بها، أي: إنّ علاقة الإنسان بأخيه الإنسان تتناسب عكسيّاً مع علاقته بالطبيعة، وإنّها سوف تنتكس بقدر ما تزدهر علاقته بالطبيعة.

فعندما تكون علاقة الإنسان بالطبيعة على مستوى أن ينغمس فيها، ويتعلّق بها، وتزداد سيطرته عليها، وتتحكّم هيمنته على خيراتها وثرواتها، فإنّه سوف يصبح مترفاً ومتنعّماً، وهذا يؤثّر عكسيّاً على علاقته بالبشر، أي: إنّ علاقته بأخيه الإنسان تكون سيَّئة، وذلك

 

15

كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَآهُ اسْتَغْنَى﴾(1).

هذا إذا لم يكمل الإنسان نفسه بالالتزام بقيم السماء وتعاليم الدين.

كما أنّ علاقة الإنسان بأخيه الإنسان تؤثّر طرديّاً على علاقته بالطبيعة، فعندما تتحسّن علاقة الإنسان بأخيه الإنسان تتذلّل له الطبيعة، وتنفتح أمامه آفاق الرحمة وأبواب النعم، كما قال تعالى: ﴿وَأَن لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَاءً غَدَقَاً﴾(2).

وبهذا أنهى أُستاذنا(قدس سره) بحثه، وبعد انتهائه من هذين الموضوعين أشار إلى موضوع ثالث مكمّل لهذين الموضوعين، وهو: أدوار التاريخ في القرآن، وقد أشار إليه في آخر محاضرة له، إلّا أنّه لم يتطرّق له بصورة مفصّلة.

كاظم الحسيني الحائري

 


(1) العلق: 6 _ 7.

(2) الجن: 16.

17

 

 

 

 

⬤ الأدوار التاريخية لحياة الإنسان على الأرض في القرآن الكريم.

⬤ الأدوار في الحياة الأُخرى.

⬤ دور القضاء والقدر.

 

 

 

 

 

 

19

 

 

 

الأدوار التاريخية لحياة الإنسان على الأرض في القرآن الكريم

⬤ دور الحضانة

⬤ دور الوحدة

⬤ دور التشتّت

⬤ دور العدل

 

 

 

 

 

 

21

ما هي

ما هي أدوار التاريخ البشري من زاوية القرآن الکريم؟

لقد أشار أُستاذنا(قدس سره) إلى أنّ أدوار التاريخ في القرآن الكريم ثلاثة أدوار، وهي:

الأوّل: دور الحضانة: دور حضانة البشر.

الثاني: دور الوحدة: دور وحدة البشر.

الثالث: دور التشتّت: دور تشتّت البشر.

ويشير أُستاذنا(قدس سره) بدور حضانة البشر إلى قصّة آدم وحوّاء(عليهما السلام) اللذين أُحتُضِنا بمكان اسمه (الجنّة)، وهناك الكثير من الآيات الكريمة التي تشير إلى هذه القصّة، كقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنَّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدَّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبَّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدَّسُ لَكَ قَالَ إِنَّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾(1).

 


(1) البقرة: 30.

22

وأشار أُستاذنا(قدس سره) بدور الوحدة إلى تاريخ ما قبل بروز الخلافات في المجتمع بما هو مجتمع لا بما هو أفراد، كخلاف قابيل وهابيل؛ لأنّه ليس خلافاً عامّاً وشاملاً.

كما أشار أُستاذنا(قدس سره) بدور التشتّت إلى ما بعد بروز الخلافات والظلم والطغيان، فذكر أنّ المجتمع البشري الذي كان موحّداً ولا خلاف فيه قد تشتّت بعد ذلك، وبرزت فيه الخلافات، وظهرت عوامل البغي والفساد، وهناك عدد من الآيات القرآنية يشير إلى ذلك، من قبيل قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّٰهُ النَّبِيَّينَ مُبَشَّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقَّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيَّنَاتُ بَغْيَاً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّٰهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقَّ بِإِذْنِهِ وَاللّٰهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾(1).

وهناك آيات كثيرة أُخرى تشير إلى هاتين المرحلتين من حياة الإنسان على الأرض: (مرحلة الوحدة، ومرحلة التشتّت). فالأدوار التاريخية التي مرّت البشرية بها على أرضنا هذه هي ثلاثة أدوارٍ، كلّها مشار إليها في القرآن الكريم، وهي:

 


(1) البقرة: 213.

23

دور الحضانة

ولا نقصد به حضانة شخص أو فرد؛ لأنّ كلّاً مِنّا قد مَرَّ بدور حضانةٍ حينما كان طفلاً لا يعقل ولا يعي، فكان أبواه يحتضنانه، وإنّما نقصد به حضانة البشر بوصفهم بشر.

وهنا يرى أُستاذنا(قدس سره) _ بحسب ما يُفهم من عباراته_ أنّ قصّة آدم وحوّاء من هذا القبيل، أي: هو دور حضانة البشرية، وليس من قبيل حضانة الفرد. فيبدو من الآيات أنّ آدم وحوّاء كانا يدركان ويعيان؛ ولذلك قد وُجِّه إليهما التكليف؛ لأنّ غير الواعي _ كالطفل مثلاً _ لا يعقل تكليفه؛ ولذلك أيضاً تمكّن آدم من أن يكون أشرف من الملائكة، واستطاع أن يتعلّم الأسماء ويعرفها، فلو لم يكن آدم واعياً مدركاً، لما استطاع ذلك؛ ولهذا فإنّ دوره ليس دور حضانة فرد، وإنّما أسميناه بـ (دور الحضانة) قياساً إلى تاريخ البشرية، فهو دور حضانة البشر على وجه هذه الأرض.

ويشهد لذلك _ أي: لكون دور الحضانة دوراً تاريخيّاً أرضيّاً_ أنّه يستفاد من بعض الآيات أنّ الجنّة التي دخلها آدم وحوّاء لم تكن هي جنّة الآخرة، وإنّما كانت جنّة دنيوية (أرضية)، وذلك كقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنَّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا

24

مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدَّمَاءَ...﴾(1)، فظاهر الآية هو: أنّ آدم قد خُلِقَ على وجه الأرض، وهي التي يكون فيها الفساد وسفك الدماء دون جنّة الآخرة.

هذا، إضافة إلى أنّ قوله تعالى: ﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى* وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى﴾(2) يؤيّد أنّ قصّة آدم قد وقعت على أرضنا هذه؛ وذلك لأنّ الجوع والعري والظمأ وتعرّض الإنسان للشمس، إنّما يكون على الأرض؛ ولذلك فإنّ اللّه تبارك وتعالى قد ضمن لآدم أن لا يجوع فيها، ولا يعرى، ولا يظمأ، ولا يتعرّض للشمس فيها.

أمّا جنّة الآخرة، فليس فيها جوع ولا عري لكي يضمن تعالى لآدم أن لا يجوع فيها ولا يعرى، فهذا شاهد إذاً على أنّ القصّة قد وقعت على أرضنا هذه.

كما توجد في بعض الروايات إشارة إلى أنّ هذه الجنّة كانت جنّة أرضية؛ إذ تقول الرواية: «سئل الصادق(عليه السلام) عن جنّة آدم: أ مِن جنان الدنيا كانت أم من جنان الآخرة؟ فقال(عليه السلام): كانت من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنان الآخرة، ما أُخرج منها

 


(1) البقرة: 30.

(2) طه: 118 _ 119.

25

أبداً آدمُ، ولم يدخلها إبليس»(1).

وعليه نستطيع أن نجعل هذا الدور دوراً تاريخيّاً لهذه الأرض ولهذه البشرية، وأنّه ليس خارجاً عن عالمنا هذا وأرضنا هذه، وذلك خلافاً لبعض الروايات التي فرضت الجنّة في هذه القصّة هي جنّة الآخرة.

ويقول بعض المفسّرين: إنّ آدم كان في الجنّة السماوية والأُخروية، وإنّما قال اللّه تبارك وتعالى: ﴿إِنَّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾؛ لأنّه كان يعلم بأنّ آدم سيعصي، وسيخرج من الجنّة، ويهبط إلى الأرض؛ ولهذا فإنّه تعالى قال من أوّل الأمر: ﴿إِنَّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾.

غير أنّ هذا خلاف الظاهر؛ لأنّ ظاهر الآية المباركة هو أنّ آدم قد خُلِقَ أوّل ما خُلِقَ على الأرض كخليفة.

كما أنّ هناك عبارة في الآيات المباركة كُرَّرت مرّتين قد توحي إلى أنّ الجنّة ليست جنّة أرضية، وإنّما هي جنّة سماوية، وهي عبارة ﴿اهْبِطُوا﴾ و﴿اهْبِطَا﴾؛ إذ قال تعالى: ﴿... وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ


(1) تفسير القمّي، ج1، ص43؛ وراجع أيضاً البرهان في تفسير القرآن، ج1، ص180، ح2، 3 و4.