عمل الحرّ بحبسه مجرّد كون العمل ذا مالية، فنحن نفصّل في ضمان عمل الحرّ بالحبس بين أن يكون أجيراً لعمل فيحبس، وأن يكون کسوباً حتّى لو لم يكن أجيراً فيحبس، وبين أن يكون بطّالاً فيحبس، ففي الأوّل نؤمن بضمان أُجرة عمله على أساس قاعدة نفي الضرر، وفي الثاني نؤمن بضمان قيمة المثل لعمله على أساس قاعدة نفي الضرر أيضاً وفي الثالث لا نؤمن بضمان عمله.
وأمّا استشكال الشيخ رحمه الله في مالية مثل حقّ التحجير ونحوه بعد اعترافه بالمقابلة بالمال في الصلح، فلا أعرف وجهه.
الفرق بين الثمن والمثمن أو البائع والمشتري
بقي الكلام فيما أفاده أُستاذنا الشهيد رحمه الله في التمييز بين الثمن والمثمن، أو قل: بين البائع والمشتري؛ ذلك أنّ السيّد الحكيم رضوان الله عليه أفاد في منهاج الصالحين ما لفظه: «معنى البيع قريب من معنى المبادلة»، وعلّق أُستاذنا الشهيد رحمه الله على هذه العبارة بقوله: «مع اختلاف بين نظري الطرفين بحيث يكون نظر أحدهما إلى المال بخصوصه ونظر الآخر إلى ماليّته، وأمّا إذا تساويا في النظر فلا يطلق عليه البيع وإن كان مبادلة»(1).
وقد أخذ أُستاذنا الشهيد هذا المطلب من أُستاذه السيّد الخوئي رحمه الله، فإنّه صرّح أيضاً _ على ما ورد في محاضرات السيّد علي الشاهرودي(2)، ومصباح الفقاهة للتوحيدي(3)_ بالفرق بين البائع والمشتري بكون أحدهما ناظراً إلى المال بخصوصه، والآخر إلى المالية، ولو تساويا كان ذلك مبادلة، ولم يكن بيعاً وشراءً.
أقول: إنّ تخصيص البيع بما إذا كان نظر أحد الطرفين إلى المال بخصوصه ونظر
(1) منهاج الصالحين(المحشی للحکيم)، ج2، ص20.
(2) راجع المحاضرات، ج2، ص28.
(3) مصباح الفقاهة، ج2، ص9.
الآخر إلى المالية قابل للمنع، فليكن تخصيص أحدهما باسم المثمن والآخر باسم الثمن، أو تخصيص أحد المتعاملين باسم البائع والآخر باسم المشتري مشروطاً بذلك، وإذا تساويا في النظر إلى المال أو المالية، فليكن كلاهما ثمناً ومثمناً، وكلاهما بائعاً ومشترياً، أمّا تخصيص اسم البيع بفرض عدم التساوي في ذلك فليس عرفيّاً، كيف وبيع المقايضة كانت شائعاً في صدر الإسلام وما قبله، والنظر في طرفي المبادلة في باب المقايضة يكون في الغالب متماثلاً بلحاظ الطرفين، وأيضاً لا شكّ في أنّ بيع الصرف يعتبر عرفاً بيعاً مع أنّه يكون النظر بلحاظ الطرفين في الدينار والدرهم متماثلاً في كثير من الأحيان.
نعم، في زماننا هذا تعارف التبادل بين النقد الأجنبي كالدولار بنقد البلد في العراق أو إيران وغيرهما، والغالب: أنّ النظر لدافع النقد الأجنبي إلى المال، ولمن يأخذ النقد الأجنبي في مقابل نقد البلد إلى المالية.
والظاهر: أنّ تعيين الثمن والمثمن في البيع لا يترتّب عليه أثر عملي مهمّ، فخيار المجلس مثلاً ثابت في كلا الجانبين، وكذلك خيار الشرط أو خيار تخلّف الشرط ونحو ذلك، وخيار الحيوان لصاحب الحيوان سواء فرض ثمناً أو مثمناً؛ وذلك لصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سمعته يقول: قال رسول الله(صل الله عليه وآله): البيّعان بالخيار حتّى يفترقا، وصاحب الحيوان ثلاثة أيّام...»(1) .
وأكثر روايات الباب وإن قيّدت خيار الحيوان بالمشتري(2)، لكن لا مفهوم لها ولو بنحو القضية الجزئية بعد وضوح أنّ صاحب الحيوان غالباً هو المشتري، فيكفي في عقلائية ذكر وصف المشتري تنزيله منزلة الغالب.
(1) الكافي، ج5، ص170، باب الشرط والخيار في البيع من کتاب المعيشة، ح4؛ وسائل الشيعة، ج18، ص11، الباب3 من أبواب الخيار، ح6.
(2) راجع وسائل الشيعة، ج18، ص10، الباب3 من أبواب الخیار.
وفي ختام البحث أقول: من يرى أنّ البيع لا يكون إلّا إذا اختلف البائع عن المشتري في كون نظر أحدهما إلى المال ونظر الآخر إلى المالية، أو من يقول: لا يكون البيع إلّا إذا كان تمليك أحدهما بالمطابقة والتملّك بالضمن والآخر بالعكس، كي يتميّز البائع عن المشتري، أو من يقول مثلاً: لا يكون البيع إلّا إذا كان أحدهما يعرض السلعة والآخر يعرض النقد، فلو تساويا لم يكن بيعاً، فيا تُرى هل يلتزم لدى التساوي بعدم خيار المجلس أو خيار الحيوان؛ لأنّ خيار المجلس للبيّعين وخيار الحيوان أيضاً للبيّعين أو للمشتري، أو لا؟!
تعريف البيع في الفقه الوضعي
وأخيراً لا بأس بأن نشير إلى ما قاله الدكتور عبدالرزّاق السنهوري في تعريف البيع بحسب التقنين الوضعي المدني المصري الجديد قال:
«البيع عقد يلتزم به البائع أن ينقل ملكية شيء أو حقّاً ماليّاً آخر في مقابل ثمن نقدي»(1).
ثم يشير السنهوري إلى مواد القوانين المدنية الوضعية العربية لبلاد أُخرى تعطي ما يطابق أو يشابه نفس المعنى من التقنين المدني السوري والليبي والعراقي واللبناني.
ثم يقول: «ويستخلص من هذا التعريف: أنّ البيع عقد ملزم للجانبين؛ إذ هو يلزم البائع أن ينقل للمشتري ملكية شيء أو حقّاً ماليّاً آخر، ويلزم المشتري أن يدفع للبائع مقابلاً لذلك ثمناً نقديّاً، ويستخلص منه أيضاً: أنّ البيع عقد معاوضة، فالبائع يأخذ الثمن مقابلاً للمبيع، والمشتري يأخذ المبيع مقابلاً للثمن، ويستخلص منه كذلك: أنّ البيع عقد رضائي؛ إذ لم يشترط القانون لانعقاده شكلاً خاصّاً، فهو ينعقد بمجرّد تراضي المتبايعين، ويستخلص منه أخيراً: أنّ البيع عقد ناقل للملكية، فهو يرتّب
(1) الوسيط في شرح القانون المدني، ج4، ص20.
التزاماً في ذمّة البائع بنقل ملكية المبيع إلى المشتري كما هو صريح النص»(1).
إلى أن يقول: «إنّ التعريف يبيّن في وضوح: أنّ الثمن لابدّ أن يكون من النقود، وهذا ما يميّز البيع عن المقايضة والصرف ويميّزه عن البيع في الفقه الإسلامي، ففي هذا الفقه يصحّ أن يكون الثمن من غير النقود، فيتّسع البيع فيه ليشمل البيع المطلق والمقايضة والصرف والسلم.
ولعلّ أهمّ تطوّر في تاريخ البيع هو تطوّره ليكون عقداً ناقلاً للملكية... إنّ البيع لم يكن في القديم عقداً ناقلاً للملكية، فقد كان البيع في القانون الروماني لا يرتّب في ذمّة البائع التزاماً بنقل الملكية، بل التزاماً بنقل حيازة المبيع إلى المشتري، إلّا إذا اشترط المشتري على البائع أن ينقل له الملكية، وكذلك كان الحكم في القانون الفرنسي القديم، فكانت الملكية لا تنتقل فيه إلّا بالقبض، ولكن مراحل طويلة من التطوّر في هذا القانون انتهت إلى أن يكون القبض أمراً صوريّاً، وكان يكفي أن يذكر في عقد البيع: أنّ القبض قد تمّ حتّى تنتقل ملكية المبيع إلى المشتري، وقطع التقنين المدني الفرنسي في سنة (1804م) آخر مرحلة من مراحل التطوّر، فجعل البيع ذاته ناقلاً للملكية؛ إذ رتّب في ذمّة البايع التزاماً بنقلها إلى المشتري. ومن ذلك الحين أصبح البيع ناقلاً للملكية في التقنينات الحديثة، ومنها التقنين المصري السابق والتقنين المصري الجديد وإن كان الفقه الإسلامي قد تعجّل هذا التطوّر، وجعل البيع ناقلاً للملكية قبل ذلك بدهور طويلة»(2).
(1) الوسيط في شرح القانون المدني، ج4، ص23.
(2) المصدر السابق، ج4، ص22 _ 23.
لا إشكال في أنّ عقد البيع بحاجة إلى إبراز الإرادة، أو قل: إبراز إنشاء العقد، ولا ينبغي الإشكال في أنّ الارتكاز العقلائي لا يفرّق في حصول الملك اللازم في البيع بين أيّ مبرز لتلك الإرادة أو الإنشاء ولو كان بالفعل الذي قد يدلّ وحده أو بضمّ قرينة على المقصود، وهذا هو ما يسمّی بالمعاطاة.
إلّا أنّه قد ادّعي إجماع علمائنا القدامى على عدم إفادتها للملك، أو عدم إفادتها للملك اللازم.
والأقوال المنقولة عنهم في الكتب المطوّلة عديدة مع اختلافهم في تعدادها وكيفية تعديدها وتقريرها، ومن أرادها راجع تلك الكتب.
والذي نركّز عليه الحديث باختصار في مسألة الإجماع على ذلك هو أنّه لو كان الإجماع محصّلاً لدينا على ذلك لما كانت له حجّية لنا ما لم يؤدّ إلى العلم أو الاطمئنان _ على الأقلّ _ برأي الشرع عن طريق الحدس.
ونشير إلى أنّ الإجماع المركّب لا قيمة له في نفي رأي آخر إلّا إذا رجع بروحه إلى الإجماع البسيط، بأن نعرف أنّ صاحب كلّ قول كان ملتزماً بالجامع بين تلك الأقوال إلى جنب اختياره لذاك القول، لا لأجل أنّ ذاك القول ينتزع منه ومن غيره ذاك
الجامع، فلو بطل لديه قوله بقي معتقداً بالجامع بحدّ ذاته اعتقاداً مستقلّاً، أمّا لو لم يكن الأمر كذلك، فنفس الاختلاف في الآراء عامل مساعد كبير في عدم تحقّق ذاك الحدس بقول الشارع الذي عليه مدار العمل بالإجماع عندنا. ولدينا شيء من تفصيل الكلام حول دعوى الإجماع على عدم إفادة المعاطاة للملك اللازم في الجزء الأوّل من كتابنا (فقه العقود).
ثم إنّ ما أشرنا إليه من أنّ الارتكاز العقلائي لا يفرّق في إبراز الإرادة أو العقد أو العهد أو الإنشاء لتحقّق البيع لا إشكال في أنّه عامل مساعد لجانب القول بصحّة المعاطاة في البيع وإفادتها للملك اللازم.
أدلّة إفادة المعاطاة للملك
ولكن مع هذا لابدّ من الالتفات التفصيلي إلى الوجوه التي يمكن أن يستدلّ بها على المقصود، فإنّ مجرّد كون الارتكاز العقلائي مساعداً للأمر لا يكفي للإفتاء الشرعي بذلك. والوجوه التي بنينا على الإشارة إليها ما يلي:
الأوّل: سيرة المتشرّعة، حيث يدّعى قيامها قديماً وحديثاً على بيع المعاطاة وعدم التفريق بينها وبين ما يسمّى بالبيع العقدي في الآثار، وسيرة المتشرّعة المتّصلة بزمان المعصوم تكون في طول رأي المعصوم، وتكشف عنه.
وأقلّ إيراد يرد على ذلك: أنّنا لا نثق بأنّ سيرتهم على ذلك كانت سيرة لهم بما هم متشرّعة، فإنّهم في نفس الوقت عقلاء ويمتلكون ذاك الارتكاز العقلائي الذي أشرنا إليه، فلعلّهم إنّما قامت سيرتهم على ذلك بسبك ذاك الارتكاز العقلائي، فترجع سيرتهم إلى السيرة العقلائية.
الثاني: دعوى سيرة العقلاء المتّصلة بزمن المعصوم مع عدم صدور الردع المناسب عن ذلك من قِبل المعصوم، وذلك يكشف كشفاً قطعيّاً عن رأي المعصوم.
وهذا بيان صحيح لو لم نفترض صدور الردع. وهذا ما سنبحثه _ إن شاء الله _ (بعد الانتهاء من أدلّة صحّة العقد المعاطاتي) كإشارة إلى ما قد يفترض دليلاً لفظيّاً لبطلان المعاطاة.
الثالث: قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرَّبَا﴾(1)؛ إذ لا إشكال في أنّ المعاطاة بيع عند العرف، فتشملها هذه الآية المباركة.
ولا فرق في ذلك بين أن نفترض أنّ الحلّ هنا حلّ وضعي، والمقصود بالبيع هو السبب، فالآية تدلّ مباشرة على صحّة البيع المعاطاتي بالإطلاق.
أو نفترض أنّ الحلّ هنا حلّ تكليفي يتعلّق بالمسبّب، أي إنّ الآية تحلّل الأكل والتصرّف في المبيع، فتدلّ بالملازمة على صحّة البيع، وتشمل بالإطلاق حلّية الأكل والتصرّف في البيع المعاطاتي.
الرابع: قوله تعالى: ﴿إلَّا أَنْ تَكُوْنَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مَّنْكُمْ﴾(2)؛ إذ لا شكّ أنّ البيع المعاطاتي عن تراض تجارة عند العرف، فتشملها الآية الكريمة.
الخامس: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوْا أَوْفُوْا بِالْعُقُوْدِ,﴾(3). بناء على ما استظهره السيّد الإمام(رضوان الله عليه): من أنّ المقصود بالعقد _ على ما هو المتبادر عرفاً _ تبادل الإضافتين الاعتباريّتين، فالإضافة الاعتبارية كأنّها هي الحبل، وتبادل الإضافتين هو العقدة، كما قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَعْزِمُوْا عُقْدَةَ النَّكَاحِ﴾(4).
وقوله تعالى: ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النَّكَاحِ﴾(5).
(1) البقرة: 275.
(2) النساء: 29.
(3) المائدة: 1.
(4) البقرة: 253.
(5) البقرة: 237
قال (رحمه الله): إنّ العرف يساعد على هذا المعنى، وليس ما يقال: من أنّ العقد هو العهد الموثّق(1).
أقول: بناء على صحّة هذا الاستظهار _ كما هو الظاهر _ يكون عندنا في المقام أُمور ثلاثة:
الأوّل: الأمر بالوفاء بالعقد، وهذا يدلّ على لزوم العقد.
والثاني: أنّ الأمر بالوفاء بالعقد يدلّ على صحّة العقد؛ لأنّه لا يحتمل عرفاً ولا متشرّعيّاً وجوب الوفاء بالعقد الباطل، وبما أنّ المعاطاة عقد عرفاً وإن كان مبرزه الفعل، فإطلاق الآية يدلّ على صحّتها. وخروج البيع الربوي أو القرض الربوي يكون بالتخصيص.
والثالث: متعلّق العقد، أعني العوضين، أو قل: المال الذي تعلّقت الإضافة الاعتبارية به. والظاهر أنّ هذا يعتبر موضوعاً مفروغاً عنه في الكلام، فخروج ما يكون من ذلك غير شرعي كما في بيع الخمر لا يعتبر تخصيصاً.
وعليه فمتى ما كان الشكّ في شرعية متعلّق العقد أو ماليّته مثلاً لم يمكن إثبات شرعيّته بإطلاق هذه الآية، ومتى ما كان الشكّ في شرعية العقد، أي نفوذه من دون إشكال في المتعلّق صحّ تنفيذه بإطلاق هذه الآية.
ومن هنا نصحّح العقود الحديثة کعقود التأمين بإطلاق هذه الآية.
والشبهة الوحيدة التي توجد في هذا الوجه هي ورود بعض الروايات في تفسير العقد في الآية الكريمة بالعهد، وفيها رواية تامّة السند، وهي ما رواه علي بن إبراهيم عن أبيه عن النضر بن سويد عن عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله(عليه السلام): «قوله: ﴿أَوْفُوْا بِالْعُقُوْدِ﴾ قال: بالعهود»(2).
(1) راجع كتاب البيع (للإمام الخميني(رحمه الله))، ج1، ص102 _ 103.
(2) تفسير القمي، ج1، ص160.
وتوجد في المقام مرسلة العيّاشي عن ابن سنان، قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن قول الله(عز وجل) :﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوْا بِالْعُقُوْدِ﴾ قال: العهود»(1).
ويحتمل كونها _ في الحقيقة _ عين الرواية الأُولى.
وروى علي بن إبراهيم عن الحسين بن محمد عن المعلّى بن محمد البصري عن ابن أبي عمير عن أبي جعفر الثاني عليه السلام في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوْا بِالْعُقُوْدِ﴾: قال: «إنّ رسول الله(صل الله عليه وآله) عقد عليهم لعليّ بالخلافة في عشرة مواطن، ثم أنزل الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوْا بِالْعُقُوْدِ﴾ التي عقدت عليكم لأمير المؤمنين(عليه السلام)»(2)، والسند غير تام.
ولا شكّ أنّ عقد رسول الله(صل الله عليه وآله) لعليّ عليه السلام في تلك المواطن لم يكن إلّا عبارة عن تعهيد الأُمّة بذلك.
ويمكن أن يقال في المقام: إنّ الجمع بين الفهم العرفي لكلمة العقد الذي هو عبارة عن العقود الاعتبارية وتبادل الإضافات وهذه الروايات يقتضي أن نقول: ليس المقصود بهذه الروايات سلخ كلمة العقد في الآية عن معناها العرفي، بل المقصود توسيع المقصود بها لجامع الشدّ الموجود في العقود الاعتبارية وفي العهود.
السادس: قوله(صل الله عليه وآله): «الناس مسلّطون على أموالهم»(3).
فيقال: إنّ مقتضى إطلاق الحديث هو التسلّط على البيع المعاطاتي.
إلّا أنّ هذا الوجه لا قيمة له لا سنداً ولا دلالةً:
أمّا من حيث السند فلأنّ هذه الرواية هي النبوية المرسلة لعوالي اللآلي، ولا اعتبار بذلك.
(1) وسائل الشيعة، ج23، ص327، الباب25 من کتاب النذر والعهد، ح3.
(2) تفسير القمي، ج1، ص160.
(3) عوالي اللئالي، ج3، ص208، باب التجارة، ح60.
وأمّا من حيث الدلالة فإنّ معنى الرواية هو أنّ رأس خيط التصرفات سواء الاستهلاكية أو الاعتبارية إنّما أُعطي بيد المالك، أمّا أنّ أيّ تصرّف اعتباري هو الصحيح؟ فليس في عهدة هذه الرواية، كما أنّه ليس على عهدتها أنّ أيّ تصرّف استهلاكي هو الصحيح؛ فحرمة شرب النجس مثلاً ليس تخصيصاً لهذه الرواية.
الأدلّة اللفظية علی بطلان المعاطاة
وبعد هذا ننتقل إلى ذكر عمدة الأدلّة اللفظية التي قد يستدلّ بها على عدم صحّة المعاطاة، وهي رواية خالد بن الحجّاج أو ابن نجيح قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): الرجل يجيء فيقول: اشتر هذا الثوب وأُربحك كذا وكذا. قال: أليس إن شاء ترك وإن شاء أخذ؟ قلت: بلى. قال: لا بأس به، إنّما يحلّ الكلام ويحرّم الكلام»(10). والوارد في التهذيب خالد بن الحجّاج(2). وظاهر عبارة صاحب الوسائل: أنّ نصّ الكافي أيضاً هو خالد بن الحجّاج، ولكن الموجود في الكافي: خالد بن نجيح(3)، وخالد بن نجيح قد روى عنه محمد بن أبي عمير وصفوان، فيتمّ السند، ولكن بما أنّنا نحتمل صحّة ما في التهذيب، وكذلك ما في الكافي _ على ظاهر عبارة صاحب الوسائل _ وهو أن يكون الراوي خالد بن الحجّاج، فالسند يسقط؛ لعدم دليل على وثاقة خالد بن الحجّاج.
أمّا معنى الرواية، فالظاهر منها المنع عن استيجاب هذا البيع على من أراد ذاك الثوب قبل أن يمتلكه الوسيط كما هو المستفاد من روايات أُخرى من نفس ذلك الباب من الوسائل أيضاً من قبيل: صحيح منصور بن حازم عن أبي عبدالله(عليه السلام):
(1) وسائل الشيعة، ج18، ص50، الباب8 من أبواب أحكام العقود، ح4 ـ
(2) تهذيب الأحکام، ج7، ص50، الباب4 من کتاب التجارات، ح16.
(3) الکافي، ج5، ص201، باب الرجل يبيع ما ليس عنده من کتاب المعيشة، ح6.
«في رجل أمر رجلاً يشتري له متاعاً فيشتريه منه قال: لا بأس بذلك، إنّما البيع بعد ما يشتريه»(1).
وصحيح معاوية بن عمّار، قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): يجيئني الرجل يطلب بيع الحرير وليس عندي منه شيء فيقاولني عليه وأقاوله في الربح والأجل حتّی نجتمع علی شيء، ثم أذهب فأشتري له الحرير فأدعوه إليه. فقال: أرأيت إن وجد بيعاً هو أحبّ إليه ممّا عندك أيستطيع أن ينصرف إليه ويدعك، أو وجدت أنت ذلك أتستطيع أن تنصرف إليه وتدعه؟ قلت: نعم، قال: فلا بأس»(2).
وصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر(عليه السلام): «قال: سألته عن رجل أتاه رجل فقال: ابتع لي متاعاً لعلّي أشتريه منك بنقد أو نسيئة، فابتاعه الرجل من أجله، قال: ليس به بأس إنّما يشتريه بعد ما يملكه»(3).
وصحيح عبدالرحمن بن الحجّاج قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن العينة(4) فقلت: يأتيني الرجل فيقول: اشتر المتاع وأربح فيه كذا وكذا فأُراوضه على الشيء من الربح فنتراضى به ثم أنطلق فأشتري المتاع من أجله لولا مكانه لم أُرده ثم آتيه به فأبيعه. فقال: ما أرى بهذا بأساً لو هلك منه(5) المتاع قبل أن تبيعه إيّاه كان من مالك، وهذا عليك بالخيار إن شاء اشتراه منك بعد ما تأتيه وإن شاء ردّه، فلست أرى به بأساً»(6).
(1) وسائل الشيعة، ج18، ص50، الباب8 من أبواب أحكام العقود، ح6.
(2) المصدر السابق، ح7.
(3) المصدر السابق، ص51، ح8.
(4) مقصوده هنا بالعينة: أنّ البايع يشتري أوّلاً المتاع من شخص بسعر رخيص نقداً ثم يبيعه على هذا الذي لا يملك الثمن بسعر أعلى مؤجّلاً.
(5) أحدس أنّ كلمة «منه» زائدة وإنّما تناسب هذه الكلمة صحيحة منصور بن حازم أقصد الرواية الثانية عشرة من الباب
(6) وسائل الشيعة، ج18، ص51، الباب8 من أبواب أحكام العقود، ح9.
ونحوها صحيحتا منصور بن حازم أعني الروايتين: 11 و12 من نفس الباب(1).
ونحوها صحيحة يحيى بن الحجّاج وفيها: «...ولا تواجبه البيع قبل أن تستوجبها أو تشتريها»(2).
ونحوها صحيحة عبدالرحمن بن الحجّاج غير الصحيحة الماضية(3).
ونحوها صحيحة إسماعيل بن عبدالخالق، قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن العينة وقلت: إنّ عامّة تجّارنا اليوم يعطون العينة، فأقصّ عليك كيف نعمل. قال: هات، قلت: يأتينا المساوم يريد المال(4) فيساومنا وليس عندنا متاع فيقول: أُربحك ده يازده(5) وأقول أنا: ده دوازده(6) فلا نزال نتراوض حتّى نتراوض على أمر، فإذا فرغنا قلت: أيّ متاع أحبّ إليك أن أشتري لك؟ فيقول: الحرير، لأنّه لا يجد شيئاً أقلّ وضيعة منه فأذهب وقد قاولته من غير مبايعة، فقال: أليس إن شئت لم تعطه وإن شاء لم يأخذ منك؟ قلت: بلى، قال: فأذهب فأشتري له ذلك الحرير وأُماكس بقدر جهدي ثم أجيء به إلى بيتي فأبايعه فربّما ازددت عليه القليل على المقاولة وربّما أعطيته على ما قاولته وربّما تعاسرنا فلم يكن شيء فإذا اشترى منّي لم يجد أحداً أغلى به من الذي اشتريته منه فيبيعه(7) منّي(8) فيجيء ذلك فيأخذ الدراهم فيدفعها إليه(9) وربّما جاء
(1) وسائل الشيعة، ج18، ص52، الباب8 من أبواب أحكام العقود، ح11 و12.
(2) المصدر السابق، ص52، ح13.
(3) المصدر السابق، ص47، الباب7 من أبواب أحكام العقود، ح3.
(4) كأنّ المقصود أنّ هدف المساوم ليس هو المتاع بالذات، بل هدفه النقد.
(5) يعني اشتر المتاع نقداً وبعه عليّ بثمن مؤجّل بإضافة العُشر على ثمن شرائك
(6) يعني عُشرَين.
(7) هذا شاهد على ما فسّرنا به كلمة «المال» من أنّ هدف المساوم كان هو النقد لا المتاع بالذات أي: إذا اشترى منّي وأراد بيعه ليحصل على النقد لم يجد أحداً يشتري بأغلى به من الذي اشتريته منه.
(8) الظاهر أنّ الذي ثبّتناه هي النسخة الصحيحة دون نسخة «فيبيعه منّي».
(9) أي: إنّ صاحب الحرير الأصلي يجيئني فيأخذ منّي الدراهم ويدفعها إلى صاحب الحاجة إلى المال.
ليحيله عليّ(1). فقال: لا تدفعها إلّا إلى صاحب الحرير (2)، قلت: وربّما يتّفق بيني وبينه البيع به وأطلب إليه فيقبله منّي، فقال: أليس إنّه لو شاء لم يفعل ولو شئت أنت لم تزد؟(3). فقلت: بلى لو أنّه هلك فمن مالي. قال: لا بأس بهذا إذا أنت لم تعدُ(4) هذا فلا بأس به»(5).
وهناك رواية أُخرى من روايات العينة أستثنيها من الاستشهاد بها على المطلوب وهي رواية الحسين بن المنذر _ ولم تثبت وثاقته _ قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): يجيئني الرجل فيطلب العينة فأشتري له المتاع مرابحة ثم أبيعه إيّاه ثم أشتري منه مكاني، قال: إذا كان بالخيار إن شاء باع وإن شاء لم يبع وكنت أنت بالخيار إن شئت اشتريت وإن شئت لم تشتر فلا بأس. فقلت: إنّ أهل المسجد يزعمون أنّ هذا فاسد ويقولون: إن جاء به بعد أشهر(6)صلح، قال: إنّما هذا تقديم وتأخير، فلا بأس»(7).
(1) وسائل الشيعة، ج18، ص52، الباب8 من أبواب أحكام العقود، ح11 و12.
(2) المصدر السابق، ص52، ح13.
(3) المصدر السابق، ص47، الباب7 من أبواب أحكام العقود، ح3.
(4) كأنّ المقصود أنّ هدف المساوم ليس هو المتاع بالذات، بل هدفه النقد.
(5) يعني اشتر المتاع نقداً وبعه عليّ بثمن مؤجّل بإضافة العُشر على ثمن شرائك
(6) يعني عُشرَين.
(7) هذا شاهد على ما فسّرنا به كلمة «المال» من أنّ هدف المساوم كان هو النقد لا المتاع بالذات أي: إذا اشترى منّي وأراد بيعه ليحصل على النقد لم يجد أحداً يشتري بأغلى به من الذي اشتريته منه.
(8) الظاهر أنّ الذي ثبّتناه هي النسخة الصحيحة دون نسخة «فيبيعه منّي».
(9) أي: إنّ صاحب الحرير الأصلي يجيئني فيأخذ منّي الدراهم ويدفعها إلى صاحب الحاجة إلى المال.
والوجه في عدم الاستشهاد بهذه الرواية احتمال أنّ فرض الإمام عليه السلام لعدم ربط الشراء الأخير بالبيع السابق كان لنكتة أُخرى غير نكتة إيجاب البيع قبل استيجابه، وهي نكتة رجوع الأمر إلى الحيلة في القرض الربوي على أساس أنّ المشتري الأخير هو البائع السابق، والتبايع بين شخصين بهذا الشكل يكون حيلة لعلاج القرض الربوي.
وعلى أيّ حال فتكفينا الروايات السابقة الكثيرة التي ذكرنا كثيراً منها بالنصّ وبعضها بالإشارة.
على أنّنا لا نحتاج إليها؛ فإنّ تفسير روايتنا _ أعني رواية «إنّما يحلّ الكلام ويحرّم الكلام» _ بما ذكرناه واضح لا غبار عليه.
وهناك روايات أُخرى اقتصرت على ذكر: «إنّما يحرّم الكلام» من قبيل:
1_ صحيحة الحلبي: قال: «سئل أبو عبدالله عليه السلام عن الرجل يزرع الأرض فيشترط للبذر ثلثاً وللبقر ثلثاً؟ قال: لا ينبغي أن يسمّي شيئاً، فإنّما يحرّم الكلام»(1).
2 و3_ ونحوها صحيحتا سليمان بن خالد وأبي الربيع الشامي، وهما الرواية السادسة(2)، والرواية العاشرة(3) من نفس الباب، والدليل على وثاقة أبي الربيع الشامي هو أنّ البزنطي روی عنه.
والآن نرجع إلى الرواية التي كانت محلّ كلامنا، وهي رواية خالد بن الحجّاج أو نجيح: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): الرجل يجيء فيقول: اشتر هذا الثوب وأُربحك كذا وكذا، قال: أليس إن شاء ترك وإن شاء أخذ؟ قلت: بلى، قال: لا بأس به إنّما يحلّ الكلام ويحرّم الكلام»، فبقرينة المورد الذي هو في الحقيقة من موارد العينة يكون من الواضح أنّ المقصود بالكلام المحلّل والكلام المحرّم هو الكلام الذي يعيّن أنّ
(1) وسائل الشيعة، ج19، ص41، الباب8 من کتاب المزارعة والمساقاة، ح4.
(2) المصدر السابق، ح6.
(3) المصدر السابق، ص43، ح10.
البيع الثاني مرتبط بالبيع الأوّل أو غير مرتبط به، وتؤكّد ذلك وضوحاً وجلاءً أخبار العينة الأُخرى التي ذكرناها.
ورغم ذلك قد ذكر صاحب الوسائل رحمه الله في ذيل رواية «إنّما يحلّ الكلام ويحرّم الكلام» أنّ: «فيه دلالة على عدم انعقاد البيع بغير صيغة، فلا يكون بيع المعاطاة معتبراً، فتدبّر»(1).
أقول: لو أردنا أن ننسج على هذا النسق أمكن أن يقال: إنّ روايات «إنّما يحرّم الكلام» أيضاً تدلّ على عدم انعقاد البيع بغير صيغة؛ فإنّ هذه تعني أنّ صيغة البيع إن أدرج فيها أنّ للبذر ثلثاً وللبقر ثلثاً بطل البيع، فأصل أنّ البيع لابدّ له من صيغة فُرِض مفروغاً عنه.
والواقع عدم تمامية دلالة هذه الروايات على بطلان المعاطاة سواء رواية خالد بن الحجّاج (أو نجيح) أو روايات «إنّما يحرّم الكلام».
أمّا الأُولى فلوضوح أنّ المعاطاة لا دلالة فيها في باب العينة على أنّ البيع الأوّل قد أوجب على الطرفين البيع الثاني، وإنّما هذه الدلالة تكون بمقاولة كلامية تسبق البيعين، فتلك المقاولة الكلامية المبنيّ عليها البيعان هي التي تحلّل أو تحرّم، أمّا أنّ البيعين هل هما بالصيغة أو بالكتابة والتسجيل أو بالمعاطاة فالرواية أجنبية عن ذلك تماماً.
وأمّا رواية «إنّما يحرّم الكلام» فأيضاً إنّما تنظر إلى المقاولة التي هي بطبيعة الحال كلام يعيّن البناء على كون ثلث للبذر وثلث للبقر، والمعاطاة لا دلالة فيها على ذلك، وهي أيضاً أجنبية عن أنّ البيع الذي يقع مبنيّاً على هذه المقاولة هل هو بالصيغة أو بالكتابة والتسجيل أو بالمعاطاة.
فإن قلت: إنّنا لا يهمّنا مورد الحديث في «إنّما يحلّ الكلام ويحرّم الكلام» فإنّ
(1) المصدر السابق، ج18، ص50، الباب8 من أبواب أحكام العقود، تحت الخطّ.
المورد لا يخصّص الوارد، فالذي يهمّنا هو التمسّك بإطلاق جملة «إنّما يحلّ الكلام ويحرّم الكلام» فإطلاق هذه الجملة يقتضي أنّ الذي يحلّل البيع ويصحّحه إنّما هو الكلام والعقد اللفظي.
قلت: هذا يردّه ما أفاده السيّد الخوئي رحمه الله من «أنّ حصر المحلّل والمحرّم في الكلام يستلزم التخصيص بالأكثر؛ لكثرة المحلّل والمحرّم _ في الشريعة المقدّسة _ من غير الألفاظ، ضرورة أنّ تنجّس المأكولات والمشروبات محرّم وتطهيرها محلّل، والتذكية محلّلة وعدمها محرّم، وغليان العصير العنبي محرّم وذهاب الثلثين محلّل، وصيرورة العصير خمراً محرّم وتخليله محلّل، والجلل محرّم لما يؤكل لحمه واستبراؤه محلّل، وخلط المال الحرام بالحلال محرّم، وتخميسه محلّل، ووطئ الحيوان الذي يؤكل لحمه محرّم، والدخول بالمرأة محرّم لتزويج بنتها، والإيقاب في الغلام محرّم لتزويج أُمّه وبنته وأخته. وأيضاً قد جوّز الشارع المقدّس التصرّف في أموال الناس في موارد شتّى من دون أن يكون فيها محلّل كلامي، وذلك كالتصرّف في الأراضي الواسعة والأنهار الكبار وكأكل المارّة من ثمرة الشجرة الممرور بها، بل ورد في القرآن جواز الأكل من بيوت الأصدقاء والأحبّاء وإن لم يدلّ عليه إذن لفظي(1).
وأيضاً قد اتّفق المسلمون من الشيعة والسنّة على انثلام ذلك الحصر في باب العقود أيضاً؛ فإنّهم قد التزموا بجواز التصرّف في المأخوذ بالمعاطاة سواء أكانت المعاطاة مفيدة للملك أم كانت مفيدة للإباحة. ولم ينسب إلى أحد فساد ذلك إلّا إلى العلّامة في بعض كتبه، وقد ثبت رجوعه عن هذا الرأي في بعض كتبه الأُخرى.
ودعوى انصراف الخبر عن الأُمور المذكورة _ لكيلا تلزم كثرة التخصيص _ دعوى جزافية»(2).
(1) النور: 60.
(2) مصباح الفقاهة، ج2، ص148 _ 149؛ وراجع أيضاً المحاضرات، ج2، ص71 _ 72.
هذا كلّه لو كان المقصود بالاستشهاد بهذه الرواية أو الروايات الاستدلال بدليل لفظي على بطلان المعاطاة، أي عدم إفادتها للملك في مقابل الأدلّة اللفظية الماضية لتصحيح المعاطاة من قبيل ﴿أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ﴾ .
وأمّا لو كان المقصود جعل هذه ردعاً عن السيرة العقلائية فحتّى لو فرضت تمامية الرواية سنداً ودلالةً _ بعد فرض بحث ونقاش _ فمن الواضح أنّ السيرة العقلائية القوية المستحكمة من قبيل السيرة والارتكاز القائمين على مملّكية المعاطاة بحاجة لردع قويّ واضح رصين بمستوى تلك السيرة أو الارتكاز، من قبيل الردع الذي ورد عن العمل بالقياس في الشريعة مثلاً.
وللتعامل مع الدليل اللفظي المفترض لبطلان المعاطاة أو عدم إفادتها للملك بعنوان دليل لفظي في مقابل الأدلّة اللفظية أو التعامل معه بعنوان الردع عن السيرة امتيازان متعاكسان:
فمن ناحية لا نحتاج في التعامل الأوّل إلى وضوح واستحكام في الجذور من قبيل الاستفاضة مثلاً، فبمجرّد أن يتمّ حديث واحد سنداً ودلالةً يقع طرفاً للمعارضة لتلك الأدلّة اللفظية ونصل إلى التساقط، أو إلى ترجيح أدلّة الصحّة؛ لأنّ فيها الكتاب، أو ترجيح دليل بطلان المعاطاة بالأخصّية، في حين أنّنا نحتاج في التعامل الثاني إلى وضوح واستحكام من هذا القبيل لدليل البطلان.
ومن ناحية أُخرى لا نحتاج في التعامل الثاني إلى صحّة سند الرواية المانعة لكفاية احتمال الردع في بطلان السيرة في حين أنّه على التعامل الأوّل نحتاج في خبر الواحد المعارض إلى صحّة السند.
هذا تمام الكلام في صحّة المعاطاة بمعنى إفادتها للملك.
أدلّة اللزوم في المعاطاة
وأمّا اللزوم فالواقع أنّنا بعد أن أثبتنا أنّ المعاطاة بيع عقلائيّاً وعقدٌ عقلائيّاً فلا نحتاج لإقامة دليل خاصّ على اللزوم فيها، وإنّما نرجع إلى أدلّة لزوم البيع أو العقد.
ونشير إلى أنّ العمدة في أدلّة اللزوم خمسة:
الدليل الأوّل: آية ﴿أَوْفُوْا بِالْعُقُوْدِ﴾(1) على ما مضى من أنّها تدلّ على لزوم الإضافتين المتبادلتين، أو قل: لزوم العقود، والبيع عقد والمعاطاة عقد، فالبيع لازم والمعاطاة لازمة.
الدليل الثاني: آية: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ﴾(2) فإنّها تدلّ على بطلان الفسخ من قِبل أحد الطرفين من دون موافقة الطرف الآخر؛ لأنّ ذلك ليس تجارة عن تراض.
وصحّة هذا الاستدلال تكون في غاية الوضوح بناء على فرض الاستثناء متّصلاً بأن نفسّر الآية بمعنى: لا تأكلوا أموالكم بينكم بكلّ سبب فإنّه باطل ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ﴾؛ إذ لا إشكال في أنّ الاستثناء المتّصل يدلّ على الحصر.
وأمّا بناء على فرض الاستثناء منقطعاً فيشكل الاستدلال؛ لأنّ الاستثناء المنقطع لا يدلّ على الحصر.
اللهمّ إلّا إذا استظهر أحد من نفس المقابلة بين السبب الباطل والتجارة عن تراض حصر السبب في هذين.
وهذا إن لم يكن مرجعه إلى استظهار الاستثناء المتّصل لم تكن الدلالة أكثر من مجرّد الإشعار.
الدليل الثالث: استصحاب بقاء الملكية أو العلقة أو الإضافة الحاصلة على حالها بعد فسخ أحد الطرفين من دون رضا الآخر.
(1) المائدة: 1.
(2) النساء: 29.
الدليل الرابع: التوقيع الشريف عن الإمام الحجّة(عجل الله تعالى فرجه الشريف): «...لا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه، فكيف يحلّ ذلك في مالنا؟!»(1).
وسند الحديث ما يلي: «محمد بن علي بن الحسين في إكمال الدين عن محمد ابن أحمد السناني (وفي إكمال الدين الشيباني) وعلي بن أحمد بن محمد الدقّاق والحسين بن إبراهيم بن أحمد بن هشام المؤدّب وعلي بن عبدالله الورّاق جميعاً عن أبي الحسين محمد بن جعفر الأسدي قال: كان فيما ورد عليّ من الشيخ أبي جعفر محمد بن عثمان العمري قدّس الله روحه في جواب مسائلي إلى صاحب الدار(عليه السلام)».
وعيب السند هو أنّ المشايخ الأربعة للشيخ الصدوق(رحمهم الله) لم يرد بشأنهم التوثيق، وعلى هذا الأساس بنى السيّد الخوئي رحمه الله على ضعف هذا السند(2).
ولكنّنا إمّا أن نقول: إنّنا لا نحتمل كون المشايخ الأربعة للصدوق الذين جعلهم طريقاً إلى أخباره عن محمد بن جعفر الأسدي متماثلين صدفةً جميعاً في عدم الوثاقة، أو نقول: ليسوا _ على الأقلّ _ من الكذبة، فتوافقهم على النقل يورث لنا الاطمئنان بصحّة نقلهم.
وقد ذكرنا هذا الحديث بدلاً عن أن نستدلّ برواية «الناس مسلّطون على أموالهم» _ التي مضت في الدليل السادس من أدلّة صحّة المعاطاة _ ؛ لأنّه لا قيمة سندية لها.
ووجه الاستدلال بالحديث واضح وهو أنّ قوله: «لا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه» يشمل التصرّفات الاعتبارية كالفسخ بلا إذنه، فيدلّ على بطلانه؛ إذ لا يحتمل حرمته رغم فرض صحّته.
الدليل الخامس: ما ستأتي إن شاء الله في بحث الخيارات _ لو وفّقنا الله لبحثه _ من روايات خيار المجلس وخيار الحيوان الدالّة على اللزوم بانتهاء الخيار.
(1) وسائل الشيعة، ج9، ص540، الباب3 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام، ح7.
(2) راجع معجم رجال الحديث، ج15، ص153، محمد بن جعفر الأسدي أبو الحسين، رقم: 10365.
المعاطاة في النکاح
بقي الكلام في أنّه لماذا لا يفتى بصحّة المعاطاة في النكاح مع أنّ :﴿أَوْفُوْا بِالْعُقُوْدِ﴾ مطلق لكلّ عقد، ومع أنّ هناك في باب النكاح ما يحلّ محلّ ﴿أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ﴾ في البيع من قبيل قوله تعالى: ﴿فَانْكِحُوْا مٰا طَابَ لَكُمْ مِنْ النَّسَاءِ﴾(1) أو من قبيل روايات استحباب النكاح مثلاً.
ولم أر أحداً أفتى بصحّة المعاطاة في النكاح.
وأقلّ ما يستدلّ على بطلانها في النكاح مسألة الإجماع والتسالم الفقهي والارتكاز المتشرّعي أو ما شابه ذلك.
فترى المحقّق الإصفهاني رحمه الله يتمسّك _ في حاشيته على المكاسب _ لبطلان المعاطاة في النكاح بالإجماع فقال: «نعم، لا تجري المعاطاة فيه بالإجماع»(2).
وترى السيّد الإمام رحمه الله أفاد في كتاب البيع: إنّ «جريان المعاطاة في [الطلاق] خلاف الأدلّة الشرعية، بل إيقاع النكاح بها أيضاً مخالف لارتكاز المتشرّعة وتسالم الأصحاب، بل الظاهر عدم الخلاف في عدم جريانها فيهما»(3).
وترى السيّد الحكيم رحمه الله يقول: «ولأجل هذا الإجماع افترق النكاح عن غيره من مضامين العقود، فإنّها يجوز إنشاؤها بالفعل بخلافه»(4).
ثم إنّه قد أفاد أُستاذنا المرحوم آية الله العظمى السيّد الشاهرودي رحمه الله في بحث الإجارة: أنّ الإجارة ونحوها عنوان قصدي لا يتحقّق بصرف الأخذ والعطاء، ولكن إذا كان بهذا القصد كان هذا الفعل مصداقاً للإجارة والتبديل الذي هو عنوان
(1) النساء: 3.
(2) حاشية کتاب المكاسب، ج1، ص187.
(3) كتاب البيع(للإمام الخميني(رحمه الله))، ج1، ص269.
(4) مستمسك العروة الوثقی، ج14، ص368، كتاب النكاح، فصل في العقد وأحكامه، المسألة 1.
اعتباري. كما أنّ الغسل بنحو مخصوص الذي هو فعل خارجي يصبح بالقصد مصداقاً لعنوان اعتباري وهو الغُسل أو الوضوء. نعم، لا يمكن أن يصير كلّ شيء بالقصد مصداقاً لكلّ عنوان اعتباري، بل لابدّ هناك من صلاحية ومناسبة، وبما أنّ التبديل الخارجي يناسب التبديل الاعتباري، والعرف يساعد على تحقّق هذا بذاك بالقصد كان الفعل الخارجي بالقصد مصداقاً له.
ولأجل اشتراط المناسبة وصلاحية الفعل للمصداقية قالوا بعدم صحّة المعاطاة في خصوص بعض المعاملات أو وقع الكلام فيه، كما يقال في الصلح أو الوقف: إنّه لا يوجد فعل صالح لأن يكون مصداقاً له، وكما يقال في النكاح: إنّ نفس الفعل بدون ثبوت الزوجية في الرتبة السابقة يكون في نفسه مصداقاً لضدّ النكاح وهو السفاح، وما يكون مصداقاً لضدّ شيء لا يعقل كونه مصداقاً لنفس ذلك الشيء، فلا تصلح فيه المعاطاة(1).
والسيّد الشاهرودي لم يكن بحثه في النكاح بل كان بحثه في الإجارة، وإنّما ذكر النكاح بعنوان التمثيل بما لا يناسب المعاطاة فيه أن يكون مصداقاً للنكاح؛ وذلك لأنّ المعاطاة في النكاح بحدّ ذاتها مصداق لضدّ النكاح وهو السفاح.
أمّا لو كان بصدد الاستدلال على بطلان المعاطاة في النكاح إطلاقاً وردت عليه النكتة التي أشار إليها السيّد الإمام رضوان الله عليه من أنّ المقصود بالمعاطاة ليس خصوص تعاطي العينين، بل كلّ فعل دلّ على قصد العقد، «فلو تقاول الزوجان وقصدا الزواج ثم أنشأته المرأة بذهابها إلى بيت المرء بجهازها مثلاً، وقبل المرء ذلك بتمكينها في البيت لذلك تحقّقت الزوجية المعاطاتية»(2).
وقد ذهب الشيخ الإصفهاني رحمه الله إلى أنّه لولا التسالم والإجماع لكان مقتضى
(1) كتاب الإجارة للمؤلّف تقريراً لبحث السيّد الشاهرودي(رحمه الله)، ص20 _ 21. لم يطبع.
(2) كتاب البيع (للإمام الخميني(رحمه الله))، ج1، ص268 _ 267.
القاعدة صحّة المعاطاة في النكاح ولو بالوطء؛ لأنّه فعلٌ يصلح أن يكون حاكياً عن إرادة العقد أو منشئاً له، كما يصلح أيضاً أن يكون حاكياً عن الفسخ أو منشئاً للفسخ فيما إذا باع أمته وكان له الخيار ففسخ العقد بالفعل(1).
والسيّد الإمام رحمه الله أيضاً قرّب أوّلاً كون مقتضى القاعدة صحّة النكاح بالمعاطاة ولو بالوطء، فإنّ ذلك لا يستوجب إزالة الفارق بين الزنا والنكاح، فالزنا هو الوطء من دون إنشاء الزوجية بهذا العمل، والنكاح هو الوطء مع إنشاء الزوجية به، فتوهّم أنّ الفعل فيه ملازم لضدّه وهو الزنا والسفاح(2) غير صحيح(3).
ولكنّه ذكر بعد ذلك: «نعم ما يمكن أن يقال في المقام: إنّ الوطء ليس من الأسباب العرفية والعقلائية للزّواج. وما قلنا: من أنّ القاعدة تقتضي أن تجري المعاطاة في مطلق المعاملات ليس المراد منه أنّ كلّ فعل أو إشارة ونحوها يمكن أن يكون سبباً، بل لابدّ في الأسباب أن تكون عقلائية، ففي مثل الوصيّة للعتق بعد الموت أو التمليك بعده، وإن أمكن إفهامها بالإشارة ونحوها، لكن ليس مثل تلك الأفعال أسباباً عقلائية»(4).
أقول: هذا الكلام لا يخلو من شَبَه بما نقلناه عن السيّد الشاهرودي رحمه الله، ولو عمّمناه أمكن إرجاعه إلى ذلك.
ثم هناك بحث آخر دار الخلاف فيه بين الشيخ الإصفهاني والسيّد الإمام، وهو أنّه لو وافقنا على صحّة عقد النكاح بالوطء فهل الوطء الأوّل يكون حراماً؛ لأنّه زنا
(1) حاشية کتاب المکاسب(للإصفهاني)، ج1، ص187 _ 186.
(2) إشارة إلى ما هو المنقول عن الشيخ النائيني في كتاب منية الطالب للشيخ موسى النجفي الخوانساري، ج1، ص81.
(3) كتاب البيع (للإمام الخميني(رحمه الله))، ج1، ص267.
(4) المصدر السابق، ص268.
وإن أُنشئ به عقد الزواج أو يكون جائزاً؟ فذكر الشيخ الإصفهاني أنّ هذا الوطء قارن عقد النكاح فلا موجب لحرمته(1) ولكنّ السيّد الإمام ذكر أنّ الوطء الأوّل زنا حتّى ولو آمنّا بحصول العقد به، وذكر في تقريب ذلك تعبيرين:
التعبير الأوّل: أنّ الوطء يجب أن يكون عن زواج صحيح ومترتّباً عليه، والوطء الأوّل لم يكن عن زواج صحيح.
والتعبير الثاني: أنّ الزوجية متأخّرة عن الوطء تأخّر المسبّب عن السبب، فإنّه سببها، ولا تعقل حلّيّته بسبب الزوجية، ومع عدم سببيّتها يكون من وطء الأجنبية المحرّم بالضرورة(2).
وبالإمكان دمج البيانين في بيان واحد أو قل: إرجاع البيانين إلى وجه واحد يقال فيه: إنّ الزوجية متأخّرة عن الوطء تأخّر المسبّب عن السبب _ كما جاء في البيان الثاني للسيّد الإمام _ في حين أنّ الوطء يجب أن يكون متأخّراً عن الزواج _ كما جاء في البيان الأوّل له _ أي أنّ الزواج يجب أن يكون سبباً لحليّته أو قل: يجب أن يكون الوطء عن زواج صحيح.
ولعلّه رحمه الله لم يقصد إلّا استظهاراً عرفيّاً، أمّا لو فرضناه حقّاً برهنة عقلية وأنّنا أمام استحالة عقلية فهذا كلام غير صحيح، فصحيح أنّ الزوجية مسبّبة عن الوطء، ولكن أيّ استحالة تفترض في كون سببيّته للزوجية أو كون مقارنته لها موضوعاً شرعاً لحليّته؟ ولدينا في الفقه نظيران لذلك:
المورد الأوّل: الرجوع عن الطلاق العدّي قبل انقضاء العدّة؛ إذ لم يقل الفقهاء أنّه يجب أن يكون باللفظ، بل صحّحوا الرجوع بنفس الوطء، ولم يفترض الوطء حراماً.
إلّا أنّه يمكن المناقشة في هذا المثال بأنّ أصل وقوع البينونة في الطلاق العدّي
(1) حاشية کتاب المکاسب(للإصفهاني)، ج1، ص187.
(2) كتاب البيع(للإمام الخميني(رحمه الله))، ج1، ص269.