593

حقّها للمدّعي، ولا أقبل من الذي في يده بيّنة؛ لأنّ اللّه (عزوجل) إنّما أمر أن تطلب البيّنة من المدّعي، فإن كانت له بيّنة، وإلا فيمين الذي هو في يده، هكذا أمر اللّه (عزوجل)»(1).

والسند ضعيف بمحمد بن حفص.

وهناك روايتان وردتا في فرض تعارض البيّنتين دلّت إحداهما على أنّه يحكم للمنكر، ودلّت الأُخرى على أنّه يحكم للمنكر بعد يمينه:

الأُولى _ رواية غياث بن إبراهيم التامّة سنداً عن أبي عبداللّه (عليه السلام): «أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) اختصم إليه رجلان في دابّة، وكلاهما أقاما البيّنة أنّه أنتجها، فقضى بها للذي في يده وقال: لو لم تكن في يده، جعلتها بينهما نصفين»(2). ولعلّه تلحق بهذه الرواية رواية عبداللّه بن سنان عن أبي عبداللّه (عليه السلام) «... كان علي (عليه السلام) إذا اختصم إليه الخصمان في جارية، فزعم أحدهما أنّه اشتراها، وزعم الآخر أنّه أنتجها، فكانا إذا أقاما البيّنة جميعاً قضى بها للذي أُنتجت عنده»(3) بناءً على أنّ المقصود بذلك أنّه قضى بها للذي يدّعي أنّها أُنتجت عنده، ولا زالت هي في يده في مقابل من يدّعي الملكيّة الطارئة بالشراء، والجارية بعدُ لم تسلّم إليه.

وسند الحديث غير تام؛ لوجود محمد بن أحمد العلوي فيه، ولم‏ تثبت وثاقته.

والثانية _ رواية إسحاق بن عمّار التامّة سنداً عن أبي عبداللّه (عليه السلام) «أنّ رجلين اختصما إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) في دابّة في أيديهما وأقام كلّ واحد منهما البيّنة أنّها نتجت عنده، فأحلفهما علي (عليه السلام)، فحلف أحدهما وأبى الآخر أن يحلف، فقضى بها للحالف، فقيل له: فلو لم تكن في يد واحد منهما، وأقاما البيّنة، فقال: أُحلّفهما،


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص186، الباب 12 من كيفيّة الحكم، ح14.

(2) نفس المصدر، ص182، ح3.

(3) نفس المصدر، ص186، ح15.

594

فأيُّهما حلف، ونكل الآخر جعلتها للحالف، فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين. قيل: فإن كانت في يد أحدهما وأقاما جميعاً البيّنة؟ قال: أقضي بها للحالف الذي هو في يده»(1). وجمع السيد الخوئي بينهما بتقييد الأُولى بالثانية(2).

والنتيجة هي أنّ بيّنة المدّعي وبيّنة المنكر حينما تتعارضان يكون الحقّ للمنكر مع حلفه. وهذا يناسب الاحتمالين الثاني والثالث من الاحتمالات الثلاثة التي أبديناها في رواية: «البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه»، وينافي الاحتمال الأول، وهو سقوط بيّنة المنكر نهائيّاً؛ فلو ضَمَمْنا الإشكال _ الذي بيّناه هناك على الاحتمال الثاني _ إلى هاتين الروايتين اللّتين تبطلان الاحتمال الأول، ثبت أيضاً ما اخترناه هناك من الاحتمال الثالث.

والنتيجة هي ما مضى من أنّه لو قدّم المنكر فقط البيّنة لم تُغنِهِ البيّنة عن اليمين، ولو قدّم المدّعي والمنكر كلاهما البيّنة وصلت النوبة إلى يمين المنكر. هذا إذا تساوت البيّنتان.

مدى إمكان الترجيح بالعدد

أمّا إذا كانت إحدى البيّنتين أكثر عدداً من الأُخرى، فمقتضى إطلاق ما عرفته من القاعدة والروايات عدم كون الأكثريّة مؤثّرة في الحساب.

نعم، توجد هنا صورة واحدة من تعارض بيّنتي المدّعي والمنكر شبيهة بتعارض بيّنتي المتداعيين، دلّ النص فيها على أنّ اليمين يكون على من يمتلك البيّنة الأكثر عدداً، وتلك الصورة هي ما لو كان المنكر لا ينكر ما يدّعيه المدّعي، أي لا تكاذب


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص182، الباب 12 من كيفيّة الحكم، ح2.

(2) مباني تكملة المنهاج، ج1، ص50.

595

منطقي بينهما، وإنّما يدّعي ما يمكن أن يجتمع مع صحّة دعوى المدّعي، ولكن في نفس الوقت احتمال التنافي بين واقع الأمرين موجود، وذلك كما لو ادّعى المدّعي الملكيّة، وقال ذو اليد: إنّي ورثته من أبي، ولا أدري كيف كان أمره، فهنا يكون المنكر شبيهاً بمن لا ينكر مدّعى الخصم وإنما يدّعي الإرث؛ إذ لا تكاذب منطقي بينهما؛ لإمكان الجمع بينهما بأن يكون هذا ملكاً للمدّعي قد غصبه أبو المنكر _ مثلاً _ والمنكر وَرِثه من أبيه، وفي نفس الوقت احتمال التنافي بين ما يقوله المدّعي لو كان صادقاً وما يقوله المنكر موجود، بأن لا يكون الأب هو الذي غصبه؛ إذ ملكيّة المدّعي تساوق عندئذٍ غاصبيّة المنكر مثلاً، واليد _ طبعاً _ أمارة على خلاف ذلك. ومن هنا نقول: إنّ هذا منكر، ولكنّه في نفس الوقت شبيه بالمدّعي. أمّا لو صرّح المدّعي بأنّ أبا هذا الرجل هو الذي غصب المال منّي مثلاً، فقد انتفى كلّ احتمالات التنافي بين الأمرين، وهنا تنفذ بيّنة المدّعي، ولا تنافي بين البيّنتين ولو على مستوى الاحتمال بالمعنى الذي عرفت.

وعلى أيّ حال ففي الفرض الأول الشبيه بباب التداعي _ وهو فرض ما لو قال المدّعي: إنّ هذا ملكي، وقال ذو اليد: إنّي ورثته من أبي ولا أدري كيف كان أمره، ولم يستحكم التكاذب بينهما؛ لعدم دعوى المدّعي كون المال مسروقاً من قِبَل نفس ذي اليد مثلاً _ قد دلّ النص على أنّه لو كان أحدهما أكثر بيّنةً يوجّه الحلف إليه، وهو ما ورد عن أبي بصير _ بسند تام _ قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن الرجل يأتي القوم، فيدّعي داراً في أيديهم ويقيم البيّنة، ويقيم الذي في يده الدار البيّنة أنّه ورثها عن أبيه، ولا يدري كيف كان أمرها؟ قال: أكثرهم بيّنةً يُستحلف وتدفع إليه، وذكر أنّ عليّاً (عليه السلام) أتاه قوم يختصمون في بغلة، فقامت البيّنة لهؤلاء أنّهم أنتجوها على مذودهم ولم يبيعوا ولم يهبوا، وقامت البيّنة لهؤلاء بمثل ذلك، فقضى (عليه السلام) بها

596

لأكثرهم بيّنةً واستحلفهم. قال: فسألته حينئذٍ، فقلت: أرأيت إن كان الذي ادّعى الدار قال: إنّ أبا هذا الذي هو فيها أخذها بغير ثمن، ولم يقم الذي هو فيها بيّنة أنّه ورثها عن أبيه؟ قال: إذا كان الأمر هكذا فهي للذي إدّعاها، وأقام البيّنة عليها»(1).

وقال الشيخ الصدوق (رحمه الله) بعد روايته لصدر هذا الحديث ما نصّه: «لو قال الذي في يده الدار: إنّها لي وهي ملكي، وأقام على ذلك بيّنة، وأقام المدّعي على دعواه بيّنةً، كان الحقّ أن يحكم بها للمدّعي؛ لأنّ اللّه (عزوجل) إنّما أوجب البيّنة على المدّعي، ولم يوجبها على المدّعى عليه، ولكنّ هذا المدّعى عليه ذكر أنّه ورثها عن أبيه، ولا يدري كيف كان أمرها، فلهذا أوجب الحكم باستحلاف أكثرهم بيّنةً، ودفع الدار إليه»، ثم استرسل في الكلام، وذكر بعض الأمور، ثم قال: «هكذا ذكره أبي(رضي الله عنه) في رسالته إليّ»(2). ولا ندري أنّ المقطع الأول من الكلام _ وهو الذي نقلناه _ هل هو أيضاً كلام أبيه أو كلامه هو رحمة اللّه عليهما؟

وعلى أيّ حال فإن كان مقصوده إرجاع المسألة إلى باب التداعي لنكتة أنّ المنكر ذكر السبب وهو الإرث، وبذكره للسبب تحوّل من كونه منكراً إلى كونه مدّعياً، فهذا مخالف لما مضى من حديثي إسحاق بن عمّار وغياث بن إبراهيم؛ حيث فرض فيهما أنّ الحقّ يعطى للذي بيده، وهذا يعني أنّه فرضه منكراً مع أنّه ذكر السبب أيضاً وهو أنّ الدابّة نتجت عنده، إلا أن يفرّق بين ما لو ذكرا معاً السبب فلا ينقلب المنكر مدّعياً وما لو ذكر المنكر فقط السبب فينقلب إلى المدّعي، ولا نعرف لهذا الفرق نكتة مفهومة عرفاً، كما أنه مخالف أيضاً لما هو المفهوم عرفاً من عنوان المدّعي والمنكر، فإنّ


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص181، الباب 12 من كيفية الحكم، ح1.

(2) الفقيه، ج3، ص39، ذيل الحديث 130.

597

المنكر يكون غالباً مطّلعاً على سبب ما يقوله، فمجرّد اختلاف حاله من كونه منكراً إلى كونه مدّعياً وبالعكس لمجرد فرق لفظي _ وهو ذكر السبب وعدمه _ ليس عرفياً. هذا وقد شرحنا فيما سبق أنّ المقياس لمعنى المدّعي والمنكر عرفاً هو مخالفة كلامه للحجّة وعدمها، وأنّ هذا لا يخالف بالنظر إلى مصبّ الدعوى أو النتيجة.

وإن كان مقصوده إرجاع المسألة إلى باب التداعي لنكتة أنّ المنكر لم يذكر الملكيّة التي تكون اليد دليلاً عليها، وإنّما ذكر الإرث، واليد ليست دليلاً على الإرث، قلنا: إنّه لو غضّ النظر عن دعوى أنّ ذكر السبب يقلب المنكر مدّعياً فهذا لا محالة يدّعي الملكيّة الظاهريّة، واليد أمارة على الملكيّة، فيكون منكراً.

وإن كان مقصوده دعوى حكم تعبّدي في منكر يشبه المدّعي باعتبار عدم إنكاره لما يدّعيه المدّعي، ودعواه إرثاً في المقام مع احتمال التنافي بين ما يقوله هو وما يقوله المدّعي لو كان صادقاً، فهذا يرجع إلى التفسير الذي نحن فسّرنا به الحديث، وهو تام، وحاصله إلحاق مثل هذا المنكر بالمدّعي حكماً.

وإن كان مقصوده استفادة مجرّد حكم تعبّدي بحت، وهو أنّ الحلف كان على الأكثر بيّنةً؛ لأنّ المنكر ذكر السبب، وبما أنّ هذا الحكم تعبّدي بحت، فيمكن تقييده بما إذا لم يذكر المدّعي أيضاً السبب، فلا يقع تنافٍ بين هذا الحديث وحديثي إسحاق بن عمّار وغياث بن إبراهيم، فهذا أمر غير مفهوم عرفاً من الحديث، فمجرّد ذكر السبب _ لولا التفسير الذي نحن شرحناه _ يحمل عرفاً على المثالية البحتة ولا خصوصية لذكر السبب.

وقد تلخّص ممّا ذكرناه: أنّ بيّنة المنكر إن لم تُعارَض ببيّنة المدّعي لا أثر لها، وإن عورضت ببيّنة المدّعي وصلت النوبة إلى يمين المنكر، وإن كانت إحدى البيّنتين أكثر عدداً ففي حالة واحدة يكون اليمين على صاحب البيّنة الأكثر عدداً، وهي الحالة التي شرحناها.

598

توهّم كون اليمين على البيّنة

وقد ورد ما قد يُوهِم أنّ الحلف يكون على عاتق البيّنة، لا على عاتق المنكر، وتُعيّن البيّنة التي عليها الحلف بالقرعة، وذلك ما رواه زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قلت له رجل شهد له رجلان بأنّ له عند رجل خمسين درهماً، وجاء آخران، فشهدا بأنّ له عنده مائة درهم كلّهم شهدوا في موقف؟ قال: أُقرع بينهم، ثم استحلف الذين أصابهم القرع باللّه: أنّهم يشهدون بالحق»(1)؛ حيث يقال: إنّ هذا مرجعه إلى الاتّفاق على خمسين درهماً والاختلاف على خمسين درهماً آخر، فهنا بدلاً عن تحليف المنكر جعل الحلف على البيّنة مع تعيين البيّنة التي عليها الحلف بالقرعة.

وقد يقال: إنّ مفاد الحديث أجنبي عن المقام، فليس بابه باب إمكانيّة تحليف المدّعي أو المنكر أصلاً، وإنّما بابه باب دين ثبت بالبيّنة مع اختلاف البيّنتين في مقدار الدين، وقد يكون الدائن والمدين كلاهما شاكّين في المبلغ.

وعلى أيّ حال فالحديث ساقط سنداً بالإرسال في أثناء السند.

ثم إنّ ما ورد في باب تعارض البيّنات من الإحالة على القرعة تارةً، وعلى التقسيم أُخرى، وعلى تحليف الطرفين ثالثةً، إن كان لها إطلاق يشمل باب المدّعي والمنكر فالإطلاق يخصَّص بما عرفت وروده في خصوص باب المدّعي والمنكر، وتلك الروايات بعد التخصيص تخصّص بباب التداعي.


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص184، الباب 12 من كيفيّة الحكم، ح7.

599

البيّنة

5

 

 

تعارض البيّنتَين

 

 

  1- تعارض البيّنة عند التداعي

  2- اختلاف البيّنة في حقّ طرف واحد

  3- موقف الفقه الوضعي من تعارض البيّنتين

 

 

601

تعارض البيّنتين

البحث الخامس _ في تعارض البيّنتين.

وقد عرفت في البحث السابق حكم تعارض بيّنة المدّعي وبيّنة المنكر، كما أنّه مضى فيما سبق في بحث شرط العدالة في الشهود حكم تعارض البيّنات في الشهادة على العدالة، ومضى أيضاً في بحث شهادة الفرع حكم التعارض بين شهادة الفرع وشهادة الأصل، فالمقصود بالبحث هنا إنّما هو فرض تعارض البيّنتين في باب التداعي، وكذلك فرض تعارضهما في الشهادة لإثبات الحقّ لطرف واحد، كما لو شهدت إحدى البيّنتين: بأنّ للدائن على المدين ألف درهم، وشهدت الأُخرى: بأنّ له عليه مائة دينار، وليس ألف درهم. فهنا فرضان لتعارض البيّنتين لابدّ لنا من البحث عنهما:

تعارض البيّنة عند التداعي

الفرض الأول _ تعارضُ بيّنتي المتداعيين. والروايات في باب تعارض البيّنتين للمتداعيين على طوائف:

روايات الباب

منها _ ما دلّ على التحالف، كما عن إسحاق بن عمّار _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام)

602

«أنّ رجلين اختصما إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) في دابّة في أيديهما، وأقام كلّ واحد منهما البيّنة أنّها نتجت(1) عنده، فأحلفهما عليٌّ (عليه السلام)، فحلف أحدهما، وأبى الآخر أن يحلف، فقضى بها للحالف. فقيل له: فلو لم تكن في يد واحد منهما وأقاما البيّنة، فقال: أُحلِّفهما، فأيُّهما حلف ونَكَل الآخر جعلتُهاللحالف، فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين. قيل: فان كانت في يد أحدهما، وأقاما جميعاً البيّنة، قال: أقضي بها للحالف الذي هو في يده»(2).

ومنها _ ما دلّ على استحلاف الأكثر بيّنة، وهو رواية أبي بصير(3) التي مضى ذكرها في أواخر البحث الرابع، وأُشيرَ إلى ذلك أيضاً فيما يأتي من رواية عبدالرحمن ابن أبي عبداللّه ورواية سماعة.

ومنها _ ما دلّ على تقسيم المال المتداعى عليه، كما ورد عن غياث بن إبراهيم _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام): «أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) اختصم إليه رجلان في دابّة وكلاهما أقاما البيّنة أنّه أنتجها(4)،فقضى بها للذي في يده، وقال: لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين»(5).

وما عن تميم بن طرفة: «أنّ رجلين ادّعيا بعيراً، فأقام كلّ واحد منهما بيّنةً، فجعله أمير المؤمنين (عليه السلام) بينهما»(6). والسند غير تام؛ لعدم ثبوت وثاقة تميم بن طرفة، ولا


(1) بمعنى ولدت .

(2) وسائل الشيعة، ج18، ص182، الباب 12 من كيفيّة الحكم، ح2.

(3) نفس المصدر، ص181، ح1.

(4) أي ولّدها وكان بالنسبة لها بمنزلة القابلة من المرأة .

(5) نفس المصدر ، ح3.

(6) نفس المصدر، ص183، ح4.

603

من روى عنه وهو سماك بن حرب. والراوي عن سماك بن حرب هو أبو جميلة الذي قال عنه ابن الغضائري: «ضعيف كذّاب يضع الحديث. حدّثنا أحمد بن عبدالواحد قال: حدّثنا علي ابن محمد بن الزبير قال: حدّثنا علي بن الحسن بن فضّال قال: سمعت معاوية بن حكيم يقول: سمعت أبا جميلة يقول: أنا وضعت رسالة معاوية إلى محمد بن أبي بكر». وقال النجاشي في ترجمة جابر بن يزيد: «روى عنه جماعة غمّز فيهم وضعّفوا، منهم عمرو بن شمر ومفضّل بن صالح» وقد روى عنه الثلاثة الذين لا يروون إلا عن ثقة.

وما عن السكوني بسند فيه النوفلي عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجلين ادّعيا بغلةً، فأقام أحدهما شاهدين والآخر خمسةً، فقضى لصاحب الشهود الخمسة خمسةَ أسهم ولصاحب الشاهدين سهمين»(1). وقد روى الشيخ هذا المضمون بسند تام(2).

ومنها _ ما دلّ على القرعة لتعيين من عليه الحلف أو لتعيين من له الحقّ، كما عن عبدالرحمان بن أبي عبداللّه _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «كان علي (عليه السلام) إذا أتاه رجلان يختصمان بشهود عدّتهم سواء وعدالتهم سواء أقرع بينهم على أيّهما تصير اليمين...»(3).

وما عن داود بن سرحان _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في شاهدين شهدا على أمر واحد، وجاء آخران فشهدا على غير الذي شهد الأوّلان واختلفوا، قال: «يقرع


(1) نفس المصدر، ص185، ح10.

(2) التهذيب، ج6، ح583.

(3) وسائل الشيعة، ج18، ص183، الباب 12 من كيفيّة الحكم، ح5. وقد أخذنا المتن من الفقيه لصحّة سنده في الفقيه، ج3، ح181.

604

بينهم، فأيّهم قرع عليه اليمين، وهو أولى بالقضاء»(1).

وما عن داود بن أبي يزيد العطّار، عن بعض رجاله، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في رجل كانت له امرأة، فجاء رجل بشهود أنّ هذه المرأة امرأة فلان، وجاء آخران فشهدا أنّها امرأة فلان، فاعتدل الشهود وعدّلوا، فقال: «يقرع بينهم، فمن خرج سهمه فهو المحقّ، وهو أولى بها»(2).

وما عن الحلبي _ بسند تام _ قال: سُئل أبو عبداللّه (عليه السلام) عن رجلين شهدا على أمر، وجاء آخران فشهدا على غير ذلك فاختلفوا «قال: يقرع بينهم، فأيّهم قرع فعليه اليمين، وهو أولى بالحقّ»(3).

وما عن سماعة _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إنّ رجلين اختصما إلى علي (عليه السلام) في دابّة، فزعم كلّ واحد منهما أنّها نتجت على مذوده(4)، وأقام كلّ واحد منهما بيّنةً سواءً في العدد، فأقرع بينهما سهمين، فعلّم السهمين كلّ واحد منهما بعلامة ثم قال: اللّهم ربّ السماوات السبع وربّ الأرضين السبع وربّ العرش العظيم عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، أيّهما كان صاحب الدابّة وهو أولى بها، فأسألك أن يقرع ويخرج سهمه، فخرج سهم أحدهما، فقضى له بها»(5).

وما عن عبداللّه بن سنان _ بسند غير تام _ قال: سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول: «إنّ رجلين اختصما في دابّة إلى علي (عليه السلام)، فزعم كلّ واحد منهما أنّها نتجت عنده على


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص183، الباب 12 من كيفيّة الحكم ، ح6.

(2) نفس المصدر، ص184، ح 8.

(3) نفس المصدر، ص185، ح11.

(4) المذود هو معلف الدابّة.

(5) نفس المصدر، ح12.

605

مذوده، وأقام كلّ واحد منهما البيّنة سواءً في العدد، فأقرع بينهما سهمين فعلّم السهمين كلّ واحد منهما بعلامة، ثم قال: اللّهم ربّ السماوات السبع وربّ الأرضين السبع وربّ العرش العظيم عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، أيّهما كان صاحب الدابّة وهو أولى بها فأسألك أن تقرع ويخرج اسمه، فخرج اسم أحدهما، فقضى له بها»(1).

ومنها _ ما فصّل بين ما لو كان المال بيدهما فالتقسيم، أو لم يكن بيد أيّ واحد منهما فالقرعة، وهو مرسلة دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين (عليه السلام) «أنّه قضى في البيّنتين تختلفان في الشيء الواحد يدّعيه الرجلان أنّه يقرع بينهما فيه إذا عدلت بيّنة كلّ واحد منهما وليس في أيديهما، فأمّا إن كان في أيديهما فهو فيما بينهما نصفان، وإن كان في يد أحدهما فإنّما البيّنة فيه على المدعي، واليمين على المدّعى عليه»(2).

هذا، وقد ورد في الباب أيضاً حديث غريب المضمون، وهو ما ورد عن عبدالوهاب بن عبدالحميد الثقفي عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سمعته يقول _ في رجل ادّعى على امرأة أنّه تزوّجها بولي وشهود وأنكرت المرأة ذلك، فاقامت أُخت هذه المرأة على رجل آخر [وفي بعض نسخ الرواية: «على هذا الرجل»] البيّنة أنّه تزوّجها بولي وشهود ولم يوقّتا وقتاً _: إنّ البيّنة بيّنة الزوج، ولا تقبل بيّنة المرأة؛ لأنّ الزوج قد استحقّ بضع هذه المرأة، وتريد أُختها فساد النكاح، فلا تصدّق، ولا تقبل بيّنتها إلا بوقت قبل وقتها أو دخول بها»(3). والحديث ضعيف سنداً بعلي بن محمد ابن شيرة القاساني وعبدالوهاب بن عبدالحميد الثقفي؛ حيث لم تثبت وثاقتهما،


(1) نفس المصدر، ص186، ح15.

(2) مستدرك الوسائل، ج3، ص199، الباب 10 من أبواب كيفيّة الحكم، ح1.

(3) وسائل الشيعة، ج18، ص185، الباب 12 من كيفيّة الحكم، ح13.

606

وبالقاسم بن محمد المحتمل انطباقه على القاسم بن محمد الإصفهاني ولم تثبت وثاقته.

وعلى أيّ حال فهذه هي روايات الباب.

أمّا ما هي الوظيفة في المقام لدى تعارض البيّنتين في باب التداعي؟ فنبحث أوّلاً عمّا هو مقتضى القواعد في ذلك، وثانياً عن أنّ ما مضت من الروايات هل توجب علينا العدول عن مقتضى القواعد أو لا؟ وما هي حدود إيجابها للعدول عن مقتضى القواعد لو أوجبت؟

مقتضى القواعد

أمّا عن مقتضى القواعد لدى تعارض البيّنتين في باب التداعي فهنا تصويران لحقيقة التداعي في مثل توارد اليدين على مال واحد، يختلف حكم مقتضى القواعد فيه باختلاف هذين التصويرين:

التصوير الاول _ أن يقال: إنّ كلّ واحد منهما مدّعٍ في نصف المال ومنكر في النصف الآخر؛ لأنّ اليد المشتركة لا تنفذ إلا في جزء المال حسب نسبة اشتراك الأيدي، فهو بمقدار نصف المال يعتبر منكراً لحجّية يده في إثبات ملكيّته له، وبمقدار النصف الآخر يعتبر مدّعياً؛ لعدم حجّية يده فيه؛ فمقتضى القاعدة هو أن يطبّق كلّ واحد في المقام ما اخترناه في باب المدّعي والمنكر.

فمثلاً لو قلنا في باب المدّعي والمنكر عند تعارض البينتين بترجيح بيّنة الخارج؛ بحجّة أنّ البيّنة إنّما هي على المدّعي، فلا أثر لبيّنة المنكر إطلاقاً، فالنتيجة في المقام هي تنصيف المال بينهما؛ لترجيح يد كلّ واحد منهما في نصف المال، ولكن مختارنا في باب المدّعي والمنكر لدى تعارض البيّنتين لم يكن ذلك كما مضى.

أمّا لو أردنا الكلام بناءً على ما اخترناه في باب المدّعي والمنكر من تعارض

607

البيّنتين وتساقطهما والرجوع إلى يمين المنكر، فالنتيجة في المقام هي التحالف، فلو حلفا معاً قُسِّم المال بينهما؛ لأنّ كلّ واحد منهما منكر في النصف، فقد نفذ يمينه في النصف، ولو حلف أحدهما ونكل الآخر كان المال كلّه للحالف؛ لأنّ حلفه في النصف كان حقاً له من أوّل الأمر، وقد عاد الحلف في النصف الآخر إليه بنكول صاحبه، فله الحلف على كلّ المال وأخذه، ولو نكلا معا قُسِّم المال بينهما؛ لأنّ كلّ واحد منهما منكر في النصف، فقد استحقّ النصف بعد نكوله ونكول المدّعي عن القسم.

التصوير الثاني _ أن يقال: إنّ كلّاً منهما مدّعٍ لتمام المال، وليس مدّعياً في النصف ومنكراً في النصف الآخر.

ويمكن تقريب ذلك بأن يقال: إنّ اليد لا تدل على خصوص الملك بقدر سيطرتها على المال، بل تدل عقلائيّاً على صحّة مدَّعى ذي اليد ما لم تعارض بيد من يدعي خلافه، فلو أنّ أحدهما ادّعى ملكية تمام المال، والآخر نفى ملكيّة نفسه، فلا شكّ في أنّ يد الأول أمارة عرفاً على صحّة ما ادّعاه من ملكيّة تمام المال ما دام صاحب اليد الثانية أنكر ملكيّة نفسه. إذاً فلو ادّعى كلّ منهما ملكيّة تمام المال فقد وقع التعارض الكامل بين اليدين، وهما متداعيان في تمام المال، وليس كلّ منهما مدّعياً في النصف ومنكراً في النصف الآخر.

أمّا ما قد يقال: من أنّ اليدين حينما اجتمعتا فقد أثّر كلّ منهما في النصف من باب تأثير كلّ من السببين المجتمعين في نصف المسبّب عند إمكانيّة ذلك، كما هو الحال في توارد حيازتين على مال واحد. فهذا قياس مع الفارق، فإنّ تأثير السببين العقلائيّين كلّ منهما في النصف إنّما يكون عقلائيّاً في باب الإيجاد العقلائي، لا في باب الكشف، ففي باب الحيازة كانت الحيازة سبباً عقلائيّاً لإيجاد الملكيّة، فإذا تواردت حيازتان على مال واحد دفعةً واحدةً أثّرت كلّ واحدة منهما في النصف،

608

أمّا في باب الكشف وتعارض الأمارتين فالمرتكز العقلائي هو التساقط، لا كشف كلّ واحدة منهما عن النصف. وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ اليد أمارة على الملكيّة وكاشفة عنها، وليست موجدةً لها.

وعلى أيّ حال فإن سلّمنا بأنّ كلّ واحد منهما مدّعٍ في تمام المال فالبيّنتان قد تعارضتا وتساقطتا، وبعد تساقط البيّنتين تصل النوبة إلى التحالف، وذلك بأحد وجهين:

الأول(1)_ أن يقال: إنّ كلّ واحد منهما كما هو مدّعٍ لتمام المال كذلك هو منكر لملكيّة صاحبه، وعلى المنكر اليمين. فلو نفى ملكيّة صاحبه باليمين أثّرت يده في إثبات ملكيّته هو.

والثاني _ أن يتمسّك بإطلاق(2) مثل قوله: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»(3)، وقوله في رواية سليمان بن خالد عن أبي عبداللّه (عليه السلام): «قال في كتاب علي (عليه السلام): إنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلى ربّه فقال: يا ربّ كيف أقضي فيما لم أرَ ولم أشهد؟ قال: أوحى اللّه إليه: احكم بينهم بكتابي، وأضفهم إلى اسمي، فحلّفهم به، وقال: هذا لمن لم تقم له بيّنة»(4). خصوصاً إذا افترضنا أنّ قوله: «هذا لمن لم تقم له بيّنة» من قول المعصوم كما لعلّه المفهوم من واو العطف، وهذا قرينة على النظر إلى خصوص المدّعي؛ لأنّه هو الذي تتوقع منه البيّنة، كما أنّ أصل الرؤية والشهادة أيضاً تتوقّع


(1) هذا الوجه الأول لا يأتي فيما إذا كان المال خارجاً من يدهما.

(2) قد يناقش في إطلاق ذلك: بأنّه لم يعلم من هذا أنّه في فرض التداعي هل يتحالفان، أو يعيّن من عليه الحلف بالقرعة؟

(3) وسائل الشيعة، ج18، ص169، الباب 2 من كيفيّة الحكم، ح1.

(4) نفس المصدر، ص167، الباب الأول من كيفيّة الحكم، ح1.

609

عادةً بالنسبة للادّعاء، لا الإنكار الذي هو غالباً نفي بحت.

وعندئذٍ إمّا أن يحلفا معاً، أو ينكلا معاً، أو يحلف أحدهما وينكل الآخر. فعلى الأخير يعطى المال للحالف، وعلى الأوّلين هل يقسّم المال بينهما، أو يلتجأ إلى القرعة؟

هناك وجهان للتقسيم:

الأول _ يختصّ بصورة ما إذا حلفا معاً، وهو أن يستظهر من دليل تحليفهما والقضاء بالأيمان أنّه لابدّ من إعمال كلّ واحد من الحلفين ولو في الجملة، وذلك بالتنصيف.

والثاني _ يشمل صورة نكولهما، وهو التمسّك بقاعدة العدل والإنصاف _ لو ثبتت _ بغضّ النظر عن روايات التقسيم في المقام؛ لأنّ كلامنا الآن وفق القواعد وبغضّ النظر عن روايات الباب. وسيأتي الكلام عن هذه القاعدة إن شاء اللّه، والواقع أنّه لا دليل على صحّة القاعدة في مثل المقام.

إذاً فمقتضى القاعدة في المقام إمّا هو التقسيم فيما لو حلفا بناءً على قبول الوجه الأول والقرعة فيما لو نكلا، أو القرعة في كلتا الصورتين بناءً على عدم قبول الوجه الأول.

هذا بناءً على دخول المقام في باب التداعي على كلّ المال.

والتحقيق: أنّ المقام داخل في باب الادّعاء في النصف والإنكار في النصف الآخر، وليس تداعياً على تمام المال.

وتوضيح ذلك: أنّ اليد وإن كانت أمارةً على ما يدّعيه ذو اليد، لكنّها في نفس الوقت أمارة أيضاً على ملكيّة ذي اليد ما لم ينفِ هو الملكيّة عن نفسه، ولذا لو مات أحد، ولم نعرف ما يدّعيه بشأن ما تحت يده من مال، حكمنا بدخوله في التركة. وهذه الأماريّة الثانية تتبعّض بتكاثر الأيدي، ولذا لو مات شخصان وكان هناك مال تحت

610

يدهما ولم نعرف ما يدّعيانه بالنسبة للمال، حكمنا بالشركة فيما بينهما على السواء.

إذاً فتتصور لكلّ من اليدين في ما نحن فيه دلالتان:

الأُولى: دلالتها على صحّة مدّعى صاحب اليد، وهو ملكيّته لتمام المال.

والثانية: دلالتها على مالكيّته للنصف.

فإذا افترضنا الدلالتين عرضيتين، فقد تعارضت الدلالات الأربع وتساقطت، ودخل المقام في باب التداعي على تمام المال، ولكن لا يبعد أن يقال: إنّ الدلالة الثانيّة مندكّة عند وجود الدلالة الأُولى، ولذا لا يحسّ لدى دعواه الملكيّة بأنّ هناك أمارتين على مالكيّة؛ إذاً فالدلالة الأُولى لكلّ من اليدين ساقطة بالتعارض، وتبقی الدلالة الثانية، وهي الدلالة على ملكيّة النصف، فيدخل المقام في باب الادّعاء في النصف والإنكار في النصف الآخر.

نعم، هذا كلّه فيما إذا كانت لكلّ منهما اليد على المال. وتبقى هنا فرضيّتان في باب التداعي لا يمكن إرجاعهما إلى الادّعاء في النصف والإنكار في النصف الآخر:

الأُولى _ ما إذا كان المال خارجاً عن أيديهما جميعاً. فهذا بابه باب التداعي على كلّ المال لا محالة، فإذا حلفا وصلت النوبة إلى التقسيم إعمالاً للحلفين، أو إلى القرعة، وإذا نكلا وصلت النوبة إلى القرعة لا التقسيم؛ إذ لم نؤمن بإطلاق قاعدة العدل والإنصاف، ولا يصدق في المقام كون كلّ واحد منهما مدّعياً في النصف ومنكراً في النصف الآخر.

والثانية _ ما إذا كان مصبّ الدعوى غير المال، كما لو تداعيا على الزوجة، فهنا أيضاً لا مجال لفرض الادّعاء في النصف والإنكار في النصف. وهنا لا يتصوّر التقسيم أصلاً، فينحصر الأمر بحسب مقتضى القواعد فيما لو حلفا أو نكلا في القرعة.

ويستخلص من كلّ ما مضى: أنّ الفروع المتصوّرة في باب التداعي مع تعارض

611

البيّنتين ثلاثة:

الأول _ ما لو كانت لهما اليد على المال: ومقتضى القاعدة في ذلك هو التحالف، فلو حلف أحدهما ونكل الآخر كان المال للحالف، ولو حلفا معاً أو نكلا معاً قُسِّم المال بينهما.

الثاني _ ما لو كان المال خارجاً عن أيديهما: ومقتضى القاعدة في ذلك هو التحالف، فلو حلف أحدهما ونكل الآخر كان المال للحالف، ولو حلفا معاً قُسِّم المال بينهما بناءً على إعمال الحلفين، واقترع بينهما بناءً على عدم إعمالهما، ولو نكلا معاً وصلت النوبة إلى القرعة.

الثالث _ ما لو كان مصبّ الدعوى غير المال، كما في الزوجة: ومقتضى القاعدة في ذلك هو التحالف، فلو حلف أحدهما دون الآخر كان الحقّ للحالف، ولو حلفا معاً أو نكلا معاً فالقرعة. هذا تمام الكلام بلحاظ القواعد.

مقتضى الروايات الخاصة

أمّا بلحاظ الروايات الخاصّة الماضية فنتكلم في هذه الفروع الثلاثة تباعاً:

حالة كون المال في يدهما

الفرع الأول _ ما لو كانت لهما اليد على المال وقد تعارضت البيّنتان، وقد عرفت أنّ مقتضى القاعدة هو التحالف، فلو حلف أحدهما دون الآخر أخذ الحالف المال، ولو حلفا أو نكلا قُسِّم المال بينهما، أمّا البحث على ضوء روايات الباب فنحن نجعل محور البحث ما مضى من حديث إسحاق بن عمّار عن أبي عبداللّه (عليه السلام): «أنّ رجلين اختصما إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) في دابّة في أيديهما، وأقام كلّ واحد منهما

612

البيّنة أنّها نَتَجَت عنده، فأحلفهما علي (عليه السلام) فحلف أحدهما، وأبى الآخر أن يحلف، فقضى بها للحالف، فقيل له: فلو لم تكن في يد واحد منهما وأقاما البيّنة، فقال: أُحلِّفهما، فأيُّهما حلف ونكل الآخر جعلتها للحالف، فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين. قيل: فإن كانت في يد أحدهما وأقاما جميعاً البيّنة، قال: أقضي بها للحالف الذي هو في يده»(1).

وقد استفاد السيد الخوئي من هذا الحديث كلّ البنود الثلاثة التي استفدناها من مقتضى القاعدة(2)، وهي:

1_ يتحالفان، ولو حلف أحدهما دون الآخر أخذ المال كلّه. وهذاصريح الرواية.

2_ ولو حلفا قُسِّم المال بينهما.

3_ ولو نكلا قُسِّم المال بينهما.

وقد استفاد البندين الأخيرين من ضمّ قوله: «فأحْلَفهما علي (عليه السلام)» إلى قوله: «فقضى بها للحالف»ولم يشرح كيف استفاد التقسيم عند حلفهما أو نكولهما من ذلك.ولو فرض أنّنا استفدنا من قوله: «قضى بها للحالف» أنّ من يحلف يقضى له بحيث يدل على أنّهما لو حلفا قضي لهما، وهذا يعني التقسيم.

أقول: لو سلّمنا استفادة التقسيم من هذا الكلام في فرض حلفهما معاً، لا نعرف كيف استفاد التقسيم من هذا الكلام في فرض نكولهما معاً.

والواقع أنّنا نستطيع أن نستفيد التقسيم في ما لو حلفا معاً من قوله بعد ذلك: «فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين». صحيح أنّ هذه الفقرة وردت في فرض ما


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص182، الباب 12 من كيفيّة الحكم، ح2.

(2) مباني تكملة المنهاج، ج1، ص53.

613

إذا لم يكن المال في يد واحد منهما، ولكن إذا كان المقرّر في هذا الفرض التحالف ثم التقسيم عند ما يحلفان معاً، وكان المقرّر في فرض ثبوت اليد لكليهما التحالف، لم يرِد عرفاً احتمال عدم التقسيم بعد حلفهما معاً لمجرّد أنّ يدهما كانت على المال، فإنّ ثبوت اليدين على المال _ لو لم يساعد على التقسيم بعد الحلف _ لا يحتمل مانعيّته عن ذلك؛ إذاً فالعرف يتعدّى من فرض عدم اليد إلى فرض ثبوت يدهما على المال.

أمّا فرض نكولهما معاً فلم يعرف حكمه من هذا الحديث، فلو بقينا نحن وهذا الحديث تمسّكنا في فرض النكول بما حقّقناه وفق مقتضى القاعدة، وهو التقسيم.

هذا، وصاحب الجواهر (رحمه الله) ناقش في التمسّك برواية إسحاق بن عمّار في المقام بأنّه خبر واحد، وفي سنده ما فيه، والمشهور نقلاً وتحصيلاً على خلافه، فلا يصلح مقيّداً لما دلّ على التنصيف بدون التحالف.

وقد خرّج (رحمه الله) ما نسبه إلى المشهور من التنصيف بدون التحالف تارةً على مقتضى القاعدة باعتبار توارد اليدين الدالّ على الشركة، فيؤخذ في كلّ نصف ببيّنة الخارج، وأُخرى على مقتضى النصوص بلحاظ روايات التقسيم. وأبطل الأول _ وهو التخريج بمقتضى القاعدة _ بأنّ يد كلٍّ منهما على الكلّ، لا النصف، وبأنّ الظاهر عدم اندراج بيّنة كلّ منهما تحت ما دلّ على تقديم بيّنة المدّعي؛ لأنّ في كلّ منهما عنوان المدّعى عليه باعتبار اليد، وبأنّ العمل بنصف ما تشهد به بيّنة كلّ منهما ليس عملاً ببيّنة الخارج ضرورة كون المشهود به الجميع، ثم أمر بالتأمّل(1).

أقول: أمّا سند رواية إسحاق بن عمّار فأظنّ أنّ نقاش صاحب الجواهر فيه ناظر إلى غياث بن كلوب، ولكن يستفاد من كلام الشيخ في العدّة توثيقه. وأمّا إفتاء


(1) الجواهر، ج 40، ص 412.

614

المشهور بخلافه _ حسب ما يقول صاحب الجواهر (رحمه الله) _ فلا يوجب سقوطه؛ لعدم وضوح كونه لأجل الإعراض عنه بحيث يوجب نفي وثوقنا عن الحديث إلى حدّ يسقط سنداً، فلعلّهم إنّما لم يفتوا به لأنّهم فهموا التعارض بين الأخبار، فرجّحوا غيره، أو رجعوا بعد التساقط إلى مقتضى القاعدة، واعتقدوا أنّ مقتضاها هو التقسيم بعد الحلف. وعليه فحديث إسحاق بن عمّار ليس ساقطاً سنداً.

وأمّا ما أورده من الإشكالات على كون مقتضى القاعدة هو التنصيف بلا تحالف فضعيف، وقد عرفت منّا أنّ المقام داخل في باب الادّعاء في النصف والإنكار في النصف، فلا محالة تكون بيّنة كلّ منهما بيّنةً للخارج بالنسبة لنصف المال.

نعم، الصحيح في إبطال كون مقتضى القاعدة هو التنصيف بلا تحالف ما مضی منّا من عدم ترجيح بيّنة الخارج، وأنّ بيّنتي المدّعي والمنكر تتعارضان وتتساقطان، فتصل النوبة إلى الحلف.

وأمّا ما ذكره من أنّ روايات التقسيم في المقام تقتضي التنصيف بلا تحالف فالصحيح أنّ تلك الروايات تقيّد برواية إسحاق بن عمّار التي دلّت على التقسيم بعد التحالف.

نعم، هناك رواية واحدة من روايات التقسيم لم تدل على التنصيف، وإنّما دلّت على التقسيم حسب رؤوس الشهود، وهي ما مضى من رواية السكوني، ولكن لم يعمل بها أحد إطلاقاً ممّا يسلب الوثوق بالحديث إلى حدّ السقوط.

بقيت في المقام روايات القرعة، والصحيح أنّها لا تعارض رواية إسحاق بن عمّار؛ لأنّها تحمل _ باستثناء رواية سماعة _ على غير باب الأموال، وذلك تخصيصاً لها برواية إسحاق بن عمّار التي دلّت في باب الأموال على التحالف والتقسيم.

وقد ذكر هذا الحمل السيد الخوئي بالنسبة لرواية عبدالرحمان بن أبي عبداللّه عن

615

أبى عبداللّه (عليه السلام) قال: «كان علي (عليه السلام) إذا أتاه رجلان يختصمان بشهود، عدّتهم سواء وعدالتهم، أقرع بينهم على أيّهما تصير اليمين»، فقد ذكر: أنّ هذه الرواية تحمل على غير باب الأموال تخصيصاً لها برواية إسحاق بن عمّار(1).

ولكن المقتنص من كلماته قبل هذا(2): أنّ رواية عبدالرحمان بن أبي عبداللّه واردة في المورد الذي تكون الأكثريّة العدديّة مرجّحة لإحدى البيّنتين، ففي ذاك المورد لو تمّت الأكثريّة العدديّة كان اليمين على من كانت بيّنته أكثر، ولو لم تتمّ الأكثريّة العدديّة بأن تساوتا وصلت النوبة إلى القرعة لتعيين من عليه الحلف، والمورد الذي تكون الأكثريّة العدديّة مرجّحة في نظر السيد الخوئي _ على ما يفهم من مباني تكملة المنهاج _ هو مورد المدّعي والمنكر حينما لايكذِّب المنكرُ المدّعي، بل يدّعي الجهل بالحال وأنّ المال انتقل إليه من غيره بإرث ونحوه(3)، وذلك عملاً برواية أبي بصير الماضية(4).

أقول: إنّ رواية عبدالرحمان لم تأخذ في موضوع الحكم بالقرعة مرجّحيّة العدد؛ بحيث يجب علينا مسبقاً أن نعرف ما هي موارد الترجيح بالعدد ثم تطبِّق على تلك الموارد قانون القرعة حينما لا يوجد ترجيح بالعدد، وإنّما الرواية دلّت بالصراحة على حكم القرعة، وأشارت في عرض هذه الدلالة إلى أنّه مع زيادة إحدى البيّنتين على الأُخرى عدداً لا تصل النوبة إلى القرعة، وعليه فلا بأس بالأخذ بإطلاق الرواية في المتداعيين اللذين وقع التعارض بين بيّنتيهما، فلا تختصّ القرعة بالمورد الخاص من


(1) مباني تكملة المنهاج، ج1، ص54.

(2) نفس المصدر ، ص52.

(3) نفس المصدر، ص50 _ 51.

(4) وسائل الشيعة، ج18، ص181، الباب 12 من كيفيّة الحكم، ح1.

616

المدّعي والمنكر الذي ذكره السيد الخوئي، بل مقتضى إطلاق نقل الإمام الصادق (عليه السلام) الناشى‏ء من ترك التفصيل، حينما ذكر قضاء علي (عليه السلام) بداعي تفهيم الحكم الشرعي عن طريق بيان قصّة قضاء علي (عليه السلام) هو ثبوت القرعة في غير ذاك المورد أيضاً، وكذلك رواية أبي بصير وإن كان صدرها دالّاً على الترجيح بالأكثريّة العدديّة في مورد خاصّ من موارد المدّعي والمنكر _ كما سبق منّا شرحه _ ولكنّه ذكر بعد ذلك: «أنّ علياً (عليه السلام) أتاه قوم يختصمون في بغلة، فقامت البيّنة لهؤلاء أنّهم أنتجوها على مذودهم، ولم يبيعوا، ولم يهبوا، وقامت البيّنة لهؤلاء بمثل ذلك، قضى علي (عليه السلام) بها لأكثرهم بيّنةً، واستحلفهم»، وهذا أيضاً يدل بالإطلاق بملاك ترك التفصيل على عدم اختصاص الترجيح بالأكثريّة العدديّة ووقوع اليمين على صاحب البيّنة الأكثر عدداً بما إذا كانت البغلة في يد أحدهما دون الآخر، أو بالمورد الخاص من المدّعي والمنكر الذي سبق ذكره في صدر الحديث.

وعلى أيّ حال فرواية عبدالرحمان كباقي روايات القرعة تحمل على غير باب الأموال تخصيصاً لها برواية إسحاق بن عمّار.

والنتيجة هي أنّه في باب الأموال حينما تكون للمتداعين اليد على المال، وتساوت البيّنتان لابدّ من تحليفهما، فإذا حلفا قُسِّم المال بينهما. وهذا ثابت بمقتضى القواعد وبمقتضى رواية إسحاق بن عمّار، ولكن لو كانت إحدى البيّنتين أكثر عدداً من الأخرى وجّه اليمين إلى خصوص من يمتلك البيّنة الأكثر عدداً، وذلك عملاً برواية أبي بصير. ومن هنا انتهينا إلى أمر يخالف مقتضى القاعدة؛ إذ لم يكن مقتضى القاعدة الترجيح بالأكثر عدداً.

بقي الكلام في رواية سماعة، التي دلّت على القرعة في باب الأموال؛ حيث روى عن أبي عبداللّه (عليه السلام): أنّه قال: «إن رجلين اختصما إلى علي (عليه السلام) في دابّة، فزعم

617

كلّ واحد منهما أنّها أُنتجت على مذوده، وأقام كلّ واحد منهما بيّنة سواءً في العدد، فأقرع بينهما سهمين، فعلّم السهمين كلّ واحد منهما بعلامة، ثم قال: اللّهم ربّ السماوات السبع، وربّ الأرضين السبع، وربّ العرش العظيم، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، أيّهما كان صاحب الدابّة وهو أولى بها، فأسألك أن يُقرع ويَخرُج سهمُه، فخرج سهمُ أحدهما، وقضى له بها»(1).

وهذه الرواية إذا قسناها إلى رواية إسحاق بن عمّار رأينا أنّ رواية إسحاق دلّت على تحليفهما وإعطاء المال للحالف، وتنصيفه بينهما إذا حلفا معاً سواء كانت لهما اليد على المال، كما هو محل الكلام فعلاً، أو كان المال خارجاً عن أيديهما، وعليه فتحمل رواية سماعة على فرض نكولهما عن اليمين تقديماً للخاصّ على العام، ولعلّ هذا هو السرّ في أنّ القرعة فرضت في هذا الحديث على تعيين الواقع، لا على تعيين من عليه الحلف، وهي الرواية الوحيدة التامّة سنداً الدالّة على الحلف لتعيين الواقع، فالروايات التي دلّت على القرعة لتعيين من عليه الحلف _ والتي حملناها على غير باب الأموال _ إنّما فرضت القرعة لتعيين الحالف باعتبار أنّه لم يحلّف أحدهما قبل القرعة، وهذه الرواية الواردة في باب الأموال _ والمحمولة على فرض نكولهما _ إنّما فرضت القرعة لتعيين الواقع، لا تعيين من عليه الحلف باعتبار أنّهما قد حُلّفا ونكلا.

ومن هنا وصلنا إلى نتيجة أُخرى على خلاف مقتضى القاعدة، وهي أنّه بعد نكولهما نلتجى‏ء إلى القرعة، بينما كان مقتضى القاعدة هو التقسيم.

وخلاصة ما وصلنا إليه من النتائج في الفرع الأول _ وهو ما لو كانت لهما اليد على المال وأقاما معاً البيّنة _ ما يلي:


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص185، الباب 12 من كيفية الحكم، ح12.