410

التي جاء فيها التعبير بكلمة تجوز(1).

أقول: مسألة كون كلمة (تجوز) أو (لا تجوز) من اختلاف النسخ في كتاب واحد أو كتابين قد مضى الحديث عنه، فلا نكرّره، أمّا الإيراد بعدم وجود قائل بمضمون الطائفة الأُولى والثانية فتحملان على التقيّة فغير دقيق؛ لأنّ الإجماع على خلاف مضمونهما ليس إجماعاً تعبّديّاً، ولا مبرِّراً للحمل على التقيّة.

نعم، قد تُشكِّل _ ولو بإضافة الروايات غير المشتملة على هذا الاستثناء _ قرينة عقلائيّة عند متعارف الناس على عدم مطابقة الاستثناء للواقع، فلو وصل ذلك إلى مستوى الاطمئنان أو قلنا بأن القرينة العقلائيّة على الخلاف يسقط الخبر عن الحجية، أوجب ذلك في المقام سقوط حديث الاستثناء عن الحجّية.

وأمّا الطائفة الثالثة فلا تصلح للجمع بين المطلقين المتعارضين حتى لو تمّت في نفسها؛ لأنّ حمل روايات نفوذ الشهادة على خصوص الشهادة على الكفّار أو العبيد ليس عرفيّاً، فتعارض هذه الطائفة وتلك الروايات يكون كالتعارض التبايني، وتحمل على التقيّة.

وقد تحصّل من كلّ ما ذكرناه: أنّ الصحيح نفوذ شهادة العبد إلا لمولاه.

طهارة المولد

الشرط السابع _ طهارة المولد أو عدم كونه ولد الزنا. وتدل على ذلك عدّة روايات من قبيل:

1_¬ ما عن أبي بصير _ بسند تام _ قال: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن ولد الزنا أتجوز


(1) راجع مباني تكملة المنهاج، ج1، ص105 _ 106 .

411

شهادته؟ فقال: لا. فقلت: إنّ الحكم بن عتيبة يزعم أنّها تجوز، فقال: اللّهم لا تغفر ذنبه»(1). وللحديث بعض التكملات التي لم تثبت بسند تام(2).

2_¬ ما عن محمد بن مسلم _ بسند تام _ قال: «قال أبو عبداللّه (عليه السلام): لا تجوز شهادة ولد الزنا»(3).

3_¬ ما عن زرارة _ بسند تام _ قال: «سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: لو أنّ أربعة شهدوا عندي بالزنا على رجل وفيهم ولد زنا، لحددتهم جميعاً؛ لأنّه لا تجوز شهادته، ولا يؤمّ الناس»(4).

4_¬ ما عن الحلبي _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن شهادة ولد الزنا، فقال: لا، ولا عبد»(5). كون ذيله محمولاً على التقيّة لا يضرّ بصدره.

5_ مرسلة العياشي عن عبيداللّه الحلبي عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «ينبغي لولد الزنا أن لا تجوز له شهادته، ولا يؤمّ بالناس، لم يحمله نوح في السفينة وقد حمل فيها الكلب والخنزير»(6).

6_ مرسلة العياشي عن إبراهيم عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إنّ نوحاً حمل الكلب في السفينة، ولم يحمل ولد الزنا»(7). ذكر صاحب الوسائل هذا الحديث في أحاديث


(1) راجع وسائل الشيعة، ج18، ص276، الباب 31 من الشهادات، ح1 و2، وذيل حديث3.

(2) نفس المصدر.

(3) نفس المصدر، ص276، الباب 31 من الشهادات، ح3.

(4) نفس المصدر، ح4.

(5) نفس المصدر، ص277، ح6.

(6) نفس المصدر، ح9.

(7) نفس المصدر، ح10.

412

الباب. ولعلّه بنكتة أنّ فرضه أتعس من الكلب يدل على عدم قبول شهادته.

والحديثان الأخيران _ إضافةً إلى سقوطهما سنداً _ مشتملان على مضمون يبدو لأوّل وهلة أنّه خلاف ما هو مسلّم من الكتاب والسنّة والعقل وإجماع العدلية من أنّه لا تزر وازرةٌ وزر أُخرى، إلا أن يُحملا على إرادة قضية خارجيّة غالبيّة، وهي انحراف ولد الزنا عن طريق الحقّ عادةً، وعليه يفقد الحديث الأخير دلالته على عدم نفوذ شهادة ولد الزنا لو كان عدلاً.

وفي مقابل هذه الروايات روايتان:

الأُولى _ تدل على نفوذ شهادة ولد الزنا، وهي ما عن عبداللّه بن جعفر في قرب الإسناد عن عبداللّه بن الحسن عن علي بن جعفر عن أخيه قال: «سألته عن ولد الزنا هل تجوز شهادته؟ قال: نعم، يجوز شهادته، ولا يؤمّ»(1)، ولا يمكن الجمع بين هذه الرواية وما مضى، بحمل ما مضى على الكراهة سنخ حمل كلّ نهي على الكراهة حينما يعارض ورود الترخيص؛ لأنّ الحكم في المقام كان وضعيّاً ولم يكن تكليفيّاً.

ويمكن الإيراد على التمسّك بهذه الرواية من عدّة وجوه:

1_ ضعف سندها بعبداللّه بن الحسن الذي لم تثبت وثاقته.

2_ كونها محمولةً على التقيّة كما في الوسائل، وجاء في مباني تكملة المنهاج:(2)_ على تقدير تسليم صحّة السند _ أنّه لابدّ من حملها على التقيّة.

أقول: إنّ الترجيح بموافقة الكتاب يكون قبل الترجيح بمخالفة العامّة، فلو تمّ سند هذا الحديث، وانحصر الأمر بالترجيح، تعيّن ترجيح هذا الحديث الموافق لإطلاقات


(1) وسائل الشيعة، ج18، الباب 31 من الشهادات، ص277، ح7.

(2) ج 1، ص110.

413

الكتاب على أحاديث المنع عن نفوذ شهادته.

3_ دعوى أنّ قيام ما يشبه الإجماع لدى الإماميّة على عدم نفوذ شهادة ولد الزنا منضمّاً إلى الروايات العديدة الصحيحة الدالّة على ذلك يشكّل قرينةً عرفيّةً عقلائيّةً على خطأ هذا الحديث، فلو بنينا في علم الأصول على كون ذلك مسقطاً للسند عن الحجّية سقط الحديث هنا عن الحجّية، وإلا لم يسقط بذلك عن الحجّية إلا إذا فرضنا القرينة بالغة مستوى حصول الاطمئنان.

4_ إنّ نفس الحديث رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه، إلا أنّه قال: «لا يجوز شهادته، ولا يؤمّ»(1). فبناءً على دعوى الاطمئنان بوحدة الحديث يدخل ذلك في باب اختلاف النسخ، ونسخة كتاب علي بن جعفر أولى بالصحّة. وعلى أيّ حال فمع فرض اختلاف النسخ يسقط الحديث عن الحجّية.

والثانية _ ما ورد _ بسند تام _ إلى أبان عن عيسى بن عبداللّه قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن شهادة ولد الزنا، فقال: لا تجوز إلا في الشيء اليسير إذا رأيت منه صلاحاً»(2). وعن الشيخ وابن حمزة الإفتاء بذلك.

وقد حمل صاحب الوسائل الحديث على التقيّة، بينما مقتضى الفنّ _ لو تم الحديث _ تقديمه على روايات المنع بالأخصّية.

وجاء في مباني تكملة المنهاج(3) الإيراد على الاستدلال بالحديث بأنّ الشيء اليسير والكثير ليس لهما واقع محفوظ، بل هما أمران إضافيّان، ويختلفان باختلاف الزمان والمكان.


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص277، الباب 31 من الشهادات، ح8.

(2) نفس المصدر، ح 5.

(3) ج 1 ، ص110 .

414

أقول: إنّهما عنوانان عرفيّان، وهناك ما يتيقّن بأنّه عند العرف يعتبر يسيراً أو كثيراً حسب اكتراث العقلاء به وعدمه، ولا يضرّ اختلاف تطبيق الحكم باختلاف الزمان والمكان، وهناك بعض المصاديق المشكوك كونه من اليسير أو الكثير، وهذا لا يضرّ بحجّية الحديث في غير المصاديق المشكوكة، فشأن عنوان اليسير والكثير هو شأن سائر المفاهيم العرفيّة التي توجد لها مصاديق مشكوكة.

وعن بعض الأصحاب الاستشكال في سند الحديث من حيث تردّد عبداللّه بن عيسى بين الأشعري الثقة والهاشمي الذي لم تثبت وثاقته.

وأجاب عليه السيد الخوئي(1) بأنّ رواية أبان عنه قرينة على كون المقصود هو الأشعري.

أقول: إنّ الشهرة القائمة على خلاف التفصيل الوارد في هذا الحديث منضمة إلى الإطلاقات الصحيحة سنداً قد تشكّل قرينةً عرفيّةً عقلائيّةً على خطأ هذا الحديث ممّا يسقطه عن الحجّية على بعض المباني. أما إذا لم نبن على ذلك فهذا لا يضرّ بحجّية السند إلا إذا بلغت القرينة مستوىً يورث الاطمئنان بالبطلان.

حالة الشك في طهارة المولد

بقي الكلام فيما لو شككنا في طهارة مولد الشاهد، وقد يستدل على قبول شهادته بوجوه:

1_ التمسّك بالعمومات والإطلاقات كما في الجواهر(2).

وفيه: أنّه تمسّكٌ بالعامّ في الشبهة المصداقية، ولعلّه سدّاً لهذا النقص ذكر في


(1) في مباني تكملة المنهاج، ج1، ص110.

(2) ج41 ، ص121.

415

الجواهر في آخر كلامه: أنّ النهي الوارد على طريق المانعيّة ظاهر في اختصاصه بالمعلوم دون المشكوك(1).

ويرد عليه: أنّه لا فرق بين ورود النهي على طريق مانعيّة خبث المولد أو على طريق شرطيّة طهارة المولد في أنّ ظاهر الكلام كون موضوع الحكم هو العنوان المفروض في الكلام بوجوده الواقعي، لا بقيد العلم، وأمّا إن كان المقصود التمسّك بقاعدة المقتضي والمانع، فقد حقّق في الأصول في محله بطلان هذه القاعدة.

2_ دعوى الإجماع، ولو ثبت لم يثبت كونه تعبديّاً، ولا يفيد العلم.

3_ قيام سيرة المتشرّعة على عدم الفحص عن حال الشاهد من حيث المولد، والفحص عن ذلك أمر يجلب النظر، ولو كان فيما سبق لَنُقل وبان، ولعلّ المقصود من الأصل في قوله في الجواهر: «هذا إن لم نقل بظهور أصل شرعي في الحكم بطهارة مولد كلّ من لم يعلم أنّه ابن زنا»(2) هو الأصل المستفاد من سيرة من هذا القبيل.

إلا أنّ من المحتمل كون السيرة معتمدةً على قاعدة الفراش التي هي محرزة في الموارد الاعتياديّة، وثبوت السيرة في خصوص ما إذا وقع الشكّ في الفراش غير معلوم.

4_ ما ذكره السيد الخوئي(3) من أنّ المخصِّص عنوان وجودي، فيثبت عدمه عند الشك بالأصل.

وهذا مبتنٍ على مبنَيْينِ أصوليَّيْنِ، أحدهما جريان الاستصحاب في العدم الأزلي، والثاني استظهار كون الموضوع هو العنوان الوجودي من ذكره في لسان الدليل حتى مع عدم تصوّر مورد افتراق بينه وبين عدم ضدّه المحتمل شرطيّته، أمّا لو قيل: إنّ


(1) ج41، ص121.

(2) الجواهر، ج41، ص121.

(3) في مباني تكملة المنهاج، ج1، ص111.

416

العرف يتقبّل التعبير عن شرطيّة طهارة المولد بلسان مانعيّة خبث المولد وبالعكس، ولا يمكن استظهار كون المستثنى عنواناً وجودياً، لم يتمّ هذا البيان.

وعلى أيّ حال، فلو ناقشنا في أحد المبنيَيْن الأصوليَّيْن، لم يبق دليل على نفوذ شهادته، ووصلت النوبة إلى يمين المنكر، لا للقاعدة المنقَّحة في علم الأصول من أنّ الشكّ في الحجّية يساوق القطع بعدم الحجّية، فإنّ تلك القاعدة إنّما تنظر إلى آثار القطع الطريقي من التنجيز والتعذير، لا الآثار الموضوعيّة من قبيل وصول النوبة إلى اليمين وعدمه، بل لأنّنا نستظهر من دليل كون اليمين على من أنكر والبيّنة على المدّعي أنّه متى ما عجزنا عن الوصول إلى الحجّة ثبت اليمين، فوصول النوبة إلى اليمين أثر موضوعي موضوعه عبارة عن عدم تماميّة الحجّة على خلافه، وبالفعل لم تتمّ الحجّة على خلافه؛ إذ لم تثبت حجّية هذه البيّنة سنْخَ ما لو شككنا في عدالتها ولم يمكن إثبات عدالتها بأمارة أو أصل.

عدم التبرّع بالشهادة

الشرط الثامن _ أن لا يكون متبرّعاً بالشهادة في حقوق الناس بأن يشهد قبل طلب الشهادة منه على ما نسب إلى المشهور، بل ادّعي عليه الإجماع. هذا في حال الشهادة.

المتبرّع بحمل الشهادة

وأمّا في حال التحمّل، فلا إشكال في أنّه لا يشترط أن يكون التحمّل بطلب منه من قبل المشهود له أو من قبلهما، فلو شهد واقعةً من دون طلب منه، نفذت بعد ذلك شهادته. نعم، نسب إلى بعض العامّة عدم نفوذ الشهادة إذا خبَّأ عن المشهود

417

عليه، فنطق المشهود عليه مسترسلاً، ونسب ذلك إلى ابن الجنيد أيضاً.

أمّا عندنا فمفاد الروايات هو نفوذ شهادة الشاهد سواء تحمّل بطلب منه أو تحمّل صدفة بعلمهما أو عدم علمهما. نعم، لو تحمّل بلا طلب، لم يجب عليه أداء الشهادة.

فعن العلا عن محمد بن مسلم _ بسند تام _ عن أبي جعفر (عليه السلام) «إذا سمع الرجل الشهادة ولم يشهد عليها، فهو بالخيار إن شاء شهد، وإن شاء سكت»(1).

وعن هشام بن سالم _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا سمع الرجل الشهادة ولم يشهد عليها، فهو بالخيار إن شاء شهد، وإن شاء سكت، وقال: إذا أُشهد لم يكن له إلا أن يشهد»(2).

ولحديث العلا عن محمد بن مسلم في بعض رواياته تتمّة، وهي قوله بعد جملة «وإن شاء سكت»: «إلا إذا علم مَنِ الظالم فيشهد، ولا يحلّ له إلا أن يشهد»(3).

ونحوه ما ورد بسند فيه إسماعيل بن مرار عن يونس عن بعض رجاله عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا سمع الرجل الشهادة ولم يشهد عليها، فهو بالخيار إن شاء شهد، وإن شاء سكت، إلا إذا علم مَنِ الظالم، فيشهد، ولا يحلّ له أن لا يشهد»(4).

ولعلّه إليه تشير مرسلة الصدوق التي تقول: «قال الصادق (عليه السلام): العلم شهادة إذا كان صاحبه مظلوماً»(5).

وعلى أيّ حال فهذا الاستثناء _ وهو استثناء ما إذا علم مَن الظالم _ قد يراد به:


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص231 _ 232، الباب 5 من الشهادات، ح1 و3.

(2) نفس المصدر، ص231، ح2.

(3) نفس المصدر، ص232، ح4.

(4) نفس المصدر، ص233، ح10.

(5) نفس المصدر، ح9.

418

أنّ معرفة الحقّ في الشهادة لا تلازم معرفة الظالم من المظلوم، فقد يعرف الشاهد أنّ زيداً قتل عمراً مثلاً ولا يعرف مع ذلك أنّ عمراً مثلاً مظلوم، فلعلّه قتله بحقّ، فإذا كان الشاهد اطّلع على واقعة صدفةً ومن دون طلب منه لتحمّل الشهادة، لا يجب عليه أداء الشهادة حينما يطلب منه الأداء، إلا إذا عرف الظالم من المظلوم، فيكون هذا تقييداً لإطلاق حديث هشام بن سالم الماضي الخالي عن هذا الاستثناء.

إلا أنّ هذا التفسير للاستثناء الوارد في حديث العلا عن محمد بن مسلم يعارض ما ورد من نفس العلا عن محمد بن مسلم _ بسند تام _ عن أبي جعفر (عليه السلام) في الرجل يشهد حساب الرجلين، ثم يُدعى إلى الشهادة. قال: «إن شاء شهد، وإن شاء لم يشهد»(1). فإنّ المتبادر إلى الذهن من قوله: «يشهد حساب الرجلين» هو شهادة كامل القصّة بحيث يعرف الحقّ من غير الحقّ، وورد مضمونه بتعبير آخر عن العلا عن محمد بن مسلم بسند ضعيف بمحمد بن عبداللّه بن هلال(2).

وعلى أيّ حال فإذا فرض أنّ حديث العلا عن محمد بن مسلم المشتمل على جملة «يشهد حساب الرجلين» غير حديثه المشتمل على جملة «إلا إذا علم مَن الظالم»، وتعارضا وتساقطا، رجعنا إلى إطلاق حديث هشام بن سالم(3)، بل وكذا إطلاق حديث محمد بن مسلم الذي نقلناه أوّلاً لو فرض حديثاً مستقلّاً لمحمد بن مسلم غير متّحد مع ما فيه الاستثناء.

أمّا إذا جمعنا بينهما بما يقرب إلى الذهن من استثناء فرض العلم بالظالم من حمله


(1) نفس المصدر، ص232، ح6.

(2) نفس المصدر، ح5.

(3) هذا بناءً على المسلك المعروف من مرجعيّة المطلق أو العامّ لدى ابتلاء المقيّد أو المخصّص بالمعارض.

419

على أنّ النظر فيه إلى مسألة وجوب نصرة المظلوم، إذا انحصر انتصاره بشهادة هذا الشخص، تعيّن ما أفتى به الصدوق (رحمه الله) من أنّه إذا انحصرت الشهادة به، فعلم أنّ صاحب الحقّ مظلوم ولا يحيى حقّه إلا بشهادته، وجبت عليه إقامتها، ولم يحلّ له كتمانها(1). ويؤيّد هذا التفسير للاستثناء الوارد في حديث العلا عن محمد بن مسلم احتمال كون كلا حديثيه المتعارضين، أو هما مع الحديث الأول حديثاً واحداً جاء الفرق فيما بينها من تقطيع الرواة، والنقل بالمعنى.

هذا وقد ورد حديث محمد بن مسلم في الرجل يشهد حساب الرجلين بسند آخر، وليس فيه ذكر التخيير بين الشهادة وعدم الشهادة، بل قال: «يشهد»(2).

وقد حمل الصدوق (رحمه الله) الحديث الذي حكم بالتخيير بالنسبة لمن حضر صدفةً من دون إشهاد، على ما إذا لم تنحصر الشهادة به، ولم يتوقَّف إنقاذ الحقّ على شهادته(3).

وهذا الحمل وإن كان _ لولا الشاهد _ حملاً تبرّعيّاً؛ إذ إنّ الرواية الأخيرة تعارض ما دلّ على عدم وجوب أداء الشهادة بالتباين، ولا معنى لحملها على فرض معيّن وحمل معارضها على الفرض الآخر، ولكنّ الرواية المفصّلة _ أعنى المشتملة على ما مضى من الاستثناء _ قد تصلح شاهد جمع بين الروايتين المتعارضتين.

وعلى أيّ حال فهذه الرواية _ لو لم يتمّ الجمع بهذا الوجه _ لا تصلح لمعارضة ما دلّ على عدم وجوب أداء الشهادة، فقوله في هذه الرواية: «يشهد» إمّا أن يُحمل على الحكم الوضعي، وهو نفوذ الشهادة، وعندئذٍ لا تعارض بينه وبين ما دلّ على


(1) الفقيه، ج3، ص34، في ذيل الحديث 109.

(2) الفقيه، ج3، ص33، ح 108؛ وسائل الشيعة، ج18، الباب 5 من الشهادات، ح7.

(3) الفقيه، ج3، ص34، في ذيل الحديث 109.

420

عدم وجوب أداء الشهادة، أو يحمل على الحكم التكليفي وهو الأمر بأداء الشهادة، وعندئذٍ يحمل على الاستحباب، كما هو الشأن في كلّ أمرٍ عارضَ الترخيص.

كلّ هذا بعد فرض تماميّة سند هذه الرواية، والذي يهوِّن الخطب أنّ سندها ضعيف بأحمد بن يزيد.

وهناك حديث آخر قد يدل على وجوب أداء الشهادة رغم عدم الإشهاد بمعنى طلب التحمّل، وهو ما رواه الصدوق بإسناده إلى علي بن أحمد بن أشيم قال: «سألت أبا الحسن عن رجل طهرت امرأته من حيضها، فقال: (فلانة طالق) وقوم يسمعون كلامه، لم يقل لهم: «اشهدوا» أيقع الطلاق عليها؟ قال نعم، هذه شهادة، أفيتركها معلّقة؟!»(1) بناءً على الملازمة بين كفاية ذلك في الإشهاد على الطلاق ووجوب أداء الشهادة _ عند الطلب _ المستفادة من قوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهٰادَةَ لِلّٰهِ﴾(2).

وتوضيح المقصود: أنّ الإشهاد في الآية الكريمة إمّا أن يقصد به طلب تحمّل الشهادة، أو يقصد به مجرد إيقاع الطلاق أمام الشاهد. وهذه الرواية تدل على أنّ المقصود هو الثاني، والآية قد أمرت مَنْ أشهِدوا بأداء الشهادة، وهذا يعني أنّ من وقع الفعل عنده يجب عليه أداء الشهادة وإن لم يُطلب منه تحمّل الشهادة، وهذا يعارض الروايات الدالّة على أنّ وجوب أداء الشهادة مشروط بالإشهاد بمعنى طلب تحمّل الشهادة دون الحضور صدفةً أو الاطّلاع صدفةً، إلا أنّ هذا الحديث غير تام سنداً؛ لعدم توثيق علي بن أحمد بن أشيم، ولعدم ثبوت تماميّة سند الصدوق (رحمه الله) إلى علي


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص233، الباب 5 من الشهادات، ح8.

(2) الطلاق: 2.

421

ابن أحمد بن أشيم.

ولو ثبت في بحث الطلاق أنّه يكفي فيه حضور العدلين صدفةً لم يؤدِّ ذلك إلى التعدّي إلى سائر موارد القضاء؛ لأنّ احتمال الفرق موجود.

هذا، ولا يبعد أن يُقال: إنّ هذه الرواية _ وحتى بعد ضمّها إلى الآية المباركة _ لا تعارض روايات الباب إطلاقاً، وذلك لأنّ المفهوم عرفاً من كلمة (الإشهاد) في الروايات وفي الآية المباركة ليس هو خصوص أن يقول لهم: (إشهدوا)؛ أي أن يطلب منهم تحمّل الشهادة، بل يكفي في الإشهاد إيقاع الفعل أمامهم وبنيّة اطلاعهم عليه في مقابل الحضور الصدفيّ البحت، والاطّلاع صدفةً من دون إرادة الطرفين؛ وعليه فالإشهاد في مورد رواية علي بن أحمد ابن أشيم حاصل.

وهناك حديث قد يدل بإطلاقه على وجوب أداء الشهادة حتى مع عدم الإشهاد، وهو ما عن عبداللّه بن سنان عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «لا ينقضي كلام شاهد الزور من بين يدي الحاكم حتى يتبوّء مقعده من النار، وكذلك من كتم الشهادة»(1). إلا أنّه _ مضافاً إلى ضعف سنده _ يقيّد إطلاقه بما مضى.

المتبرّع بأداء الشهادة

والآن فلْننتقل إلى صلب المطلب، وهو أنّ المتبرّع في حقوق الناس بالشهادة هل تنفذ شهادته أو لا؟

وقد فسّر في الجواهر في أوّل كلامه التبرّع بالشهادة(2) بمعنى الشهادة قبل سؤال الحاكم في مجلس الحكومة.


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص237، الباب 9 من الشهادات، ح4.

(2) الجواهر، ج 41، ص 104.

422

وأدلّة القول بعدم نفوذ شهادة المتبرّع بعد فرض تفسيره بهذا التفسير لعلّها تنحصر في ما يلي:

1_ الإجماع: وقد قال عنه صاحب الجواهر: «لعلّه العمدة في الحكم المزبور»(1)، ولكنّه _ مع منقوليّته، وما قيل من وجود بعض المخالفين، واحتمال مدركيّته، واستبعاد إجماع تعبّدي ناشى‏ء من توارث الحكم يداً بيد في مسألة يقلّ الابتلاء بها؛ إذ قلّ ما يفترض التبرّع بالشهادة في الخصومات _ لا تبقى صلاحيّة له بحيث يمكن جعله دليلاً على الفتوى في المقام.

2_ تطرُّق التهمة: وأبطله صاحب الجواهر بما اختاره في باب شرط عدم التهمة من أنّ المقياس هو العناوين الاتّهاميّة الخاصّة الواردة في الروايات، لا عنوان التهمة بمعناه العرفي العام.

والصحيح إبطاله بمنع كون التبرّع موجباً لتطرُّق التهمة على الإطلاق، وكونه أحياناً موجباً لتطرّق التهمة _ لاكتنافه بقرائن أُخرى أو خصوصيّات _ لا يصلح دليلاً للإفتاء بعدم نفوذ شهادة المتبرّع بشكل عام.

3_ النبويّات(2) المنقولة عن غير طرق الإماميّة: كقوله (صلى الله عليه و آله): «ثم يجيء قوم يعطون الشهادة قبل أن يسألوها» وقوله (صلى الله عليه و آله): «ثم يَفْشُو الكذب حتى يَشهدَ الرجلُ قبل أن يُستشهَد» وقوله (صلى الله عليه و آله): «تقوم الساعة على قوم يَشهَدون من غير أن يُستشهَدوا» بعد ضمّه إلى ما ورد في البحار وصحيح مسلم من أنّ القيامة تقوم على شرار الخلق.

وهذه النبويّات _ كما ترى _ ساقطة سنداً ومعارضة بالنبويّ الآتي على أنّه يُحتمل


(1) نفس المصدر.

(2) راجع الجواهر، ج41، ص106.

423

أن يكون المقصود بها شهادة الكذب، وأن يكون المقصود بالسؤال أو الاستشهاد طلب المشهود له الشهادة لصالحه؛ إذ من الواضح أنّ شهادة الكذب من دون طلبها أقبح وأكثر دلالةً على الجرأة وهتك حرمات اللّه من شهادته بعد طلبها، ويشير إلى هذا الاحتمال قوله في النبويّ الثاني: «ثم يفشو الكذب...».

ثم إنّ قيام الإجماع أو _ على الأقلّ _ الشهرة على عدم نفوذ شهادة المتبرّع _ بعد تفسير التبرّع بعدم طلب الحاكم _ أمر غريب؛ إذ لو فرض الإجماع تعبديّاً حاصلاً من وضوح الحكم قديماً وتوارثه جيلاً بعد جيل فتحقّق شيء من هذا القبيل في أمر لا يكثر الابتلاء به بعيد، ولو فرض مدركيّاً فهذه المدارك نسبتها إلى حقوق الناس الفرديّة وحقوق اللّه أو المصالح العامّة على حدّ سواء، فما معنى اختصاص القول بعدم نفوذ شهادة المتبرّع بالأوّل، وإفتاء المشهور بنفوذها في الأخيرين؟!

ولا يرفع هذا الاستغراب الوجوه الواهية التي تذكر لاستثناء حقوق اللّه والمصالح العامّة من قبيل:

1_ أنّه لو جعل التبرّع بالشهادة فيها مانعاً لتعطّلت.

2_ وأنّ المصلحة إذا عمّت عدول المؤمنين بأجمعهم كانت الشهادة منهم دعوى، فلو توقفت على دعوى غيرهم كان ترجيحاً من غير مرجّح مع لزوم الدور.

3_ وأنّ الشهادة بحقوق اللّه تعالى نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما واجبان، والواجب لا يُعدّ تبرّعاً.

4_ والجمع بين النبويّات الماضية والنبويّ الآخر: «ألا أخبركم بخير الشهود؟ قالوا بلى يا رسول اللّه. قال: أن يشهد الرجل قبل أن يُستشْهَد»(1).


(1) راجع الجواهر، ج41، ص107.

424

ولا أراني بحاجة إلى توضيح ضعف هذه الوجوه.

وقد وقع في كلمات الأصحاب تشويش آخر في ما يشتمل على حقّ اللّه وحقّ الناس معاً كالسرقة، فهل تنفذ فيه الشهادة التبرّعية لكونه حقاً للّه ولم يثبت بالإجماع أكثر من استثناء ما كان حقّاً آدميّاً محضاً، أو لا تنفذ لكونه حقّاً للناس، أو تنفذ بالنسبة لحقّ اللّه، ولا تنفذ بالنسبة لحقّ الناس، فتقطع يد السارق من دون أن يغرم، أو غير ذلك ممّا جاء نقله في الجواهر؟(1)

أقول: إنّ أصل التفصيل بين حقّ اللّه وحقّ الناس لم يعرف له وجه معقول ما دمنا نفسّر التبرّع في الشهادة بعدم طلب الحاكم.

ولكن من المحتمل أن يكون مقصود الأصحاب من التبرّع هو ما أبدى احتماله في الجواهر(2) في ثنايا الكلام بعنوان (قد يقال) ومن دون تركيز عليه، وهو الشهادة من دون إذن من له الحقّ كالمدّعي الذي عليه البيّنة، وهذا الاحتمال وارد بشأن كلّ من لم يصرّح بأنّ مقصوده من التبرّع هو الشهادة قبل طلب الحاكم، بل لعلّه يرد حتى بالنسبة لمن صرّح بذلك، باعتبار أنّ طلب المدّعي من الشهود لأداء الشهادة يكون عادةً عن طريق الحاكم؛ أي أنّ الحاكم يطلب من الشهود بناءً على رغبة المدّعي أداء الشهادة، فأخذ عنوان طلب الحاكم استطراقاً إلى ثبوت طلب المدّعي. وعلى أيّ حال لو بنينا على هذا الاحتمال ارتفع الاستغراب، فإنّ الوجه في التفصيل بين حقّ الفرد وحقّ اللّه أو الحقوق العامّة أحد أمرين:

إمّا التمسّك بمسألة التهمة؛ حيث يُقال: إنّ عدم انتظار طلب المدّعي موجب


(1) ج41، ص108 _ 109.

(2) ج41، ص105.

425

للتهمة، وهذا إنّما يفرض في حقّ الفرد لا في حقّ من لا يوجد بشأنه مدّعٍ خاصّ من حقوق اللّه أو الحقوق العامّة ممّا تثار بمبادرة الناس لا بمبادرة المدعي.

وإمّا أن يُقال: بأنّ عدم نفوذ شهادة المتبرّع قبل طلب المدّعي في الحقوق الفرديّة يكون بنكتة أنّ البيّنة حقّ للمدّعي، وليس للحاكم فرض الحكم وفق البيّنة من دون إذن ذي الحقّ ما دام الحقّ ليس من حقوق اللّه أو الحقوق العامّة التي يكون لولي الأمر حقّ التدخّل فيها ابتداءً، ومن هنا يصبح التفصيل بين حقوق الناس الفرديّة وحقوق اللّه أو الحقوق العامّة أيضاً أمراً معقولاً؛ حيث لا يوجد في الثاني مدّعٍ يكون له الحقّ في طلب الحقّ بالبيّنة ورفضه بخلاف الأول.

وبه يتّضح الحال أيضاً في الحقوق المشتركة بين اللّه تعالى والآدمي، فإن كان اشتراك الحقّ بمعنى أنّ قسماً منه لله وقسماً منه للآدمي _ كما قد يقال في السرقة من أنّ القطع لله والضمان للآدمي _ فما للآدمي يتوقّف على إذن المدّعي؛ لأنّه حقّه، وما للّه تنفذ فيه الشهادة التبرّعيّة. وإن كان اشتراك الحقّ بمعنى أنّ شيئاً واحداً هو حقّ للّه وللآدمي كما لو قلنا: إنّ القطع في السرقة والحدّ في القذف كلّ منهما حقّ للّه وللآدمي، فالشهادة التبرّعيّة تنفذ فيه؛ لأنّ عدم إذن المدّعي إنّما يُسقط حقّه في الحكم ولا يُسقط حقّ اللّه.

هذا فيما إذا كان المدرك لعدم نفوذ شهادة المتبرّع عبارة عن أنّ الحاكم لا يحقّ له فرض الحكم من دون طلب المدّعي للحكم وفق البيّنة؛ لأنّ ذلك حقّ له، أمّا إذا كان المدرك هو التهمة فهي موجودة في الحقّ المشترك.

والآن فلنقطع النظر عن أنّ مقصود الأصحاب من التبرّع هل هو عدم طلب الحاكم، أو عدم طلب ذي الحقّ؟ لنبحث أصل الموضوع، وهو أنّ الشهادة هل تنفذ ابتداءً بلا طلب، أو أنّ نفوذها مشروط بطلب ذي الحقّ، أو بطلب الحاكم في

426

خصوص حقوق الناس الفرديّة، أو حتى العامّة، أو حتى حقوق اللّه؟

تحقيق الحال في شهادة المتبرّع

وتحقيق الحال في ذلك يتوقّف على أن نرى أنّه هل هناك إطلاق يُثبت لنا نفوذ شهادة البيّنة على الإطلاق أو لا؟ فإن لم يكن هناك إطلاق فما هو القدر المتيقّن من النفوذ؟ وإن كان هناك إطلاق فهل خرج منه شيء بالتخصيص؟ وما هو الخارج منه بالتخصيص؟

فنقول: إنّ أدلّة نفوذ شهادة البيّنة عديده:

الأول _ الإجماع البالغ حدّ الضرورة الفقهيّة ممّا لا يضرّ به وجود المدرك، وهذا دليل لبّي لا إطلاق له، فمتى ما احتملنا عدم نفوذ البيّنة _ لعدم طلب الحاكم أو ذي الحق _ لم تنفذ، وتصل النوبة إلى اليمين بناءً على أنّ دليل اليمين ظاهر في وصول النوبة إليه متى ما لم تصبح البيّنة حجّةً فعليّةً.

الثاني _ حديث مسعدة بن صدقة: «... والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة»(1) بناءً على تماميّة دلالته على حجّية البيّنة بالمعنى المصطلح.

وقد يُقال: إنّ هذا الحديث إن تمّت دلالته على حجّية البيّنة فإنّما يدل على الحجّية الذاتية لها، لا الحجّية القضائيّة، فقد يكون شيء حجّةً بذاته، ولكن ليس موضوعاً كاملاً للقضاء به كالأصل الذي هو في صالح المنكر.

ويمكن الجواب على ذلك بأنّ البيّنة إذا كانت أمارةً شرعيّةً تثبت الحقّ، فبضمّ


(1) وسائل الشيعة، ج12، ص60، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، ح4، ص60.

427

أدلّة القضاء بالحقّ تثبت لها الحجّية القضائيّة. وعلى أيّ حال فالحديث ساقط سنداً.

الثالث _ دليل حجّية خبر الواحد بناءً على شموله للخبر في الموضوعات، وهو وإن دلّ على الحجّية الذاتيّة لا القضائيّة، لكن بما أنّ الخبر أمارة على الحقّ والواقع فبضمّه إلى دليل القضاء بالحقّ تثبت له الحجّية القضائيّة، ولا يضرّ بذلك فرض قيام الدليل على الحاجة إلى التعدّد في باب المرافعة، فلا يكفي خبر إنسان واحد، فإنّ هذا لا يعني إسقاط حجّية خبر الواحد في باب المرافعة، وإنّما يعني تقييد إطلاقه بشرط التعدّد، فبالتالي تثبت حجّية خبر الواحد _ أي ما دون المتواتر _ في باب المرافعة بشرط التعدّد حجّية ذاتية، وبضمّ ذلك إلى دليل القضاء بالحقّ تثبت له الحجّية القضائيّة، بل قد يقال: إنّ خبر الإنسان الواحد أيضاً حجّة في باب المرافعة بذاته؛ لإطلاق دليل حجّية خبر الواحد، غاية الأمر أنّه دلّ الدليل على اشتراط الحجّية القضائية بالتعدّد.

ولكنّ الواقع: أنّ عمدة أدلّة الحجّية الذاتيّة لخبر الواحد هي السيرة أو بعض الإطلاقات التي يتمّ إطلاقها بواسطة السيرة على شرح مضى في بحث تمييز المدّعي من المنكر، وفي باب المرافعة لم تثبت سيرة على حجّية خبر الواحد أو البيّنة حجّيةً ذاتيّةً بحيث يعمل بها الشخص الثالث قبل حكم الحاكم؛ إذاً فلا يمكن ضمّ ذلك إلى دليل القضاء بالحقّ لإثبات حجّية البيّنة على الإطلاق في باب القضاء.

الرابع _ ما ورد من مثل قوله (صلى الله عليه و آله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»(1)، ومثل قوله (صلى الله عليه و آله): «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر»(2).


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص169، الباب 2 من كيفيّة الحكم، ح1.

(2) راجع نفس المصدر، ص170، الباب3 من كيفيّة الحكم.

428

وقد يورد على إطلاق الأول بأنّ الحديث إنّما هو بصدد حصر القضاء بالبيّنات والأيمان، أمّا أنّه متى يكون الرجوع إلى البيّنات؟ ومتى يكون الرجوع إلى الأيمان؟ فليس الحديث بصدد بيانه، وعلى إطلاق الثاني بأنّه ليس بصدد ذكر الشروط، وإنّما هو بصدد بيان من عليه البيّنة ومن عليه اليمين.

والواقع أنّ هذا وإن كان يضرّ بالإطلاق الحكَمي، ولكنّ الإطلاق المقامي _ بالنسبة لرفض كلّ قيد يكون مرفوضاً وفق المرتكزات العقلائية _ ثابت، والأمر في ما نحن فيه من هذا القبيل، فكون طلب الحاكم دخيلاً في نفوذ شهادة البيّنة من دون فرض تحقّق التهمة في الشهادة التبرعية خلاف المرتكز العقلائي، وأمّا كون طلب ذي الحقّ أو إذنه دخيلاً في ذلك فإن كان بمعنى دخله في تكميل نقص البيّنة كبيّنة وإيصالها إلى مستوى الحجّية فهذا أيضاً _ حينما لا يفرض تحقّق التهمة في الشهادة التبرعيّة _ مرفوض عقلائياً، وإن كان بمعنى أنّه وإن لم يكن هناك عيب في البيّنة ولكنّ حكم الحاكم في غير الحقوق الإلهيّة والحقوق العامّة إنّما هو من حقّ من يحكم لصالحه، فإذا هو لم يرد الحكم فلا مبرِّر لجواز الحكم ونفوذه، فهذا المعنى ليس على خلاف مرتكز العقلاء.

إلا أنّ هذا لا يعني صحّة ما نقل عن الأصحاب من عدم نفوذ شهادة المتبرّع الظاهر في إرادة النقص في جانب الشهادة.

إذاً فالصحيح وجود الإطلاق الدالّ على نفوذ شهادة المتبرّع ولا مقيّد له، والتهمة ممنوعة كما تقدّم.

نعم، لا بأس بالقول بعدم جدوى شهادة المتبرّع _ أي الشهادة من دون طلب المدّعي _ لا بمعنى النقص في جانب الشهادة، بل بمعنى النقص في جانب الحكم من دون إرادة المدّعي حيث لا دليل على نفوذ الحكم في هذه الحالة، أمّا إذا افترضنا أنّ

429

الشهادة كانت تبرعيّة _ أي من دون طلب ذي الحقّ _ ثم بعد ذلك طلب ذو الحقّ حكم الحاكم وفق الشهادة، وحَكَم الحاكم وفقها فهذا الحكم نافذ رغم تبرّعيّة الشهادة.

بقي هنا إشكال في الحساب، وهو أنّ المدّعي لو لم يرد من الحاكم الحكم وفق البيّنة رغم قيام البيّنة ولو تبرّعاً وأراد تحليف المنكر وقيام الحكم وفق حلف المنكر، فما هو الدليل على نفوذ حكم الحاكم وفق حلف المنكر؟ فصحيح أنّه لا دليل على نفوذ حكم الحاكم وفق البيّنة؛ لأنّ هذا من حقّ المدّعي الذي لم يطلبه، ولكن قد يقال: لا دليل أيضاً على نفوذ حكمه وفق يمين المنكر، فإنّ مثل قوله (صلى الله عليه و آله): «إنما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» وإن كان ظاهراً في حجّية اليمين عند عدم فعليّة حجّية البيّنة، لكنّ النقص _ كما عرفنا _ لم يكن هنا في البيّنة، فالبيّنة _ بما هي بيّنة _ كانت مستكملة لشروط الحجّية رغم تبرّعيّتها، وإنّما النقص كان في جانب الحكم الذي لا دليل على نفوذه حينما يكون من حقّ شخص لا يريد حقّه؛ إذاً لا دليل على نفوذ الحكم وفق اليمين أيضاً.

إلا أنّ هذا الإشكال يرفع بالتمّسك بإطلاق ما ورد _ بسند تام _ عن ابن أبي يعفور عن أبي عبداللّه (عليه السلام): قال: «إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه، فاستحلفه، فحلف أن لا حقّ له قبله، ذهبت اليمين بحق المدّعي، فلا دعوى له. قلت له: وإن كانت عليه بيّنة عادلة؟ قال: نعم، وإن أقام بعد ما استحلفه باللّه خمسين قسامة ما كان له، وكانت اليمين قد أبطلت كلّ ما ادعاه قبله ممّا قد استحلفه عليه». وزاد في (من لا يحضره الفقيه): قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله): «من حلف لكم على حقّ فصدّقوه، ومن سألكم باللّه فاعطوه، ذهبت اليمين بدعوى المدّعي، ولا دعوى

430

له»(1). وهذه الزيادة إن كانت من كلام الإمام الصادق (عليه السلام)، فسندها هو سند الصدوق إلى ابن أبي يعفور، وإن كانت من الصدوق (رحمه الله) فهي مرسلة. وعلى أيّ حال فالمهم إطلاق صدر الحديث لفرض اكتفاء المدّعي بيمين المنكر رغم وجود الشهادة التبرّعيّة، ولا تضرّ بذلك ندرة الفرض، فإنّ ندرة الفرض تضرّ بحمل الإطلاق عليه، لا بشموله له.

ومثل هذا الحديث حديث خضر النخعي في الرجل يكون له على الرجل مال فيجحده قال: «فإن استحلفه فليس له أن يأخذ شيئاً، وإن تركه ولم يستحلفه فهو على حقّه»(2)، إلا أنّ خضر النخعي لم تثبت وثاقته.

الخامس _ ما عن يونس عمّن رواه قال: «استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين عدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، فإن لم تكن امرأتان فرجل ويمين المدّعي، فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدّعى عليه، فإن لم يحلف وردّ اليمين على المدّعي فهي واجبة عليه أن يحلف ويأخذ حقّه، فإن أبى أن يحلف فلا شىيء له»(3)، فهذا الحديث أيضاً بإطلاقه يشمل شهادة المتبرّع سواء كان بمعنى الشهادة قبل طلب الحاكم، أو بمعنى الشهادة قبل طلب ذي الحقّ، إلا أنّه لا يدل على أكثر من حجّية البيّنة بما هي، أمّا أنّه لو اكتفى صاحب الحقّ بتحليف المنكر ولم يوافق على أن يحكم الحاكم وفق البيّنة التبرّعيّة، فالحديث لا يدل على جواز حكم الحاكم وفق البيّنة، ونرجع مرّةً أُخرى إلى ما دلّ على أنّ تحليف المنكر يذهب بحقّ المدّعي.

وعلى أي حال فهذا الحديث ضعيف سنداً بعدم معرفة من روى عنه يونس،


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص179، الباب 9 من كيفية الحكم، ح1 و2.

(2) وسائل الشيعة، ج16، ص 179، الباب 48 من كتاب الأيمان، ح1.

(3) نفس المصدر، ج18، ص176، الباب 7 من كيفية الحكم، ح4.

431

وعدم انتهائه إلى المعصوم، فالمهم هو الوجه الرابع.

والمتحصّل من كلّ ما ذكرناه: أنّ طلب الحاكم ليس دخيلاً في نفوذ الشهادة، وموافقة المدّعي دخيلة لا في نفوذ الشهادة بالمعنى الذي قد يوحي إليه هذا اللّفظ، بل في حكم الحاكم حينما يكون من حقّ المدّعي؛ إذ لا دليل على نفوذ الحكم في هذه الحالة، وينتقل الأمر عندئذٍ إلى حلف المنكر الذي يذهب بحقّ المدّعي. أمّا في حقّ اللّه والحقوق العامّة فلا موضوع لهذا البحث؛ لأنّ من حقّ ولي الأمر أن يتدخّل مباشرةً في الحكم من دون افتراض مدّعٍ يطالب به. وما يشتمل على حقّ اللّه وحقّ للفرد تنفذ فيه الشهادة التبرّعيّة بالنسبة لحقّ اللّه، ولا تنفذ بالنسبة لحقّ الفرد بالمعنى الذي شرحناه لعدم النفوذ، لا بالمعنى الذي يوحي إليه حاقّ اللّفظ.

وإذا كان حقّ واحد للّه وللفرد في وقت واحد تنفذ فيه الشهادة التبرعيّة بلا إشكال.

شرط (الحسّ) في الشهادة

الشرط التاسع _ أن تكون الشهادة عن حسّ.

لا إشكال في وجوب استناد الشهادة إلى مدرك مقبول، وعدم جواز الشهادة بمجرّد الاحتمال أو الظنّ وبلا مستند مثبت لما يشهد به، وعدم نفوذها.

والمستند الذي يمكن للشاهد أن يعتمد عليه في مقام الشهادة لا يخلو عن أحد أمور أربعة:

الأول _ الحسّ: وأقصد بذلك ما لو كان الوسيط بينه وبين علمه بالواقع إحدى حواسّه كالبصر أو السمع.

والثاني _ ما يقرب من الحسّ: وأقصد بذلك ما لو كان هناك وسيط آخر غير الحسّ وقع في طريقه إلى العلم بالواقع، إلا أنّ هذا الوسيط سنخ أمر يوجب العلم لعامّة الناس

432

كالتواتر، فسمعه _ مثلاً الذي هو إحدى حواسّه _ لم يقع مباشرةً على ما يشهد به، وإنّما وقع على التواتر القائم على ما يشهد به، والتواتر موجب للعلم لعامّة الناس.

والثالث _ العلم غير الحسّي وغير ما يقرب من الحسّ: وأقصد بذلك ما لو كان هناك وسيط بينه وبين علمه بالواقعة غير الحسّ وغير ما يوجب العلم لعامّة الناس، كما يتّفق كثيراً لإنسانٍ ما يحصل له العلم بشيء على أساس قرائن لو عرضت على إنسان آخر ربّما لا توجب له العلم.

والرابع _ الدليل التعبّدي من أمارة أو أصل كما لو ثبتت له مالكيّة المدّعي لمالٍ باليد أو بالاستصحاب.

ولا شكّ في جواز الشهادة ونفوذها في القسم الأول، وهو الشهادة عن الحسّ، فإنّه القدر المتيقن من الأقسام في النفوذ بلا إشكال.

الشهادة بما يقرب من الحسّ

وأمّا القسم الثاني وهو الشهادة عمّا يقرب من الحسّ كالشهادة على أساس التواتر ونحوه فهو ملحق بالقسم الأول؛ لأنّ الأدّلة اللفظية الدالّة على نفوذ القسم الأول تدل على نفوذ هذا القسم أيضاً حتى ولو لم يتمّ فيها الإطلاق اللفظي، أو كان مفاد لفظها مخصوصاً بالقسم الأول:

أمّا ما لا يتم فيه الإطلاق اللفظي فكقوله (صلى الله عليه و آله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»(1) حيث إنّه بصدد حصر مقياس القضاء بالبيّنة واليمين، أمّا أنّه متى يعمل بالبيّنة؟ ومتى يعمل باليمين؟ فليس بصدده. ولكن رغم هذا نعتقد دلالته على نفوذ الشهادة القائمة على أساس ما يقرب من الحسّ، وذلك باعتبار الإطلاق المقامي الرافض


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص169، الباب 2 من كيفيّة الحكم، ح1.

433

لكلّ قيد يرفضه ارتكاز العقلاء، ومنها قيد الحسّ في مقابل ما يقرب من الحسّ.

وأمّا ما يكون مفاده مخصوصاً بالقسم الأول فكما ورد عن علي بن غياث أو علي ابن غراب عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «لا تشهدَنَّ بشهادة حتى تعرفها كما تعرف كفّك»(1). والسند غير تام، وكما رواه المحقّق مرسلاً عن النبي (صلى الله عليه و آله) أنّه قال _ وقد سئل عن الشهادة _: «هل ترى الشمس؟ على مثلها فأشهدْ أو دَعْ»(2). فبناءً على اختصاص المفاد اللفظي لذلك بالشهادة الحسّية نتعدّى إلى الشهادة القائمة على أساس ما يقرب من الحسّ ببركة عدم احتمال العرفِ الفرقَ، فإنّ عدم احتمال الفرق يكوّن للدليل دلالة التزاميّة عرفيّة على المقصود، وبهذا البيان يتمّ أيضاً الاستدلال بمثل قوله (صلى الله عليه و آله): «إنما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» حتى ولو غضّ النظر عن فرض الإطلاق المقامي، فإنّ عدم الإطلاق لا يجعله أتعس حالاً من نصٍّ كان مفاده خاصّاً بالقسم الأول.

وإن شئت فقل: إنّ النكتة التي جعلتنا نؤمن بحجّية لوازم الأمارة التي لم يكن مدلولها المطابقي موضوعاً للحجّية لعدم ترتب أثر شرعي عليه، ولكنّ لازمه كان ذا أثر شرعي؛ نفس تلك النكتة تجعلنا نؤمن بحجّية البيّنة التي ليست هي بلحاظ مصبّ الأثر القضائي بيّنةً عن حسّ، لكن هي بلحاظ ما لا ينفكّ عن مصبّ الأثر القضائي _ ويلازمه عادةً _ كالتواتر المخبِر عن الواقعة المشهود بها بيّنة عن حسّ.

ويشهد لنفوذ البيّنة التي انصبّ علمها الحسّي على ما يلازم المقصود في باب القضاء لا على نفس المقصود ما رواه الشيخ بسنده عن محمد بن أحمد بن يحيى عن


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص250، الباب 20 من الشهادات، ح1.

(2) نفس المصدر، ص251، ح3.

434

موسى بن جعفر البغدادي عن جعفر بن يحيى عن عبداللّه بن عبدالرحمن عن الحسين ابن يزيد عن أبي عبداللّه (عليه السلام) عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) قال: «أتى عمر بن الخطاب بقدامة بن مظعون وقد شرب الخمر، فشهد عليه رجلان: أحدهما أنه رآه يشرب، وشهد الآخر أنّه رآه يقيء الخمر، فأرسل عمر إلى ناس من أصحاب رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) فيهم أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال لأمير المؤمنين (عليه السلام): ما تقول يا أبا الحسن فإنّك الذي قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله): أنت أعلم هذه الأُمّة وأقضاها بالحقّ، وأنّ هذين قد اختلفا في شهادتهما، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): ما قاءها حتى شربها، فقال: وهل تجوز شهادة الخصي؟ فقال ما ذهاب لحيته إلا كذهاب بعض أعضائه»(1).

والحسين بن يزيد ثبتت وثاقته برواية ابن أبي عُمير وصفوان عنه، ولكنّ في السند موسى بن جعفر البغداي ولا دليل على وثاقته عدا وروده في أسانيد كامل الزيارات، وعدم استثناء رواياته من روايات محمد بن أحمد بن يحيى، وكلا الوجهين لا يصلحان للتوثيق.

وهناك رواية أُخرى تامّة سنداً ودلالةً على المقصود، وهي ما رواه الصفّار أنّه كتب إلى أبي محمد (عليه السلام): هل يجوز للشاهد الذي أشهده بجميع هذه القرية أن يشهد بحدود قطاع الأرض التي له فيها إذا تعرّف حدود هذه القطاع بقومٍ من أهل هذه القرية إذا كانوا عدولاً؟ قال: «فوقّع (عليه السلام): نعم، يشهدون على شيءٍ مفهوم معروف»(2). وعلى أيّ تقدير فحجّية البيّنة في القسم الأول والثاني ينبغي افتراضها من الواضحات.

الشهادة القائمة على أساس الأمارة أو الأصل

كما لا ينبغي الإشكال في أنّ مقتضى القواعد عدم حجّية البيّنة في القسم الرابع،


(1) التهذيب، ج6، ص281، ح772.

(2) وسائل الشيعة، ج18، ص301، الباب 48 من الشهادات، ح1.