435

وهو البيّنة القائمة على أساس الأمارة أو الأصل.

وقد يقال: إننّا لو آمنّا في القسم الثالث _ وهو البيّنة القائمة على أساس العلم الشخصي غير القائم على الحسّ أو ما يقرب منه _ بنفوذها، وأمنّا في علم الأصول بقيام الأمارة والأصل مقام العلم الموضوعي كانت النتيجة الطبيعية لمجموع هذين الأمرين نفوذ الشهادة القائمة على أساس الأمارة أو الأصل.

ولكنّ الواقع أنّنا _ حتى لو آمنّا بهذين الأمرين _ نقول: إنّه في خصوص نفوذ الشهادة في باب القضاء لا تقوم الأمارة والأصل مقام العلم الموضوعي، وذلك لأنّ هذه البيّنة إمّا أن نفترض أنّها تشهد بمفاد الأمارة أو الأصل _ أي تشهد بالحكم الظاهري _ وهذا في الحقيقة شهادة عن حسّ، أو نفترض أنّها تشهد بالحكم الواقعي اعتماداً على الحكم الظاهري إيماناً منه بقيامه مقام العلم الموضوعي، فإن فرضت شهادته بالحكم الظاهري فهذه الشهادة سوف لا تكون أفضل من علم القاضي عن حسّ بالحكم الظاهري وعلم جميع الناس به، ونحن نعلم أنّ الحكم الظاهري وحده لا يكون منشأً لحكم القاضي، بل يجب ضمّه إلى اليمين، أي: أنّ الحكم الظاهري يجعل من كان كلامه موافقاً له منكراً، ومن كان كلامه مخالفاً له مدّعياً، فتصل النوبة إلى يمين المنكر لو لم تكن للمدّعي بيّنة، فشهادة الشاهدين بالملكيّة الظاهرية لزيد على أساس اليد _ مثلاً _ ليست بأفضل حالاً ممّا لو رأى القاضي بأُمّ عينيه وجميع من كانوا جلوساً حوله أنّ زيداً له اليد على هذا المال، ومن الواضح أنّه عندئذٍ ليس للقاضي الحكم بمالكية زيد إلا بعد يمينه، فالشهادة بالحكم الظاهري لا تعتبر بيّنةً موجبة للحكم على أساسها.

نعم، قد تقلب الشهادة بالحكم الظاهري المدّعي منكراً والمنكر مدّعياً، كما لو لم تكن لزيد ولا لعمرو أمام القاضي يد على المال، وكانت دعوى عمرو للملكية مطابقةً

436

للاستصحاب، فكان هو المنكر، وشهدت البيّنة بأنّ زيداً كان هو صاحب اليد على هذا المال بعد الملكية السابقة لعمرو في زمان تعلم البيّنة بأنّه لم ينتقل المال بعد ذلك منه إلى عمرو، فهذه شهادة من قبل البيّنة تقلب المدّعي منكراً والمنكر مدّعياً، فيصبح زيد هو المنكر بعد أن كان مدّعياً وعمرو المدّعي بعد أن كان منكراً.

وإن فرضت شهادة البيّنة بالحكم الواقعي اعتماداً على الحكم الظاهري فمن الواضح أنّ العرف لا يتصوّر كون شهادتها على الحكم الواقعي التي هي فرع علمها بالحكم الظاهري بأكثر قيمةً من شهادتها الحسّية بنفس الحكم الظاهري الذي هو الأساس لشهادتها بالواقع، فلا يتمّ في نظر العرف إطلاق لدليل نفوذ الشهادة القائمة على العلم _ منضمّاً إلى دليل قيام الأمارة والأصل مقام العلم _ لما نحن فيه.

فتحصّل حتى الآن: أنّ مقتضى الأدلّة الأوّليّة عدم نفوذ الشهادة القائمة على أساس الأمارة والأصل.

نعم، شهادته بالواقع اعتماداً على الظاهر جائزة تكليفاً؛ بمعنى عدم مشموليّتها لحرمة الكذب لو قلنا بقيام الأمارة والأصل مقام القطع الموضوعي، ولكن يبقى محلّ للقول بالحرمة التكليفية من ناحية التغرير وحرف مسير القضاء عن مسيره الطبيعي لو لم يُبرِزا أنّ شهادتهما بالواقع إنّما هي بالاعتماد على الظاهر، فتخيّل القاضي أنّها شهادة بالواقع عن علم فرتّب عليها الأثر.

ويمكن أن يصاغ الدليل على كون مقتضى القاعدة عدم نفوذ الشهادة القائمة على أساس التعبّد بصياغة أُخرى بيانها: أن يُقال: إنّ الموقف الفقهي من بيّنة المنكر فيه احتمالات ثلاثة سندرسها في موضعها إن شاء اللّه:

الأول: أن تكون بيّنة المنكر حجّة كبيّنة المدّعي، وموجبةً للقضاء وفقها بفرق أن المدّعي هو الذي يكون عليه البيّنة، فلو أقامها لا تصلُ النوبة إلى بيّنة المنكر،

437

ولو لم يقمها جاز للمنكر أن يكتفي باليمين، فيُقال: هذا هو المقدار الذي يفهم ممّا ورد من أنّ «البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر»، فهذه القاعدة ليس معناها عدم قبول البيّنة من المنكر، وإنّما معناها التسهيل على المنكر بالاكتفاء بيمينه إذا أراد، وذلك بنكتة مطابقة كلامه للأصل. أمّا إذا أقام البيّنة _ بعد فرض عدم إقامة المدّعي للبيّنة ووصول النوبة إليه _ فلا بأس بذلك، ولا يطالَب عندئذٍ باليمين.

والثاني _ أن يقال: إنّ قاعدة أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على المنكر كما لم تدل على رفض البيّنة من المنكر كذلك لم تدل على تقديم بيّنة المدّعي على المنكر، فهما متساويتان في القيمة، وإنّما الفرق بين المدّعي والمنكر أنّ المدّعي هو الذي يطالَب بالبيّنة، وأمّا المنكر فله الاكتفاء بالحلف أو بالبيّنة لو لم يقم المدّعي البيّنة، أمّا لو أقام كلاهما البيّنة بالتساوي: فإمّا أن يحكم للمنكر لمطابقة كلامه للأصل، أو يحلّف المنكر، ثم يحكم له بعد حلفه. ونلحق بهذا الاحتمال احتمال كون بيّنة المنكر حجّة ذاتية لا قضائية، فالمنكر _ على أيّ حال _ بحاجة إلى اليمين، وإنّما فائدة بيّنته هي إسقاط بيّنة المدّعي بالتعارض. وعلى أيّ حال فيشهد للأوّل _ أعني كون الحكم للمنكر _ ما عن غياث بن إبراهيم عن أبي عبداللّه (عليه السلام): «أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) اختصم إليه رجلان في دابّة، وكلاهما أقاما البيّنة أنّه أنتجها، فقضى بها للّذي في يده، وقال: لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين»(1). ويشهد للثاني _ أعني تقييد الحكم عند تعارض البيّنتين بحلف المنكر _ ما عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبداللّه (عليه السلام): «أنّ رجلين اختصما إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأقام كلّ واحد منهما البيّنة أنّها نتجت عنده، فأحلفهما علي (عليه السلام)، فحلف أحدهما، وأبى الآخر أن يحلف، فقضى بها


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص182، الباب 12 من كيفية الحكم، ح3.

438

للحالف، فقيل له: فلو لم تكن في يد واحد منهما، أقاما البيّنة؟ فقال: أُحلّفهما، فأيّهما حلف، ونكل الآخر جعلتها للحالف، فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين. قيل: فإن كانت في يد أحدهما، وأقاما جميعاً البيّنة؟ قال: أقضي بها للحالف الذي هو في يده»(1). وفي السند غياث بن كلوب، ولعلّه يكفي في توثيقه ما ذكره الشيخ في العدّة من أنّه «عملت الطائفة بأخباره إذا لم يكن لها معارض من طريق الحقّ»، فقد يجعل هذا الحديث مقيّداً للحديث الأول.

والثالث _ أن يقال: إنّ معنى كون «البيّنة على المدّعي واليمين على المنكر» أنّه لا تُقبل من المنكر البيّنة أصلاً، فالبيّنة إنّما تُقبل من المدّعي الذي عليه أن يقيم البيّنة، وأمّا المنكر فليس عليه إلا اليمين، أمّا لو أقام بيّنة على إنكاره فلا قيمة لبيّنته إطلاقاً؛ كما يشهد له ما ورد عن منصور قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): رجل في يده شاة، فجاء رجل فادّعاها، فأقام البيّنة العدول أنّها ولدت عنده، ولم يهب، ولم يبع، وجاء الذي في يده بالبيّنة مثلهم عدول أنّها ولدت عنده لم يبع ولم يهب، فقال أبو عبداللّه (عليه السلام): حقّها للمدّعي، ولا أقبل من الذي في يده بيّنةً؛ لأنّ اللّه (عزوجل) إنّما أمر أن تطلب البينة من المدّعي، فإن كانت له بيّنة، وإلا فيمين الذي هو في يده، هكذا أمر اللّه (عزوجل)»(2). إلا أنّ سند الرواية ضعيف؛ لأنّ إبراهيم بن هاشم رواها عن محمد بن حفص عن منصور، فإن كان منصور منصرفاً إلى منصور بن حازم الذي كان له كُتبٌ أو كان منصرفاً عن غير شخصين: أحدهما منصور بن حازم الذي له كتب، والثاني منصور بن يونس الذي له كتاب، فلا إشكال في سند الحديث من


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص182، الباب 12 من كيفية الحكم، ح2.

(2) نفس المصدر، ص186، ح14.

439

ناحية منصور؛ لأنّهما ثقتان، لكن يبقى الإشكال من ناحية محمد بن حفص، وذلك لما ذكره السيد الخوئي في مباني تكملة المنهاج(1) من أنّ تطبيق الأردبيلي (رحمه الله) هذا الرجل على محمد بن حفص وكيل الناحية الذي كان يدور عليه الأمر، وكان من أصحاب الإمام العسكري (عليه السلام) غير صحيح؛ إذ لا يمكن أن يروي محمد ابن حفص هذا عن منصور الذي كان في زمن الصادق والكاظم (عليهماالسلام)، ولا يمكن أن يروي عنه إبراهيم بن هاشم الذي لقي الرضا وأدرك الجواد (عليهماالسلام). إذاً فمحمد بن حفص الوارد في سند هذا الحديث رجل مجهول.

وعلى أيّ حال فلو قلنا في المقام بحجّية البيّنة التي كانت شهادتها قائمةً على أساس التعبّد في باب القضاء، فبضمّ ذلك إلى أيّ مبنىً نختاره في بينة المنكر نصل إلى نتيجة غربية:

فإن اخترنا المبنى الأول، وهو أنّ بيّنة المنكر تقبل بعد فقد المدّعي للبيّنة وتُغني عن اليمين، لزم من ذلك أن يكون بإمكان المنكر التخلّص من اليمين دائماً؛ لأنّ كلامه مطابق دائماً للحكم الظاهري، فبإمكانه تحصيل الشهود على طبق كلامه بناءً على نفوذ الشهادة القائمة على أساس التعبّد. وهذا غير محتمل فقهياً.

وإن اخترنا المبنى الثاني، وهو سقوط بيّنة المدّعي لدى إقامة المنكر البيّنة فيقضي القاضي لصالح المنكر، إمّا مطلقاً أو بعد يمينه، لزم من ذلك أنّ بإمكان المنكر دائماً أن يُلغي بيّنة المدّعي ذلك بإقامته هو للبيّنة ما دام كلامه مطابقاً للحكم الظاهري، وما دمنا قلنا بجواز كون الحكم الظاهري أساساً للشهادة، وهذا أيضاً غير محتمل فقهياً، ثم لو قلنا بعدم الحاجة إلى يمين المنكر عند تعارض البيّنتين لزم أيضاً ما مضى من


(1) ج1، ص50.

440

إمكان تخلّص المنكر من اليمين دائماً.

وإن اخترنا المبنى الثالث: وهو أنّه لا تقبل البيّنة من المنكر بأيّ شكل من الأشكال، قلنا: إنّ البيّنة القائمة على أساس التعبّد: إمّا أن تكشف هويّتها أمام القاضي، أو لا تكشف هويّتها أمام القاضي، فيعتقد أو يحتمل القاضي كونها قائمةً على أساس معرفة الواقع بالحسّ أو ما يقرب من الحسّ.

فإن كشفت هويّتها أمام القاضي وبيّنت أنّ الشهادة قائمة على أساس الحكم الظاهري، فبهذا قد انقلب المدّعي منكراً؛ إذ أصبح كلامه موافقاً للحكم الظاهري، وبذلك سقطت البيّنة عن الحجّية القضائية؛ لأنّنا فرضنا عدم قبول البيّنة من المنكر إطلاقاً.

وإن لم تكشف هويّتها أمام القاضي فهنا نسأل: ماذا يقصد بفرض حجّية هذه البيّنة؟

فإن قصد بذلك حجّيتها بمعنى أنّ القاضي قد اغترّ، واعتقد أنّ هذه بيّنة قائمة على أساس الإحساس بالواقع، وكان من الطبيعي عندئذٍ تنفيذه هذه البيّنة فهذا لا يعني حجّية البيّنة القائمة على أساس التعبّد كما هو واضح، وإنّما يعني أنّ البينة خانت بتحريف مسيرة القضاء بإيحائها إلى ذهن القاضي أنّها قائمة على أساس الإحساس بالواقع لا التعبّد.

وإن قصد بذلك أنّ عدم كشف البيّنة عن هويّتها التعبّديّة جعلها ذات قيمة أكبر ممّا لو كشفت عن هويّتها بحيث أصبحت الآن حجّةً حقيقيّةً لا من باب تغرير القاضي، فالقاضي يقضي وفقاً لهذه البيّنة، ولو احتمل كونها قائمةً على أساس التعبّد فهذا أمر غريب عقلائيّاً، فإنّه من المعقول _ عقلائيّاً _ أن يكون دليل مّا عند عدم معرفة هويّته أقوى قيمةً من باب خطأ المستدلّ وافتراضه للدليل على هويّة أُخرى،

441

ولكن ليس من المعقول _ عقلائيّاً _ أن يكون دليل مّا أقوى قيمةً واقعاً لدى عدم معرفة هويّته منه لدى معرفة هويّته.

كلّ هذا البيان إنّما صغناه لإثبات أنّ مقتضى القواعد عدم الحجّية للبيّنة القائمة على أساس التعبّد في باب القضاء بعد تسليم نفوذ البيّنة القائمة على أساس العلم غير الحسّي وغير ما يقرب من الحسّ، وتسليم قيام الأمارة والأصل مقام العلم الموضوعي، أمّا إذا أنكرنا الثاني _ كما هو الصحيح عندنا في بحث الأصول _ أو أنكرنا الأول كما سيتّضح _ إن شاء اللّه _ في البحث عن القسم الثالث فكون مقتضى القاعدة عدم حجّية القسم الرابع يكون في غاية الوضوح.

يبقى في المقام أنّ هناك بعض الروايات ممّا يمكن جعلها دليلاً على نفوذ الشهادة القائمة على أساس الأمارة أو الأصل، وهي عدّة روايات من قبيل ما يأتي ممّا قد يُجعل بعضها شاهداً على نفوذ البينة القائمة على أساس اليد، وبعضها شاهداً على نفوذ البيّنة القائمة على أساس الاستصحاب:

الرواية الأُولى _ ما ورد عن حفص بن غياث عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال له رجل: إذا رأيت شيئاً في يَدَيْ رجل يجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال: نعم. قال الرجل: أشهد أنّه في يده، ولا أشهد أنّه له، فلعلّه لغيره. فقال أبو عبداللّه (عليه السلام): أفيحلّ الشراء منه؟ قال: نعم. فقال أبو عبداللّه (عليه السلام): فلعلّه لغيره فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكاً لك ثم تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟! ثم قال أبو عبداللّه (عليه السلام): لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق »(1) وهذا الحديث في سنده شخصان قد يتوقّف في تماميّة


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص215، الباب 25 من كيفيّة الحكم، ح2.

442

السند من أجلهما:

أحدهما _ الراوي المباشر للإمام، وهو حفص بن غياث حيث لم يرد في كتب الرجال له توثيق عدا ما ذكره الشيخ (رحمه الله) في فهرسته من قوله: «حفص بن غياث القاضي عامّي المذهب له كتاب معتمد» فقد يُقال: إنّ كون كتابه معتمداً لا يدل على وثاقته، ولكن قد يكفينا ما ذكره الشيخ في العدّة من أنّ الطائفة عملوا بأخبار حفص ابن غياث إذا لم يرد في طريق الإماميّة الموثوق به ما يخالفه.

والثاني _ القاسم بن يحيى أو القاسم بن محمد الأصبهاني حيث وقع الأول في سند الكليني والشيخ  إلى هذه الرواية، والثاني وقع في سند الصدوق (رحمه الله)إليها، والثاني بناءً على اتّحاده مع القاسم بن محمد القمي _ كما هو الظاهر _ قد ضعّف من قبل النجاشي، وبناءً على عدم اتّحاده معه لم يثبت ضعفه، ولكن لم تثبت _ أيضاً _ وثاقته. والأول هو القاسم بن يحيى ورد عن ابن الغضائري تضعيفه، ولا عبرة بذلك، ولكن لم يرد في كتب الرجال توثيق له، إلا أنّ السيد الخوئي بنى في معجم رجال الحديث(1) ومباني تكملة المنهاج(2) على وثاقته لوروده في أسانيد كامل الزيارات، وذلك بناءً على ما بنى عليه من وثاقة كلّ من ورد في أسانيد كامل الزيارات، إلا أنّ هذا المبنى غير مقبول عندنا، ولكن هناك شاهد آخر على وثاقته، وهو ما أشار إليه السيد الخوئي في معجم رجال الحديث(3) من كلام للشيخ الصدوق (رحمه الله) في «من لا يحضره الفقيه»، وقد أشار اليه السيد الخوئى بعنوان التأييد لوثاقته التي أثبتها بوروده في أسانيد كامل الزيارات وبيانه: أنّ الشيخ الصدوق (رحمه الله) _ في «من لا يحضره


(1) ج 14 ، صفحه 68.

(2) ج 1، صفحه 114 .

(3) ج14، صفحه69.

443

الفقيه»(1) ذكر في زيارة الحسين (عليه السلام) زيارةً نقلها عن الحسن بن راشد عن الحسين بن ثوير عن الصادق (عليه السلام)، ثم ذكر وداعاً للحسين (عليه السلام) نقلاً عن يوسف الكناني عن أبي عبداللّه (عليه السلام) ثم قال: «وقد أخرجتُ في كتاب الزيارات، وفي كتاب مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنواعاً من الزيارات، واخترت هذه لهذا الكتاب؛ لأنّها أصحّ الروايات عندي من طريق الرواية، وفيها بلاغ وكفاية»، ومن البعيد افتراض رجوع اسم الإشارة في عبارته هذه إلى زيارة الوداع رغم أنّها هي الزيارة المتصلة بهذه العبارة، فالظاهر رجوعها إلى الزيارة التي نقلها عن الحسن بن راشد _ وإن كانت تلك مذكورة قبل زيارة الوداع _ فإنّها هي الزيارة العامّة المنصرف إليها الكلام لا الزيارة الخاصّة بحال الوداع، وهي التي عَنْوَنَها بعنوان: «زيارة قبر أبي عبداللّه الحسين (عليه السلام)» ولم يعنون الوداع بذلك، فهذه شهادة منه (رحمه الله) بأنّ هذه الزيارة أصحّ الزيارات سنداً، وللصدوق (رحمه الله) إلى الحسن بن راشد _ على ما نقله هو في مشيخة الفقيه _ سندان:

أحدهما: عبارة عن أبيه عن سعد بن عبداللّه وأحمد بن محمد بن عيسى وإبراهيم ابن هاشم جميعاً عن القاسم بن يحيى عن جدّه الحسن بن راشد.

والثاني: عبارة عن محمد بن علي ماجيلويه عن أبيه عن علي بن إبراهيم عن هاشم عن أبيه عن القاسم بن يحيى عن جدّه الحسن بن راشد. إذاً فالقاسم بن يحيى واقع في كلا السندين، فحكمه بتصحيح هذه الزيارة يعني وثاقة القاسم بن يحيى.

ولعلّ السبب في أنّ السيد الخوئي جعل هذا تأييداً لوثاقه ‏القاسم بن يحيى ولم يجعله دليلاً عليها هو ما يقال من أنّ تصحيح الرواية من قبل القدماء لا يدل على توثيق الراوي؛ إذ من المحتمل كون مبناهم في التصحيح على مثل أصالة العدالة، لا على


(1) ج2، ح 1614 و 1615.

444

ثبوت الوثاقة بالشكل الذي نؤمن به.

هذا كلّه بلحاظ حال سند الحديث.

وأمّا بلحاظ الدلالة: فالظاهر أنّ دلالة الحديث غير تامّة؛ لأنّ الظاهر أنّ المقصود بما ذكره الإمام (عليه السلام) في الرواية من جواز الشهادة بمالكيّة من كان المال في يده هو الشهادة بالملكيّة الظاهرية لا الواقعية، والقرينة على ذلك استدلال الإمام (عليه السلام) في مقام إقناع السائل بأنّه لو اشتراه منه لحلف أنّه ملكه، فكيف لا يشهد بملكيّة من انتقل الملك منه إليه؟ والمفروض أن يكون الإقناع بالاستدلال بشيء واضح بحيث يسلّم به السائل مسبقاً بوضوح، والشيء الواضح إنّما هو جواز الحلف على ملكيّته الظاهرية لما اشتراه من ذي اليد. أمّا جواز الحلف على ملكيّته الواقعية اعتماداً على الحكم الظاهري فحتى لو قلنا به ليس من الواضحات والمسلّمات التي يناسب ذكرها في مقام الاستدلال والإقناع بالدليل، فإذا حملت الشهادة في الحديث على الشهادة بالملكيّة الظاهرية، فمن الواضح أنّ هذه شهادة عن علم حسّي، وليست شهادة عن تعبّد، فالرواية خارجة عمّا نحن بصدده.

نعم لو كانت الرواية واردة بخصوص مورد الشهادة في القضاء، كان هناك مجال للقول بانصراف الرواية إلى كون هذه الشهادة حجّة قضائيّة، أي: أنّها تثبت صحّة دعوى المدّعي، ولكنّ الرواية لم ترد بخصوص باب القضاء، غاية ما هناك شمولها لمورد القضاء بالإطلاق ودلالتها على كونها حجّةً ذاتيةً في موارد القضاء لإثبات الملكيّة الظاهرية، وهذا أثره ليس بأكثر من تشخيص المنكر من المدّعي.

ويشهد لما ذكرناه _ من كون النظر في الحديث إلى الشهادة بالملكيّة الظاهرية لا الملكيّة الواقعية _ قوله: «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق»؛ إذ من الواضح أنّ فرض عدم إمكان الشهادة بالملكيّة الواقعية لا يهدّم سوق المسلمين، وإنّما الذي يهدّم

445

سوق المسلمين هو عدم إمكان الشهادة بالملكيّة الظاهرية _ التي عرفنا دليلها، وهو اليد _ بالحسّ، فإنّ هذا يساوق عدم تلك الملكيّة الظاهرية، وهذا يعني عدم قيام سوق للمسلمين.

والسيد الخوئي(1) فَهِمَ من الحديث أنّ النظر إلى الشهادة بالملكيّة الواقعية، ولكنّه مع ذلك أبطل الاستدلال بهذا الحديث على نفوذ الشهادة القائمة على أساس أمارة اليد في باب القضاء بوجهين أثبت بهما أنّ المراد بجواز الشهادة في المقام جواز الإخبار عن كون شيءٍ لصاحب اليد استناداً إلى يده لا نفوذ الشهادة في باب الترافع:

الوجه الأول _ أنّه لو جازت الشهادة بمجرد كون المال في يد أحد لم يكن فرض مورد لا تكون لصاحب اليد بيّنة، وبهذا يسقط أثر بيّنة المدّعي دائماً؛ لأنّ بيّنة المدّعي إنّما تؤثّر إذا لم تكن لصاحب اليد بيّنة. أمّا إذا كانت له بيّنة فالقول قوله مع يمينه(2).

أقول: هذا الكلام يعني أنّه اختار في بيّنة ذي اليد ما شرحناه من الاحتمال الثاني من الاحتمالات الثلاثة في بيّنة المنكر على أساس دلالة بعض الروايات على ذلك كما تقدم، فرأى أنّ ضمّ ذلك إلى فرض نفوذ البيّنة في باب القضاء يؤدّي إلى نتيجة غريبة، وهي إمكان إسقاط بيّنة المدّعي من قبل المنكر دائماً، ولكنّه لم يكمل الشوط ببيان النتائج على المحتملات الأُخرى.

ومن حقّنا أن نتساءل: هل أنّ مقصوده إنكار ظهور رواية حفص بن غياث في نفوذ البيّنة في المقام لأجل ما دلّ عنده من بعض الروايات على أنّه لو تعارضت بيّنة


(1) راجع مباني تكملة المنهاج، ج1، ص113 _ 114.

(2) على ما أثبته السيد الخوئي في مباني تكملة المنهاج، ج1، ص49 _ 50، فراجع.

446

المدّعي مع بيّنة ذي اليد كان القول قول ذي اليد بيمينه؟ أو مقصوده صرف رواية حفص بن غياث عن ظهورها في نفوذ البيّنة إلى بيان مجرّد جواز الإخبار بقرينة ما دلّ عنده على الرجوع إلى يمين ذي اليد عند التعارض بين البيّنتين؟

فإن أراد الأول ورد عليه: أنّ نفوذ بيّنة ذي اليد في إسقاط بيّنة المدّعي ليس أمراً ارتكازيّاً كالمتّصل يؤدّي إلى تغيير الظهور، ولو كان فإنّما هو أمر منفصل لا يؤثّر في ظهور الكلام.

وإن أراد الثاني ورد عليه: أنّ فرض القرينيّة بهذا المقدار من البيان غير تام، غاية الأمر أن يفترض التعارض بين خبر حفص بن غياث وما دلّ عنده على سقوط بيّنة المدّعي ببيّنة المنكر، والرجوع بعد ذلك إلى مقتضى القاعدة الذي هو في رأيه عدم نفوذ البيّنة. نعم، لو كان أكمل الشوط ببيان النتائج الغريبة على كلّ المحتملات والتي كان آخرها استغراب العقلاء عن كونه بيّنةٍ ما نافذة حينما لا تكشف عن هويّتها، وغير نافذة حينما تكشف عن هويّتها، أمكن أن يدّعي أنّ هذا الارتكاز العقلائي لا يردع بمثل ظهور رواية حفص، بل هذا الارتكاز يوجب توجيه الرواية بحملها على محمل آخر.

الوجه الثاني _ أنّ قوله في ذيل رواية حفص: «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق» قرينة على أنّ المراد من الحديث لم يكن هو نفوذ الشهادة كبيّنة في باب القضاء، وإنّما المقصود هو التعامل مع ذي اليد معاملة المالك عملاً، وجواز الإخبار عن مالكيّته.

أقول: الشيء الدخيل في قيام السوق للمسلمين ليس هو جواز الإخبار بالملكيّة الواقعية، وإنّما هو التعامل مع ذي اليد معاملة المالك عملاً وجواز الإخبار بملكيّته الظاهرية، فجواز الإخباربالملكيّة الواقعية أجنبي عن المقام. إذاً فنفس هذا الذيل

447

قرينة على كون المقصود هو الإخبار بالملكيّة الظاهرية، فإنّ عدم جوازه مساوق لعدم الملكيّة الظاهرية المساوق لعدم قيام السوق للمسلمين، ونفوذ الشهادة بالملكيّة الظاهرية مطلق يشمل باب القضاء وإن لم يكن للحديث نظر إلى خصوص باب القضاء؛ فإنّ هذا لا ينافي إطلاقه، إلا أنّ نفوذ الشهادة بالملكيّة الظاهرية في باب القضاء بإطلاق الحديث لا يثبت أزيد من تشخيص المنكر عن المدّعي كما وضّحناه فيما مضى.

الرواية الثانية _ ما عن أبي بصير _ بسند تام _ قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن الرجل يأتي القوم، فيدّعي داراً في أيديهم، ويقيم البيّنة، ويقيم الذي في يده الدار البيّنة أنّه ورثها عن أبيه، ولا يدري كيف كان أمرها؟ قال: أكثرهم بيّنة يستحلف وتدفع إليه...»(1). فيقال: إنّ المفروض في هذا الحديث أنّ البيّنة اعتمدت على الظاهر، وهو يد الأب، ومع ذلك فرض اعتبارها، ولذا يستحلف أكثرهم بيّنة.

ولكنّك ترى أنّ مفاد هذا الحديث ليس هو فرض الشهادة على الواقع اعتماداً على التعبّد، وإنّما هو فرض الشهادة الحسّية على الظاهر، وهو الإرث عن أبيه. ومن الواضح أنّ هذه الشهادة لا تكون بأقوى حالاً في مقام إثبات الواقع من نفس يد المنكر التي يشاهدها القاضي في مجلس القضاء وكلّ مَن حوله، فهل أنّ يده لا تثبت الواقع، ولكن يد أبيه تثبت الواقع؟!

إذاً فالظاهر أنّ الحديث محمول على فرض التكاذب بين المدّعي وبيّنة المنكر؛ بأن يقصد المدّعي من ملكيّته للدار أنّ هذا الذي في يده الدار هو الذي غصبها منه مثلاً، وعندئذٍ فبيّنة المنكر في مقابل المدّعي بيّنة على الواقع عن حسّ؛ إذ تشهد أنّه


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص181، الباب 12 من كيفيّة الحكم، ح1.

448

ورثها من أبيه ولم يغصبها من المدّعي، ويشهد لهذا الحمل ذيل الحديث، أي المقطع الثالث من الحديث الشريف، فإنّه مشتمل على مقاطع ثلاثة: أوّلها ما مضى، والثاني والثالث ما يلي:

«... وذكر أنّ عليّاً (عليه السلام) أتاه قوم يختصمون في بغلة، فقامت البيّنة لهؤلاء أنّهم أنتجوها على مِذوَدهم(1) ولم يبيعوا، ولم يهبوا، وقامت البيّنة لهؤلاء بمثل ذلك، فقضى علي (عليه السلام) بها لأكثرهم بيّنةً واستحلفهم.

قال: فسألته _ حينئذٍ _ فقلت: أرأيت إن كان الذي عليه الدار قال: إنّ أبا هذا الذي هو فيها أخذها بغير ثمن، ولم يقم الذي هو فيها بيّنة، إلا أنّه ورثها عن أبيه قال: إذا كان الأمر هكذا فهي للذي ادّعاها، وأقام البيّنة عليها».

نعم، المقطع الثالث إنّما جاء في نقل الكليني والشيخ، أمّا الصدوق (رحمه الله) فقد ترك المقطع الثالث، واقتصر على المقطع الأول والثاني مقدِّماً الثاني على الأول، وعلى أيّ حال، فهذا لا يضرّ، فإنّ عدم نقل الصدوق _ أو راوٍ آخر قبله _ للمقطع الثالث ليس شهادة على عدمه؛ إذ ليس من الواضح فهم قرينيّة لهذا المقطع تبدّل ما يفهم من المقاطع السابقة كي يكشف تركه عن خطأٍ منفي بالأصل أو عن الخيانة المنفيّة بفرض الوثاقة، فإذا لم يكن تركه شهادةً على عدمه كفانا وجوده في نقل الكليني والشيخ. على أنّك قد عرفت أنّه حتى لو غضّ النظر عن هذا المقطع فالظاهر أنّه لا محيص عن حمل الحديث على المعنى الذي شرحناه، على أنّ نقل الصدوق (رحمه الله) ساقط عن الحجّية، فإنّه قد نقل الحديث عن شعيب عن أبي بصير، ولم يعرف سنده إلى شعيب.

الرواية الثالثة _ ما عن معاوية بن وهب _ بسند تام _ قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام)


(1) المِذوَد: معتلف الدواب.

449

الرجل يكون له العبد والأمة قد عرف ذلك فيقول: أَبَقَ غلامي، أو أمتي، فيكلّفونه القضاة شاهدين بأنّ هذا غلامه، أو أمته لم يبع، ولم يهب، أنشهد على هذا إذا كلّفناه؟ قال: نعم»(1) فهذه شهادة على عدم البيع والهبة وبقاء الملكيّة قائمة على أساس الاستصحاب.

إلا أنّ الظاهر أنّ هذه الرواية أجنبيّة عمّا نحن فيه، فإنّه ليس المفروض فيها دعوى المملوك البيع أو الهبة أو نحو ذلك مع الاعتراف بالملك السابق، وإلا لكان القاضي يطالب المملوك بالبيّنة لا المولى؛ لوضوح أنّ المملوك _ عندئذٍ _ هو المدّعي والمولى منكر، إذاً فمفروض المسألة إمّا هو سكوت المملوك، أو إنكاره لملكيّته إيّاه من أصلها، وفي مثل هذا الفرض تكفي الشهادة بالملكيّة السابقة مع عدم العلم بالبيع أو الهبة، ولا حاجة إلى الشهادة بعدم البيع أو الهبة، فلا مورد لنفوذها، فكأنّ الإمام إنّما سمح بالشهادة بذلك أو بما يُوهم القاضي أنّه شهادة بذلك إقناعاً لقاضي الجور الذي كان يصرّ _ ولو خطأً _ على ضرورة الشهادة بذلك، ومثل هذا لا يدل على نفوذ الشهادة القائمة على أساس الاستصحاب.

ولكنّ السيد الخوئي اعترف بتماميّة دلالة الرواية على نفوذ الشهادة القائمة على أساس الاستصحاب، وقال: إنّها مبتلاة بالمعارض، وهو ذيل رواية أُخرى لمعاوية ابن وهب «...قلت: الرجل يكون له العبد والأمة، فيقول: أبِقَ غلامي أو أبِقَتْ أَمَتي، فيؤخذ بالبلد فيكلّفه القاضي البيّنة أنّ هذا غلام فلان لم يبعه، ولم يهبه، أفنشهد على هذا إذا كلّفناه ونحن لم نعلم أنّه أحدث شيئاً؟ فقال: كلّما غاب من يد المرء


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص246، الباب 17 من الشهادات، ح3.

450

المسلم غلامه أو أمته أو غاب عنك لم تشهد به»(1) على أنّه حمل السيد الخوئي الحديث الأول على الشهادة بمقدار العلم على ما سيأتي بيانه.

وفي سند الحديث الثاني ورد إسماعيل بن مرار، وقال السيد الخوئي في مباني تكملة المنهاج(2): «إنّه ثقة على الأظهر»، ولكنّه في معجم الرجال الطبعة الأُولى(3) لم يبنِ على وثاقته؛ حيث ذكر أنّ مصدر وثاقته منحصر في أنّه روى عن يونس، ومحمد بن الحسن بن الوليد قال: «إنّ كتب يونس بن عبدالرحمان التي هي بالروايات كلّها صحيحة»، وبما أنّ روايات إسماعيل بن مرار عن يونس بلغت مائتين أو أكثر، فالظاهر أنّ رواياته من كتب يونس لاستبعاد الروايات الشفهيّه ‏بهذا المقدار، ولكنّ هذا لا يكفي لتوثيق إسماعيل بن مرار؛ لأنّ تصحيح القدماء للرواية لا يدل على وثاقة الراوي؛ إذ قد يكون مبتنياً على أصالة العدالة.

أقول: لا حاجة في إثبات رواية إسماعيل بن مرار لكتب يونس إلى التمسّك بإكثاره من الرواية عنه؛ إذ هو واقع في بعض أسانيد الشيخ التامّ إلى كتب يونس، وهذا كافٍ في ثبوت روايته لكتب يونس. نعم نقاشه في دلالة تصحيحهم للروايات على وثاقة الراوي في محلّه.

وبنى السيد الخوئي في معجم الرجال في الطبعة الأخيرة على وثاقة إسماعيل بن مرار؛ لوروده في أسانيد تفسير علي بن إبراهيم(4) ولكنّنا لا نبني على وثاقة كلّ من ورد


(1) نفس المصدر، ح2.

(2) ج 1، ص 115.

(3) راجع معجم رجال الحديث، ج2، ص177 _ 178.

(4) راجع معجم الرجال، ج2، ص183.

هذا، وورود إسماعيل بن مرار في تفسير علي بن إبراهيم إن لم يثبت بما بأيدينا من نسخ تفسير علي بن إبراهيم؛ ←

451

في أسانيد تفسير علي بن إبراهيم، وإنّما نبني على وثاقة من روى عنه علي ابن إبراهيم مباشرةً في تفسيره؛ حيث قال في مقدّمة تفسيره: «ونحن ذاكرون ومخبرون بما انتهى إلينا ورواه مشايخنا وثقاتنا عن الذين فرض اللّه طاعتهم...»

وهذا _ كما ترى _ لا يدل على أكثر من وثاقة مشايخه الذين روى عنهم الأحاديث في تفسيره. أمّا استظهار تقيّده بوثاقة كلّ رواتها _ بدليل أنّ هدفه ممّا ذكره إثبات صحّة تفسيره، وأنّ رواياته ثابتة وصادرة من المعصومين، وأنّها انتهت إليه بواسطة المشايخ والثّقات من الشيعة كما ذكره السيد الخوئي(1)_ فغير صحيح، ولا أدري كيف عرف أنّ هدفه ذلك؟ هل بإطلاقٍ في العبارة؟ أو ببيان أنّه لولا تصحيح الأحاديث فلا قيمة لوثاقة المشايخ المباشرين؟ فإن قصد الثاني قلنا: إنّه أوّلاً: أنّ وثاقة المشايخ المباشرين تؤيّد وتقوّي الروايات بلا شكّ، وثانياً: لم يثبت كون تصحيح القدماء للروايات مبتنياً دائماً على توثيق الرواة كما نبّه عليه السيد الخوئي في معجمه(2)، فلعلّه التزم في تفسيره بالرواية عن مشايخه الثّقات معتقداً أنّهم لا يروون إلا الروايات الصحيحة، أمّا أنّهم إنّما صحّحوا تلك الروايات لوثاقة رواتها فغير معلوم. وإن قصد الأول قلنا: إنّ عنوان (الانتهاء إلينا، ورَواهُ مشايخنا وثِقاتُنا) صادق بمجرّد وثاقة الراوي المباشر، فلا يدل بإطلاقه على وثاقة كلّ الرواة. إذاً فسند الحديث في المقام غير تام.

الرواية الرابعة _ صدر رواية معاوية بن وهب التي مضى ذيلها، والتي عرفت ضعف سندها بإسماعيل بن مرار، وهو كما يلي: قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): «الرجل يكون في


لكونه تأليفاً لتلميذٍ له لم يوثّق، جَمَعَ بين روايات علي بن إبراهيم وغيرها، فبالإمكان أن يثبت بنقل صاحب البحار (رحمه الله) عن تفسير علي بن إبراهيم. راجع بحار الأنوار، ج12، ص28 وج 26، ص114.

(1) راجع معجم رجال الحديث، ج1، ص50.

(2) راجع نفس المصدر، ص74.

452

داره، ثم يغيب عنها ثلاثين سنة، ويدع فيها عياله، ثم يأتينا هلاكه، ونحن لا ندري ما أحدث في داره، ولا ندري ما أحدث له من الولد، إلا أنّا لا نعلم إنّه أحدث في داره شيئاً، ولا حدث له ولد، ولا تقسّم هذه الدار على ورثته الذين ترك في الدار حتى يشهد شاهدا عدلٍ أنّ هذه الدار دار فلان بن فلان مات وتركها ميراثاً بين فلان وفلان، أو نشهد على هذا؟ قال: نعم. قلت: الرجل يكون له العبد والأمة...» إلى آخر ما مضى.

وهذا أيضاً أجنبي عن المقام؛ لعدم وجود مرافعة في مورد الحديث، ومن الواضح أنّه تكفي في فرض عدم المرافعة الشهادة على الملكيّة السابقة مع استصحاب بقائها فعلاً، وكذلك الشهادة على وارثيّة هؤلاء مع استصحاب عدم وارث آخر بلا حاجة إلى الشهادة ببقاء الملكيّة، أو عدم وجود وارث آخر، ولا مورد لنفوذ شهادةٍ من هذا القبيل في مفروض الرواية؛ إذاً فإنّما سمح الإمام (عليه السلام) بشهادة من هذا القبيل، أو بالشهادة بما يوحي إلى القاضي بكونه شهادة بذلك إفحاماً للقاضي الذي طالب بذلك، ومثل هذا لا يدل على نفوذ الشهادة القائمة على الاستصحاب.

وهناك تهافت بين صدر الحديث وذيله؛ حيث إنّه في صدر الحديث سمح بالشهادة بالنسبة للدار، بينما في ذيل الحديث منع الشهادة بالنسبة للعبد والأمة.

والسيد الخوئي لم يفترض تهافتاً بين الصدر والذيل؛ حيث إنّه حمل الصدر على فرض عدم المرافعة والذيل على فرض المرافعة.

ولكن يظهر ممّا مضى أنّ هذا لا يرفع التهافت؛ لأنّه حتى إذا فرضنا في الذيل المرافعة فهذا لا يعني تسليم المملوك لأصل الملكية السابقة، ودعواه البيع أو الهبة أو نحو ذلك، وإلا لكان القاضي يطالب المملوك بالبيّنة لا المولى فمرافعة المملوك إنّما هي على أصل الملكيّة السابقة، ومعه لا فرق جوهريّ بين هذا الفرض وفرض عدم

453

المرافعة، فإنّ الشهادة بالملكية السابقة كافية في كلا الموردين، والشهادة ببقاء الملكية شهادة بغير علم في كلا الموردين.

وأنا أحتمل أن يكون قوله في ذيل الحديث: «كلّما غاب من يد المرء المسلم غلامه أو أَمَتُه، أو غاب عنك لم تشهد به» استفهاماً إنكاريّاً، وبه يرتفع التهافت، فلعلّ صاحب الكتاب _ الذي كتب هذا الحديث في كتابه _ اعتمد في مقام حمل هذا الكلام على الاستفهام الإنكاري على فرض قرينيّة الصدر الصريح في جواز الشهادة.

ويؤيّد الحمل على الاستفهام الإنكاري احتمال كون ذيل هذا الحديث هو عين الحديث الأول لمعاوية بن وهب مع الاختلاف في التعبير على أساس النقل بالمعنى.

وعلى أي حال فالسيد الخوئي لم يَر تهافتاً بين صدر الحديث وذيله، ولكنّه رأى التهافت بين ذيل الحديث والحديث الأول لمعاوية بن وهب؛ حيث منع هنا عن الشهادة، وأجاز هناك الشهادة في مورد واحد، وجمع بينهما(1) بحمل الحديث الأول على الشهادة بأكثر من مقدار العلم، وحمل هذا الحديث على الشهادة بمقدار العلم، وجعل الشاهد على هذا الجمع رواية أُخرى لمعاوية بن وهب، وهي ما رُوي _ بسندٍ تام _ عن معاوية بن وهب قال: «قلت له: إنّ ابن أبي ليلى يسألني الشهادة عن هذه الدار مات فلان، وتركها ميراثاً، وأنّه ليس له وارث غير الذي شهدنا له، فقال: اشهد بما هو علمك. قلت: إنّ ابن أبي ليلى يحلّفنا الغموس، فقال: احلف إنّما هو على علمك»(2).

أقول: قد يكون هذا الحمل صحيحاً على مبناه من عدم التهافت بين الصدر والذيل؛ لكون الصدرِ ناظراً إلى فرض عدم المرافعة، والذيلِ ناظراً إلى فرض


(1) راجع مباني تكملة المنهاج، ج1، ص115.

(2) وسائل الشيعة، ج18، ص145، الباب 17 من الشهادات، ح1.

454

المرافعة. أمّا على ما وضّحناه من عدم الفرق في روح المطلب بين الصدر والذيل، نقول: لو حمل الذيل على المنع عن الشهادة بأكثر من العلم فكيف سمح في الصدر بالشهادة بذلك؟! وحمل الصدر على فرض الشهادة بمقدار العلم مع حمل الذيل على فرض الشهادة بأزيد من ذلك أيضاً غير عرفي؛ لأنّهما ذُكِرا بمنهج واحد وبصياغة واحدة بفرق تبديل الدار بالمملوك. إذاً فلو لم يكن الذيل استفهاماً إنكاريّاً فلابدّ من إرجاع علم الرواية إلى أهلها للتهافت الموجود بين صدرها وذيلها.

الرواية الخامسة _ ما ورد عن حمران بن أعين قال: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن جارية لم تدرك بنت سبع سنين مع رجل وامرأة، ادّعى الرجل أنّها مملوكة له، وادّعت المرأة أنّها ابنتها، فقال: قد قضى في هذا علي (عليه السلام) قلت: وما قضى في هذا؟ قال: كان يقول: الناس كلّهم أحرار إلا من أقرّ على نفسه بالرقّ وهو مدرك، ومن أقام بيّنة على من ادّعى من عبد أو أمة، فإنّه يدفع إليه، ويكون له رقّاً قلت: فما ترى أنت(1) قال: أرى أن أسأل الذي ادّعى أنّها مملوكة: له بيّنة على ما ادّعى؟ فإن أحضر شهوداً يشهدون أنّها مملوكة لا يعلمونه باع ولا وهب، دفعت الجارية إليه حتى تقيم المرأة من يشهد لها أنّ الجارية ابنتها حرّة مثلها، فلتدفع إليها، وتخرج من يد الرجل. قلت: فإن لم يقم الرجل شهوداً أنّها مملوكة له؟ قال: تخرج من يده، فإن أقامت المرأة البيّنة على أنّها ابنتها دفعت إليها، فإن لم يقم الرجل البيّنة على ما ادّعى، ولم تقم المرأة البيّنة على ما ادّعت، خلّي سبيل الجارية تذهب حيث تشاء»(2). وسند الحديث تام، وحمران بن أعين ثبتت وثاقته _ على الأقلّ _ برواية صفوان عنه. ومحل الشاهد


(1) يبدو أنّ هذا سؤال عن كيفيّة تطبيق الكبريات في فرض القضاء في المثال المذكور، بينما الأجوبة التي نقلها الإمام عن جدّه أمير المؤمنين (عليه السلام) لم تكن قضاء بالمعنى المصطلح، و إنّما كانت كبريات عامّة.

(2) وسائل الشيعة، ج18، ص184، الباب 12 من كيفيّة الحكم، ح9.

455

قوله: «فإن أحضر شهوداً يشهدون أنّها مملوكة لا يعلمونه باع ولا وهب...»؛ حيث يُقال: إنّ هذا يعني نفوذ البيّنة القائمة على أساس الاستصحاب.

ولكنّ الواقع أنّ هذا الحديث أجنبي عمّا نحن فيه؛ لأنّه ليس في مفروض القضيّة التي هي مورد الحديث شخص ادّعى أنّه باعها أو وهبها إيّاه، ولو كان ذلك لكان عليه أن يقيم البيّنة على المولى؛ إذاً فتكفي شهادة البيّنة بالملكيّة السابقة مع عدم علمها بالبيع والهبة لإثبات مملوكيّتها له، وهذا هو المقصود بما في هذا الحديث.

ولا بأس بأن نشير إلى ما في ذيل هذ الحديث من الحكم بدفع البنت إلى المرأة المدّعية لكونها بنتاً لها عند تعارض البيّنتين، فهل هذا مجرد حكم تعبّدي بحت؛ لأنّ مقتضى القاعدة تساقط البيّنتين وتخلية سبيل الجارية تذهب حيث تشاء، كما جاء في هذا الحديث في فرض عدم البيّنة لأيّ واحد منهما؟ الظاهر أنّه ليس حكماً تعبّديّاً بحتاً، بل هو حكم مطابق لمقتضى القواعد. وتوضيح ذلك:

أنّ فروض قيام البيّنة التي تعرّض لها الحديث ثلاثة:

الأول _ قيام البينة لصالح الرجل تشهد على أنّها مملوكة للرجل، وهنا يحكم بكونها مملوكة للرجل، وتدفع إليه. ولم يفرض في ذلك شهادتها بنفي البنوّة للمرأة ولا أثر لذلك في مورد الدعوى، فإنهّا لو كانت مملوكة للرجل وفي نفس الوقت بنتاً للمرأة، لابدّ من دفعها إليه.

والثاني _ قيام البيّنة لصالح المرأة تشهد على أنّها بنت المرأة، وهنا تسلّم إلى المرأة لكونها بنتاً لها. ولم يفرض في الحديث شهادة البيّنة على نفي رقّيّتها له، ولا أثر لذلك، فإنّ الرقّية منفيّة حتى مع عدم شهادة من هذا القبيل وذلك بالأصل، فيكفي لدفعها إليها شهادة البيّنة ببنوّتها لها.

والثالث _ قيام بيّنة لصالح الرجل، وقيام بيّنة أُخرى لصالح المرأة. ولم تفرض في

456

البيّنة الأُولى أكثر من الشهادة بمملوكيّتها للرجل دون الشهادة بنفي البنوّة لها، وكان هذا كافياً لكونها في صالح الرجل؛ لما قلنا من أنّها لو كانت مملوكةً له وفي نفس الوقت بنتاً لها لكفى ذلك في دفعها إليه. أمّا بيّنة المرأة، فقد فرض في الحديث أنّها شهدت بأمرين: (الأول) أنّها ابنتها. (والثاني) أنّها حرّة مثلها، وكان السبب في هذا الفرض أنّه من دون هذه الزيادة سوف لن تكون البيّنة الثانية في صالح المرأة ما دامت البيّنة الأُولى شهدت بمملوكيّتها له، وذلك لما قلنا من أنّها لو كانت مملوكةً له، وفي نفس الوقت بنتاً لها، دفعت إليه. وفي هذا الفرض الثالث ذكر الحديث أنّ الجارية تدفع إلى المرأة على أنّها بنتها، وهذا واضح على مقتضى القواعد؛ لأنّ إحدى شهادتي البيّنة الثانية _ وهي شهادتها بحرّيتها _ تعارضت مع شهادة البيّنة الأُولى وتساقطتا. أمّا الشهادة الأُخرى للبيّنة الثانية _ وهي شهادتها ببنوّتها لها _ فلا معارض لها، فمن الطبيعي أن تدفع الجارية إلى المرأة.

وعلى أيّ حال فهذا حال ما وجدناه من روايات قد يستدلّ بها على نفوذ البيّنة القائمة على أساس اليد، أو الاستصحاب في الشهادة على الواقع، وقد عرفت عدم تماميّة هذه الروايات وأمثالها دلالةً.

وهناك رواية قد تدل على نفوذ الشهادة القائمة على أساس البيّنة _ وهذا غير الشهادة على الشهادة كما هو واضح _ وهي ما روي عن عمر بن يزيد _ بسند تام _ قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): الرجل يشهدني على شهادة، فأعرف خطّي وخاتمي، ولا أذكر من الباقي قليلاً ولا كثيراً قال: فقال لي: إذا كان صاحبك ثقةً، ومعه رجل ثقة فأشهد له»(1)، فيقال: إنّ هذه شهادة قائمة على أساس البيّنه ‏المكوّنة من شهادة


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص234، الباب 8 من الشهادات، ح1.

457

صاحبه وثقة آخر.

إلا أنّ هذا الحديث إمّا أن يوجَّه بالحمل على فرض كون الخطّ والخاتم وشهادة الثقتين كافياً لحصول العلم القريب من الحسّ، أو يردّ علمه إلى أهله؛ لوضوح عدم حجّية شهادة المدّعي.

وعلى أيّ حال فقد اتّضح إلى هنا بما لا مزيد عليه:

1_ أنّ البيّنه ‏القائمة على أساس الحسّ هي القدر المتيقَّن من النفوذ.

2_ أنّ البيّنة القائمة على أساس ما يقرب من الحسّ بالمعنى الذي مضى لا ينبغي الإشكال في نفوذها.

3_ أنّ البيّنة القائمة على أساس التعبّد لا ينبغي الإشكال في عدم نفوذها.

الشهادة القائمة على أساس الحدس

بقي الكلام في البيّنة القائمة على أساس العلم غير القائم على الحسّ ولا ما يقرب من الحسّ.

ولا ينبغي الإشكال في أنّ مقتضى الأصل هو عدم النفوذ؛ لأنّ علم الشاهد بالنسبة لنفوذ الشهادة يعتبر علماً موضوعيّاً يحتاج نفوذه إلى الدليل التعبّدي، وليس علماً طريقيّاً تكون حجّيةً ذاتيّةً له، ولا إطلاق لمثل قوله (صلى الله عليه و آله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»، فإنّه لم يرد إلا لحصر القضاء بالبيّنة واليمين، أمّا متى تكون البيّنة؟ ومتى يكون اليمين؟ فهذا خارج عن عهدة مثل هذا الكلام، ولا لمثل قوله: «البيّنة على المدّعي، واليمين على من أنكر»؛ إذ أوّلاً: نحن نحتمل كون الحسّ دخيلاً في حقيقة البيّنة، وثانياً: ليس الحديث بصدد بيان شروط نفوذ البيّنة، وإنّما هو بصدد بيان من عليه البيّنة ومن عليه اليمين، واحتمال شرط الحسّ احتمال عرفي،

458

وليس على خلاف الارتكاز كي ينفى بإطلاقٍ مقامي.

وبإلامكان أن يتوهّم أنّنا نخرج من هذا الأصل بما مضى قبل صفحات من الحديث الثالث لمعاوية بن وهب قال: «قلت له: إنّ ابن أبي ليلى يسألني الشهادة عن هذه الدار مات فلان وتركها ميراثاً، وأنّه ليس له وارث غير الذي شهدنا له فقال: إشهد بما هو علمك. قلت: إنّ ابن أبي ليلى يحلِّفنا الغَموس، فقال: إحلف، إنّما هو على علمك»(1). فيقال: إنّ مقتضى إطلاق هذا الحديث هو أنّ الشهادة تدور مدار العلم من دون فرق بين أن يكون العلم حسّيّاً أو حدسيّاً.

والواقع: أنّ هذا الحديث لا يتمّ فيه إطلاق من هذا القبيل، وذلك لأنّه وارد مورد بيان أمر آخر، وهو حلّ مشكلة حرمة الشهادة بغير العلم والحلف على ما لا يعلم، وقد حلّها الإمام (عليه السلام) بأن لا يقصد من شهادته إلا مبلغ علمه. أمّا أنّ نفوذ شهادته هل يشمل فرض حدسيّة العلم أيضاً أو لا؟ فهذا خارج عمّا هو بصدد بيانه.

ولو غضضنا النظر عن هذا الإشكال، أو وجدنا حديثاً آخر لا يرد على التمسّك بإطلاقه مثل هذا الإشكال، قلنا: إنّ نفس النكتة التي تجعلنا ندّعي انصراف دليل حجّية خبر الواحد اللفظي _ لو تمّ _ إلى الخبر الحسّي تجعلنا أيضاً ندّعي انصراف دليل نفوذ الشهادة إلى الشهادة الحسّيّة. وبتعبير أدقّ: إنّ المفهوم من دليل نفوذ الشهادة بمناسبة الارتكازات العقلائية _ كما هو الحال في دليل حجّية خبر الواحد _ إنّما هو إلغاء احتمال الكذب فقط، أو مضافاً إلى التأكيد على أصالة عدم الخطأ والغفلة في الموارد التي يجري فيها هذا الأصل عقلائياً، وهي موارد الحسّ وما يشبه الحسّ. أمّا في موارد الحدس والاجتهاد فلا يوجد أصل عقلائي من هذا القبيل إلا


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص184، الباب 12 من كيفية الحكم، ح9.

459

في موارد الرجوع إلى أهل الخبرة؛ أي رجوع الجاهل إلى العالم بالتقليد.

ويؤيِّد عدم نفوذ الشهادة غير القائمة على أساس الحسّ أو القريب من الحسّ خبران غير تامّين سنداً:

الأول _ المرسل المروي في الشرائع عن النبي (صلى الله عليه و آله) وقد سئل عن الشهادة: قال: «ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد أو دع»(1).

والثاني _ ما عن علي بن غياث أو علي بن غراب عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «لا تشهدَنَّ بشهادة حتى تعرفَها كما تعرفُ كفَّك»(2). وقد جاء في الكافي التعبير عن الراوي المباشر بعلي بن غياث، بينما جاء في الفقيه التعبير عنه بعلي بن غراب، ويبدو أنّ الأخير هو الأصحّ لعدم وجود الأول في كتب الرجال ولا في الروايات، ولأنّ الصدوق في المشيخة ذكر سنده إلى علي بن غراب فقط لا إلى علي ابن غياث. وعلى أيّ حال فسند الحديث ضعيف بمحمد بن حسان وإدريس بن الحسن وعلي ابن غراب أو علي بن غياث.

وتؤيّد أيضاً اشتراطَ الحسّ في الشهادة الرواياتُ الواردة في باب الزنا الدالّة على أنّ حدّ الرجم لا يثبت إلا بالشهادة على الرؤية، من قبيل ما عن الحلبي _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام): قال: «حدّ الرجم أن يشهد أربعٌ أنّهم رأوه يُدخِل ويُخرِج»(3)، ونحوه ما عن أبي بصير(4).

والاستشهاد بهذه الروايات: تارةً يكون بمقدار أنّها دلّت على اشتراط الحسّ في


(1) نفس المصدر، ص251، الباب 20 من الشهادات، ح3.

(2) نفس المصدر، ص250، ح1، و ص235، الباب 8 من الشهادات، ح3.

(3) نفس المصدر، ص371، الباب 12 من حدّ الزنا، ح 1.

(4) نفس المصدر، ص371 _ 372، ح3 و5.