271

تعيين المنكر بخبر الثقة

الأمر الثاني _ هل ينقلب المدّعي منكراً بسبب إخبار ثقة واحد بصحّة مدّعاه _ بناءً على تفسير المدّعي بمن خالف قوله الأصل _ أو لا؟ قد يخطر بالبال انقلابه منكراً بذلك؛ باعتبار أنّ خبر الثّقة حجّة وأصل يرجع إليه في ذاته وبقطع النظر عن باب القضاء، فمن طابق قوله مفاد خبر الثقة، فقد أصبح قوله مطابقاً للحجّة والأصل، وهذا هو المنكر.

وقد يؤيّد ذلك بالروايات الواردة في قبول قول المدّعي بشاهد واحد ويمينه(1) فهذا يعني أن الشاهد الواحد جعله منكراً، فيكتفى عندئذٍ بيمينه.

والواقع أنّنى لا أظنّ أحداً يلتزم بهذه النتيجة، أعني: انقلاب المدّعي منكراً بواسطة قيام خبر الثقة على وفق مدّعاه. والروايات الواردة في قبول قول المدّعي بشاهد واحد ويمينه أجنبيّة عن المقصود....

فإنّ المقصود منها قيام اليمين مقام الشاهد الآخر لا انقلابه منكراً، ولذا لا يطالَب صاحبُه بالبيّنة بعد إقامته شاهداً واحداً، وأيضاً لا تكفي منه اليمين لو كان شاهده فاسقاً ثقةً حتى على القول بأنّ حجّية خبر الواحد غير مشروطة بالعدالة وتكفي فيها الوثاقة.

وأمّا شبهة انقلاب المدّعي منكراً بقيام خبر الثقة وفق مدّعاه فهي متوقفة على الإيمان بحجّية خبر الثقة في الموضوعات مطلقاً لا في خصوص الموضوعات التي يتوقّف عليها إثبات الحكم الكلّي، كوثاقة المخبر أو خبر المخبر. أمّا لو أنكرنا حجّية خبر الثقة في الموضوعات إمّا مطلقاً، أو في غير ما يتوقف عليه إثبات الحكم الكلّي، فلا موضوع لهذه الشبهة.


(1) راجع وسائل الشيعة، ج 18، ص193_ 198، الباب 14 و 15 من كيفية الحكم

272

خبر الثقة في الموضوعات

وتوضيح الكلام في ذلك: أنّه قد يقال بعدم حجّية خبر الثقة في الموضوعات مطلقاً؛ لعدم شمول مفاد السنّة القطعيّة الدالّة على حجيّة خبر الثقة لها؛ لأنّها واردة في باب الأحكام، وعدم ثبوت السيرة أيضاً، وهما عمدة أدلة حجّية خبر الثقة. وبهذا تنهار حجّية جميع ما بأيدينا من الأخبار غير القطعيّة؛ لأنّها تتوقّف على إثبات إخبار المخبر؛ إذ هي واصلة إلينا بالوسائط، وأحياناً تتوقّف على إثبات وثاقة المخبر بخبر ثقة واحد.

ولأستاذنا الشهيد (رحمه الله) بيان ذكره في ذيل آية النبأ في بحث مشكلة الأخبار مع الواسطة لإرجاع الأخبار مع الواسطة إلى الخبر بلا واسطة، وقد ذكر ذلك لحل المشكلة الثبوتية في الأخبار مع الواسطة، فلو قبل ذلك في حل المشكلة الإثباتيّة أيضاً، أي في تمامية الإطلاق عرفاً لمثل «ما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي» بدعوى أنّ هذا أيضاً أداء عن الإمام بلا واسطة انحلّت لنا مشكلة الإخبار بالإخبار لكن بقيت مشكلة إثبات الوثاقة بخبر الواحد.

وأيضاً قد يحلّ الإشكال بدعوى أن سيرة المتشرعة كانت قائمةً بالعمل بالأخبار حتى التى كانت مع الوسائط، وأنّ قوله في التوقيع الشريف الذي هو شبه قطعي كما أشرنا إليه في كتاب أساس الحكومة الإسلامية: «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا»(1) إن لم يشمل الرجوع فيه الرجوع إلى الرواة لأخذ الروايات، فلا أقلّ من دلالته على أنّ الروايات التي وصلت إلى من نرجع إليه تكون حجّة له، وإلا فكيف نرجع إليه؟! وتلك الروايات غالبها روايات مع الوسائط، خاصّةً وأنّ التوقيع


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص101، الباب 11 من صفات القاضي، ح9

273

الشريف باعتبار صدوره من الإمام الغائب (عليه السلام) ناظر إلى الزمان الطويل إلى ظهوره (عليه السلام) على الأقلّ، فهي تدل على أنّ وجود الواسطة لا يضرّ بحجّية الرواية، وهذا يعني ثبوت خبر المخبر الذي هو موضوع لاستنباط الحكم بخبر الواحد.

نعم، هذا لا يدل على ثبوت وثاقة المخبر بخبر الواحد بناءً على دعوى احتمال اختصاص الحجّية بالروايات التي ثبتت وثاقة رواتها بالقطع أو بالبيّنة؛ لأنّ التوقيع لم يكن ابتداءً بصدد بيان مدى حجّية الروايات كي نتمسك فيه بالإطلاق ومقدمات الحكمة مع دعوى احتمال الفرق عرفاً بين الإخبار بالإخبار والإخبار عن الوثاقة بحجّية الأول دون الثاني؛ ولو بالنكتة التي بيّنها استاذنا الشهيد لإرجاع الإخبار بالإخبار إلى الإخبار بلا واسطة. فحتى الآن بقيت مشكلة إخبار الثقة الواحد بالوثاقة بلا حلّ.

وعلاج ذلك يكون بأحد وجوه:

الأول _ دعوى أنّ سيرة المتشرعة المعاصرة كما قامت على حجّية خبر الواحد ولو مع الواسطة، كذلك قامت على اثبات وثاقة المخبر بخبر الواحد؛ لأنّه من البعيد جدّاً أنّ الأخبار مع الواسطة التي كانت وقتئذٍ وثاقة رواتها محرزةً للكل خاصّة في زمن الأئمّة المتأخرين، والابتلاء بتلك الأخبار كان شائعاً، فإن لم تكن السيرة على العمل بها ولم تكن حجّةً لكثر السؤال عنها والإجابة بالنفي من قبل الإمام، ولكان يصل إلينا ذلك.

الثاني _ أن يقال: إنّنا نثبت بالتوقيع الشريف حجّية كلّ خبر مع الواسطة الذي تكون كلّ وسائطه ثابتة الوثاقة باليقين أو البيّنة، ومنها ما رواه الكشّي في كتابه عن محمد بن قولويه عن سعد بن عبداللّه، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن عبداللّه ابن محمد الحجّال، عن يونس بن يعقوب _ وهؤلاء كلّهم مسلّموا الوثاقة عند

274

الأصحاب _ قال: «كنّا عند أبي عبداللّه (عليه السلام) فقال: أما لكم من مفزع؟! أما لكم من مستراح تستريحون إليه؟! ما يمنعكم من الحارث بن المغيرة النضري؟!»(1).

وهذا الحديث يفهم منه جواز الاستراحة والفزع إلى ما يعطيه الحارث من أخبار معالم الدين، والتي يكون كثير منها بواسطة من يشهد هو بوثاقته.

الثالث _ أن يقال: إنّ العرف لا يحتمل الفرق بين نقل كلام الإمام الذي هو نقل للحكم الشرعي عن الإمام ونقل الموضوع الذي يترتّب عليه استنباط الحكم الشرعي الكلّي للإمام، فكلّ حديثٍ دلّ على حجّية خبر الثقة في الأول دلّ عليها في الثاني، خاصّة وأنّ نقل الحكم الشرعي من الإمام يرجع غالباً بالدقّة إلى نقل الموضوع؛ إذ هو ينقل غالباً ظهور كلام الإمام الذي هو موضوع لكبرى حجّية الظهور.

الرابع _ أن يقال بالرجوع في توثيق الرواة إلى أضراب الشيخ الطوسي والنجاشي لكونهم من أهل الخبرة، ولا أقصد بذلك التقليد لهم والأخذ بحدسيّاتهم في الوثاقة، فإنّ الوثاقة من الأمور القريبة من الحسّ، ولا يقبل فيها الحدس، ولكن أقصد بذلك الرجوع إليهم من سنخ الرجوع إلى حسّيات اللغويّين الذي يدخل في كبرى الرجوع إلى أهل الخبرة، بالبيان الذي بيّنه أستاذنا الشهيد (رحمه الله) في مبحث حجّية قول اللغوي.

هذا، وقد يتعدّى من الإخبار عن وثاقة الراوي إلى الإخبار عن اجتهاد الشخص، كما عن السيد الحكيم (قدس سره) في المستمسك من الاستدلال على حجّية إخبار الثقة عن مثل اجتهاد الشخص أو وثاقة الراوي: بأنّ المراد من عموم ما دلّ على حجّية الخبر عن الأحكام الكلّية ما يؤدّي إلى الحكم الكلّي سواءً كان بمدلوله المطابقي أم


(1) وسائل الشيعة ، ج 18، ص105، الباب 11 من صفات القاضي، ح24، وفي وسائل الشيعة، ج 27 بحسب طبعة مؤسسة آل البيت (عليهم السلام)، ص145 ورد: الحارث بن المغيرة النصري، وهو الصحيح، ولم يرد النضري في كتب الرجال

275

الالتزامي(1).

وأستاذنا الشهيد (رحمه الله) قد نقل ذلك في كتابه، وأورد عليه(2) بأنّ دليل حجّية الخبر في الشبهة الحكميّة لم يدل على حجّية الخبر عن الحكم الكلّي بهذا العنوان ليبذل الجهد في إرجاع بعض الأخبار في الموضوعات إلى الخبر عن الحكم الكلّي بالالتزام، وإنّما دلّ الدليل _ المتحصّل من السنّة المتواترة إجمالاً _ على مضمون مثل قوله: «العمري وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطع، فإنّهما الثقتان المأمونان»، فموضوع الحجّية هو الخبر الذي يعتبر أداءً عن الإمام، وهذا ينطبق على خبر زرارة، دون خبر العادل عن الاجتهاد.

أقول: والإخبار عن الوثاقة رغم أنّه ليس أداءً عن الإمام قد آمنّا بحجّيته، لكن الوجوه التي عرفتها لذلك لا تثبت حجّية الإخبار عن الاجتهاد، ولا يعتبر ذلك بالنسبة للعامي من كلام أهل الخبرة؛ لأنّ تشخيص الاجتهاد كثيراً ما يتمّ للعامي بالقطع واليقين عن طريق الشهرة ونحوها، فليس هو ممّا يتوقّف فهمه في العادة على التعبّد برأي أهل الخبرة.

وعلى أيّ حال فحجّية إخبار الثقة عن الموضوع الذي يترتب عليه ثبوت الحكم الكلّي إن تمّت مطلقاً أو في الجملة لا تبرّر انقلاب المدّعي منكراً في ما نحن فيه بسبب قيام خبر الثقة وفق مدّعاه، وإنّما الذي قد يوجب ورود شبهة انقلاب المدّعي منكراً فيما نحن فيه بفرض إخبار ثقة وفق ما يدّعيه المدّعي هو دعوى حجّية خبر الثقة في الموضوعات مطلقاً، كما ذهب اليه أستاذنا الشهيد (رحمه الله) في البحوث، ودليله على


(1) مستمسك العروة الوثقى، ج 1، ص 38 - 39.

(2) بحوث في شرح العروة الوثقى، ج2، ص 84 _ 85.

276

ذلك أمران:

أحدهما _ دعوى السيرة العقلائيّة على العمل بخبر الثقة في الموضوعات، وعدم اختصاص السيرة بخصوص باب الأحكام.

وثانيهما _ مثل قوله: «العمري وابنه ثقتان، فما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان»، فهذا التعبير يُفهم منه تعليل حجّية أدائه عن الإمام (عليه السلام) بالوثاقة، والتعليل إشارة إلى كبرى كلّية قد تتردّد سعةً وضيقاً بين عدة كبريات، فالمفروض الاقتصار على أضيق كبرى تشمل المورد ما لم تكن هناك كبرى معهودة عرفاً، ومن المركوز مناسبتها للصغرى المصرّح بها، وإلا فهذا الارتكاز بنفسه قرينة على مل‏ء الفراغ بتقدير تلك الكبرى المعهودة، ولو كانت أوسع من مقدار الحاجة إلى اقتناص النتيجة الواردة في مورد النص. ومقامنا من هذا القبيل، فإنّ الحاجة إلى اقتناص النتيجة بحسب المورد يكفي فيها تقدير حجّية خبر الثقة في الأحكام كبرىً في القياس، ولكن حيث إنّ كبرى حجّية الثقة بنحو أوسع مركوزة، فينصرف مل‏ء الفراغ إليها حفظاً لمناسبات الصغرى والكبرى المركوزة في الذهن العرفي، ومعه يتم الاستدلال على المطلوب(3).

أقول: لا يتوهّم أنّ هذا رجوع إلى الاستدلال بالسيرة، فإنّ السيرة العقلائيّة بحدّ ذاتها غير حجّة، وإنّما الحجّية لموافقة الشارع، وموافقته تارةً تكشف بعدم الردع، وهذا هو الوجه الأول، وأُخرى تكشف بدلالة لفظيّة وإن كانت نفس السيرة دخيلة في تكوّنها. ويظهر الأثر العملي فيما لو احتملنا الردع من دون أن يثبت بدليل خاص؛ كي يكون رادعاً عن السيرة وفي نفس الوقت مقيِّداً لعموم التعليل، فإذا احتملنا الردع، ولم يكن هناك ما ينفيه ولا ما يثبّته، فهذا يضرّ بالدليل الأول وهو التمسّك


(1) بحوث في شرح العروة الوثقى، ج 2، ص 90 _ 91

277

بالسيرة، ولكن لا يضرّ بالدليل الثاني وهو التمسّك بعموم التعليل.

هذا، ولا يمكن دعوى اختصاص السيرة بالشبهات الحكمية فيما بين العقلاء، أي في تفهيم وتفهّم أغراضهم فيما بينهم، وعدم جريانها بالنسبة للشبهات الموضوعيّة، وهي محل الكلام فعلاً، وذلك لأنّ التفصيل بين الشبهات الحكمية والشبهات الموضوعية بالحجّية في إحداهما دون الأُخرى لا يكون إلا أمراً تعبّدياً بحتاً، وهذا بعيد عن مذاق العقلاء.

وعلى أيّ حال فقد يدّعى ورود الردع عن السيرة المدّعاة في المقام لو تمّت في نفسها في موارد الشبهات الموضوعية، وذلك إمّا بحديث عام، أو بأحاديث خاصّة في موارد متفرقة يقتنص العرف منها الردع عن كبرى السيرة.

أمّا الحديث العام، فهو عبارة عن حديث مسعدة بن صدقة عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سمعته يقول: كلّ شيءٍ هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، والمملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي أُختك أو رضيعتك، والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البيّنة»(1).

وأورد أُستاذنا الشهيد (رحمه الله)(2) على رادعيّة هذا الحديث بوجهين(3):

أحدهما _ أنّ رواية واحدة لا تكفي لإثبات الردع؛ لأنّ مستوى الردع يجب أن يتناسب مع درجة قوّة السيرة وترسّخها، ومثل هذه السيرة على العمل بخبر الثقة لو كان الشارع قاصداً ردعها لأصدر بيانات كثيرة، ولوصلتنا منها نصوص عديدة، كما


(1) وسائل الشيعة، ج 12، ص60، الباب 4 من ما يكتسب به، ح4.

(2) بحوث في شرح العروة الوثقى، ج2، ص 86 _ 87.

(3) الوجوه المذكورة في البحوث خمسة، لكن الذي وافق عليه أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) اثنان.

278

حدث بالنسبة للقياس، ولما اكتفى بإطلاق خبر من هذا القبيل.

والثاني _ أنّ الرواية ضعيفة السند. وأورد أُستاذنا الشهيد(رحمه الله)(1) على الإشكال بضعف سند الرواية بأنّ احتمال صدقها يوجب على الأقلّ احتمال الردع، وهو كافٍ لإسقاط السيرة عن الحجّية.

وأجاب _ رضوان اللّه عليه _ على ذلك(2) بأنّ عدم الردع قبل الإمام الصادق (عليه السلام) في صدر الإسلام محرز؛ لعدم نقل ما يدل على الردع، ويكشف ذلك عن الإمضاء حدوثاً، فإذا أوجب خبر مسعدة الشكّ في نسخ ذلك الإمضاء جرى استصحاب الإمضاء.

أقول: إنّ هذا الكلام يمكن أن يورد عليه بأنّ ما يظهر من هذا الكلام من أنّ عدم وصول الردع عمّا قبل الإمام الصادق (عليه السلام) دليل الإمضاء غير صحيح؛ لأنّه أساساً النصوص الواصلة في الأحكام قبل الإمام الصادق (عليه السلام) قليلة، فلعلّ هذا من جملة الأحكام التي لم تصلنا عمّا قبل الإمام الصادق (عليه السلام).

إلا أن يفترض أنّ رسوخ السيرة يكون بنحو لو كانت مردوعة لوصل الردع حتى عمّا قبل الإمام الصادق (عليه السلام).

ولعلّ مراده _ رضوان اللّه عليه _ وإن كانت العبارة لا تساعد عليه: أنّ هذه السيرة في صدر الإسلام كانت ممضاة، حيث إنّ الإسلام أقرّ أوّلاً كلّ ما بيد العقلاء من نظم وقواعد، ولم يغيّر شيئاً عدا إيجاب الاعتراف بالتوحيد والرسالة، فإذا شككنا بعد ذلك في نسخٍ جاء الاستصحاب.


(1) بحوث في شرح العروة الوثقى، ج2، ص86.

(2) نفس المصدر.

279

وهذا أيضاً قابل للمناقشة بأن يقال: إنّ المستفاد من قوله (صلى الله عليه و آله) في صدر الشريعة «قولوا لا إله إلا اللّه تفلحوا» وسكوته عن سائر الأمور ليس بأكثر من عدم الإلزام بحكم إلزامي غير الإيمان بالتوحيد والرسالة دون إقرار كلّ النظم العقلائيّة الموجودة.

وأمّا الأحاديث الخاصّة في موارد متفرّقة:

فمنها _ ما عن عبداللّه بن سليمان عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في الجِبن قال: «كلّ شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه ميتة»(1). وسند الحديث غير تام.

ومنها _ ما عن محمد بن مسلم بسند تام عن أحدهما (عليهماالسلام) قال: «سألته عن رجلٍ ترك مملوكاً بين نفر، فشهد أحدهم أنّ الميّت أعتقه، قال: إن كان الشاهد مرضيّاً لم يضمن، وجازت شهادته (في نصيبه _ خ ل _)، ويستسعى العبد فيما كان للورثة»(2).

ونحوه فى المضمون حديث آخر رواه في الوسائل بعد هذا الحديث مباشرةً، لكنّه غير تام سنداً، ورواه بسند تام في الباب (52) من الشهادات مع حذف التصريح بوثاقة الشاهد.

ومنها _ روايات عدم نفوذ شهادة النساء غير المختصّة بباب المرافعة الواردة تارةً في موارد خاصّة، وأُخرى بشكل مطلق غير ما استثني.

أمّا ما ورد في موارد خاصّة: فمن قبيل ما ورد في الرضاع بسند غير تام عن صالح بن عبداللّه الخثعمي، قال: «سألت أبا الحسن موسى (عليه السلام) عن أُمّ ولدٍ لي صدوق زعمت أنّها أرضعت جارية لي، أُصدّقها؟ قال: لا»(3).


(1) وسائل الشيعة، ج 17، ص91، الباب 16 من الأطعمة المباحة ح2.

(2) نفس المصدر، ج 16، ص56، الباب 52 من العتق، ح1.

(3) نفس المصدر، ج 14، الباب 12 ممّا يحرم بالرضاع، ح2.

280

ونحوه مرسلة عبداللّه بن بكير عن بعض أصحابنا عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في امرأة أرضعت غلاماً وجاريةً، قال: «يعلم ذلك غيرها؟ قال: لا. قال: فقال: لا تصدّق إن لم يكن غيرها»(1). إلا أنّ هذا الحديث يختلف عمّا قبله في أنّه لم يصرّح فيه بكونها صدوقاً، ولكن تقييده بفرض عدم الوثاقة مع تعارف الوثاقة أيضاً بعيد.

ونحوه ما عن صالح بن عبداللّه الخثعمي قال: «كتبت إلى أبي الحسن موسى (عليه السلام) أسأله عن أُمّ ولد لي ذكرت أنّها أرضعت لي جارية، قال: لا تقبل قولها ولا تصدّقها»(2). وهنا أيضاً تقييد الإطلاق المستفاد من ترك الاستفصال بفرض عدم الوثاقة بعيد. وأمّا من حيث السند فصالح بن عبداللّه الخثعمي لم يرد بشأنه توثيق.

نعم، روى محمد بن أبي عُمير عن صالح بن عبداللّه عن الصادق (عليه السلام) حديثاً، ولكن لا أظنّ أنّ بالإمكان إثبات اتحاده مع صالح بن عبداللّه الخثعمي؛ علماً بأنّ الشيخ ذكر في أصحاب الصادق (عليه السلام) اسمين بعنوان صالح بن عبداللّه، أحدهما لقّبه بالأحول الكوفي والثاني لقّبه بالخثعمي الكوفي.

وعلى أيّ حال، ففي غير باب الرضاع أيضاً وردت روايات كثيرة(3) تمنع عن نفوذ شهادة النساء في بعض الموارد الخاصّة من قبيل الطلاق والنكاح، وقد دلّ بعضها على أنّ شهادة النساء في النكاح لا تنفذ إلا مع رجل، وهذا يدل إضافة إلى عدم نفوذ شهادة النساء وحدهنّ على عدم نفوذ شهادة الرجل الواحد، وإلا لما احتجنا إلى ضمّ امرأتين إليه.


(1) وسائل الشيعة، ج 14، الباب 12 ممّا يحرم بالرضاع، ح3.

(2) نفس المصدر، ح 4.

(3) جمع صاحب الوسائل أكثر هذه الروايات في ج 18، الباب 24 من الشهادات، فراجع، وسنذكر أكثرها _ إن شاء اللّه _ في شرط الذكورة.

281

وأمّا ما ورد بشكل مطلق(1)، فمن قبيل ما دلّ على عدم نفوذ شهادة النساء في غير المنفوس والعذرة، أو في غير ما لا يستطيع الرجال النظر إليه.

ومنها _ ما رواه صاحب الوسائل عن كتاب علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) في الرجل يسمع الأذان فيصلّي الفجر ولا يدري طلع أم لا، غير أنّه يظنّ لمكان الأذان أنّه طلع، قال: «لا يجزيه حتى يعلم أنّه قد طلع»(2). وتقييده بفرض عدم وثاقة المؤذّن بعيد.

إلا أنّ هذا الحديث تعارضه أحاديث كثيرة دالّة على التعويل على أذان الثقة، أو مطلق المؤذّن(3) وإن كان أكثرها أو كلّ ما يتم دلالةً منها غير تامّة سنداً. وطبعاً لا أقصد أنّ تلك الروايات تدل على حجّية خبر الثقة في الموضوعات؛ إذ من المحتمل كون الاعتماد على المؤذّن لخصوصيّة فيه باعتباره من أهل الخبرة أو باعتباره مؤتَمَناً، وإنّما المقصود أنّ تلك الروايات تعارض هذه الرواية.

هذا، ومن المحتمل بشأن هذه الرواية كون المقصود إبداء احتمال عدم كون ذاك الأذان أذان الفجر، وذلك بناءً على مشروعيّة الأذان قبل الفجر كما يدل عليه بعض الأخبار(4).

ومنها _ ما عن أحمد بن محمد بن أبي نصر بسند تام عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في المطلّقة إن قامت البيّنة أنّه طلّقها منذ كذا وكذا، وكانت عدّتها قد انقضت فقد


(1) نفس المصدر.

(2) نفس المصدر، ج 3، ص203، الباب 58 من المواقيت ح4.

(3) راجع نفس المصدر، ج 4، الباب 3 من الأذان والإقامة وذيله.

(4) راجع نفس المصدر، الباب 8 من الأذان والإقامة.

282

بانت، والمتوفّى عنها زوجها تعتدّ حين يبلغها الخبر؛ لأنّها تريد أن تحدّ له(1)، ونحوه حديثان آخران(2) أحدهما تام السند، ولكنّ عيبهما أنّهما يدلّان في عدة الموت على أنّه مع قيام البيّنة تحسب العدّة من حين الموت لا من حين وصول الخبر، بينما هذا خلاف مذهب الشيعة، إلا أن يقال: إنّ الحمل على التقيّة بالنسبة لهذا الجانب لا ينافي استفادة عدم حجّية خبر الواحد منه.

ومنها _ ما دلّ على أنّ الهلال لابدّ في ثبوته بالشهادة من شهادة رجلين عدلين(3).

ومنها _ ما دلّ على عدم ثبوت الشهادة بخبر الواحد، من قبيل ما عن غياث ابن إبراهيم بسند تام عن جعفر بن محمد (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام): «أنّ عليّاً (عليه السلام) كان لا يجيز شهادة رجل على شهادة رجل، إلا شهادة رجلين على شهادة رجل»(4). وما عن طلحة بن زيد بسند تام عن أبي عبداللّه (عليه السلام) عن علي (عليه السلام): «أنّه كان لا يجيز شهادة رجل على رجل، إلا شهادة رجلين على رجل»(5).

ثم التمسّك بهذه الروايات لإثبات الردع عن العمل بخبر الثقة في الموضوعات لإثبات عدم إمضاء السيرة، ولتقييد إطلاقات حجّية خبر الثقة _ لو كانت _ يكون بأحد وجوه ثلاثة:

الوجه الأول _ دعوى استفادة ذلك من كلّ واحدة من هذه الروايات؛ بدعوى أنّها وإن كانت واردة في مورد خاصّ، لكنّ العرف يفهم منها المثاليّة، وينتزع منها


(1) وسائل الشيعة، ج 15، ص449، الباب 28 من العدد، ح14.

(2) نفس المصدر، ص448، الباب 28 من العدد، ح9 و10.

(3) توجد جملة من روايات هذه المسألة في وسائل الشيعة، ج 7، الباب 11 من أحكام شهر رمضان.

(4) نفس المصدر، ج 18، ص298، الباب 44 من الشهادات، ح 4.

(5) نفس المصدر، ح2.

283

قاعدة عامّة، وهي عدم حجّية خبر الثقة في الموضوعات بما هو كذلك. إلا أنّ دعوى من هذا القبيل ممنوعة، ولو تمّت لا تفيدنا في المقام لتقييد إطلاقات حجّية خبر الثقة لو كانت كذلك؛ بناءً على أنّه كما وجدت أخبار خاصّة في موارد خاصّة في الموضوعات تدل على عدم حجّية خبر الثقة، كذلك يوجد ما يدل في مورد خاص في الموضوعات على حجّية خبر الثقة فيه، فلو كان العرف ينتزع من الأول قاعدةً عامّةً لعدم الحجّية، كذلك ينتزع من الثاني قاعدةً عامّةً للحجّية، فيتعارضان، وبالتالي لا يمكن تقييد إطلاقات الحجّية لو كانت بتلك الأخبار.

نعم، بالنسبة للردع عن السيرة قد يقال: إنّ التعارض لا يمنع عن احتمال الردع، إلا أن يتمسّك باستصحاب الإمضاء، أو بدعوى أنّ السيرة راسخة بنحو لا يمكن ردعها بهذا المقدار.

وعلى أيّ حالٍ، فقد جمع أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في البحوث(1) رواياتٍ كثيرةً قد يستدلّ بها على حجّية خبر الثقة في الموضوعات، وناقش هو (رحمه الله) في دلالة أكثرها، ولم يقبل عدا دلالة حديثين منها، ونحن هنا نقتصر على ذكر هذين الحديثين، أمّا الباقية فمن الواضح بالمراجعة عدم تماميّة دلالتها:

الأول _ ما ورد بسند تام عن هشام بن سالم عن أبي عبداللّه (عليه السلام) «في رجل وكلّ آخر على وكالة في أمر من الأمور، وأشهد له بذلك شاهدين، فقام الوكيل فخرج لإمضاء الأمر، فقال: اشهدوا أنّي قد عزلت فلاناً عن الوكالة، فقال: إن كان الوكيل أمضى الأمر الذي وكّل فيه قبل العزل، فإنّ الأمر واقع ماضٍ على ما أمضاه الوكيل، كره الموكّل أم رضي. قلت: فإنّ الوكيل أمضى الأمر قبل أن يعلم (أن يعزل _ خ ل _)


(1) بحوث في شرح العروة الوثقى، ج 2 من ص 91 فصاعداً

284

العزل، أو يبلغه أنّه قد عزل عن الوكالة، فالأمر على ما أمضاه؟ قال: نعم. قلت له: فإن بلغه العزل قبل أن يمضي الأمر، ثم ذهب حتى أمضاه، لم يكن ذلك بشيء؟ قال: نعم. إنّ الوكيل إذا وكّل ثم قام عن المجلس، فأمره ماضٍ أبداً، والوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلّغه أو يشافه (يشافهه _ خ ل _) بالعزل عن الوكالة»(1).

ويمكن الإيراد على الاستدلال بهذا الحديث: أنّ غاية ما يدل عليه هذا الحديث هي أنّ خبر الثقة قام مقام العلم الموضوعي بالعزل في إبطال عمل الوكيل واقعاً عند مصادقة العزل، وكفى في قطع استصحاب بقاء الوكالة، وهذا غير قيامه مقام القطع الطريقي الذي هو معنى حجّيته.

وأجاب على ذلك أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في البحوث(2) بأنّه يفهم عرفاً من إقامته مقام القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الطريقيّة في الموضوع أنّه حجّة وكاشف شرعاً.

أقول: هذا الاستظهار غير واضح عندي.

الثاني _ ما ورد بسند تام عن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن رجل كانت له عندي دنانير، وكان مريضاً، فقال لي: إن حدث بي حدث فأَعطِ فلاناً عشرين ديناراً، وأَعطِ أخي بقيّة الدنانير، فمات ولم أشهد موته، فأتاني رجل مسلم صادق، فقال لي: إنّه أمرني أن أقول لك: أنظر الدنانير التي أمرتك أن تدفعها إلى أخي، فتصدّق منها بعشرة دنانير أقسّمها في المسلمين، ولم يعلم أخوه أنّ عندي شيئاً. فقال: أرى أن تصدّق منها بعشرة دنانير»(3).


(1) وسائل الشيعة، ج 13، ص 286، الباب 2 من الوكالة، ح1.

(2) ج 2، ص 98.

(3) وسائل الشيعة، ج13، ص482، الباب 97 من الوصايا، ح 1.

285

ودلالة هذا الحديث أيضاً قابلة للمناقشة؛ ذلك لأنّ جهة السؤال في كلام السائل مردّدة بين أمرين، فبناءً على أنّ إجمال السؤال في مثل ذلك يسري إلى الجواب _ لا أنّ ترك الاستفصال يعطي للجواب إطلاقاً يشمل كلا احتمالي السؤال _ يصبح الجواب في المقام مجملاً. أمّا الاحتمالان الواردان في السؤال: فأحدهما كونه سؤالاً عن حجّية خبر الثقة الذي أخبره بوصيّة المُتوفّى، والثاني كونه فارغاً عن أنّ المخبر قد صدق في إخباره، إلا أنّ الوارث وهو أخوه مثلاً غير مطّلع على هذه الوصيّة، فلو اطّلع على قصّة هذا الرجل فسيطالبه بالبيّنة، وهو لا يمتلك بيّنة، أو يطالبه بالحلف مثلاً ما دام لا يجد بيّنة، وإنّما لم يفعل ذلك لأنّه لا يعلم أصلاً بوجود مال من أخيه لدى هذا الرجل، فهل من حقّه أن يعمل بما علمه من الوصيّة من دون إخبار أخيه؟ أو ليس من حقّه ذلك قبل تصفية الحساب مع من لو اطّلع على الأمر كان له رفع القضيّة إلى الحاكم ومطالبته بالبيّنة أو اليمين؟ فأجاب الإمام (عليه السلام): بأن يتصدَّقَ منها بعشرة دنانير.

وقد تحصّل بذلك أنّه لو استظهر من دليل عدم حجّية خبر الواحد في مورد خاص من الشبهات الموضوعيّة عدم حجّيته في الشبهات الموضوعية مطلقاً، لا يوجد في قباله ما يستظهر منه العكس.

والوجه الثاني _ دعوى حصول القطع عند تعدّد الموارد التي ورد فيها عدم حجّية خبر الثقة بعدم الخصوصية في الموارد، واقتناص قاعدة عامّة تدل على أنّ خبر الثقة في الموضوعات بما هو ليس حجّةً، ولا ينافيه ورود خبر واحد في موردها دالّ على حجّية خبر الثقة فيه، فيُقال: إنّ السيرة القائمة على حجّية خبر الثقة في الموضوعات لو كانت هي بهذا العنوان مردودة يقيناً، وإن كان خبر الثقة في موردٍ ما من الموضوعات حجّة تعبّداً بدليل خاصّ، فإنّ هذا غير افتراض أنّ خبر الثقة في

286

الموضوعات حجّة بهذا العنوان، إلا ما خرج بالدليل.

والواقع أنّ دعوى القطع بإلغاء الخصوصية إن تمّت في الموارد التي يترقّب تدخّل الحاكم فيها كالنكاح والطلاق والحدود والهلال ونحو ذلك، لا تتمّ في القضايا الفرديّة البحت كطهارة شيءٍ ونجاسته وعدّة الطلاق ونحو ذلك؛ لأنّ ما ورد في القسم الثاني نادر، واحتمال الفرق بين القسمين موجود.

وبالنسبة للأمور التي يترقّب تدخّل الحاكم فيها لا نحتاج إلى دعوى القطع إلا بمقدار التعدّي من النساء إلى مطلق عدم اجتماع شرائط البيّنة؛ وذلك لثبوت المطلقات الدالّة على عدم نفوذ شهادة النساء في غير مثل المنفوس والعذرة، والإطلاق حجّة سواء حصل القطع على طبقه أو لا.

وإنّما لم نقل بتماميّة الإطلاق بالنسبة للقضايا الفرديّة البحت كالطهارة والنجاسة؛ لأنّ حذف متعلّق الشهادة لا يدل على العموم بأكثر ممّا يوحي إليه استثناء مثل المنفوس والعذرة، وهذا لا يوحي إلى أكثر من تقدير الأمور التي يترقّب وقوع النزاع فيها، أو الأمور التي يترقّب تدخّل الحاكم فيها.

الوجه الثالث _ أن يقال: إنّ العرف بعد تعدّد الموارد يلغي خصوصية المورد ويفهم القاعدة العامّة، وهي أنّ خبر الثقة في الموضوعات بما هو كذلك ليس حجّة، بينما في الطرف المقابل لم يكن إلا خبر واحد.

وهذا يرد عليه صغرويّاً ما أوردناه على الوجه الثاني من أنّه لا مبرّر للتعدّي إلى القضايا الفردية البحت _ كالطهارة والنجاسة _ لوجود احتمال الفرق، وأمّا كبرويّاً فهذا مبني على أنّ حجّية الظهور تشمل الظهور المتحصّل من مجموع أدلّة متفرّقة

287

عند ملاحظتها جميعاً كخطاب واحد. وقد أفاد أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في البحوث(1) في مقدّمة نقل روايات حجّية خبر الثقة في الموضوعات: أنّ هذا متوقّف على حجّية الظهور المتحصل من مجموع روايات متفرّقة عند ملاحظتها كخطاب واحد، وقال (رحمه الله): «قد تعرّضنا إلى ذلك في الأصول».

أقول: قد تعرّض أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في الأصول لتوجيه فنّي للكلام الموروث عن المحقّق النائيني (رحمه الله)، وهو أنّ ما يكون قرينةً في حال الاتّصال فهو قرينة في حال الانفصال. وهو: أنّ الكلامين المتنافيين كالعام والخاص اللذين يفرض التصرّف في أحدهما بقرينة الآخر إذا كان أحدهما حين الاتّصال قرينة للتصرّف في الآخر، فعند الانفصال ودوران الأمر بين أن يكون ما هو القرينة حين الاتّصال هو القرينة أيضاً حين الانفصال، أو العكس يكون الأول أولى؛ لأنّه لو فرض الخاص مثلاً في مثال العام والخاص الذي كان قرينةً في فرض الاتّصال قرينة أيضاً في فرض الانفصال، فقد ارتكب المتكلّم مخالفة واحدة للأصول العقلائيّة، وهي أصالة الاتّصال بين القرينة وذي القرينة، فقد جعل ما يصلح للقرينيّة في ذاته قرينةً، إلا أنّه فصل القرينة عن ذيها. أمّا لو فرض العكس فقد ارتكب مخالفتين: إحداهما فصل القرينة عن ذيها، والثانية فرض القرينيّة لما هي غير صالحة للقرينيّة في ذاتها وبغضّ النظر عن مشكلة الانفصال بدليل أنّه لو وصل بينهما لما حمله العرف على القرينيّة.

وهذا الكلام لو طرح على شكل الحساب الرياضي والبرهان العقلي فهو غير تام؛ إذ كون ما هو قرينة عند الاتّصال قرينة عند الانفصال أوّل الكلام، وإذا لم يكن قرينةً عند الانفصال فحمل كلّ منهما على القرينيّة للآخر فيه مخالفة واحدة للأصول


(1) بحوث في شرح العروة الوثقى، ج 2، ص 91

288

العقلائيّة لا أكثر.

ولعلّه لهذا جاء في تعارض الأدلّة للسيد الهاشمي(1) تقريراً لبحث أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) توجيه لهذا البيان، وهو أنّ هذا وإن لم يكن بالدقّة من الدوران بين الأقلّ والأكثر في المؤونة والمخالفة، ولكن جعل ما ليس قرينة عند الاتّصال قرينةً عند الانفصال أشدّ مؤونةً في نظر العرف من جعل ما هو قرينة عند الاتّصال قرينة عند الانفصال.

أقول: إنّ قاعدة أنّ ما كان قرينةً عند الاتّصال فهو قرينة عند الانفصال يمكن تفسيرها بأحد وجهين:

الوجه الأول _ أن يدّعى أنّ نكتة القرينيّة الموجودة في حال الاتّصال دائماً هي موجودة في حال الانفصال، إلا أنّها في حال الاتّصال كانت تهدّم الظهور، ولكن في حال الانفصال لا تستطيع أن تهدّم الظهور، فيتحوّل عملها إلى هدم الحجّية، أو أنّها في حال الاتّصال كانت تهدّم الدرجة الأُولى من الدلالة التصديقيّة، وفي حال الانفصال لا تقوى إلا على هدم الدرجة التصديقيّة النهائيّة كما يقول المحقّق النائيني(رحمه الله) في القرينة المنفصلة المقيّدة للإطلاق.

وخلاصة القاعدة الميرزائيّة على هذا التفسير هي أنّ نكتة القرينيّة منحفظة في كلتا حالتي الاتّصال والانفصال، ولكن بما أنّها في حالة الاتّصال تهدم الظهور فلذا سيكون الإحساس بقرينيّتها واضحةً وبارزةً عند الاتّصال، بخلاف حالة الانفصال التي هي غير قادرة فيها على هدم الظهور، أو على هدم الدلالة التصديقية الأُولى، فلو أُريد تشخيص القرينة من الكلامين المنفصل أحدهما عن الآخر أمكن وصل أحدهما بالآخر؛ لكي يقوى الإحساس بالقرينة، وأظنّ أنّ مقصود المحقّق النائيني (رحمه الله)


(1) ص 196

289

من قاعدته كان هو هذا الوجه.

وهذه القاعدة بناءً على هذا التفسير مؤتلفة من مقدّمتين:

الأُولى _ دعوى انحفاظ نكتة القرينيّة في الانفصال.

والثانية _ دعوى أن نكتة القرينيّة المنحفظة في حال الانفصال لو جعلت هي القرينة على المراد والهادمة للحجّية، فهذا أَولى في نظر العرف من جعل الآخر قرينةً الذي هو غير مشتمل على نكتة القرينيّة، والمقدّمة الثانية صحيحة بلا شكّ في مورد تماميّة المقدّمة الأُولى وهي بقاء نكتة القرينيّة بعد الانفصال، فإنّ النكتة التي يمكن أن تبقى بعد الانفصال، إمّا هي الأقوائيّة، أو هي الظهور في المفسّريّة، وهي تهدم الظهور الأول عند الاتّصال بنكتة ما فيها من الكشف عن المعنى المتقدّم على الكشف الأول، وهذا الكشف إن لم يمكنه هدم الظهور _ لعدم الاتّصال _ يهدم الحجّية لا محالة.

ولا يخفى أنّ المحقّق النائيني (رحمه الله) لا ينظر في قاعدته هذه إلى مسألة الأقوائيّة، وإنّما الظاهر أنّه ينظر إلى المفسّريّة، فإنّه قصد بالقرينة ما قال عنها: إنّ ظهور القرينة يتقدّم على ذي القرينة ولو كانت أضعف.

وعلى أيّ حال فالمقدّمة الأُولى غير تامّة في المقام، فإنّنا لو سلّمنا وجود إحدى النكتتين دائماً في القرائن _ أعني الأقوائيّة والمفسّرية _ ولم نقل: إنّ نكتة القرينيّة قد تكون مجرّد نفي القرينة لمقتضی الظهور الأول، كما هو الحال في القرينة التي ترفع الإطلاق برفع عدم البيان _ والحقّ أنّ البيان الهادم للإطلاق إنّما هو البيان المتّصل _ وقد تكون مجرّد تأثير القرينة في إيجاد صورة ثالثة تصوّريّة في ذلك، كما قد يدّعى ذلك في العام المتّصل بالمخصّص؛ حيث يُقال: إنّه يعطي للذهن تصوّراً صورة ثالثة غير صورتي العام والخاص، وهي صورة العام المقتطع منه الخاص، والدلالة

290

التصديقية تتبع الدلالة التصورية الأخيرة، وهذا الوجه _ كما ترى _ ينتفي بالفصل بين القرينة وذي القرينة.

أقول: لو سلّمنا وجود نكتة الأقوائية أو المفسّرية دائماً في القرائن قلنا: إنّ المفسّرية حينما تكون بمثل (أي) و(أعني) تنحفظ طبعاً في حال الانفصال، أمّا حينما تكون بافتراض نظام لغويّ يقتضي المفسّرية كما قد يدّعى في العام والخاص، فهذا النظام كما يمكن فرضه عامّاً يشمل فرض الانفصال كذلك يمكن فرضه خاصّاً بفرض الاتّصال، وقد يختلف الأَمر باختلاف القرائن، فتجب دراسة كلّ قرينة بحدّ ذاتها، ولا يمكن أن نستفيد شيئاً من هذه القاعدة الميرزائيّة، وحتى لو استقصينا كلّ القرائن فوجدنا نكاتها موجودة في حال الانفصال، فنحن لم نستفد شيئاً من هذه القاعدة، وإنّما استفدنا من استقصائنا للقرائن.

الوجه الثاني _ أن نسلّم أنّ نكتة القرينيّة في حال الاتّصال قد لا تكون محفوظةً في حال الانفصال، ولكن يقال: إنّه رغم عدم انحفاظها في حال الانفصال يرى العرف أنّ افتراض ما كان قرينةً عند الاتّصال للتصرف في الآخر قرينةً عند الانفصال لذلك أولى وأسهل من العكس.

ولكن أظنّ أنّ التأكيد على فرض عدم وجود نكتة القرينيّة في حال الانفصال ينبّه الوجدان العرفي النافي لأولويّة من هذا القبيل؛ إذاً فهذه القاعدة لم تفدنا شيئاً على كلّ حال.

نعم، يبقى أن يدّعي مدّعٍ بخصوص نصوص الشريعة الإسلامية أنّه ينبغي فرض المنفصلات فيها كالمتّصلات، وذلك لأحد وجهين:

الأول: أنّه جرى ديدن الشريعة على فصل المتّصلات، فحاله حال أُستاذٍ يدرّس أمراً ضمن محاضرات يوميّة، ومن الواضح أنّ المحاضرة الثانية لو كان فيها ما يقتضي

291

القرينيّة على المحاضرة الأُولى عند الاتّصال تبقى على قرينيّتها عند الانفصال، فهذا الانفصال وإن كان انفصالاً بحسب عمود الزمان لكنّه لا يعتبر انفصالاً في عالم اللّغة، وهو أشبه شيء بما لو تكلّم المتكلّم بالعام ثم أُغمي عليه ساعات، وبعد أن أفاق أتى بالخاص، أفهل يفترض عندما انقطع كلامه بالإغماء أنّ ظهور كلامه قد استقر؟! طبعاً لا. وهكذا حال هذا المدرّس، وكذلك حال الشريعة الإسلامية.

إلا أنّ هذا الوجه ان قصد به دعوى عدم انعقاد الظهور ما لم نُحطْ بكلّ المنفصلات المحتمل قرينيّتها، _ وقد لا نستطيع أن نحيط بذلك لاحتمال تلف كثير من النصوص _ فلا أظنّ أحداً يلتزم بهذه النتيجة، ولم يصل ديدن الشريعة على فصل المتّصلات إلى مستوىً نقول فيه بعدم استقرار الظهور عند انتهاء الكلام لاحتمال مجى‏ء قرينة منفصلة.

وإن قصد به _ بعد الاعتراف بأن ديدن الشريعة على فصل المتصلات لم يبلغ مستوى عدم انعقاد الظهور _: أنّ نفس قيام ديدن الشريعة على فصل المتصلات يجعل الإنسان العرفي متقبّلاً مفسّريّةً بعض النصوص لبعض رغم الانفصال، فهذا وحده لا يكفي لإثبات أنّ ما كان قرينةً لدى الاتصال هو القرينة أيضا لدى الانفصال رغم أنّ نكتة القرينيّة كانت كامنةً فى نفس الاتصال لا في ذات القرينة، بل لابدّ من ضم ذلك إلى ما مضى من أنّ جعل ما كان قرينةً لدى الاتصال قرينة لدى الانفصال أولى من جعل ما لم يكن قرينةً لدى الاتصال قرينة لدى الانفصال، فكأنّ الدليل على قرينية الخاص على العام مثلاً صار مؤتلفاً من مقدمتين: الأولى: أنّ كون ديدن الشريعة على الفصل بين المتصلات جعل العرف يتقبل فرض قرينيّة أحدهما على الآخر رغم الانفصال. والثانية: أنّ قرينيّة ومفسّريّة ما كان كذلك في فرض الاتصال أولى من قرينيّة ومفسّريّة الآخر، وهذا رجوع إلى ما ناقشناه آنفاً.

292

ومن هنا نحن نبني في باب القرائن التي تفقد نكتة قرينيتها لدى الانفصال على أنّ المقياس فى التقديم والقرينية لدى الانفصال إنما هو الأقوائية، فلو فرض صدفةً كون العام أقوى من الخاص مثلاً في مورد، كان هو المقدّم على الخاص دون العكس.

الثاني _ دعوى الإجماع على التعامل مع العام والخاص وما شابههما في الشريعة معاملة المتّصلين.

إلا أنّ دعوى الإجماع التعبّدي في المقام _ كما ترى _ غير صحيحة، فلعلّ المجمعين الذين فهمنا إجماعهم من خلال عملهم وسيرتهم في الاستنباط كانوا يعتقدون بأقوائيّة ما قدّموه، أو كانوا يعتقدون بالقاعدة الميرزائيّة أو غير ذلك.

وبعد هذا يبقى الكلام في أنّه لو سلّمت القاعدة الميرزائيّة بأحد الوجهين الماضيين، أو سلّم بأحد الوجهين الأخيرين اللّذين أشرنا إليهما بلحاظ نصوص الشريعة، فهل يمكن تطبيق شيء منها على ما نحن فيه أو لا؟ فنقول:

أمّا الإجماع فليس له معقد خاص يتمسّك بإطلاقه، وهو دليل لبّي، والمتيقّن من مورده هو مورد الجمع بين المتعارضين كالعام والخاص، وروايات عدم حجّية خبر الواحد في الموضوعات المختلفة لا تعارض فيما بينها، فلو تمّ هذا الوجه لا ينطبق على المقام.

وأمّا ديدن الشريعة فهو على فصل المتّصلات لا على كون كلّ منفصلاته في الأصل متّصلات، فلو أثّر فإنّما يؤثّر في الأدلّة المتعارضة التي لو فرض الوصل بينها كان بعضها قرينةً على البعض، لا في الأدلّة التي لا تعارض فيما بينها، ومن المحتمل كونها من أساسها منفصلاً بعضها عن بعض، وما نحن فيه من هذا القبيل، لما أشرنا إليه من عدم التعارض فيما بين الروايات.

293

وأمّا القاعدة الميرزائيّة بتفسيرها الثاني _ وهي دعوى: أنّه وإن فرض فقد نكتة القرينيّة عند الانفصال، ولكنّ جعل ما كان قرينةً عند الاتصال قرينة عند الانفصال أولى عرفاً من جعل ما لم يكن قرينة عند الاتصال قرينة عند الانفصال _ فهذا الوجه مورده _ كما ترى _ فرض الدوران بين قرينيّة هذا وقرينيّة ذاك، وهذا فرضه فرض التعارض بين النصّين، بينما أشرنا إلى أنّه لا تعارض في ما بين النصوص في المقام.

وأمّا القاعدة الميرزائيّة بتفسيرها الأوّل، _ وهي دعوى: أنّ نكتة القرينيّة في حال الاتّصال دائماً تنحفظ في حال الانفصال _ فهذه أيضاً لو تمّت لا تنطبق على ما نحن فيه، وذلك لأنّ نكتة القرينيّة التي تكسر الظهور المعارض عند الاتّصال من المعقول أن تكسر الحجّية عند الانفصال رغم انحفاظ الظهور، فيكون الظهور الآخر هو الحجّة، ولكن التي تخلق ظهوراً ثالثاً بالاتّصال هل يمكن أن تخلق الحجّية عند الانفصال رغم عدم الظهور؟ كلّا. وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لِما عرفت من عدم وجود أيّ معارضة بين الروايات، فلا توجد قرينة تكسر ظهوراً عن الحجّية.

نعم، لو كان بعضها متّصلاً بالبعض لخُلق ظهور في إرادة القاعدة العامّة وهي عدم حجّية خبر الواحد في الموضوعات بما هي كذلك، لكن بسبب الانفصال لم يخلق ظهور من هذا القبيل، فما هو المبرّر لافتراض حجّية ظهور معلَّقٍ تحقُّقُه على الاتّصال؟!

نعم، يبقى أن يدّعي مدّعٍ _ بلا حاجة إلى التحليلات التي عرضناها للقاعدة الميرزائيّة _: أنّ الظهور التقديري المعلّق على اتّصال النصوص بعضها ببعض حجّة رغم عدم فعليّته بسبب الانفصال، وهذه الدعوى بالإمكان رفضها أو قبولها من دون نظر إلى التحليلات الماضية للقاعدة الميرزائيّة، والصحيح رفض هذه الدعوى.

وعليه فقد اتّضح أنّه لا يمكن أن نستظهر في المقام ردعاً للسيرة العقلائية بشكل

294

عام ولو آمنّا بقيامها على حجّية خبر الثقة في الموضوعات.

نعم، يبقى احتمال الردع الوارد في كلّ رواية من تلك الروايات، فإن اعتمدنا على هذا الاحتمال لإبطال حجّية السيرة فهو، وإلا _ كما لو قلنا بأنّ هذه السيرة قويّة لا يكفي في ردعها شيء من هذا القبيل، أو قلنا بأنّ هذه السيرة ممضاة في صدر الإسلام، فيجري استصحاب بقاء الإمضاء _ فقد ثبتت حجّية خبر الثقة في الموضوعات، إلا في الموارد الخاصّة التي ورد فيها الردع عنه، ثم لو سلّمنا حجّية خبر الثقة في الموضوعات إمّا بالسيرة، أو بالإطلاق المفهوم بمساعدة السيرة من نصوص حجّية خبر الثقة، فلا إشكال في أنّ هذا خاص بغير موارد النزاع؛ لأنّ انتفاء السيرة في موارد النزاع واضح جدّاً، فخبر الثقة في موارد النزاع كما ليست له حجّية قضائيّة كذلك ليست له حجّية ذاتية يجوز للشخص الثالث قبل القضاء أن يعتمد عليها كي تأتي شبهة انقلاب المدّعي منكراً في المقام.

وبعد، فالمختار لنا هو عدم حجّية خبر الثقة في الموضوعات: لا في موارد النزاع، ولا في الموارد التي يترقّب فيها النزاع كموارد الطلاق والنكاح، ولو لم يكن نزاع بالفعل، ولا في الموارد التي يُترقَّب تدخُّلُ الحاكم فيها كالهلال والحدود، ولا في الموارد الفرديّة البحت كالطهارة والنجاسة.

أمّا في موارد النزاع فالمسألة واضحة فقهيّاً، وعدم السيرة العقلائية على الحجّية أيضاً في غاية الوضوح.

وأمّا في موارد ترقُّب النزاع وموارد ترقُّب تدخُّل الحاكم _ كالطلاق والنكاح والهلال والحدود ونحوها _ فشرط البيّنة فيها، وعدم كفاية خبر الواحد ينبغي أن يُعدّ مسلّماً ولو على ضوء الروايات الماضية في الموارد الخاصّة.

وأمّا في الموارد الفرديّة البحت كالطهارة والنجاسة، فنحن أساساً لا نؤمن بدلالة

295

السيرة العقلائيّة على حجّية خبر الثقة كي يقال بشمولها للموضوعات، ويعتمد عليها ابتداءً بسبب عدم الردع، أو يستعان بها لتتميم بعض الإطلاقات للدلالة على حجّية خبر الواحد في الموضوعات، ونقول: إنّ السيرة على حجّية خبر الواحد إنّما هي متشرّعيّة، والمتيقّن منها باب الأحكام وما يلحق به كوثاقة الراوي للحكم، أمّا الموضوعات بشكل مطلق فلا.

نعم، لو علم العبد أنّ المولى أرسل فلاناً لإيصاله أمراً أو نهياً إليه، وشكّ في أنّه هل كلّ ما نقله إليه من المولى صحيح أو فيه ما هو صحيح وفيه ما هو خطأ، فقد يكون نفس إرسال المولى إيّاه قرينةً على اعتماد المولى على نقله وإعطائه للحجّية للكلام _ سواء ثبتت وثاقته عند العبد أو لا _ وهذا غير فرض قيام السيرة على حجّية خبر الثقة.

هذا، ونحن في إنكارنا للسيرة لا نقيم برهاناً على ذلك، كما أن المدّعين لها لم يقيموا برهاناً عليها؛ لأنّ فرض السيرة وعدمها ليس من الأمور القابلة للبرهنة عليها.

اجتماع الدعوى والإنكار

الأمر الثالث _ ذكر المحقّق العراقي(رحمه الله) في قضائه: أنّ صاحب الجواهر(رحمه الله) وقع في تناقض، حيث اختار في مسألة الخلاف في مقدار الأُجرة أنّ كلّاً ممن يدّعي الإيجار بالثمن الزائد أو الناقص مدّعٍ ومنكر، بينما اختار في تداعي من بيدهما العين الملكيّة أنّ كلّاً منهما مدّعٍ، ولا يصدق على أحدهما المنكر؛ لأنّ اليدين متساقطتان، وهذان الرأيان متهافتان؛ لأنّه إن فرض أنّ المقياس هو الحجّية الفعليّة فأصالة عدم الإيجار بالزائد مع أصالة عدم الإيجار بالناقص في المسألة الأُولى أيضاً متساقطتان، فالمفروض أن يكونا في المسألة الأُولى أيضاً مدّعيين فقط، وإن فرض أنّ المقياس هو