246

يصرّح بنفوذ علم القاضي؛ بينما هنا أبواب كثيرة ورد في بعضها من الأخبار ما شاء اللّه بشأن البيّنة وشروطها وأحكامها، والمفروض بمقاييس القضاء أن يرد ذكرٌ لها في الروايات ولو نادراً كما ورد ذكر البيّنة واليمين، ولم يرد ولو في حديث واحد ذكر لمقياسية علم القاضي غير الحسّي، فعلم القاضي الحسّي لو كان حجّةً كان من المعقول أن لا يرد نصّ خاصّ متصدٍ لبيان حجّيته؛ لأنّ حجّيته ارتكازية عند العقلاء، أمّا العلم الحدسي فلا ارتكاز لحجّيته؛ إذ من المعقول عند العرف والعقلاء افتراض عدم السماح للقاضي بالقضاء به؛ لأنّه يكثر فيه الخطأ. أفليس ورود الأخبار الكثيرة حول البيّنة وشروطها واليمين وعدم ورود نصّ واحد على نفوذ العلم الحدسي دليلاً قاطعاً على أنّ المقياس في نظر الشريعة عندما لا يوجد علم حسّي هو البيّنة واليمين دون العلم الحدسي؟! وبهذا الوجه يقيّد إطلاق مثل أدلّة القضاء بالحقّ والعدل المقتضي لنفوذ علم القاضي مطلقاً. فالنتيجة هي التفصيل بين العلم المستند إلى الحسّ أو ما يقرب من الحسّ والعلم غير المستند إلى الحسّ، فالأول نافذ، والثاني غير نافذ.

لا يقال: إنّ حجّية العلم الطريقي في إثبات متعلّقه عقليّة ومرتكزة عند العقلاء أيضاً ولو كان حدسياً، فإذا دلّ الدليل على وجوب القضاء بالحقّ والعدل كان علم القاضي ولو حدساً حجّة لإثبات كون القضاء الفلاني قضاءً بالحقّ والعدل، وكان هذا علماً طريقياً، فحجّيته واضحة ومرتكزة كحجّية العلم الحدسي، ولعلّه لهذا لم يرد نص خاص به.

فإنّه يقال: إنّ دليل وجوب القضاء بالحقّ والعدل وإن كان مقتضی إطلاقه القضاء بذلك ولو عن طريق العلم الحدسي، ولكن هذا لا يعني أنّ تمام الموضوع للقضاء هو ذات الحقّ من دون أن يكون قيام الحجّة عليه جزءاً للموضوع، بل المرتكز عند العقلاء خلاف ذلك؛ أي أنّ من قضى بالحقّ بلا حجّة يعتبر آثماً، لا

247

لمجرّد التجرّي، بل لعدم تماميّة موضوع جواز القضاء، فصحيح أن العلم بالحقّ أو أي حجّة أُخرى عليه طريق لإثبات أحد جزئي موضوع القضاء، لكنّه في نفس الوقت دخيل في موضوع القضاء في ارتكاز العقلاء، وعندئذٍ نقول: إنّ العلم إن كان حسّياً فهو كافٍ في جواز القضاء بالارتكاز، فعدم ورود نصّ متصدٍّ لبيان حجّيته أمر طبيعي. أمّا إذا كان حدسيّاً فعدم كفايته في القضاء أمر معقول ومحتمل عقلائيّاً؛ لكثرة الخطأ فيه، ولو كان كافياً في القضاء لكان المترقب ذكره في أحاديث مقاييس القضاء كما ذكرت البيّنة واليمين.

التفصيل بين العلم الحسي والحدسي

فالنتيجة إذاً هي التفصيل بين العلم الحسّي والعلم الحدسي، فالعلم الحسّي للقاضي حجّة أوّلاً: بالارتكاز غير المردوع عنه، وثانياً: بإطلاقات الأمر بالقضاء بالحقّ والعدل، وثالثاً: بما مضى من حديث سليمان بن خالد: «كيف أقضي فيما لم أرَ ولم أشهد؟» الدالّ على جواز القضاء بما رأى وشهد؛ بينما العلم الحدسي للقاضي غير حجّة بالبيان الذي عرفت.

ويمكن الاستدلال على هذا التفصيل بوجهين آخرين:

الأول _ ما مضى من حديث سليمان بن خالد عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «في كتاب علي (عليه السلام) أنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلى ربّه فقال: يا ربّ كيف أقضي فيما لم أرَ ولم أشهد؟ قال: فاوحى اللّه إليه: احكم بينهم بكتابي وأضفهم إلى اسمي فحلّفهم (تحلفهم) به، وقال: هذا لمن لم تقم له بيّنة»(1). بناءً على أنّ قوله: «فيما لم أرَ ولم أشهد» إشارة إلى مطلق العلم الحسّي أو ما يقرب من الحسّ، أو أنّ العرف يتعدى


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص167، الباب الأول من كيفيّة الحكم، ح1

248

من فرض الرؤية إلى مطلق العلم الحسّي أو ما يقرب من الحسّ، وحينئذٍ فالحديث دلّ على حصر القضاء باليمين والبيّنة في غير مورد العلم الحسّي أو ما يقرب من الحسّ والقصّة وإن وقعت في زمن الأنبياء السالفين، لكنّ الظاهر من نقلها في هذا الحديث إمضاء ما فيها من حكم، والظاهر من البيّنة الواردة في آخر الحديث _ حسب ما هو متعارف في باب القضاء _ هو شهادة عدلين لا مطلق ما أفاد العلم.

وقد يقال في مقابل هذا البيان: إنّه كما يمكن تقييد إطلاقات الحكم بالحق والعدل بهذا الحديث كذلك يمكن العكس؛ بأن يقال: إنّ هذا الحديث حصر بإطلاقه مقياس القضاء في غير موارد العلم الحسّي باليمين والبيّنة، ونحن نقيّد هذا الإطلاق بعطف العلم غير الحسي على اليمين والبيّنة؛ لدلالة أدلّة الحكم بالحقّ والعدل على حجّيته، وليس تقييد تلك الأدلّة أولى من تقييد هذا الحديث.

هذا، ولكن قد يقال: إنّ المفهوم من قوله: «كيف أقضي فيما لم أرَ ولم أشهد» أنّه كان المركوز في ذهن هذا النبي أنّ القضاء أوّلاً وبالذات ينبغي أن يكون بالعلم الحسّي، فتحيّر في كيفيّة القضاء في غير مورد وجود العلم الحسّي، فاستفسر، فجاء الجواب بالقضاء باليمين والبيّنة. وهذا مع ما نعلمه من كثرة حصول العلم غير الحسّي للقاضي يعتبر كالمتصدّي بالخصوص لعدم حجّية العلم غير الحسّي، فتعيّن تقييد إطلاقات الحكم بالحق والعدل.

ولكنّ الإنصاف أنّ هذا الوجه غير تام؛ فإنّ قوله: «كيف أقضي في ما لم أرَ ولم أشهد؟»كما يحتمل فيه كونه ذكراً للرؤية والشهادة بما هي فرد للعلم الحسّي أو ما يقرب من الحسّ، كذلك يُحتمل فيه كونه ذكراً لها بما هي فرد للعلم، فصحيح أنّ المتيقن من ذلك هو العلم الحسّي، فلو أُريد الاستدلال بهذا الحديث على حجّية علم القاضي لم يدل على أكثر من حجّية العلم الحسّي أو ما يقرب من الحسّ، ولكن

249

ليست فيه دلالة على عدم حجّية العلم الحدسي.

الثاني _ الروايات الدالّة على أنّ الشهادة يجب أن تكون عن حسّ أو ما يقرب منه، بدعوى التعدّي من الشهادة إلى القضاء لعدم احتمال الفرق، أو أهونيّة الشهادة من القضاء عرفاً، كالحديث الوارد تارةً عن علي بن غياث، وأُخرى عن علي بن غراب عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «لا تشهدنّ بشهادةٍ حتى تعرفها كما تعرف كفّك»(1). وما عن المحقّق في الشرائع عن النبي (صلى الله عليه و آله) وقد سئل عن الشهادة قال: «هل ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد، أودع»(2). فإذا تعدينا من باب الشهادة إلى باب القضاء قيّدنا بذلك إطلاقات القضاء بالحقّ والعدل، إلا أنّ هذه الروايات غير تامّة سنداً، ولو تمّت قلنا: إنّ احتمال الفرق عقلاً بين باب الشهادة وباب القضاء وارد، فلا يمكن التعدّي إلى باب القضاء عقلاً، كما أنّ احتمال الفرق عرفي فلا يمكن التعدّي من تلك الروايات _ لو تمّت سنداً _ إلى باب القضاء بدعوى إلغاء العرف الخصوصيّة. ووجه الفرق المحتمل عقلاً وعرفاً بين البابين هو أنّ الشاهد ليس أمره دائراً بين أن يشهد بالحقّ أو بالباطل، فلو كان علمه غير حسّي فليسكت ولا يشهد، ولكن ماذا يصنع القاضي فيما يكون علمه غير حسّي، وقد قام الدليل القضائي من اليمين أو البيّنة على خلاف علمه؟ فأمره دائر بين قضائه بعلمه وقضائه بما يعلم بخطئه. أمّا احتمال أن يحرم عليه القضاء، ويجب عليه السكوت فهو غير وارد لا في الفقه الإسلامي ولا في المرتكزات العرفيّة العقلائيّة.


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص235، الباب 8 من الشهادات، ح3، و الباب 20، ص250، ح1.

(2) نفس المصدر، ص251، الباب 20 من الشهادات.

250

علم القاضي مع شاهد واحد

يبقى الكلام في أنّ علم القاضي الذي يمكنه أن يشهد به لو لم نقل بنفوذه في القضاء بأن يقضي به بلا حاجة إلى البيّنة، فهل نقول بنفوذه كشاهد بأن يصحّ له القضاء بمجرّد أن ينضمّ إليه شاهد آخر، أو لا؟

لا موضوع لهذا البحث بناءً على مسلك الفقه الوضعي القائل بعدم اشتراط تعدد الشاهد في البيّنة.

أمّا لو فُرض شرط التعدّد افتراضاً فالمفهوم من الفقه الوضعي هو عدم نفوذه كجزء من البيّنة حينما نحتاج إليها، فإنّ نكتة عدم نفوذ علم القاضي عندهم هي أنّ للخصم أن يناقش الدليل، فإذا كان الدليل هو علم القاضي أصبح القاضي خصماً، أو أنّ القاضي إذا كان شاهداً في نفس الوقت فقد تأثّر بشهادته، فلا يصلح للقضاء وفصل الخصومة كما مضى ذلك في أوّل بحث قضاء القاضي بعلمه. وهذه الوجوه _ كما ترى _ تأتي أيضاً في ما إذا فرض القاضي أحد الشاهدين في البيّنة.

وعلى أيّ حالٍ فمن وجهة نظر فقهنا الإسلامي بالإمكان أن يقال: إنّ أدلّة حجّية الشهادة في باب القضاء منصرفة عن شهادة نفس القاضي، فهي تبيّن حجّية شهادة من يشهد لدى القاضي لا شهادة نفس القاضي، فالذهن لا ينتقل من الشهادة أو البيّنة إلى شهادة الإنسان لدى نفسه.

وفي مقابل ذلك قد يقال: إنّ وضوح عدم الفرق عقلائيّاً بين شهادة القاضي وشهادة أيّ عدلٍ آخر، وعدم تصوّر أيّ ضعفٍ في شهادة العدل حينما يصبح قاضياً يجعل العرف يفهم من دليل نفوذ البيّنة في باب القضاء الإطلاق، وكيف يحتمل العرف الفرق مثلاً بين أن يقضي هذا القاضي وفق شهادته وشهادة عدل آخر إلى جانبه، أو أن يذهب هو بصحبة ذاك العدل إلى قاضٍ آخر كي يحكم هو بشهادتهما؟!

251

فإن تمّ هذا الكلام ثبتت حجّية البيّنة التي يكون القاضي جزءاً منها، وإن لم يتمّ هذا الكلام، فقد يقال: إنّه لا دليل على حجّية البيّنة حتى مع غضّ النظر عمّا أشرنا اليه من إمكانيّة دعوى الانصراف؛ إذ لا إطلاق حَكَمي في أدلّة نفوذ البيّنة في باب القضاء لشهادة القاضي، فمثلاً قوله (صلى الله عليه و آله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» إنّما هو بصدد بيان حصر مدرك قضائه بالبيّنات والأيمان، أمّا ما هي شروط البيّنات؟ وهل تكفي شهادة نفس القاضي عن أحد فردي البيّنة؟ فليس الحديث بصدد بيان ذلك. وما مضى من حديث سليمان بن خالد الدالّ على القضاء بالبيّنات والأيمان قد فرض فيه عدم رؤية القاضي للواقعة؛ حيث قال النبي: «يا ربّ كيف أقضي فيما لم أرَ ولم أشهد؟» فكيف يمكن افتراض تماميّة الإطلاق الحَكَمي فيه لشهادة نفس القاضي؟! وما ورد من أحاديث كون البيّنة على المدّعي واليمين على المنكر(1) إنّما هي بصدد بيان من عليه البيّنة لا بصدد بيان شرائط البيّنة، وأنّه هل يجوز أن يكون القاضي جزءاً من البيّنة أو لا؟ وما ورد من قبول شهادة المحدود بعد التوبة(2)، أو قبول شهادة المسلم على الكافر(3) أو نحو ذلك أيضاً _ كما ترى _ ليس بصدد البيان من هذه الناحية، فإذا لم يتمّ إطلاق حَكَمي في أدلّة الحجّية القضائية للبيّنة وصلت النوبة إلى اليمين.

وقد يُقال: إنّما تصل النوبة إلى اليمين لو قلنا بانصراف البيّنات في قوله (صلى الله عليه و آله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» إلى بيّنة لا يكون القاضي جزءاً منها: أمّا لو لم نقل بالانصراف ولم يتمّ الإطلاق أيضاً فقد بقينا حائرين لا ندري ماذا نصنع؟ إذ لا يوجد


(1) راجع وسائل الشيعة، ج 18، الباب 3 من كيفيّة الحكم.

(2) راجع نفس المصدر، الباب 36 و 37 و 38 من الشهادات.

(3) نفس المصدر.

252

دليل على حجّية البيّنة؛ لعدم الإطلاق حسب الفرض، ولا دليل على حجّية اليمين؛ لأنّ اليمين إنّما تصل النوبة إليه بعد عدم البيّنة الحجّة، ونحن نحتمل في المقام كون البيّنة حجّةً، فإنّه وإن لم يدل الدليل على حجّيتها لكنّه لم يدل أيضاً على عدم حجّيتها.

والجواب على ذلك: أنّ المفهوم عرفاً ممّا دلّ على كون اليمين هو المرجع بعد فقد البيّنة الحجّة كونه حجّةً بعد فقد البيّنة التي تتوفّر فيها الحجّية القضائية الفعلية، والمفروض في المقام أنه لم تصبح حجّية البيّنة فعليةً؛ لأنّها لم تصل إلينا.

وفي الختام لا بأس بأن نشير إلى أنّ الكتابة والقرائن اللتين جعلهما الفقه الوضعي من طرق الإثبات في باب القضاء، ووقع البحث المفصّل حولهما عندهم، تكون كلمتنا الإسلامية بشأنهما أنّهما متى ما أوجبتا العلم الذي يُعَدُّ من الحسّ أو ما يقرب من الحسّ دخلتا في القضاء بالعلم وإلا فلا عبرة بهما.

253

طرق الإثبات في الفقه الإسلامي

2

 

 

البيّنة

 

 

  1- معنى المدّعي والمنكر

  2- شرائط البيّنة

  3- هل تجري البيّنة واليمين على عكس القاعدة؟

  4- مدى نفوذ بيّنة المنكر

  5- تعارض البيّنتَين

 

 

255

البيّنة

الطريق الثاني: البيّنة.

قد اتّفقت كلمة الشريعة الإسلامية والفقهاء الوضعيين على أنّ القاعدة الأوليّة في باب القضاء هي مطالبة المدّعي بالبيّنة، ومطالبة المنكر باليمين، ففي الحديث بسند تام عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله): البيّنة على من ادّعى واليمين على من ادّعي عليه»(1).

وقال أحمد نشأت في كتابه رسالة الإثبات المكتوب وفق القضاء الوضعي:

«وممّا تقدم يمكن وضع القاعدة الآتية: المكلّف بالإثبات هو من يدّعي خلاف الثابت أصلاً أو عرفاً، أو خلاف الظاهر، أو خلاف قرينة قانونيّة غير قاطعة، أو خلاف قرينة قضائيّة....

والقاعدة الرومانيّة: أنّ المدّعي هو المكلف بالإثبات، وأنّ المنكر لا يلزم بإثبات....

والقاعدة الإنجليزية: أنّ من يدّعي حقّاً أو يدفعه، أي يدّعي التخلّص منه عليه الإثبات.


(1) وسائل الشيعة، ج18، الباب 3 من كيفيّة الحكم، ح1

256

41_ أمّا القاعدة الفرنسية، فكما جاء في المادّة 1315 من القانون المدني الفرنسي (التي تقابل عندنا المادّة 289 من القانون المدني القائم، وهي: «على الدائن إثبات الالتزام، وعلى المدين إثبات التخلّص منه» وبمعناها المادّة 214 / 278 من القانون المدني السابق) هي: من يطالب بتنفيذ تعهّد وجب عليه إثباته، ومن ادّعى التخلّص وجب عليه إثبات الدفع الذي انقضى به ذلك التعهّد...»(1).

وعلى أيّ حالٍ، فالكلام في البيّنة يقع ضمن عدّة أبحاث:

1_ معنى المدّعي الذي عليه البيّنة في مقابل المنكر.

2_ شرائط البيّنة.

3_ هل يوجد مورد للاستثناء من القاعدة المعروفة، أي قاعدة «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر»؟ وما هو ذلك المورد؟

4_ هل تقبل البيّنة من المنكر؟

5_ تعارض البيّنات.


(1) رسالة الإثبات، ج 1، ص70 _ 71، الفقرة 39 إلى41

257

البيّنة

1

 

 

معنى المدّعي والمنكر

 

 

  1- تعريف المدّعي

  2- العبرة بالمصبّ أو بالنتائج؟

  3- تعيين المنكر بخبر الثقة

  4- اجتماع الدعوى والإنكار

  5- مصبّ النزاع بين المدّعي والمنكر

 

 

259

البحث الأول _ معنى المدّعي والمنكر:

تعريف المدعي

وقد ذكرت كلمات كثيرة في تعريف المدّعي من قبيل:

1_ ما ذكره المحققّ في الشرائع من أنّه: «هو الذي يُترك لو ترك الخصومة».

قال في الجواهر: «وقيل: إنّه المشهور» أي هذا التفسير هو المشهور(1).

ويعطي نفس المعنى ما قد يقال: من أنّ المدّعي هو الذي يخلّى وسكوته(2).

2_ إنّ المدّعي هو الذي يكون قوله خلاف الظاهر، ونُسب ذلك إلى مشهور العامّة(3).

3_ إنّ المدعي هو الذي يكون قوله خلاف الأصل(4).

وقد ذكر في القواعد هذه التعاريف الثلاثة بقوله: «المدّعي هو الذي يُترك لو ترك


(1) راجع الجواهر، ج 40، ص 371.

(2) راجع نفس المصدر، ص 375.

(3) راجع نفس المصدر.

(4) راجع نفس المصدر، ص 372.

260

الخصومة، أو الذي يدّعي خلاف الظاهر، أو خلاف الأصل»(1).

4_ وقد يمزج بين التعريف الثاني والثالث فيقال: إنّ المدّعي هو الذي يدّعي خلاف الأصل أو أمراً خفيّاً(2).

ولعلّ المراد بهما شيء واحد؛ بأن يقصد بالأصل الظاهر.

والذي ينبغي أن يكون مقصوداً بالأصل _ بناءً على جعله في مقابل الظاهر؛ كي يتحقّق التغاير بين التعريفين الثاني والثالث _ هو ما يكون ثابتاً شرعاً بغضّ النظر عن المرافعة والقضاء؛ سواء كان ثابتاً بظهورٍ حجّة، أو بأصل شرعي، أو بأيّة قاعدةٍ شرعيّةٍ. والحاصل أنّ المقصود بالأصل ينبغي أن يكون هو الحجّة.

5_ واختار المحقّق الآشتياني (رحمه الله): أنّ المرجع هو العرف، فكلّ من أطلق عليه العرف المدّعي يحكم عليه بما هي وظيفته شرعاً سواء وافق قوله الأصل والظاهر، أو خالفهما، أو وافق أحدهما وخالف الآخر(3).

6_ واختار السيد الخوئي: أنّ المقياس في المدّعي هو من يرى العرف بشأنه أنّ عليه مؤونة الإثبات(4).

واختار صاحب الجواهر (رحمه الله) أنّ الأَولى هو الإرجاع في تمييز المدّعي من المنكر إلى العرف، وذكر: أنّ اختلافاتهم في التعاريف ليست اختلافات حقيقيّة في معنى المدّعي وإن رتّب بعضهم الأحكام عليها عند اختلاف مقتضاها. فهو (رحمه الله) يرى أنّ افتراض ثمرات علميّة تترتب على هذه التعاريف _ كما عن بعضهم _ غير صحيح،


(1) قواعد الأحكام ، ص 208.

(2) الجواهر ، ج 40 ، ص 372.

(3) كتاب القضاء للآشتياني ، طبع طهران، ص 336.

(4) مباني تكملة المنهاج ، ج 1 ، ص 42. وبحسب طبعة مؤسسة الإمام الخوئي، ج 41 ، ص 51.

261

وأنّ هذه التعاريف هي تعاريف ببعض الخواصّ اللازمة أو الغالبة لإرادة التمييز في الجملة(1).

7_ وورد في بعض عبائره (رحمه الله): «أنّ المراد به _ يعني المدّعي _ الذي قام به إنشاء الخصومة في حقّ له، أو خروج من حقّ عليه سواء وافق الظاهر والأصل بذلك أو خالفهما، وسواء تُرِك مع سكوته أو لم يُترَكْ، فإنّ المدّعي عرفاً لا يختلف باختلاف ذلك»(2).

أقول: لا ينبغي الإشكال في أنّ المرجع هو العرف بعد عدم ورود حقيقة شرعيّة أو متشرّعيّة لكلمتي المدّعي والمنكر، ولكنّ الكلام في أنّه هل يكون أحد التعاريف المتقدّمة مطابقاً لفهم العرف أو لا؟ وهل هناك ضابط فنّي لتحديد ما يقوله العرف في المقام أو لا؟

كما أنّ ما ذكره السيد الخوئي من أنّ المدّعي هو الذي يرى العرف أنّ عليه مؤونة الإثبات أيضاً لا كلام لنا فيه؛ لأنّ قاعدة «أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر» هي شرعيّة وعرفيّة في نفس الوقت، فطبيعي أن يكون من عليه الإثبات عند الشرع هو من عليه الإثبات عند العرف وإن وقع بينهما خلاف أحياناً في ذلك بسبب الاختلاف في تشخيص المصداق، وإنّما الكلام في أنّه هل هناك ضابط فنّي لتحديد المدّعي، ولتحديد من عليه الإثبات أو لا؟

والواقع: أنّ المدّعي بمعناه اللغوي صادق على المنكر أيضاً، فإنّه يدّعي الإنكار، ودعوى النفي كدعوى الإثبات تكون دعوى لغةً لا محالة، والمفهوم عرفاً من كلمة


(1) الجواهر، ج 40، ص 371 و ص 374 - 375.

(2) نفس المصدر، ص 376.

262

المدّعي في مقابل المنكر هو من يدّعي شيئاً جديداً على المنكر، وإلا فكلاهما مدّعٍ كما قلنا، ومعنى كونه يدّعي شيئاً جديداً عليه هو أنّه يلزمه بأمر على خلاف ما هو ثابت لولا القضاء، فالمنكر سمّي منكراً لأنّه يدفع عن نفسه الشيء الجديد الذي هو على خلاف الطبع الأوّلي الثابت، والمدّعي سمّي مدّعياً لأنّه يلزمه بدعوى جديدة، وهذا يعني أنّ الصحيح من التعاريف السابقة هو تعريف المدّعي بأنّه هو الذي يكون قوله خلاف الأصل أو الحجّة، أو تعريفه بأنّه الذي لو تَرك تُرك على تفسير سيأتي من المحقّق العراقي (رحمه الله).

أمّا تعريفه بأنّه الذي يكون قوله خلاف الظاهر فبالإمكان تأييده بأنّ معنى المدّعي يجب أن نأخذه من العرف كما أسلفنا، والعرف يرجع إلى ما هو الظاهر لديه، فمن يدّعي خلافه يراه مدّعياً.

ولكنّ الواقع أنّ الظاهر الذي ليس حجّةً لدى العرف لا يبني عليه العرف، ولا يفترض من يخالفه مدّعياً لشيءٍ جديد، والظاهر الذي يكون حجّة لديه يفترض من يخالفه مدّعياً، لا لأنّ كلامه خلاف الظاهر، بل لأنّ كلامه خلاف الحجّة، والحجّة عند الشرع إن تطابقت مع الحجّة عند العرف اتّحد المدّعي لدى الشرع ولدى العرف، وإن اختلفت معها اختلف المدّعي لدى الشرع عن العرف، لا بمعنى الاختلاف في تفسير معنى المدّعي، بل بمعنى الاختلاف في التطبيق. فإن أراد من يفسّر المدّعي بمن خالف قوله الظاهر هذا المعنى فقد رجع ذلك إلى التفسير المختار.

وأمّا تعريف المدّعي بأنّه الذي لو تَرك تُرك، أو الذي يُخلّى وسكوته، فإن فُسِّر بمعنى من بيده _ عملاً _ رفع النزاع إلى الحاكم، ولو جلس في بيته لانتهى النزاع، فهذا واضح البطلان؛ إذ لا أتصوّر أحداً يقبل أن يقال: إنّ من يدّعي أداء الدين منكر ومن ينكره هو المدعي؛ إذ لو سكت هذا المنكر _ أي من ينكر أداء الدين _

263

وجلس في بيته لانتهى النزاع عملاً.

وإن فُسّر بما فسر به المحقّق العراقي (رحمه الله): من أنّ المدّعي هو الذي لو ترك إِلزام الآخر بخلاف الحجّة الفعليّة، وأبقى الوضع على طبعه الأَوّلي لتُرك، وانتهت الخصومة(1)، فهذا صحيح وراجع إلى التعريف الثالث من كون المدّعي من يخالف الأصل.

أمّا ما جاء في بعض عبائر الجواهر من «أنّ المراد به الذي قام به إنشاء الخصومة في حقّ له، أو خروج من حقّ عليه»، فكان بالإمكان إرجاعه إلى التعريف الأول، أو التعريف الثالث لولا تكميل العبارة بقوله: «سواء وافق الظاهر والأصل بذلك أو خالفهما، وسواء ترك مع سكوته أو لم يترك...». أمّا بعد إضافة هذه التكملة فالعبارة مشوّشة.

هذا، ومن الغريب ما جاء في الجواهر كمناقشة لتعريف المدّعي بأنّه من خالف قوله الأصل _ لو لم يحمل على مجرد الإشارة إلى معنى عرفي _: من أنّه قد يناقش في هذا التعريف بأنّ فيه إجمالاً؛ لأنّه إن كان المراد مخالفة مقتضى كلّ أصل بالنسبة إلى تلك الدعوى فلا ريب في بطلانه؛ ضرورة أَعمّيّة المدّعي من المخالفة للأصل، فإنّ كثيراً من أفراده موافق لأصل العدم وغيره، ولكنّه مخالف لأصل الصحّة ونحوه، وإن أُريد مخالفة أصلٍ في الجملة فلا تمييز فيه عن المنكر الذي قد يخالف أصلاً من الأصول(2).

وفيه: أنّ المقياس هو الأصل الذي يكون حجّةً في المقام لولا النزاع، وهو حتماً


(1) كتاب القضاء، ص 104 _ 105.

(2) الجواهر، ج 40، ص 373.

264

بعض هذه الأصول المتضاربة لا كلّها.

وعلى أيّ حال، فخلاصة الكلام هي: أنّ عمدة التعاريف هي التعاريف الثلاثة الأُولى، والمختار منها هو الثالث إن فُسّر الأصل بمعنى الحجّة، أو الأول بالتفسير الذي استفدناه من كلام المحقّق العراقي (رحمه الله) والذي يرجع به إلى التفسير الثالث.

بقيت هنا أمور:

العبرة بالمصبّ أو بالنتائج؟

الأمر الأول _ هل العبرة في تشخيص المدّعي والمنكر بمصبّ الدعوى، أو النتائج التي يُلزم بها أحد الطرفين؟

ذكر صاحب الجواهر (رحمه الله) في مسألة الاختلاف في مقدار الأُجرة في إيجار العين: أنّ المشهور هو: أنّ القول قول المستأجر بيمينه، إلى أن قال: «قد يقال: إنّ المتّجه التحالف إذا فرض كون مصبّ الدعوى منهما في تشخيص العقد الذي سبَّب الشغل _ يعني هل هو العقد علی الخمسة، أو العقد على العشرة مثلاً _ ... نعم، لو كانت الدعوى بينهما في طلب الزائد وإنكاره وإن صرّحا بكون ذلك من ثمن الإجارة، كان الموجر حينئذٍ المدّعي والمستأجر المنكر، بخلاف الأول الذي لا يشخّص الأصل أحدهما؛ إذ كلّ منهما أَمر وجودي والأصل عدمه، والفرض أنّه شخص واحد لا شخصان»(1).

أقول: إنّ هذه العبارة صريحة في فرض أنّ العبرة في تشخيص المدّعي والمنكر بمصبّ الدعوى، كما أنّ ما عن المشهور من كون القول قول المستأجر بيمينه يعني أنّ العبرة بالنتيجة.


(1) الجواهر، ج40، ص 456 - 458

265

ولا يخفى أنّ هذا البحث لا مجال له بناءً على أنّ الضابط في تشخيص المدّعي والمنكر هو مخالفة الظاهر وموافقته، فإنّ مصبّ الدعوى والنتيجة متلازمان في الظهور وعدمه، فإنّ النتيجة هي ثمرة ذاك المصبّ، والمصبّ هو مُنتِج تلك النتيجة، وما يكون ظاهراً في أحدهما فهو ظاهر في ملازمه لا محالة.

كما لا مجال أيضاً لهذا البحث بناءً على أنّ الضابط في تشخيص المدّعي والمنكر هو أن يكون الذي إذا تَرك تُرك مدّعياً والآخر منكراً _ ما لم يرجع الى مسألة مخالفة الأصل وموافقته بالتوجيه الذي مضى من المحقق العراقي (رحمه الله)_؛ إذ من الواضح أنّ من يترك إلزام الآخر بالنتيجة وهي الخمسة الزائدة في المثال الماضي هو الذي لو تَرك الخصومة تُرك، ومصبّ الدعوى لا يلعب دوراً مغايراً لذلك.

وإنّما الذي يمكن أن يتصور بدواً _ من التعريفات الثلاثة المهمّة للمدّعي _ مورداً لفتح بحث من هذا القبيل _ وهو البحث عن أنّ المقياس هل هو مصبّ الدعوى أو النتيجة _ هو التعريف المختار، وهو أنّ المدّعي من خالف قوله الأصل، والمنكر من وافق قوله الأصل، أو أنّ المدّعي من إذا تَركَ تُرك بالتفسير الماضي عن المحقّق العراقي (رحمه الله)، فيقُال مثلاً في مسألة الاختلاف في مقدار الأُجرة _ إذا جَعَلا مصبّ النزاع نفس الإيجارين _: إنّه بناءً على كون المقياس هو مصبّ الدعوى فكلّ منهما مدّعٍ لعقد على خلاف الأصل ومنكر لعقد آخر، وبناءً على كون المقياس النتيجة فالموجر مدّعٍ والمستأجر منكر؛ لأنّ الموجر يدّعي مبلغاً إضافياً ينكره المستأجر.

وذكر المحقّق العراقي (رحمه الله): أنّ الصحيح هو أنّ المقياس قيام الحجّة على نفي الجهة الملزمة المترتبة على الدعوى، لا الحجّة على محطّ الدعوى محضاً؛ لأنّ المدّعي هو الذي لو ترك مخالفة الإلزام الثابت بالأصل والحجّة لتُرك، وهذا إنّما يصدق على من يطالب بالإلزام بالنتيجة التي يكون مقتضى الأصل والحجّة خلافها. أمّا مجرد كون

266

دعواه للإيجار على الخمسة مثلاً خلاف أصالة عدم هذا الإيجار، فلا يجعله بحيث لو ترك مخالفة ما عليه _ عملاً بمقتضى القواعد الأوّلية لولا النزاع _ لتُرك(1).

أقول: هذا البيان إنّما جاء بعد فرض إرجاع التعريف بمن إذا تَرك تُرِك إلى التعريف بمخالفة الأصل، مع الاحتفاظ بعنصر أنّ تركه يوجب الترك، أمّا لو قلنا بمجرّد أنّ المدّعي من خالف قوله الأصل فلم يظهر لحدّ الآن أنّ المقياس هو مصبّ الدعوى أو النتيجة.

وذكر أُستاذنا الشهيد (رحمه الله)(2) _ فيما لو اختلفا في نقل أحدهما للكتاب مثلاً إلى الآخر، هل كان بالبيع أو بهبة لازمة؟ والذي يترتب على ذلك أنّه على الأول له المطالبة بالثمن، ومع عدم تسليمه فله خيار الفسخ، وعلى الثاني ليس له هذا ولا ذاك _ أنّ في بحث القضاء كلاماً حول أنّ تشخيص المدّعي والمنكر هل يكون بنفس مصبّ الدعوى، أو بالإلزامات التي يدّعيها أحدهما على الآخر؟ والمختار هو الثاني، ولو فرضنا الأول وهو كون تشخيص المدّعي والمنكر بلحاظ مصبّ الدعوى، فقد يتوهّم أنّ المورد مورد التحالف. ولكنّ التحقيق أنّ من يدّعي البيع هو المدّعي، وأنّ الحلف يكون لمن يدّعي الهبة؛ لأنّ تحالفهما فرع أن تكون هناك خصومتان: خصومة حول البيع، وخصومة حول الهبة، وليس الأمر كذلك، فإنّه وإن كان هناك تكاذبان ولكن ليس كلّ تكاذبٍ تطبّق عليه قوانين الخصومة؛ مثلاً لو تكاذب شخصان في نزول المطر وعدمه من دون أن يكون ذلك مثمراً لثمرٍ إلزامي لأحدهما على الآخر، فهل هذا يعتبر خصومة ترفع إلى الحاكم؟! طبعاً لا. والهبة في ما نحن فيه من هذا


(1) كتاب القضاء للمحقق العراقي، ص 105.

(2) مأخوذ من تقريري لأصوله (رحمه الله) لآخر بحث القطع في الفرع الرابع من فروع فرضيّة ترخيص الشارع لمخالفة القطع. راجع مباحث الأصول، الجزء الأول من القسم الثاني، ص 248 و253.

267

القبيل؛ إذ لا يترتب على الهبة شيء عدا ملكيّة الكتاب التي هي مترتبة على البيع أيضاً، فكلاهما معترفان بها، فدعوى الهبة لم توجب خصومة بينهما، وإنّما التي أوجبت الخصومة هي دعوى البيع التي يترتب عليها إلزام المشتري بالثمن وثبوت الخيار على تقدير عدم تسليم الثمن....

أقول: هذا البيان في غاية المتانة؛ إلا أنّه لم يكن ينبغي الاعتراف بالإثنينيّة بين فرض كون المقياس لتشخيص المدعي والمنكر هو النتيجة الالزامية أو هو مصبّ الدعوى واختيار الأول وجعل هذا البيان دليلاً على أنّه حتى على الثاني يكون مدّعي البيع فى المقام هو المدّعي ومدّعي الهبة هو المنكر، بل كان ينبغي أن يجعل هذا البيان دليلاً على أنّ البحث عن كون المقياس في تشخيص المدّعي هو مصبّ الدعوى أو النتيجة الإلزامية لا مورد له حتى على مبنى كون المدّعي هو من يخالف قوله الأصل أو أنّه من إذا تَرك تُرِك بتفسير يشابه التفسير بمخالفة الأصل؛ وذلك لوضوح أنه إذا أخرجنا من الحساب الدعوى التى لا تؤثّر على النتيجة، فالأصل في الدعوى الأخرى التى تؤثّر على النتيجة مع الأصل فى النتيجة إمّا يتوافقان، أو يتقدّم أحدهما على الآخر بالحكومة فيكون أصلاً للمصبّ والنتيجة معاً.

هذا، واستدلّ المحقّق العراقي (رحمه الله)(1) أيضاً على كون المقياس هو الأصل في النتائج والإلزامات لا في مصبّ الدعوى بالحديث الوارد في الاختلاف حول دعوى الوديعة أو الرهن، وهو ما ورد بسند تام عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال في رجل رهن عند صاحبه رهناً، فقال الذي عنده الرهن: ارتهنته عندي بكذا وكذا، وقال الآخر: إنّما هو عندك وديعة، فقال: «البيّنة على الذي عنده الرهن أنّه بكذا


(1) كتاب القضاء، ص 105 _ 106

268

وكذا، فإن لم يكن له بيّنة فعلى الذي له الرهن اليمين»(1)؛ إذ لو كان المقياس هو الأصل في مصبّ الدعوى، لكان المورد مورداً للتداعي؛ لأنّ كلّاً من الوديعة والرهن أمر وجودي محكوم بأصالة العدم.

إلا أنّه يوجد في مقابل هذا الحديث ما دلّ على أنّ البيّنة على مدّعي الوديعة واليمين على مدّعي الرهن، فقد يُقال: إنّ هذا يدل على أنّ المقياس في تشخيص المدّعي هو المصبّ لا النتيجة، فإنّ الرهن والوديعة مصبّان للدعوى، فيفترض أنّ يده على هذه العين دليل على صدق دعواه للرهن، ولو كان المقياس هو النتيجة لجرت أصالة عدم الدين.

وحتى لو لم يدل على أنّ المقياس هو المصبّ، بل دلّ على أنّ المقياس هو النتيجة كما هو الحال في الحديث الأول، فبعد تعارض الحديثين في أنّ المدّعي هل هو من يدّعي الرهن أو هو من يدّعي الوديعة وتساقطهما، لا يبقى لنا دليل روائي على كون المقياس هو النتيجة.

إلا أنّ الصحيح عدم وجود تعارض بين الحديثين كما يظهر بالتدقيق في متن الحديث الأول، وقد مضى، وفي متن الحديث الثاني وهو ما ورد بسند تام عن عباد ابن صهيب، قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن متاعٍ في يد رجلين، أحدهما يقول: استودعتكه، والآخر يقول: هو رهن. قال: فقال: القول قول الذي يقول هو أنّه رهن، إلا أن يأتي الذي ادّعى أنّه أودعه بشهود»(2).

فبالتدقيق في الحديثين يظهر أنّ موضوع الحديث الأول هو الاختلاف في الرهن


(1) وسائل الشيعة، ج 13، ص136، الباب 16 من أحكام الرهن، ح1.

(2) نفس المصدر، ص137، ح3.

269

والدَين؛ إذ يقول: «فقال الذي عنده الرهن: ارتهنته عندي بكذا وكذا»، ويقول: «البيّنة على الذي عنده الرهن أنّه بكذا وكذا»، وهذا ظاهره أنّ من يدّعي الوديعة ينكر الدَين المفروض كون هذا رهناً له، وفي هذا الفرض يكون الأصل مع مدّعي الوديعة؛ لأنّ الدَين خلاف الأصل، ويده على العين ليست عرفاً أمارة على صدقه في دعوى الرهن في مقابل مالك العين الذي اقتضى الأصل براءة ذمّته عن الدَين، أي أنّ أماريّة هذه اليد على الدَين غير عرفيّة، وأماريّتها على الرهنيّة حتى مع نفي الدَين بالأصل أيضاً غير عقلائيّة.

أمّا في الحديث الثاني فلم يأتِ أيّ ذكر عن الدَين، وإنّما فُرض فيه الاختلاف في الرهن والوديعة، وهذا ينسجم حتى مع افتراض كون الدَين متّفقاً عليه في ما بينهما، وإنّما الخلاف في الرهن على ذاك الدين وعدمه، فإذا فرض النزاع في عنوان الرهن والوديعة فحسب ولم يفرض أيّ نزاعٍ آخر، قيل: إنّ الأصل مع مدّعي الرهن؛ لأنّه ذو اليد وأمين فيُقبل كلامه. ولو سلّم إطلاق الحديث لفرض امتداد النزاع إلى الدَين قيّد بالحديث الأول.

ويشهد لهذا الجمع ما ورد من حديث يُفصِّل بين ما إذا كان النزاع في زيادة الدَين فالأصل مع منكر الزيادة، وما إذا كان النزاع في الرهن مع تسليم الدَين فالأصل مع مدّعي الرهن، وهو ما ورد بسند تام عن الحسن بن محمد بن سماعة عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا اختلفا في الرهن: فقال أحدهما: رهنتُه بألف، وقال الآخر: بمائة درهم، فقال: يسأل صاحب الألف البيّنة، فإن لم يكن بيّنة حلف صاحب المائة، فإن كان الرهن أقلّ ممّا رهن به أو أكثر واختلفا، فقال أحدهما: هو رهن، وقال الآخر: هو وديعة، قال:

270

على صاحب الوديعة البيّنة، فإن لم يكن بيّنة حلف صاحب الرهن»(1).

فقوله: «إن كان الرهن أقلّ ممّا رهن به أو أكثر» ظاهر في أنّ أصل الدَين مفروغ عنه.

هذا، وصدر الحديث _ الدالّ على أنّ مدّعي الزيادة هو الذي عليه البيّنة، ومنكر الزيادة هو الذي يحلف _ مطابق لرواياتٍ أُخرى أيضاً(2)، ما عدا رواية واحدة دلّت على أنّ للمرتهن حقّ حبس العين إلى أن يُعطى ما يدّعيه، وهي ما عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه السلام) في رهن اختلف فيه الراهن والمرتهن، فقال الراهن: هو بكذا وكذا، وقال المرتهن: هو بأكثر. قال علي (عليه السلام): «يصدّق المرتهن حتى يحيط بالثمن؛ لأنّه أمين»(3). وسند الحديث غير تام.

هذا، والجمع الذي ذكرناه بين الحديث الأول الدالّ على أنّ مدّعي الرهن هو المدّعي والحديث الثاني الدالّ على العكس خير من جمع الشيخ الطوسي (رحمه الله) من حمل الحديث الأول على البيّنة في مقدار ما على الرهن(4)، فإنّ هذا خلاف الظاهر جداً؛ إذ لم يفرض في الحديث أيّ اختلاف في مقدار ما على الرهن.

وعلى أيّ حال، فبعد ما وضّحناه من أنّه لا فرق بين أصل المصبّ وأصل النتيجة لسقوط الدعوى التي لا تؤثّر على النتيجة عن الحساب، لا يبقى مورد للاستدلال بالحديث الأول على أنّ المقياس هو النتيجة دون المصبّ.


(1) وسائل الشيعة، ج13، صدر الحديث في الباب 17 من أحكام الرهن، ح2، وذيله في الباب 16 من أحكام الرهن، ح2.

(2) راجع نفس المصدر، ج13، الباب 17 من أحكام الرهن.

(3) نفس المصدر، ص138، ح4.

(4) التهذيب، ج2، ص165.