11

 

 

 

 

 

مَغزى البيعة مع المعصومين(علیهم السلام)

 

 

 

 

12

 

13

بسم الله الرحمن الرحيم*

شوهد في الآونة الأخيرة من يجعل بيعة الأُمّة مع المعصوم شرطاً في ولايته التي تكون بمعنى ولاية الحكم، ووجوب إطاعته في أحكامه التي تصدر منه بوصفه حاكماً دون التي تصدر منه بوصفه مبلّغاً لشريعة الله. ولا فرق في هذا الشرط بين رسول الله(صلى الله عليه وآله)والأئمّة المعصومين(علیهم السلام)، فمن لم يبايَع منهم من قبل الأُمّة على ذلك لم يكن له حقّ الحكومة، وتنحصر وظيفته عندئذٍ في تبليغ الشريعة.

وقال: إنّ نظريّة العقد الاجتماعي المنسوبة إلى روسو يعود جذرها في الحقيقة إلى زمن نوح(عليه السلام) بل إلى زمن آدم(عليه السلام)، وإنّها بجذرها تكون من بقايا رسالات الرسل التي أتوا بها من السماء، وخلاصتها في جذرها عبارة عن أنّ الحكومة في أساسها ترجع إلى العقد كعقد البيع أو النكاح أو غير ذلك. فالأُمّة تملك بنفسها أمرها، ثم تعطي ذلك إلى الحاكم من دون فرق في ذلك بين الحاكم المعصوم والحاكم غير المعصوم تماماً، من قبيل أنّ الرجل يملك مالاً فينقله إلى المشتري بعقد البيع أو يملك منفعة فينقلها إلى المستأجر بعقد الإيجار، أو أنّ المرأة تملك نفسها فتملّكها بالمقدار المشروع في عقد الزواج للزوج وما إلى ذلك من العقود.

 


*. كتبه بتاريخ 18 محرم الحرام 1416هـ.

14

منفعة فينقلها إلى المستأجر بعقد الإيجار، أو أنّ المرأة تملك نفسها فتملّكها بالمقدار المشروع في عقد الزواج للزوج وما إلى ذلك من العقود.

وبما أنّ هذا القائل ينطلق من جذور دينيّة وليس من قبيل روسو، فلهذا فرّق بين المعصوم وغيره، بأنّه ما دام المعصوم موجوداً تجب على الأُمّة بيعة المعصوم ولا تجوز لها بيعة غير المعصوم، فلو خالفوا هذا التكليف وبايعوا غير المعصوم وتركوا بيعة المعصوم لم تجز للمعصوم ممارسة السلطة والحكم، ولكن الأُمّة قد ضلّوا وعصوا. أمّا في حال غيبة المعصوم فعلى الأُمّة أن يبايعوا الفقيه العادل، فهذا القائل يعترف بولاية الفقيه، إلّا أنّه يقصد بولاية الفقيه أنّه يجب على الأُمّة أن يبايعوا أحدهم ومن وقعت له البيعة تحقّق له حقّ الحكم.

وهذا الجزء الأخير من كلامه ليس خاصّاً به، بل هذا أمر سجّله أخيراً عدد من العلماء الأعلام مع إثبات ذلك بالأدلّة والبراهين، وسواء كان هذا صحيحاً أو باطلاً، فهو ليس في حديثنا هذا مصبّاً للبحث، وقد بحثناه مفصّلاً في كتابنا المسمّى بولاية الأمر في عصر الغيبة.

أمّا العقد الاجتماعي لروسو فقد بحثناه مفصّلاً في كتابنا المسمّى بأساس الحكومة الإسلامية، وليس مصبّاً لبحثنا الآن، وإنّما الذي نريد تناوله للبحث هنا هو أنّ حكومة المعصوم _ وأقصد بالذات الرسول(عليه السلام) والأئمّة الاثني عشر(علیهم السلام) _ هل هي مشروطة بالبيعة، وأنّ بيعة المعصومين لا يتصوّر لها مغزى إلّا إعطاء حقّ الحكومة الذي تملكه الأُمّة للمعصوم ونقله إليه بالعقد الاجتماعي، أو من المحتمل أو المتعيّن أن تكون لها مغزى أُخرى غير هذه التي فهمها هذا القائل؟

ولعلّه لا يوجد قبل هذه الآونة الأخيرة شيعيّ يعتقد باشتراط ولاية الحكم للمعصوم بالبيعة، بل قيل لي: إنّ هذا القائل أيضاً تراجع عن رأيه.

15

ولكنّني على رغم ذلك رأيت لزاماً عليّ بحث هذا الموضوع خشية أن تكون هذه الشبهة سارية في بعض الأذهان، أو أن يقول البعض: إنّ ما وقع لعدد من المعصومين من البيعة دليل على أنّ فهم الشيعة وأئمّتهم وقتئذٍ كان هو هذا، وإن اختفى هذا الفهم عن الشيعة بعد ذلك في عصر الغيبة.

وعليه فموضوع بحثنا هذا ما يلي:

ما هو مغزى البيعة التي وقعت للمعصومين(علیهم السلام)؟

ذلك أنّ أهم شيء استدلّ به هذا القائل على كون البيعة شرطاً في ولاية المعصوم الحكوميّة هو ما ثبت بضرورة من التاريخ من وقوع البيعة من النبي(صلى الله عليه وآله)والإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) والحسن والحسين(علیهما السلام)، وصريح القرآن شاهد على البيعة مع النبي(عليه السلام)، وضرورة التاريخ تُثبت أنّ كلّ هؤلاء المعصومين(علیهم السلام) لم يقوموا بشؤون الحكومة من الجهاد بالسيف وغير ذلك إلّا بعد تحقّق البيعة معهم. وفعل المعصوم كقوله حجّة بلا إشكال، وهذا يعني أنّ هذا القائل لم يكن يرى لمغزى هذه البيعات إلّا تفسيراً واحداً وهو أنّها كانت لأجل إعطاء الأُمّة ولاية الحكم للنبي(صلى الله عليه وآله)أو الإمام(عليه السلام)؛ لأنّ هذا هو حقّ الأُمّة، وما لم ينتقل إلى المعصوم بالعقد الاجتماعي لم تصحّ للمعصوم ممارسة الحكم.

في حين أنّ هذه البيعات تحتمل تفسيرين:

أحدهما: ما ذهب إليه هذا القائل من تفسيرها بفكرة العقد الاجتماعي المعطي ولاية الأمر للمعصوم(عليه السلام).

وثانيهما: أنّ المعصوم(عليه السلام) رغم أنّ له ولاية الأمر والحكومة بتشريع من قبل الله تعالى لم يكن من المقرّر إلهيّاً أن يُرضخهم لما له من حقّ الحكومة بالإكراه الإعجازي.

كما أنّه لا تُجبر الأُمّة على الأحكام الأُخرى كالصلاة والصوم بالجبر الإعجازي، وإلّا لبطل الثواب والجزاء؛ لأنّ الناس يصبحون مسيّرين عن غير اختيار. بل كان

16

من المقرّر أن يصل المعصوم إلى السلطة بالطرق الاعتياديّة. ومن الواضح أنّ الوصول إلى السلطة بالطريق الاعتيادي وبغير الإعجاز ينحصر في تواجد ناصرين له من البشر، فكان أخذ البيعة منهم لأجل التأكّد من وجود ثلّة كافية من الأُمّة تعهّدوا بنصر المعصوم والعمل معه في جهاده وسائر أُموره الحكومية، ولولا هم لعجز المعصوم حسب القوّة البشرية ومن دون الإعجاز عن تحقيق السلطة والحكومة خارجاً.

وصحيح أنّ فعل المعصوم كقوله حجّة، ولكن الفعل بما أنّه أمر صامت وهو في كثير من الأحيان يحتمل تفسيرين أو أكثر لا يكون حجّة لإثبات أحد التفاسير، في حين أنّ القول أمر ناطق وفي غالب الأحيان يكون ظاهراً في تفسير معيّن، وبالتالي يكون حجّة في إثبات ذاك التفسير.

وإذا دار أمر تلك البيعات بين التفسيرين اللذين ذكرناهما كان أمامنا طريقان لحلّ اللغز:

الطريق الأوّل: أن نلتمس من نفس مكتنفات الفعل وكيفيّته ما يكون قرينة قطعيّة أو عرفيّة لتعيين أحد التفسيرين.

والطريق الثاني: أن نفترض عدم وجود قرينة من هذا القبيل فيسقط الفعل عندئذٍ عن الحجّية لإثبات أحد التفسيرين، فنرجع إلى الكتاب أو السنّة القوليّة لمعرفة الحكم. بل أحياناً يوضّح لنا الكتاب أو السنّة القوليّة بشكل قطعي ما هو تفسير ذاك الفعل الذي كان في نفسه مجملاً.

ونحن نسلك هنا لتوضيح الأمر كلا هذين الطريقين، ولكنّنا قبل سلوك هذين الطريقين نشير إلى ما قد يقال بعد فرض انحصار تفسير ما وقع من البيعة بمعنى العقد الاجتماعي الموجب لولاية الأمر، من أنّ هذا التفسير بعد تسليمه لا يثبت نفي ولاية الحكم عن المعصوم قبل البيعة؛ وذلك لاحتمال أن يكون لولاية الحكم مصدران: أحدهما: التعيين الإلهي بالنصّ، والثاني: العقد الاجتماعي، وأراد المعصوم أن يحقّق

17

لنفسه المصدر الثاني رغم امتلاكه للمصدر الأوّل ورغم كفاية المصدر الأوّل له. ولعلّه كانت الحكمة في ذلك أن تتعلّم الأُمّة المصدر الثاني أيضاً كي يفيدهم في حالات فقد المعصوم التي لم يعيّن فيها شخص ما بالنصّ.

ومن هنا يتّضح أنّنا لو استظهرنا من بعض النصوص ولاية الحكم للإمام قبل البيعة، فحتّى لو انحصر تفسير البيعة بالعقد الاجتماعي لم يضرّ ذلك بما هو مسلّم لدى الشيعة من ثبوت ولاية الحكم للمعصوم بالنصّ.

أمّا كيفيّة سلوكنا للطريقين المشار إليهما آنفاً فهي ما يلي:

الطريق الأوّل: اقتناص قرينة قطعيّة أو عرفيّة من نفس الكيفيّة التطبيقيّة للفعل لتفسير ذلك الفعل.

وهذه القرينة إن كانت فهي في صالح التفسير الثاني للبيعة دون الأوّل، أي: في صالح أنّ أخذ البيعة كان لأجل التأكّد من وجود الناصر الذي لم يكن المفروض إيجاده بالقهر الإعجازي، والذي لم يكن يمكن عملاً تحقيق السلطة والحكم بدونه، وليست في صالح التفسير الأوّل وهو كون هذه البيعة عقداً اجتماعيّاً كتحقيق مصدر لولاية الأمر والحكم.

وتلك القرينة هي أنّه لو كانت البيعة ملحوظة كعقد اجتماعي ناقل لحقّ الأُمّة في نفسها إلى المعصوم بقرار بينهما كما هو الحال في نظائرها من العقود لكان المتوقّع أن يكون أحد طرفي هذا الحقّ هو المعصوم والطرف الآخر كلّ الأُمّة، إمّا بمعنى بيعة الأكثريّة الساحقة بنحو لا يتخلّف عنها إلّا النزر القليل الذي لا ينفي تخلّفه عرفاً صدق عنوان التوافق والعقد بين الأُمّة والمعصوم، وإمّا بمعنى أنّ الأُمّة ككلّ لها توافق سابق على تمشية رأي الأكثريّة مع فرض أنّ البيعة تُحقَّق من أكثريّة الأُمّة، على رغم أنّ المخالف لم يكن نزراً قليلاً بل كان كثيراً جدّاً، فإن تخلّف القسم الأقلّ حتّى ولو كان أقلّ من القسم الآخر بصوت واحد فقط لا يضرّ بعد ما كان هناك اتّفاق بين الفريقين

18

الأقلّ والأكثر على أنّ الذي يحكمهم جميعاً هو رأي الأكثر. وهذا البيان الثاني هو المفهوم من الكلمات المنقولة عن روسو، ولكنّنا _ كما قلنا _ لسنا الآن بصدد مناقشة روسو.

ولو كانت البيعة ملحوظة لا كعقدٍ اجتماعي بين الأُمّة والمعصوم عقداً يورث الحقّ بل كتأكّد من وجود القدر الكافي من الناصر الذي به يستطيع المعصوم المبايع من الحرب مع الأعداء أو إقامة الحكم، لكان المترقّب اكتفاء المعصوم ببيعة من يكفيه للنهوض بالأمر رغم عدم اتّفاق أكثريّة ساحقة على تلك البيعة ولا توافق مسبق بين الفئتين على تحكيم رأي الأكثريّة ولو غير الساحقة.

والذي وقع في غالب البيعات التي ثبتت بالتاريخ القطعي للمعصوم هو الثاني لا الأوّل، فهذا رسول الله(صلى الله عليه وآله)قد بايعته أقلّيّة مسلمة وخالفته الأكثريّة الكافرة، واكتفى بذلك في تثبيت حكمه على أهل الكتاب بكونهم مخيّرين بين الالتزام بالإسلام أو الالتزام بإعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون، ولم يكن هذا تبليغاً لتشريع الله لهم، إن شاؤوا عملوا به وإن شاؤوا خالفوه؛ إذ لو كان كذلك لما كان هناك أيّ داع لأحدهم للالتزام بالجزية.

وهذا علي(عليه السلام) اكتفى ببيعة من حضرها من المسلمين ولم يكن قد دخل أهل الشام في البيعة معه ولا كانوا قد أعطوا رضاً بنفوذ بيعة الآخرين عليهم، فما الذي أدخلهم في أحد طرفي العقد حتّى ينفذ العقد عليهم؟ وما معنى قول علي(عليه السلام): «أيّها الناس، إنّ أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه، فإن شَغَب شاغب استُعتِب، فإن أبى قوتل. ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتّى یحضرها عامّة الناس فما إلى ذلك سبيل، ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها، ثم ليس للشاهد أن يرجع، ولا للغائب أن يختار» (1).


(1) نهج البلاغة، ص247.

19

وما معنى كتاب علي(عليه السلام) لمعاوية: «إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يردّ. وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضاً، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردّوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتّباعه غير سبيل المؤمنين وولّاه الله ما تولّى»(1)؟

وروى ذلك أيضاً نصر بن مزاحم في كتاب وقعة صفّين مع شيء من التفصيل مصدّراً الكلام بقوله: «أمّا بعد، فإنّ بيعتي لزمتك وأنت بالشام؛ لأنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان... »(2).

فلو كانت هذه الكلمات _ بعد فرض صدورها _ تشير إلى العقد الاجتماعي ووجوب الوفاء بالعقد لطرفي العقد لأنّهم ارتبطوا به كارتباط المتبايعين بعقد البيع أو المتناكحين بعقد النكاح ونحو ذلك، لكان لمعاوية أو للناس الآخرين المخالفين أن يجيبوا عليّاً(عليه السلام): متى أصبحنا طرفاً للعقد كي تُلزِمنا بذلك؟! أفلا يكفي هذا قرينة على أنّ هذه النصوص _ إن صحّت _ فهي واردة احتجاجاً على معاوية أو على القوم على أساس إلزامهم بما التزموا من صحّة خلافة الخلفاء السابقين، وشرعيّة ما وقع لهم من البيعة وافتراض أنّ نفس البيعة أورث حقّ الحكم ولم تصدر هذه النصوص على أساس منطق يؤمن به نفس المتكلّم؟

وممّا يشهد لكون البيعة على أساس فكرة أخذ الميثاق فحسب لا على أساس فكرة تحصيل حقّ الولاية والحكم ما ورد من مطالبة علي(عليه السلام) معاوية بالبيعة، كما جاء في كتاب له(عليه السلام) إلى جرير بن عبدالله البجلي لمّا أرسله إلى معاوية: «أمّا


(1) المصدر السابق، ص 366.

(2) وقعة صفّين، ص29.

20

بعد، فإذا أتاك كتابي فاحمل معاوية على الفصل، وخذه بالأمر الجزم، ثم خيّره بين حرب مُجلية أو سلم مخزية، فإن اختار الحرب فانبذ إليه، وإن اختار السلم فخذ بيعته. والسلام»(1).

وفي كتاب له(عليه السلام) إلى معاوية في أوّل ما بويع له بالخلافة:

«فبايع من قبلك وأقبل إليّ في وفد من أصحابك»(2). وتوضيح المقصود أنّه إن كانت بيعة من بايعوا عليّاً(عليه السلام) من المهاجرين والأنصار كافية في حصول ولاية الحكم له على كلّ الأُمّة، وكان الهدف من البيعة تحصيل هذه الولاية كما هو الظاهر الأوّلي للنصوص السابقة والتي حملناها على الاحتجاج برأي الخصم، إذاً فلا معنى لمطالبة معاوية بالبيعة، ولا يبقى مجال إلّا لمطالبته بالطاعة بعد أن تمّت البيعة ولو من قبل قسم من المسلمين، وإن كانت بيعة من بايعوه(عليه السلام) غير كافية لتحصيل ولاية الحكم كان لمعاوية تمام الحقّ بعد عدم إيمانه بفكرة العصمة في رفض البيعة، بحجّة أنّ ولاية الحكم لم تتحقّق بعدُ لعليّ(عليه السلام) ولا داعي لمعاوية في الاشتراك في تحقيق ذلك. وهذا بخلاف ما لو فرضنا البيعة على أساس فكرة أخذ الميثاق بعد ثبوت الحقّ مسبقاً، فيكون هدف علي(عليه السلام) من مطالبة معاوية بالبيعة أخذ الميثاق على الطاعة منه كتأكّد من أمر خارجي وهو دخوله في صفّ المناصرين لعليّ(عليه السلام)، لا كتحقيق لموضوع الحكم التشريعي بثبوت ولاية الحكم. أفلا يكفي كلّ هذا شاهداً على أنّه لا يمكن تفسير كلّ هذه النصوص _ إن صحّت _ إلّا على أساس الاحتجاج وأخذ الخصم بمبدأ يؤمن به، وهو فكرة مغلوطة عن البيعة غير قابلة للقبول في رأي المتكلّم نفسه؟

وكذلك الحسن(عليه السلام) بعد أن تمّت له البيعة من قبل أهل الكوفة استمرّ في الحرب


(1) نهج البلاغة، ص368.

(2) المصدر السابق، ص464.

21

ضدّ معاوية وأهل الشام التي كانت في زمن علي(عليه السلام)، على رغم أنّ معاوية وأهل الشام لم يكونوا طرفاً للعقد الاجتماعي مع الحسن(عليه السلام) حتّى تكون للحسن(عليه السلام) سلطة شرعيّة عليهم في رأي من يرى أنّ السلطة تأتي على أساس العقد.

وكذلك الحسين(عليه السلام) اكتفى في إقدامه على الخروج لإقامة حكومة إسلامية لجميع المسلمين بما تمّت له من بيعة أهل الكوفة، في حين أنّ أهل الشام لم يكونوا قد بايعوه.

فكلّ هذا يعني أنّ هذه البيعات كانت بيعة في حدود التأكّد من وجود الناصر بالقدر الذي تفترض كفايته للنهوض، وهذه قرينة عرفيّة على أنّ مغزى البيعة كان عبارة عن أخذ الميثاق بالنصر كي يتمّ التأكّد المعقول من وجود الناصر حين ينهض المعصوم بالأمر، ولم تكن مغزاها عبارة عن العقد الاجتماعي مع الأُمّة لانتزاع حقّ ولاية الحكم منهم، وإلّا لما كان المقدار الذي حصل من البيعة كافياً لذلك.

ومن الشواهد على أنّ البيعة مع المعصوم يعقل أن تكون بروح تأكّد المعصوم من طاعة المبايع لا بروح انتزاع ولاية الحكومة منه أنّ آية بيعة النساء الواردة في القرآن الكريم واضحة في أنّ أكثر ما بايعت النساء النبي(صلى الله عليه وآله)عليه _ إن لم يكن كلّها _ هي أحكام شرعيّة لا أحكام حكوميّة، وذلك من قبيل: ﴿أَنْ لَّا يُشْرِكْنَ بِاللّٰهِ...وَلَا يَزْنِينَ...﴾(1)، في حين أنّ المبايعة على ولاية الحكومة بالنسبة للأحكام التشريعيّة الإلهيّة لا معنى لها.

الطريق الثاني: بعد أن نفترض عدم كفاية ما سبق كقرينة ولو عرفيّة على تفسير مغزى البيعة بمعنى التأكّد بنسبة مئويّة معقولة من وفاء المبايع وطاعته، لا بمعنى انتزاع حقّ ولاية الحكم منه، تصبح هذه البيعات في ذاتها مجملة؛ لأنّها من فعل المعصوم وليس من قوله، والفعل يقبل أكثر من تفسير واحد، فيكون المرجع عندئذٍ النصوص القرآنيّة أو الروائيّة التي تدل على تماميّة ولاية الحكم قبل البيعة أو على اشتراطها بالبيعة.


(1) الممتحنة:12.

22

ونحن نقتصر هنا على ذكر ثلاثة نصوص قطعيّة الصدور واضحة الدلالة جميعاً في ثبوت ولاية الحكم قبل البيعة دون اشتراطها بالبيعة، اثنان منهما من الكتاب والثالث سنّة قطعيّة.

أمّا الكتاب فنكتفي منه في المقام بآيتين:

الأُولى: قوله(وجل عز): ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّٰهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾(1)، فقد عقدت هذه الآية المباركة الملازمة بين قضاء الله وقضاء الرسول من ناحية، وبين سلب الخيرة من المؤمنين والمؤمنات من ناحية أُخرى، وهذا يعني ولاية الحكم.

ومن الطريف ما قاله القائل من نفي دلالة هذه الآية على المطلوب، بنكتة أنّ هذه الآية إنّما دلّت على أنّه متى ما تمّ القضاء من قبل الرسول وجبت طاعته. وهذا صحيح؛ لأنّ الرسول معصوم لا يقضي بغير الحقّ ولا يقضي بغير ما له حقّ القضاء به، ولكن لم تذكر الآية أنّ الرسول متى يقضي، فلا تنفي الآية كون قضاء الرسول مشروطاً بالبيعة.

أقول: أوّلاً: إنّ مقتضى الإطلاق ومقدّمات الحكمة أنّ طرف الملازمة ذات قضاء الرسول(صلى الله عليه و آله)، في حين أنّه لو كانت البيعة شرطاً في مشروعيّة القضاء لكان طرف الملازمة القضاء زائداً البيعة، ففرق بين افتراض كون زمان تواجد البيعة ظرفاً بحتاً للقضاء من باب أنّه لولا البيعة يعجز الرسول عجزاً تكوينيّاً عن تنفيذ قضائه وافتراض كون البيعة شرطاً في نفوذ القضاء شرعاً، فالأوّل لا ينفى بإطلاق الآية؛ لأنّ طرف الملازمة يكون حقّاً هو ذات القضاء، وليست البيعة إلّا ظرفاً للقضاء. ولم تذكر الآية أنّ القضاء متى وفي أيّ ظرف يتحقّق؟ ولكن الثاني يُنفى بالإطلاق؛ لأنّ معناه كون طرف الملازمة القضاء المقيّد بالبيعة لا ذات القضاء، والقيد منفيّ بمقدّمات الحكمة والإطلاق.


(1)الأحزاب: ۳٦.

23

وثانياً: إنّ قضاء الرسول قد أُردف في الآية المباركة بقضاء الله، ولا شكّ أنّ نفوذ قضاء الله غير مشروط بالبيعة؛ لأنّ فرض اشتراط نفوذ قضاء الله بالبيعة يستلزم إمكان انحلال كلّ البشرية عن جميع الأحكام الإلهية بترك البيعة، وعندئذٍ لا يحقّ لله تعالى أن يعذّبهم على المعاصي، وهذا ليس خروجاً من ضرورة المذهب فحسب، بل خروج من ضرورة أصل الإسلام. فإذا تمّ عدم تقيّد نفوذ قضاء الله بالبيعة فوحدة السياق في المقام تقضي بعدم تقيّد نفوذ قضاء الرسول بالبيعة، بل ظاهر الآية هو أنّها افترضت قضاء الله وقضاء الرسول أمراً واحداً أو أمرين متلازمين، فالآية كالصريحة في نفي شرطيّة البيعة لنفوذ قضاء الرسول.

والثانية: قوله(وجل عز): ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾(1)، فإنّ هذه الآية أيضاً كالصريحة في نفي شرط البيعة؛ لأنّ البيعة إن كانت بمعنى إعطاء الولاية بالعقد الاجتماعي رجع روحها إلى روح التوكيل، ويكون وليّ الأمر وكيلاً من قبل الأُمّة عيّنوه للقضاء والحكم، ولا يصحّ أبداً لدى أبناء اللغة أن يقال: الوكيل أولى بالموكَّل من نفسه، بل يصحّ للموكّل في الفهم العقلائي العرفي عزل الوكيل متى ما شاء. إذاً فالمفهوم من قوله(وجل عز): ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ هو ولايةٌ فوق ما يعطى بالتوكيل أو بالعقد الاجتماعي، وإن هي إلّا ولاية أعطاها الله للمعصوم، وليس أعطاها الناس إيّاه بالبيعة. وليست هذه ولاية تبليغ الأحكام فحسب؛ لأنّ تعبير «أولى بهم من أنفسهم» يعطي معنى السلطة على النفس، وهذا أعلى ما يتصوّر من مستوى ولاية الحكم.

وأمّا السنّة: فنكتفي منها في المقام بنصّ الغدير الثابت بالقطع والتواتر، وهو قوله(صلى الله عليه و آله): «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى، قال: فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ...»(2).


(1) الأحزاب: ٦.

(2) بحار الأنوار، ج37، ح17.

24

ومن الطريف ما قاله القائل من أنّ نص الغدير لم يعط لعليًّ(عليه السلام) ولاية الحكم، وإنّما أعطاه ولاية التبليغ؛ لأنّ الرسول لم يكن يمتلك من الأُمّة حقّ ولاية الحكم عليهم لما بعد موته كي يعطيها لعليّ(عليه السلام)، فإنّ الأُمّة إنّما أعطته بالبيعة ولاية الحكم في مدى حياته ولم تُعطِها إيّاه ملكاً وراثيّاً أو أبديّاً يكون من حقّه أن يعطيه بلحاظ ما بعد وفاته لابن عمّه أو لأيّ إنسان آخر.

أقول: لو فرض إمكان هذا التفسير لنصّ الغدير لولا قول الرسول(صلى الله عليه و آله): «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟» فمن الواضح أنّ تفريع الرسول(صلى الله عليه وآله)إعطاء الولاية لعليّ(عليه السلام) على كونه(عليه السلام) أولى بالمؤمنين من أنفسهم يبطل ذلك؛ لما أشرنا آنفاً من أنّ التعبير بـ ﴿َوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ صريح في ولاية الحكم.

وإنّما تورّط هذا القائل في ما تورّط فيه من نفي دلالة نص الغدير على أساس توهّم كون ولاية النبيّ الحكوميّة مأخوذة من الناس بالبيعة، لا من الله ابتداءً.

وأطرف من ذلك ما قاله هذا القائل أيضاً من أنّ بيعة الناس في يوم الغدير لعليّ(عليه السلام) لم تكن بيعة معه على السلطة والحكم، بل كانت بيعة معه على ولاية التبليغ؛ وذلك لأنّ الأُمّة في زمان الرسول(صلى الله عليه وآله)لم يكونوا يمتلكون ولاية الحكم؛ لأنّهم كانوا قد نقلوها من أنفسهم إلى الرسول بالبيعة، فلا يملكون شيئاً من هذا القبيل كي يعطوه لعليّ(عليه السلام) بالبيعة. نعم، بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله)رجعت ولاية الحكم إليهم وملكوها مرّةً أُخرى بانفساخ العقد أو انتهائه بموت طرف العقد وهو الرسول، فكان بإمكانهم أن يعطوها لعليّ(عليه السلام) بعقد آخر أو بيعة أُخرى.

أقول _ بعد مماشاة هذا الأُسلوب من تسلسل التفكير وتسليمه _ : إنّه كان من الضروري أن يقول: إنّ بيعة الناس لعليّ(عليه السلام) في يوم الغدير كانت بيعة على الحكم لا على التبليغ؛ وذلك لأنّ حقّ ولاية الحكم وإن كان بالأصل للناس حسب تصوّر

25

هذا القائل ويعطى لشخص ما بالبيعة والعقد الاجتماعي حسب زعمه، ولكن الناس لم يكونوا قد أعطوا هذا الحقّ للرسول بعنوان ملك أبدي حتّى بلحاظ ما بعد موته، بل كانوا قد أعطوه بالبيعة بلحاظ مدّة حياته على ما مضى في الكلام الذي نقلناه عن هذا القائل آنفاً. إذاً فالناس كانوا مالكين لأمرهم بلحاظ ما بعد موت النبي(صلى الله عليه و آله)، فلم لا يمكن لهم أن يعطوه لعليّ(عليه السلام) بالبيعة في يوم الغدير؟! وهم لا يريدون إعطاء ولاية الأمر لعليّ(عليه السلام) بلحاظ زمان حياة النبي(صلى الله عليه وآله)كي يقال: إنّهم لا يملكون ذلك؛ لأنّهم أعطوه النبي(صلى الله عليه و آله)، وإنّما يريدون إعطاء ما يملكونه وهو ولاية أمرهم بلحاظ ما بعد موت النبي(صلى الله عليه و آله). أمّا البيعة مع علي(عليه السلام) لأجل التبليغ فأمر لا معنى له حسب تصوّرات هذا القائل؛ لأنّ ولاية التبليغ ليست ملكاً للناس كي يعطوه إيّاه، وإنّما هذا ما يعطيه الله لعليّ(عليه السلام) كما أعطاه للرسول منذ أوّل الرسالة وقبل حصول أيّ بيعة له.

بقيت في المقام شبهة التمسّك بآية الشورى، وقد بحثنا آية الشورى مفصّلاً في كتابينا «أساس الحكومة الإسلاميّة»، و«ولاية الأمر في عصر الغيبة».

والذي نريد أن نقوله هنا هو أنّه لا يمكن التمسّك بهذه الآية لإثبات رأي القائل الذي بحثنا رأيه؛ وذلك لأنّه لو صحّت دلالة الآية على حقّانيّة مبدأ الشورى لتحقيق ولاية الأمر وفرض أنّ ذلك يشمل حتّى ولاية المعصوم لكان معنى ذلك أنّ بيعة المعصوم ليست واجبة على الأُمّة؛ إذ لا معنى للشورى في الواجبات، بل عليهم أن يبايعوا بلا مشورة في حين أنّ هذا القائل رغم أنّه يرى ولاية الأمر للمعصوم مشروطة بالبيعة يعتقد أنّه مع وجود المعصوم تجب على الأُمّة بيعته. ولو فرض أنّ أحداً ربط ولاية الرسول(صلى الله عليه وآله)للحكم بالبيعة وقال أيضاً: إنّ بيعته غير واجبة فتُجعل بيعته وعدم بيعته رهناً للشورى؛ لما كان ذلك خروجاً عن المذهب فحسب، بل كان خروجاً عن الإسلام.

وختاماً بودّي أن أتشرّف بذكر دعاء ورد استحباب قراءته في كلّ يوم بعد صلاة الصبح:

26

«اللّهمّ بلّغ مولاي صاحب الزمان صلوات الله عليه عن جميع المؤمنين والمؤمنات في مشارق الأرض ومغاربها، وبرّها وبحرها، وسهلها وجبلها، حيّهم وميّتهم، وعن والديّ ووُلدي وعنّي من الصلوات والتحيّات زنة عرش الله، ومدادَ كلماته ومنتهى رضاه، وعدد ما أحصاه كتابه وأحاط به علمه. اللّهمّ إنّي أُجدّد له في هذا اليوم وفي كلّ يوم عهداً وعقداً وبيعة في رقبتي. اللّهمّ فكما شرّفتني بهذا التشريف، وفضّلتني بهذه الفضيلة، وخصصتني بهذه النعمة، فصلّ على مولاي وسيّدي صاحب الزمان، واجعلني من أنصاره وأشياعه والذابّين عنه، واجعلني من المستشهَدِين بين يديه طائعاً غير مُكرَه، في الصفّ الذي نعتّ أهله في كتابك فقلت ﴿صَفَّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوُصٌ﴾(1) على طاعتك وطاعة رسولك وآله(علیهم السلام). اللّهمّ هذه بيعة له في عنقي إلى يوم القيامة»(2).


(1) الصف: 4.

(2) المزار الكبير، ص662.

27

 

 

 

 

مقياس طلوع الفجر في الليالي المقمرة

 

 

 

 

 

 

 

 

28

 

29

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي دَلَعَ لسانَ الصباحِ ‏بِنُطْقِ تَبَلُّجِه، وَسَرَّحَ قِطَعَ الليْلِ المُظْلِمِ بِغَياهِبِ تَلَجْلُجِه، وَأَتْقَنَ صُنْعَ الفَلَكِ الدوَّارِ في مَقاديرِ تَبَرُّجِه، وَشَعْشَعَ ضِياءَ الشَمْسِ بِنُورِ تَأجُّجِه.

ثم الصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

أفاد السيد الإمام الخميني(قدس سره) في رسالة له طبعت أخيراً ضمن رسائل عشرة من قِبَل مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني(قدس سره): «كثيراً ما تقع الغفلة عن أمر تترتب عليه فروع مهمّة، وهو: أنّ الفجر في الليالي المقمرة من الليلة الثالثة عشرة إلى أواخر الشهر يتأخّر عن غيرها قريب عشر دقائق أو أقلّ أو أكثر؛ حسب اختلاف ضياء القمر وقربه من الأفق الشرقي، وهذا الفرع مع كثرة الابتلاء به في صلاة الفجر وصلاة العشاءين ونافلة الليل وغير ذلك يكون مغفولاً عنه، وكثيراً ما يراعي المؤذّنون والمصلّون الوقت النجومي، ويكون تشخيصهم الفجر حسب الساعات قبل تبيّن الفجر حسّاً.

ومحصّل الكلام في هذا المقام: أنّه هل المعتبر في اعتراض الفجر وتبيّنه هو الاعتراض والتبيّن الفعلي، أو الأعم منه ومن التقديري، نظير الاحتمالين في باب تغيّر الماء في باب المياه؟

30

ظاهر الكتاب والسنة وكذا ظاهر فتاوى الأصحاب _ على ما قاله المحقّق صاحب مصباح الفقيه(1)_ هو الأوّل.

أمّا الكتاب: فهو قوله تعالى: ﴿َكُلُوُا وَاشْرَبُوُا حَتَّىٰ يَتَبݧݧَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْر﴾(2)، أي: حتّى يتميّز الخيط الأبيض الذي هو من النهار من الخيط الأسود الذي هو من الليل، ثم عقّبه بقوله: ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ الظاهر في التبيّن بأنّ ذاك التميّز هو الفجر، وظاهرٌ أنّ الظاهر من «التبيّن والتميّز» هو التميّز الفعلي التحقيقي، كما هو الشأن في كلّ العناوين المأخوذة في العقود والقضايا.

...هذا لو كانت كلمة للتبيّن كما لعلّه الظاهر.

ويحتمل أن تكون للنشوء، فيصير المعنى: أنّ ذاك التبيّن والامتياز لابدّ وأن يكون ناشئاً من بياض الفجر، والفرض أنّ بياضه لا يظهر حتّى يقهر على نور القمر حسّاً»(3).

أقول: وهناك تفسير ثالث من التفاسير غير البعيدة لكلمة ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ نسبه الشيخ مجتبى الأعرافي إلى المفسّرين، وهو: أن تكون بياناً لكلمة ﴿الْخَيْطُ الأَبْيَضُ﴾، فالمعنى هكذا: حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض أي: الفجر(4). وهذا في الحقيقة لا يضرّ بالهدف الذي يريده السيد الإمام(قدس سره) من تفسير الآية المباركة من ضرورة التبيّن الفعلي.

وأيضاً أريد أن أُنبّه: أنّ الشيخ الأعرافي ذكر في مقام تعيين الليالي المقمرة: «ويتحقّق ذلك من الليلة الثانية عشرة إلى الرابعة والعشرين من كل شهر كما قيل»(5).


(1) مصباح الفقيه، ج9، ص134.

(2) البقرة: 187.

(3) الرسائل العشرة، ص 199_ 201.

(4) راجع مقال الشيخ مجتبى الأعرافي المطبوع في مجلّة فقه أهل البيت(علیهم السلام)، رقم 42، ص115.

(5) المصدر السابق، ص110.

31

وأيضاً أريد أن أنقل _ قبل أن أنتقل إلى بحث الروايات _ اعتراضاً من قِبَل الشيخ الأعرافي على حمل التبيّن في الآية الشريفة على موضوعية التبيّن الحسّي، لا مطلق التبيّن والانكشاف، ونصّ اعتراضه ما يلي:

«إنّ القاعدة الأوّلية وإن كانت تقتضي حمل العناوين المأخوذة في الأدلّة على الموضوعية إلّا أنّ هذه غير جارية في العناوين الإدراكية التي تكون طريقاً إلى الواقع كالعلم والتبيّن والرؤية، فإنّ القاعدة العرفية فيها بالعكس تقتضي حملها على الطريقة والإراءة المحضة لا الموضوعية، وعليه فلا يستفاد من الآية أنّ التبيّن الحسّي مأخوذ في موضوع الحكم، ويؤكّد ذلك أنّه يلزم على القول باعتبار التبيّن الحسّي لزوم التأخّر في الليالي ذات الغيم الأبيض، فإنّ الجوّ في هذه الليالي يتنوّر طيلة الليل، ومن أجله لا يمكن رؤية ضوء الفجر في الأُفق، مع أنّه لا إشكال في أنّه مع إحراز طلوع الفجر واقعاً يحرم الأكل والشرب في الصوم، ويجوز الإتيان بصلاة‌ الفجر وإن لم يتبيّن ضوء الفجر في الأُفق بواسطة الغيم، ومن الواضح أنّه لا فرق هناك بين الغيم وضوء القمر؛ إذ كما أنّ الغيم لا يكون مانعاً عن تكوّن الفجر بل يكون مانعاً عن الرؤية فقط كذلك ضوء القمر، فإنّه أيضاً لا يكون مانعاً عن تكوّن الفجر بل يكون مانعاً عن الرؤية فقط، وعلى هذا فكما أنّ عدم رؤية الفجر بواسطة الغيم لا يوجب عدم ترتّب الحكم كذلك عدم رؤية الفجر بواسطة غلبة ضوء القمر، فإنّه أيضاً لا يوجب عدم ترتّب الحكم»(1).

أقول: بما أنّ الاكتشافات العلمية الموجودة في زماننا لم تكن موجودة في زمن الشريعة‌ فالإنسان الاعتيادي لم يكن يدرك معنى لحصول الفجر في الليالي المقمرة من دون التبيّن بالبصر، وكان على الشريعة أن تنبّههم على خطئهم، ولم تفعل ذلك، وهذا معناه إمضاء ما كانوا عليه عملاً.


(1) المصدر السابق، ص 116 _ 117.

32

وأمّا النقض الأخير الذي شرحه وهو: أنّ الغيم الأبيض المطبق ينوّر الجوّ طيلة الليل بسبب نور الكواكب التي تنعكس عليه، فهذا جوابه: أنّ كون ذلك قضية اتفاقية وليس من قبيل علّية نور القمر يوجب عدم اعتناء الإنسان الاعتيادي بذلك.

ثم انتقل السيد الإمام(قدس سره) من الاستدلال بالكتاب إلى الاستدلال بالسنّة،‌ فقال:

«وأمّا السنّة: فكثيرة ظاهرة في المطلوب، بل بعضها كالنصّ عليه:

فمنها: ما عن الفقيه عن أبي بصير ليث المرادي قال:«‌سألت أبا عبدالله(عليه السلام) فقلت متى يحرم الطعام على الصائم، وتحلّ الصلاة صلاة الفجر؟ فقال: إذا اعترض الفجر فكا1 كالقبطيّة(1) البيضاء...»(2).

ومنها: رواية هشام بن الهذيل عن أبي الحسن الماضي(عليه السلام) قال: «سألته عن وقت صلاة الفجر؟ فقال: حين يعترض الفجر فتراه مثل نهر سوراء(3)»(4).

ومنها: ما عن الرضا(عليه السلام): «صلّ صلاة الغداة إذا طلع الفجر وأضاء حسناً»(5).

وظاهر أنّ الكون كالقبطيّة ونهر سورى وأمثال هذه التعبيرات لا ينطبق إلا على التميّز الحسّي والإضاءة الحسّية.

وأظهر منها خبر علي بن مهزيار قال: كتب أبو الحسن بن الحُصين إلى أبي جعفر الثاني(عليه السلام) معي: «جُعلت فداك، قد اختلف موالوك في صلاة الفجر، فمنهم من يصلّي إذا طلع


(1) القبطيّة: ثياب بيض رقاق من كتّان تتّخذ بمصر. الصحاح اللغة، ج3، ص1151.

(2) من لا يحضره الفقيه، ج2، ص130، باب الوقت الذي يحل فيه الإفطار وتجب فيه الصلاة من كتاب الصوم، ح1934.

(3) سورى: موضع بالعراق من أرض بابل، وهو بلد السريانيّين. لسان العرب، ج4، ص388. وعن معجم البلدان، ج3، ص278: سوراء موضع بالعراق في أرض بابل.

(4) وسائل الشيعة، ج4، ص212، الباب 27 من أبواب المواقيت، ح6.

(5) مستدرك الوسائل، ج3، ص 139، الباب 21 من أبواب المواقيت، ح3.

33

الفجر الأوّل المستطيل في السماء، ومنهم من يصلّي إذا اعترض في أسفل الأُفق واستبان، ولستُ أعرف أفضل الوقتين فأُصلّي فيه، فإن رأيت أن تُعلّمني أفضل الوقتين وتحدّه لي، وكيف أصنع مع القمر والفجر لا تبيين معه حتّى يحمرّ ويصبح؟ وكيف أصنع مع الغيم؟ وما حدّ‌ ذلك في السفر والحضر؟ فعلتُ إن شاء الله. فكتب(عليه السلام) بخطّه وقرأتُه: الفجر _ يرحمك الله _ هو الخيط الأبيض المعترض، وليس هو الأبيض صعداً‌، فلا تصلّ في سفر ولا حضر حتّى تبيّنه، فإنّ الله تبارك وتعالی لم يجعل خلقه في شبهة من هذا، فقال: ﴿َكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْر﴾، فالخيط الأبيض هو المعترض الذي يحرم به الأكل والشرب في الصوم، وكذلك هو الذي يوجب به الصلاة»(1).

واشتماله على الغيم في سؤال السائل لا ينافي ما نحن بصدده، فإنّ الفرق بين ضوء القمر الذي هو مانع عن تحقّق البياض رأساً مع الغيم الذي هو كحجاب عارضي مانع عن الرؤية واضح.

هذا كلّه مضافاً إلى أنّ مقتضى الأصل أو الأُصول ذلك، ولا مخرج عنها، فإنّ الأدلّة لو لم تكن ظاهرة في ما ذكرنا لما كانت ظاهرة في القول الآخر، فلا محيص عن التمسّك بالاستصحاب الموضوعي أو الحكمي مع الخدشة في الأوّل»(2).

والظاهر أنّ مقصود السيد الإمام(قدس سره) من قوله: «مع الخدشة في الأوّل» أنّ الاستصحاب الموضوعي لعدم طلوع الفجر مخدوش؛ لأنّ طلوع الفجر بأحد المعنيين _ وهو طلوعه في الأُفق الواقعي _ مقطوع التحقّق، وبالمعنى الآخر _ وهو طلوعه بالشكل الذي يتبيّن للعين _ مقطوع العدم.

 


(1) وسائل الشيعة، ج4، ص 210، الباب 27 من أبواب المواقيت، ح4.

(2) الرسائل العشرة، ص 199 _ 202.

34

وهناك روايات أخرى غير الروايات التي جمعها السيد الإمام(قدس سره) من قبيل ما يلي:

1_ حديث يزيد بن خليفة عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «وقت الفجر حين يبدو حتّى‌ يضيء»(1).

2_ صحيحة أبي بصير المكفوف قال: «سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الصائم متى ‌يحرم عليه الطعام؟ فقال: إذا كان الفجر كالقبطيّة البيضاء. قلت: فمتى تحلّ الصلاة؟ فقال: إذا كان كذلك ...»(2).

3_ صحيحة الحلبي قال: «سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن ﴿َكالْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾(3)؟ فقال: بياض النهار من سواد الليل. قال: وكان بلال يؤذّن للنبي(صلى الله عليه و آله)، وابن أُمّ مكتوم _ وكان أعمى _ يؤذّن بليل، ويؤذّن بلال حين يطلع الفجر، فقال النبي(صلى الله عليه و آله): إذا سمعتم صوت بلال فدعوا الطعام والشراب فقد أصبحتم»(4).

4_ معتبرة سماعة بن مهران قال: «سألته عن رجل أكل أو شرب بعد ما طلع الفجر في شهر رمضان؟ فقال: إن كان قام فنظر فلم يرَ الفجر فأكل ثم عاد فرأى الفجر فليتمّ صومه، ولا إعادة عليه، وإن كان قام فأكل وشرب ثم نظر إلى الفجر فرأى أنّه قد طلع الفجر فليتمّ صومه ويقضي يوماً آخر؛ لأنّه بدأ بالأكل قبل النظر فعليه الإعادة»(5).

5_ صحيحة معاوية بن عمّار قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): آمر الجارية أن تنظر طلع الفجر أم لا، فتقول: لم يطلع بعد. فآكل، ثم أنظر فأجد قد كان طلع حين نظرت.


(1) وسائل الشيعة، ج4، ص207، الباب 26 من أبواب المواقيت، ح3. وعيب السند هو يزيد بن خليفة الذي هو واقفي ولم يرد توثيق بشأنه، ولكن يجبره أنّه روى‌ عنه صفوان بن يحيى.

(2) المصدر السابق، ص213، الباب 28 من أبواب المواقيت، ح2.

(3) البقرة: 187.

(4) وسائل الشيعة، ج10، ص 111، الباب 42 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك، ح1.

(5) المصدر السابق، ص115، الباب 44 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ، ح3.

35

قال: اقضه، أمّا إنّك لو كنت أنت الذي نظرت لم يكن عليك شيء»(1).

6_ صحيحة عيص بن القاسم قال: «سألت أبا عبداللّه(عليه السلام) عن رجل خرج في شهر رمضان وأصحابه يتسحّرون في بيت، فنظر إلى الفجر، فناداهم أنّه قد طلع الفجر، فكفّ بعض، وظنّ بعض أنّه يسخر، فأكل؟ فقال: يتمّ ويقضي»(2).

7_ معتبرة سماعة قال: «سألته عن رجلين قاما فنظرا إلى الفجر، فقال أحدهما: هو ذا، وقال الآخر: ما أرى شيئاً؟ قال: فليأكل الذي لم يستبن له الفجر، وقد حرم على الذي زعم أنّه رأى الفجر، إنّ اللّه(وجل عز) يقول: ﴿َككُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْر﴾(3)»(4).

والإنصاف أنّ الآية المباركة والروايات الكثيرة واضحة الدلالة في ما أفاده السيد الإمام(قدس سره)، وسبقه إلى ذلك المحقّق الهمداني(رحمه الله) في مصباح الفقيه وقال ما لفظه:

«مقتضى ظاهر الكتاب والسنّة وكذا فتاوى الأصحاب اعتبار اعتراض الفجر وتبيّنه في الأُفق بالفعل، فلا يكفي التقدير مع القمر لو أثّر في تأخّر تبيّن البياض المعترض في الأُفق، ولا يقاس ذلك بالغيم ونحوه؛ فإنّ ضوء القمر مانع عن تحقّق البياض ما لم يقهره ضوء الفجر، والغيم مانع عن الرؤية لا عن التحقّق، وقد تقدّم في مسألة التغيّر التقديري في مبحث المياه من كتاب الطهارة ما له نفع للمقام، فراجع»(5).


(1) المصدر السابق، ص118، الباب 46 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك، الحديث الوحيد في الباب.

(2) المصدر السابق، الباب47 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك، الحديث الوحيد في الباب.

(3) البقرة: 187.

(4) المصدر السابق، ص119، الباب48 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك، الحديث الوحيد في الباب.

(5) مصباح الفقيه، ج9، ص134.