550

يكون بملاك حصول الاطمئنان، واُخرى بملاك الاحتياط، وثالثة من باب عدمالاهتمام بالغرض أزيد من كاشفيّة خبر الثقة، ونحو ذلك ممّا قد يتصوّر في المقام. والثمرة التي تترتّب في المقام على التقريب الذي بيّنّاه: أنّ هذا الإشكال لو تمّ على تقريب القوم لا يتمّ على تقريبنا؛ إذ نحن لم ندّع ابتداء السيرة العقلائيّة، بل انطلقنا من نقطة العلم بالجامع بين الاُمور الثلاثة، وهذا يعني أنّنا نكتفي بفرض مجرّد الحيرة والتبلبل بالنسبة للعمل بخبر الثقة في الأحكام وحجّيّته، ولا إشكال في أنّ طبيعة العقلاء ـ على الأقلّ ـ تكون بنحو يوجب مثل هذه الحيرة والتبلبل لدى أصحاب الأئمّة(عليهم السلام)ممّا يكفي لكثرة السؤال والجواب.

والثانية: أنّ توهّم ردع السيرة بالآيات الناهية عن العمل بالظنّ الذي قد يورد على ما ذكره الأصحاب: من التمسّك ابتداء بالسيرة العقلائيّة، لا مجال لإيراده على التقريب الذي ذكرناه، فبغضّ النظر عمّا مضى: من عدم دلالتها على نفي حجّيّة الظنّ ولو كان ظنّاً قياسيّاً، نقول: إنّها لا تصلح للردع عن مثل هذه السيرة؛ إذ لو صلحت لذلك لحصل الارتداع بحسب الخارج ولما كانت سيرة أصحاب الأئمّة على العمل بخبر الثقة مع أنّنا قد أثبتنا أنّه كانت سيرتهم على العمل به، وليس من المحتمل قيام سيرتهم على ذلك عصياناً، وكيف يصلح مثل إطلاق آية أو آيتين مشكوكة الدلالة في نفسها للردع عن مثل هذه السيرة التي لها مبادئ مستحكمة في ارتكاز العقلاء ردعاً لا يدع مجالاً للحيرة والبلبلة الموجبة لكثرة السؤال والجواب؟!!

 

جواب الأصحاب عن رادعيّة الآيات عن السيرة:

ثمّ إنّ للأصحاب(قدس سرهم) في مقام دفع رادعيّة الآيات عن السيرة بعد تسليمهم لتماميّة رادعيّتها في نفسها جوابين: أحدهما للمحقّق النائينيّ(رحمه الله)ومدرسته، والآخر للمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) ومدرسته:

أمّا الجواب الأوّل: فهو ما أفاده المحقّق النائينيّ من دعوى حكومة السيرة

551

على تلك الآيات؛ لأنّ جعل الحجّيّة يكون بجعل العلم، فيخرج ذلك عن موضوع الظنّوعدم العلم المنهيّ عن العمل به. وهذا في الحقيقة اقتناص من الجواب العامّ له(قدس سره)عن معارضة تلك الآيات بمطلق أدلّة حجّيّة خبر الثقة، حيث تمسّك في حلّ التعارض بدعوى الحكومة ببيان جعل العلم في دليل الحجّيّة، والسيرة فرد من أفراد تلك الأدلّة، ويأتي فيها عين ذاك الجواب.

والتحقيق: أنّ هذا الكلام لا يتمّ في أصل حلّ المعارضة بين تلك الآيات والأدلّة، وعلى فرض تماميّته في ذلك لا يتمّ في خصوص ما نحن فيه من السيرة العقلائيّة:

أمّا الأوّل: فلأنّنا بعد أن سلّمنا أنّ الحجّيّة إنّما تكون بجعل العلم والطريقيّة، وتقمّصنا كلّ تصوّرات المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في باب الحكومة وبيان الحاكم والمحكوم نقول: إنّه كما أنّ دليل حجّيّة الظنّ يجعل الظنّ علماً كذلك الآيات لو فرض ردعها عن الظنّ تنفي كونه علماً، فهما دليلان واردان في عرض واحد على شيء واحد متخالفان في النفي والإثبات، ولا معنى لحكومة أحدهما على الآخر. فهذا في الحقيقة خلط بين الدليل الوارد في علميّة الظنّ نفياً وإثباتاً، والدليل الوارد في آثار العلم كدليل حرمة الإفتاء بغير علم، فإنّه يمكن دعوى حكومة دليل الحجّيّة على مثل دليل حرمة الإفتاء بغير علم، بدعوى: أنّ دليل الحجّيّة يجعل الظنّ علماً، والعلم موضوع لذاك الدليل، فيحكم عليه، ولا يمكن دعوى حكومته على دليل نفي علميّة الظنّ، فإنّه لم يؤخذ في موضوعه قيد عدم كونه علماً؛ إذ لا يمكن أخذ عدم العلميّة في موضوع الحكم بعدم العلميّة بأن يكون الحكم مأخوذاً في موضوع نفسه.

وأمّا الثاني: فلأنّنا نقول: هل المقصود دعوى حكومة إمضاء الشارع للسيرة على تلك الآيات، أو المقصود دعوى حكومة نفس السيرة العقلائيّة عليها؟

فإن اُريد الأوّل، فلابدّ من إحراز الإمضاء في المرتبة السابقة على الحكومة، كي

552

تدّعى حكومته عليها، وأنت ترى أنّنا لو أحرزنا الإمضاء فمعنى هذا أنّنا قد قطعنا بحجّيّة خبر الثقة، وعندئذ لا نحتاج إلى الحكومة، فحتّى لو فرضنا أنّ دليل الحجّيّة لا يجعل العلم، وإنّما يجعل الحكم المماثل، أو المنجّزيّة والمعذّريّة، أو غير ذلك نأخذ بجانب السيرة؛ للقطع بإمضائها، ولا نأخذ بإطلاق الآيات؛ للقطع بعدم مطابقة إطلاقها للواقع.

وإن اُريد الثاني، أي: أنّ السيرة العقلائيّة بنفسها حاكمة على الآيات فهي بنفسها ترفع المانع، فيثبت الإمضاء في طول الحكومة، فلا يرد عليه ما ورد على الوجه الأوّل، لكنّه يرد عليه إشكال آخر، وهو: أنّه لا مجال لتوهّم حكومة سيرة العقلاء وجعلهم للظنّ علماً بما هو جعل لهم وبقطع النظر عن إمضاء الشارع، على حكم الشارع بعدم العمل بغير العلم. وتصوير حكومة دليل على دليل لدى المحقّق النائينيّ(رحمه الله) يكون بتقريب أنّ الموضوع المأخوذ في لسان الشارع يراد منه كلّ ما صدق عليه في نظره المولويّ، فلو قال مثلاً: (يحرم الربا) فمعنى ذلك أنّه يحرم كلّ ما كان بنظري المولويّ رباً، فإذا دلّ دليل على فرض شيء رباً بنظره المولويّ، أو على نفيه لعنوان الربا عنه مولويّاً كقوله: (لا ربا بين الوالد وولده) كان حاكماً على الدليل الأوّل؛ لأنّه يوسّع دائرة موضوعه، أو يضيّقه تعبّداً ومولويّاً. وعلى ضوء هذا الكلام نقول: إنّ دليل حرمة العمل بغير علم يقول: كلّ ما لم يكن علماً في نظري المولويّ يحرم العمل به، فإن فرض أنّ خبر الثقة علم في نظره المولويّ كان ذلك حاكماً عليه، وإن فرض أنّ خبر الثقة علم في نظر العقلاء وجعلهم، فهذا ليس توسعة لدائرة موضوع ذلك الدليل وهو ما يكون علماً في نظره المولويّ، فلا معنى لحكومته عليه، ولو صحّت حكومة جعل العقلاء لشيء علماً على تحريم الشارع للعمل بغير العلم لصحّت حكومة جعل عاقل واحد أيضاً لذلك عليه، فلو قال عاقل واحد: (إنّي جعلت خبر الثقة علماً) كان ذلك حاكماً على دليل حرمة العمل بغير العلم. وإذا لم يكن جعل عاقل واحد حاكماً فضمّ فضول إلى فضول لا ينتج الحكومة.

553

وأمّا الجواب الثاني: فهو ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من أنّ الآيات يستحيل رادعيّتها عن السيرة؛ إذ رادعيّتها عنها موقوفة على عدم تخصيصها بالسيرة، وعدم مخصّصيّة السيرة لها موقوف على رادعيّتها عنها، فلزم الدور.

هذا هو أصل الجواب عن إشكال رادعيّة الآيات.

 

مشكلة الدورين المتقابلين:

وقد اصطدم هذا الجواب بلزوم الدور في مخصّصيّة السيرة للآيات أيضاً؛ لأنّ مخصّصيّة السيرة للآيات موقوفة على عدم الردع عنها بالآيات، وعدم رادعيّة الآيات موقوفة على مخصّصيّتها لها.

فإذا اصطدم أحد الدورين بالآخر فقد يخطر بالبال أنّه سقط كلا الأمرين، أعني: الآيات والسيرة عن الأثر، فلا الآيات رادعة للزوم الدور، ولا السيرة مخصّصة للزوم الدور، والنتيجة بعد التساقط تكون في صالح المانعين عن الاستدلال بالسيرة على حجّيّة خبر الواحد.

وقد حصل للأصحاب(قدس سرهم) اتّجاهان في موقفهم تجاه هذين الدورين: أحدهما: تقديم جانب السيرة، والآخر: تقديم جانب الآيات، ولكلّ من الاتّجاهين وجوه. والكلام منّا يقع هنا في مقامين:

أحدهما: في تحقيق الحال في أصل هذين الدورين.

والثاني: فيما حصل للأصحاب من الاتّجاهين وتحقيق الحال فيهما.

 

تحقيق حال الدورين:

أمّا المقام الأوّل: فلا يخفى أنّ هناك ظاهرة غريبة تترتّب على ما ذكروه من الدور في المقام، وهي لزوم ارتفاع النقيضين؛ إذ لو كانت الرادعيّة مستحيلة؛

554

لتوقّفها على عدم التخصيص وبالعكس، لكان عدم الرادعيّة الذي هو نقيض الرادعيّة أيضاً مستحيلاً. والبرهان على ذلك: أنّ نقيض العلّة علّة لنقيض المعلول، فإذا كان ـ مثلاً ـ عدم التخصيص علّة للرادعيّة وبالعكس، فلا محالة يكون التخصيص علّة لعدم الرادعيّة وبالعكس، فكلا النقيضين يلزم منه الدور، والمفروض أنّ وجود ما هو دائريّ في عالم التوقّف مستحيل مثلاً، إذن فالرادعيّة مستحيلة؛ لتوقّفها على عدم التخصيص وبالعكس، وعدم الرادعيّة مستحيل؛ لتوقّفه على التخصيص وبالعكس، فلزم ارتفاع النقيضين. وكذلك الحال في طرف التخصيص، فلئن كان التخصيص مستحيلاً لتوقّفه على عدم الرادعيّة وبالعكس، لكان عدم التخصيص أيضاً مستحيلاً؛ لأنّ نقيض العلّة علّة للنقيض، فعدم التخصيص متوقّف على الرادعيّة وبالعكس.

ولو قدّمنا الاحتراز عن مشكلة ارتفاع النقيضين على مشكلة استحالة وجود ما هو دائريّ في عالم التوقّف والتزمنا بإمكان وجوده، فقلنا بوجود أحد النقيضين في المقام، اتّجه القول بأنّ نسبة الدور إلى كلّ واحد منهما على حدّ سواء، فلابدّ من وجود كليهما؛ لأنّ وجود أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح، فلزم عندئذ اجتماع النقيضين.

والواقع: أنّ منشأ هذه المشكلة في المقام هو تخيّلهم أنّ المستحيل هو تحقّق الرادعيّة بحسب الخارج مثلاً؛ لكونها متوقّفة على ما يتوقّف عليها، فكأنّ أصل دائريّة التوقّف ليس مستحيلاً، وإنّما المستحيل هو وجود ما دار التوقّف بالنسبة إليه وتحقّقه في الخارج، مع أنّ الأمر ليس كذلك، فإنّ أصل التوقّف الدائريّ مستحيل، فلا يعقل أن يكون (أ) متوقّفاً على (ب)، و(ب) متوقّفاً على (أ) لا أنّ بالإمكان حصول التوقّفين، فإذا حصلا لم يوجد (أ) ولا (ب) في الخارج.

وعليه فلابدّ من تحقيق حال سلسلة التوقّفات حتّى يظهر عدم دائريّة السلسلة

555

في نفسها، فالصحيح أنّه ليست هناك سلسلة دائريّة لا في جانب التخصيص، ولا في جانب الرادعيّة:

أمّا في جانب التخصيص: فما ذكر من الدور عبارة عن أنّ مخصّصيّة السيرة للآيات تتوقّف على عدم رادعيّة الآيات لها؛ إذ مخصّصيّة السيرة تساوق حجّيّتها الموقوفة على عدم الردع، وعدم رادعيّة الآيات لها تتوقّف على التخصيص الكاسر لإطلاقها الرادع.

والتحقيق: أنّ مخصّصيّة السيرة التي هي بروحها عبارة عن حجّيّتها موقوفة على عدم الردع بالآيات، ولكن عدم الردع بالآيات ليس موقوفاً على حجّيّة السيرة؛ وذلك لأنّنا إمّا أن نقول: إنّه يكفي في الردع عن السيرة ورود ظهور عن الشارع على خلافها ولو لم يكن ذاك الظهور حجّة لنا؛ لأنّ ذاك الظهور يكفي في إيجاد احتمال عدم الإمضاء، وبالتالي لا يتحقّق القطع بالإمضاء، وإمّا أن نقول: يجب أن يكون الردع بظهور حجّة لنا:

فإن قلنا بالأوّل، فعدم الدور في غاية الوضوح، فإنّ المفروض أنّ الآيات ظاهرة في الردع، والمفروض أنّ الظهور كاف في باب الردع وإن لم يكن حجّة، فما توقّفت عليه حجّيّة السيرة الذي هو عبارة عن عدم الردع ولو بظهور غير حجّة منتف في المقام، فتنتفي لا محالة حجّيّة السيرة، وليست حجّيّة السيرة علّة لعدم الردع كي يلزم الدور، وإنّما علّته عدم ورود ظهور على خلافها ولو غير حجّة، والمفروض وروده.

وإن قلنا بالثاني، فهنا يأتي مجال لتوهّم الدور، بدعوى: أنّ عدم الردع الموقوفة عليه حجّيّة السيرة موقوف على حجّيّة السيرة؛ إذ لو كانت السيرة حجّة ومخصّصة سقط ظهور الآية عن الحجّيّة، والمفروض أنّه يشترط في الرادع أن يكون حجّة.

556

ولكن التحقيق: أنّه لا يلزم الدور حتّى بناءً على هذا الفرض؛ وذلك لأنّ ما تتوقّف عليه حجّيّة السيرة إنّما هو عبارة عن عدم الردع بقطع النظر عن حجّيّة السيرة، لا عدم الردع ولو بلحاظ حجّيّة السيرة. ومن المعلوم أنّ عدم الردع عن العمل بخبر الواحد بقطع النظر عن حجّيّة السيرة منتف؛ إذ المفروض أنّ الآيات في نفسها رادعة بقطع النظر عن حجّيّة السيرة، وإنّما الكلام في أنّ حجّيّة السيرة هل تمنع عن رادعيّتها، أو لا؟ ولا معنى للقول بأنّ عدم الردع بقطع النظر عن حجّيّة السيرة موقوف على حجّيّة السيرة حتّى يلزم الدور.

وتوضيح ما ذكرناه: من أنّ حجّيّة السيرة تتوقّف على عدم الردع بقطع النظر عن حجّيّة السيرة لا على عدمه ولو بلحاظ حجّيّتها، هو: أنّ معنى حجّيّة السيرة المتوقّفة على عدم الردع هو استكشافنا لإمضاء الشارع للسيرة، واستكشافنا لإمضاء السيرة من عدم الردع يكون على أساس البرهان الإنّي، أي: كشف العلّة عن المعلول أو ما يشبهه، حيث إنّ عدم الردع معلول للإمضاء مثلاً، ومن المعلوم أنّ المعلول الذي يستكشف منه الشيء، معلول لنفس ذاك الشيء بقطع النظر عن العلم به، لا للعلم به، وإلّا لما دلّ على ذاك الشيء، فإنّ المعلول إنّما يدلّ على علّته لا على شيء أجنبي عنه. إذن فاستكشاف الإمضاء والعلم به الذي هو عبارة اُخرى عن حجّيّة السيرة موقوف على عدم الردع بقطع النظر عن هذه الحجّيّة والعلم، لا مطلق عدم الردع ولو كان العدم الناشئ من هذه الحجّيّة والعلم، وذلك لا لما يترتّب عليه من محذور الدور، بل لأنّ الإمضاء إنّما يحصل العلم به بواسطة العلم بمعلوله، ومعلوله إنّما هو العدم الناشئ منه لا العدم الناشئ من العلم به.

وقد تحصّل ممّا ذكرناه: أنّه لا دور في جانب المخصّصيّة، وأنّ الصحيح هو: أنّ السيرة ليست مخصّصة للآيات بعد تسليم صلاحيّتها للردع.

هذا تمام الكلام في توضيح عدم الدور في جانب التخصيص.

557

وأمّا في جانب الرادعيّة: فتوضيح ذلك: أنّ توقّف عدم حجّيّة السيرة (وهي روح مخصّصيّتها) على رادعيّة الآيات وإن كان صحيحاً، لكن رادعيّة الآيات ليست موقوفة على عدم حجّيّة السيرة ومخصّصيّتها. بيانه: أنّ روح رادعيّة الآيات وجوهرها عبارة عن حجّيّة ظهورها في النهي عن العمل بخبر الثقة(1)، وهذه الحجّيّة إنّما تتوقّف على ثبوت أصل الظهور وعدم ثبوت كذبه، ولا تتوقّف على شيء آخر، كما هو الحال في كلّ ظهور من قبل المولى، فإنّه يكفي في حجّيّته مضافاً إلى أصل تحقّق الموضوع والظهور عدم ثبوت كذبه.

ويقع الكلام في أنّ عدم ثبوت الكذب المشروط به حجّيّة الظهور عبارة عن عدم ثبوت الكذب على تقدير الحجّيّة، أو أنّ هذا لا يكفي بل يشترط عدم ثبوت الكذب حتّى بقطع النظر عن الحجّيّة؟

فإن قلنا بالأوّل، فهذا متحقّق في المقام. وليس المقصود من عدم ثبوت الكذب على تقدير الحجّيّة عدم الثبوت الفعليّ الناشئ من الحجّيّة (كي يلزم الدور لتوقّف الحجّيّة عليه، وتوقّفه على الحجّيّة)، بل المقصود منه قضيّة شرطيّة، وهي: أنّه لو كان هذا الظهور حجّة لما كنّا نعلم بكذبه، وهذه القضيّة الشرطيّة صادقة في المقام؛ إذ لا شكّ في أنّ ظهور الآيات على تقدير حجّيّته وعدم تخصيصها بالسيرة لا يعلم بكذبه، ولا يتوقّف صدق القضيّة الشرطيّة على صدق طرفيها. وعلى هذا فظهور الآيات يصبح حجّة ورادعاً عن السيرة من دون أن يكون ذلك متوقّفاً على عدم حجّيّة السيرة، فلا دور في المقام.


(1) بعد تسليم أنّ الرادع هو الظهور الحجّة، أمّا لو فرض أنّ الظهور ولو لم يكن حجّة كاف في الردع فعدم الدور هنا واضح كما كان واضحاً ـ بناءً عليه ـ في جانب التخصيص أيضاً.

558

وإن قلنا بالثاني، وهو: أنّ حجّيّة الظهور مشروطة بعدم ثبوت كذبه حتّى في فرض عدم الحجّيّة، فظهور الآيات ساقط عن الحجّيّة في المقام، فإنّ ظهور الآيات على تقدير عدم حجّيّته وتخصيصها بالسيرة مقطوع الكذب، ولم تكن حجّيّة الظهور ورادعيّة الآيات متوقّفة على عدم حجّيّة ومخصّصيّة السيرة كي يلزم الدور المدّعى في المقام، وإنّما كانت متوقّفة على عدم ثبوت الكذب حتّى في فرض عدم حجّيّة الظهور، وعدم ثبوت الكذب هذا ليس متوقّفاً بدوره على عدم حجّيّة ومخصّصيّة السيرة كي يعود الدور؛ إذ حتّى مع فرض عدم حجّيّة ومخصّصيّة السيرة يكون عدم ثبوت الكذب بهذا النحو منتفياً؛ للقطع بالقضيّة الشرطيّة، وهي: أنّه لو كانت السيرة مخصّصة وظهور الآية غير حجّة فالظهور كاذب. وعليه فظهور الآية حتماً ساقط في المقام لعدم توفّر شرط حجّيّته، كما أنّه تحصّل فيما سبق سقوط حجّيّة السيرة، فلا الآيات رادعة، ولا السيرة مخصّصة، بل يتساقط كلاهما، والنتيجة توافق من يقصد إسقاط السيرة في المقام(1).

بقي هنا بيان ما هو الحقّ في المقام، أي: أنّه هل يكفي في حجّيّة الظهور عدم ثبوت الكذب على تقدير الحجّيّة، أو يشترط في حجّيّته عدم ثبوت الكذب حتّى على تقدير عدم الحجّيّة، فنقول: إنّه بحسب عالم الثبوت يكفي في إمكان جعل


(1) لا يخفى أنّنا لو بنينا على عدم صلاحيّة الآيات للردع في ذاتها فقد أصبحت السيرة حجّة، أمّا ما تحصّل فيما سبق فإنّما هو سقوط حجّيّة السيرة باعتبار أنّ الآيات صالحة في ذاتها وبقطع النظر عن حجّيّة السيرة للردع، فإن بنينا هنا على عكس ذلك، وأنّ الآيات غير صالحة للردع، وأنّ عدم صلاحها هذا لم ينشأ من حجّيّة السيرة، بل نشأ من علمنا بالقضيّة الشرطيّة، وهي: أنّه (لو كانت السيرة حجّة فظهور الآية كاذب) فلا مبرّر لسقوط السيرة عن الحجّيّة، والمفروض أنّ الظهور غير الحجّة لا يردع عن السيرة.

559

الحجّيّة مجرّد احتمال الصدق على تقدير الحجّيّة، فإنّ ما يوجب استحالة جعل الحكم الظاهريّ من استحالة اجتماعه مع الحكم الواقعيّ في فرض العلم بالخلاف لا يقتضي أزيد من اشتراط ذلك. وأمّا بحسب عالم الإثبات فكلّ منهما معقول، أي: أنّه يعقل فرض قيام الدليل على اشتراط احتمال الصدق على تقدير الحجّيّة، كما يعقل فرض قيام الدليل على اشتراط احتمال الصدق حتّى على تقدير عدم الحجّيّة. والصحيح هو الأوّل، فإنّه الذي يبني عليه العقلاء في أعمالهم. فمثلاً لو ورد عامّ كقوله: (أكرم كلّ عالم) وعلمنا ببركة إخبار المعصوم بأنّ كلّ مقدار من مدلول هذا العامّ لم تقم على خلافه حجّة فهو مطابق للواقع، وورد ما يكون ظاهراً في إخراج العالم الفاسق بالتخصيص عن هذا العموم، فلا إشكال في حجّيّة هذا الظهور مع أنّ حجّيّته هي التي تُفني العلم بكذبه؛ إذ لولا حجّيّته لقطعنا بكذبه؛ لإخبار المعصوم بصدق العموم في كلّ ما لم تقم حجّة على خلافه.

 

موقف الأصحاب تجاه الدورين:

وأمّا المقام الثاني: فقد مضى أنّ للأصحاب ـ قدّس الله أسرارهم ـ في المقام اتّجاهين:

 

تقديم جانب السيرة:

الاتّجاه الأوّل: هو الاتّجاه القائل بتقديم السيرة حقيقة أو نتيجة. وله وجوه:

الوجه الأوّل: ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): من أنّ رادعيّة الآيات وإن كانت موقوفة على عدم مخصّصيّة السيرة وبالعكس، لكن مخصّصيّة السيرة ليست موقوفة على عدم الردع واقعاً، بل يكفي فيها عدم العلم بالردع، وهو ثابت، فتكون

560

السيرة مخصّصة. وهذا ما يمكن أن يكون مقصوداً لما أفاده(قدس سره)في المقام من الكلام(1).

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ ذهابه إلى توقّف رادعيّة الآيات على عدم مخصّصيّة السيرة في غير محلّه، وإنّما هي متوقّفة على عدم العلم بكذب ظهورها بالبيان الذي عرفت.

وثانياً: أنّه هل المقصود بحجّيّة الخبر المثبتة بالسيرة هي الحجّيّة المولويّة، أو الحجّيّة الذاتيّة بمعنى عدم ثبوت حقّ الطاعة للمولى فيما يعارض دائرة أخبار الثقات؟ فإن كان المقصود هو الأوّل، فدعوى كفاية الشكّ في الردع في حجّيّة السيرة ـ بناءً على حمل كلامه(قدس سره) على ذلك ـ في غير محلّها، فإنّ الشكّ في الردع مساوق للشكّ في الإمضاء، فكيف يحرز الإمضاء؟ ولا دليل على جعل الشارع


(1) وهذا ما فسّر به الشيخ المشكينيّ(رحمه الله) كلام اُستاذه صاحب الكفاية. وهناك احتمال آخر في كلام صاحب الكفاية احتمله المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) في تفسير عبارة اُستاذه في الكفاية، وهو أن يكون المقصود: إذا كانت رادعيّة الآيات تستلزم الدور فاستحالت، ومخصّصيّة السيرة تستلزم الدور أيضاً فاستحالت، فالسيرة قد أصبحت حجّة؛ لأنّها فقدت رادعها؛ لأنّ المفروض استحالة رادعيّة الآيات، وبالتالي أصبحت السيرة مخصّصة بلا دور؛ إذ عدم الردع لم يكن على أساس التخصيص كي يلزم الدور، بل كان على أساس الاستحالة.

وأورد عليه المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله): أنّ هذا الكلام ليس بأولى من العكس، بأن يقال: إذا كانت الرادعيّة والمخصّصيّة دائرتين فاستحالتا، فإطلاق الآيات قد أصبح حجّة؛ لأنّها فقدت مخصّصها؛ لأنّ المفروض استحالة مخصّصيّة السيرة. وبالتالي أصبحت الآيات رادعة بلا دور؛ إذ عدم التخصيص لم يكن على أساس الردع كي يلزم الدور، بل كان على أساس الاستحالة. نهاية الدراية، ج 2، ص 91.

561

لنفس السيرة أمارة شرعيّة على الإمضاء ما لم نحرز الردع كي يثبت بذلك الإمضاء تعبّداً. وإن كان المقصود هو الثاني، قلنا: إنّه وإن كان من الممكن دعوى أنّ المولى ليس له أزيد من حقّ الطاعة وفق أخبار الثقات ما لم يصلنا الردع، ولكن مفاد السيرة عندئذ ليس إلّا عبارة عن هذه القضيّة التعليقيّة، وهي: أنّه لو لم يصلنا الردع لكان خبر الثقة حجّة ذاتيّة، ولا معنى لتخصيص الآية بالقضيّة التعليقيّة، ولابدّ من تخصيصها بما يدلّ على الحجّيّة الفعليّة، وهذه السيرة إنّما تدلّ على الحجّيّة التعليقيّة، والمعلّق عليه ـ وهو عدم وصول الردع ـ منتف بنفس الآية؛ لما مضى من تماميّة حجّيّة الآية ورادعيّتها بقطع النظر عن السيرة.

وثالثاً: أنّنا لو سلّمنا أنّ مخصّصيّة السيرة موقوفة على عدم وصول الردع، لكن هذا لا يدفع المحذور العقليّ، بل يكون محذور الدور أو ما يشبهه ثابتاً على حاله. وتوضيح ذلك: أنّ عدم وصول الردع لا منشأ له عدا أحد اُمور ثلاثة:

1 ـ عدم الظهور. والمفروض خلافه.

2 ـ عدم تسليم كبرى حجّيّة الظهور. والمتسالم عليه بيننا خلافه.

3 ـ ثبوت مخصّصيّة السيرة، أو الشكّ في مخصّصيّتها من ناحية تزاحم مخصّصيّة السيرة ورادعيّة الآيات ودائريّتها والتساقط. وأنت ترى أنّ إثبات مخصّصيّة السيرة بالشكّ في الردع الناشئ من هذا السبب غير معقول(1).

 


(1) لعلّ مقصوده(رحمه الله) أنّه لو فرض نشوء الشكّ في الردع من مخصّصيّة السيرة لزم الدور، ولو فرض نشوؤه من تساقطهما، ففرض حجّيّة السيرة خلف فرض سقوطها، أو يقال: إنّ الشكّ في الردع إن نشأ من مخصّصيّة السيرة فهذا دور، وإن نشأ من احتمالها والتردّد فيها فانتهاء ذلك إلى العلم بالتخصيص خلف فرض التخصيص.

أقول: بإمكان المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) أن يقول: إنّ عدم وصول الردع أو قل: احتمال

562

الوجه الثاني: ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) أيضاً من أنّه بعد تساقط الآيات والسيرة نرجع إلى استصحاب الحجّيّة الثابتة بالسيرة قبل نزول الآيات(1).

وببالي ـ وإن لم اُراجع قريباً ـ إنّه(قدس سره) ناقش في هذا الوجه بأنّه لم يثبت مضيّ زمان من أوّل التشريع أمكن فيه الردع ولم يردع(2).

أقول ـ بقطع النظر عن هذا الإشكال ـ: إنّ التمسّك بالاستصحاب في مثل المقام لا معنى له، وهذه غفلة غريبة منه، فإنّ دليل الاستصحاب إنّما هو خبر الواحد، والكلام بعد في حجّيّته.

 


عدم الردع، نشأ من احتمال مخصّصيّة السيرة، واحتمال مخصّصيّة السيرة نشأ من عدم برهان على نفي التخصيص لا من الدائريّة والتساقط، ففي الحقيقة كان احتمال التخصيص برهاناً ـ ببركة أدائه إلى عدم وصول الردع ـ على التخصيص من دون أن يلزم دور ولا خلف، وليس معنى أداء احتمال التخصيص إلى العلم بالتخصيص أداء التردّد إلى العلم كي يقال: إنّ فرض العلم هو خلف فرض التردّد، وإنّما معناه أداء درجة ناقصة من الكشف إلى الدرجة الكاملة ببركة أداء تلك الدرجة الناقصة إلى عدم وصول الردع، والدرجة الناقصة اندكّت في الكاملة.

ثمّ إنّ الإيراد الثاني والثالث من الإيرادات الثلاثة التي أوردها اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)على كلام المحقّق الخراسانيّ(قدس سره)يختصّان بالتفسير الذي احتمله هو لكلام المحقّق الخراسانيّ، دون التفسير الذي احتمله المحقّق الإصفهانيّ لكلام اُستاذه، بينما الإيراد الأوّل من هذه الإيرادات الثلاثة مشترك الورود على كلا التفسيرين.

(1) هذا ما نقله الشيخ المشكينيّ(رحمه الله) عن الدورة الأخيرة لبحث المحقّق الخراسانيّ. راجع حاشية المشكينيّ على الكفاية في المجلّد الثاني من الكفاية، ص 101.

(2) هذا ليس هو إشكالاً للمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)، بل هو إشكال للشيخ المشكينيّ(قدس سره)على المحقّق الخراسانيّ.

563

الوجه الثالث: ما أفاده المحقّق الخراسانيّ أيضاً من أنّ الأمر دائر بين ناسخيّة الآيات، ومخصّصيّة السيرة. ومهما دار الأمر بين ناسخيّة أحد الدليلين للآخر ومخصّصيّة الآخر له قدّم التخصيص على النسخ(1).

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ هذا إنّما يتمّ في الدليل اللفظيّ، فيقال: إنّ الأمر دائر بين رفع اليد عن ظهور الخاصّ في الإطلاق الأزمانيّ، وظهور العامّ في الشمول الأفراديّ، ولمّا كان النسخ نادراً، والتخصيص شيئاً متعارفاً كان ظهور الخاصّ في الإطلاق الأزمانيّ أقوى من ظهور العامّ في الشمول الأفراديّ، فيقدّم عليه. ولا مجال لمثل هذا الكلام فيما نحن فيه، فإنّ دليل السيرة لا إطلاق له حتّى يقدّم إطلاقه على


(1) هذا ما نقله الشيخ المشكينيّ(رحمه الله) عن المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) حين قراءته للكفاية عليه. ولو كان هذا جواباً مستقلاًّ على إشكال معارضة الدور في الرادعيّة بالدور في التخصيص، فقد يقال: إنّ هذا لا يصلح جواباً على ذلك، فإنّ هذا غاية ما يثبت أنّ التخصيص مقدّم على النسخ عند الدوران بينهما، ولكن مشكلتنا هنا هي: أنّ النسخ والتخصيص كلاهما دائريّان ومستحيلان، لا أنّه دار الأمر بينهما، كي يقدّم التخصيص على النسخ. وهذه المشكلة كما ترى لم تعالج، إلّا أنّ الشيخ المشكينيّ(رحمه الله) لم ينقل هذا الكلام عن المحقّق الخراسانيّ بعنوان العلاج لإشكال الدور. وعلى أيّ حال، فأنا أحتمل: أنّ هذا الكلام من المحقّق الخراسانيّ كان تفسيراً لنفس الجواب الموجود في الكفاية عن دائريّة التخصيص، أو كان جواباً آخر مقارباً لهذا الجواب. وحاصله: أنّه يكفي في التخصيص عدم العلم بالردع، فلا دور، والسبب في كفاية ذلك في التخصيص أنّ إمضاء السيرة قد تمّ سابقاً قبل نزول الآيات، فدار الأمر عند نزول الآيات بين نسخ الخاصّ وتخصيص العامّ، والثاني أولى. إذن مع الشكّ في الردع المساوق للدوران بين النسخ والتخصيص يتمّ التخصيص.

564

إطلاق الآيات، وإنّما السيرة تكشف عن الإمضاء في زمان عدم ورود الردع بمقدار ذلك الزمان.

وثانياً: أنّ تقديم التخصيص على النسخ إنّما يتمّ في غير عصر التشريع، وأمّا في عصر التشريع فلا ـ ويأتي تحقيق تفصيل ذلك في محلّه إن شاء الله ـ خاصّةً أنّ المنسوخ هو مجرّد السيرة والإمضاء لا النصّ الخاصّ.

الوجه الرابع: ما أفاده المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره)(1) من أنّه مع فرض قيام السيرة على العمل بخبر الثقة لا مقتضي لحجّيّة ظهور الآيات في المقام أصلاً؛ إذ لا دليل على حجّيّة هذا الظهور، فإنّ الدليل على حجّيّة الظهور إنّما هو السيرة، ولا معنى لقيام السيرة على العمل بالظهور الدالّ على المنع عن العمل بخبر الثقة؛ إذ لو قامت السيرة على ذلك لكان هذا يعني قيام السيرة على عدم العمل بخبر الثقة، والمفروض قيامها على العمل به، فلزم تحقّق السيرة على كلّ واحد من النقيضين، وهو غير معقول.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ معنى قيام السيرة على العلم بخبر الثقة هو أنّ عملهم بخبر الثقة في اُمور معاشهم، أو في الأوامر المولويّة العرفيّة يقتضي جريهم ـ لو خلّوا وطبعهم ـ على نفس المنهج في أوامر المولى سبحانه وتعالى، ولا تنافي بين هذا الاقتضاء وبين فعليّة العمل بظهور الردع، فليس معنى اجتماع السيرتين قيام السيرة على النقيضين، فإنّ مقتضى السيرة الاُولى ليس بأكثر من أنّهم لو خلّوا وطبعهم لعملوا بخبر الثقة في الشرعيّات، فلو فرض أنّ السيرة الثانية وصلت إلى مرتبة العمل بالفعل بالظهور مثلاً، وذلك بالارتداع عن العمل بخبر الثقة لم يكن أيّ تناف بين الأمرين.


(1) في نهاية الدراية، ج 2، ص 93.

565

وثانياً: أنّنا لو فرضنا أنّ السيرة العقلائيّة على العمل بخبر الثقة انتهت بالفعل إلى العمل بخبر الثقة في الشرعيّات خلافاً لظهور الآيات في الردع، فهذا لا ينافي دعوى السيرة في جانب الظهور، وكأنّ الاشتباه نشأ من التعبير بالسيرة على العمل بالظهور، بينما المقصود بالسيرة في جانب حجّيّة ظهور كلام الشارع ليس هو العمل بالفعل بظهور كلام الشارع، فقد يعصي العقلاء الظواهر والنصوص معاً، وإنّما المقصود هو بناء العقلاء على كشف المراد بالظهور، ولا تنافي بين كشفهم لمراد كلام المولى تعالى بظهوره في الردع عن العمل بخبر الثقة، وفرض عملهم فعلاً بخبر الثقة، بأن يكون هذا عصياناً للمولى سبحانه.

 

تقديم جانب الردع:

الاتّجاه الثاني: تقديم جانب الردع. وقد ذكر لذلك وجوه ثلاثة، أو أزيد لا يهمّنا التعرّض إلّا لما هو أهمّها، وهو وجهان:

الوجه الأوّل:(1) أنّ مخصّصيّة السيرة وإن كانت دائريّة لكن رادعيّة الآيات ليست دائريّة، وذلك على عكس ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): من دائريّة الردع دون التخصيص. والوجه في عدم دائريّة الردع أنّ رادعيّة الآيات لا تتوقّف على عدم التخصيص بالسيرة، وإنّما يكفي فيها عدم العلم بالتخصيص، فإنّ العموم حجّة ما لم يعلم بتخصيصه.

ويرد عليه: أنّ التفكيك بين التخصيص والعلم به إنّما يتمّ في المخصّص اللفظيّ، فيفرض أنّ هناك مخصّصاً يكون حجّة من قبل الشارع بالحجّيّة التعبّديّة في عالم


(1) وهذا ما ذكره الشيخ المشكينيّ(رحمه الله) في تعليقته على الكفاية. راجع الجزء الثاني من الكفاية التي عليها تعليقة المشكينيّ، ص 101.

566

الثبوت ولم نعلم بذلك بحسب مقام الإثبات، وهذا التفكيك لا يعقل في باب السيرة، فإنّ قوام مخصّصيّتها بحجّيّتها، وقوام حجّيّتها بكشفها عن الإمضاء، وقوام كشفها عن الإمضاء بحصول العلم بالإمضاء، والعلم ليس له مقامان: مقام الثبوت ومقام الإثبات، ولا يعقل فرض ثبوت العلم واقعاً وعدم وصوله إلينا إثباتاً، ولا فرق بين أن نعبّر بأنّ رادعيّة الآيات موقوفة على عدم التخصيص بالسيرة، أو نعبّر بأنّها موقوفة على عدم العلم بالتخصيص بها. نعم، الصحيح أنّ حجّيّة ظهور الآيات موقوفة على عدم العلم بكذبه كما أنّ حجّيّة السيرة موقوفة على عدم الردع عنها، فإن قلنا: إنّ العدم الموقوف عليه في كلتا الحجّيتين هو مطلق العدم ولو العدم الجائي من قبل تلك الحجّيّة لزم الدور، ويتساقط ظهور الآيات مع السيرة؛ لأنّ نسبة الدور إليهما على حدّ سواء، فلا هذه تكون حجّة ولا تلك، وإلّا لم يلزم الدور، فتنقيح لزوم الدور وعدمه موقوف على النكات التي مضى ذكرها منّا، لا على ما ذكر هنا.

الوجه الثاني: ما أفاده المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره)(1)، وهو: أنّ المقتضي لحجّيّة الظهور تنجيزيّ، وإنّما الكلام في مانعيّة حجّيّة السيرة (وذاك المقتضي هو نفس الظهور على ما يبدو من عبارة المحقّق الإصفهانيّ)، والمقتضي لحجّيّة السيرة تعليقيّ؛ إذ كشف السيرة عن الإمضاء معلّق على عدم الردع، ومهما كان هناك مقتضيان أحدهما مقتض تنجيزيّ لأثره، وإنّما الكلام في مانعيّة تأثير الآخر، والآخر يكون اقتضاؤه تعليقيّاً، فلا محالة يؤثّر الأوّل دون الثاني؛ إذ لا يحتاج تأثير الأوّل إلّا إلى وجود المقتضي وعدم المانع، ووجود المقتضي هو المفروض، والمانع لا يصلح للمنع؛ لكونه تعليقيّاً.


(1) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 91.

567

وأورد المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) على ذلك(1) بأنّ مجرّد تعليقيّة الاقتضاء في أحد الجانبين وتنجيزيّته في الجانب الآخر لا توجبان الفرق في قضيّة الدور مادام المعلّق عليه عبارة عن عدم تأثير ما هو تامّ الاقتضاء، فكما أنّ تأثير المقتضي التعليقيّ موجب للدور كذلك تأثير المقتضي التنجيزيّ موجب له، فإنّ تأثيره متوقّف على عدم المانع، وعدم المانع متوقّف على عدم خروج المقتضي التعليقيّ من التعليق إلى التنجيز، وعدم خروجه من التعليق إلى التنجيز متوقّف على تأثير المقتضي التنجيزيّ؛ إذ المفروض كونه معلّقاً على عدم تأثيره، فلزم الدور.

أقول: هذا الاشتباه منه(قدس سره) قائم على أساس الاشتباه الرئيس منهم في أصل تصوير استحالة الدور الذي مضى ذكره، حيث إنّه كأنّهم رأوا أنّ الدوران في عالم التوقّف ليس محالاً، وإنّما المحال وقوع الأمر الدائر بحسب الخارج، والصحيح كما مضى هو استحالة الدوران، وتوقّف الشيء على نفسه.

وتأثير المقتضي التنجيزيّ ليس دائريّاً، فإنّه لا يتوقّف إلّا على عدم المانع. وتأثير المقتضي التعليقيّ بنفسه غير صالح للمانعيّة؛ إذ في أيّ وقت يصلح مانعاً عن تأثير المقتضي التنجيزيّ وعاملاً لنفيه؟ هل في وقت عدمه، أو في وقت وجوده؟

أمّا في وقت عدمه فغير معقول؛ إذ العدم لا يصلح مانعاً عن شيء ومؤثّراً في إسقاط مقتض عن التأثير، وأمّا في وقت وجوده فأيضاً لا يعقل اقتضاؤه لعدم تأثير المقتضي التنجيزيّ؛ إذ وجوده في طول عدم التأثير فعلاً للمقتضي؛ لأنّ المفروض كونه معلّقاً عليه، فقد اتّضح أنّ تأثير هذا المقتضي التعليقيّ بنفسه قاصر عن اقتضاء المانعيّة؛ إذ المتأخّر ليس فيه اقتضاء للمتقدّم لا أنّ عدم المانع متوقّف على عدم خروج المقتضي التعليقيّ إلى التنجيزيّ، فلا دور في المقام.


(1) راجع المصدر السابق، ص 92.

568

ولو كان هناك ماء عند شخصين أحدهما يريد شربه، ويكون مقتضي الشرب فيه تنجيزيّاً وإنّما الكلام في مانعيّة شرب الآخر عنه؛ إذ لو شربه الآخر لم يتمكّن هذا من الشرب لانتفاء الموضوع، والآخر تكون إرادته للشرب واقتضاؤه له معلّقاً على عدم شرب الأوّل، فلا محالة يشرب الأوّل ولا يشرب الثاني، لفعليّة الاقتضاء وتنجّزه في الأوّل دون الثاني.

هذا تمام الكلام في الإشكال الذي أورده المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) على الوجه الذي ذكره لترجيح جانب الردع.

وأمّا أصل الوجه الذي ذكره لترجيح جانب الردع فهو متين بعد تغيير يسير لظاهر عبارته (حيث كان ظاهرها أنّ الوجه في تنجيزيّة مقتضي حجّيّة الظهور هو نفس الظهور. والصحيح أنّ الوجه فيها هو الظهور مع عدم العلم بالكذب)، فالواقع أنّ اقتضاء السيرة للحجّيّة معلّق على عدم الردع، واقتضاء الآية للردع والحجّيّة تنجيزيّ؛ إذ الحجّيّة فيها لا تحتاج إلّا أصل ثبوت الظهور مع عدم العلم بالكذب، وكلاهما متحقّقان بالتفصيل الذي ذكره، فهذا الوجه في غاية المتانة، وهو في الحقيقة راجع إلى ما ذكرناه.

هذا تمام ما أردنا ذكره في السيرة(1)، والمقدار الذي ذكرناه فيها يكفي لفهم


(1) اعلم أنّ خلاصة ما نختاره في باب السيرة على العمل بحجّيّة خبر الثقة: أنّ السيرة المدّعاة في المقام لو قصد بها السيرة العقلائيّة ـ وهو المقصود في كلمات الأصحاب هنا ـ فقيام سيرة عقلائيّة على ذلك غير واضح عندي، فلعلّ العقلاء يكون اعتمادهم في مقام الاحتجاج فيما بينهم على البيّنة لا خبر الواحد الثقة كما هو كذلك في باب القضاء حتماً، فهم وإن كانوا في غير القضايا الاحتجاجيّة يعتمدون أحياناً على خبر الثقة لكن هذا يكون بنكتة حصول الاطمئنان تارةً، أو الاحتياط اُخرى، أو عدم الاهتمام

569


بالغرض بأكثر من ذلك ثالثة، ولم يعلم أن يكون بمستوى من العموم بحيث يؤدّي ذلك إلى جريهم بطبعهم نحو العمل بخبر الثقة في موارد الاحتجاج، فيصبح عدم الردع من الشارع دليلاً على الإمضاء.

وأمّا سيرة المتشرّعة بالمعنى العامّ المنسجم لافتراض نشوئها من طبعهم العقلائيّ ولافتراض نشوئها من رأي المعصوم(عليه السلام) فالظاهر ثبوتها بالبرهان الذي مضى في المتن عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله).

ومن الفوارق بين السيرتين: أنّ سيرة العقلاء لو تمّت لا يحتمل اختصاصها بباب الأحكام، بل تشمل الموضوعات حتماً؛ لأنّ جذور السيرة ـ وهي درجة الكشف ودرجة الاهتمام ـ لا فرق فيها بين البابين. أمّا سيرة المتشرّعة فاحتمال اختصاصها بباب الأحكام وما يلحق به كإثبات نقل الواسطة للحكم وارد، وتوضيح ذلك: أنّ البرهان الذي مضى عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) لإثبات السيرة كان مؤتلفاً من ثلاث مقدّمات، وكانت المقدّمة الاُولى عبارة عن كثرة الابتلاء في زمن المعصومين(عليهم السلام)بالأخبار الظنّيّة، وهذه المقدّمة مختصّة بباب الأحكام، ولا تجري في الموضوعات؛ لأنّ الغالب في الموضوعات وجود طريق آخر يستغنى به بسهولة من خبر الواحد، وذلك إمّا بالاعتماد على أمارات عقلائيّة اُخرى مقطوعة الحجّيّة، كاليد، وسوق المسلمين، والإقرار، ونحو ذلك، أو بسهولة تحصيل العلم بالواقع، وهذا بخلاف باب الأحكام، حيث كان الإمام(عليه السلام)فيما عدا بلد حضوره فيه بعيداً عن متناول الشيعة، بل حتّى في بلد الحضور لم تكن نعمة التشرّف بحضوره موفورة للكلّ خصوصاً في غير زمان الإمام الصادق(عليه السلام)، وهذا ممّا يجعل الابتلاء بأخبار الآحاد عامّاً شائعاً، ويؤدّي إلى تماميّة البرهان الماضي: من أنّه لولا السيرة لكثر السؤال والجواب بالنفي. وكذلك المقدّمة الثالثة من تلك المقدّمات تتمّ في

570

حال تمام ما ذكروه في المقام.

وقد تحصّل إلى هنا دليلان صحيحان على حجّيّة خبر الثقة: السنّة، والسيرة، والدليل الصحيح منحصر في هذين؛ لعدم تماميّة ما مضى: من الاستدلال بالكتاب، وعدم تماميّة ما سيأتي: من الاستدلال بما ذكروه من الأدلّة العقليّة، كما سوف يتّضح إن شاء الله.

 


باب الأحكام، ولا تتمّ في باب الموضوعات؛ إذ وردت في باب الموضوعات روايات متفرّقة في أبواب مختلفة تدلّ على الحاجة إلى البيّنة وعدم كفاية خبر الواحد ممّا يحتمل كونها إشارة إلى عدم حجّيّة خبر الواحد في الموضوعات، بينما لم يرد شيء من هذا القبيل في باب الأحكام، واحتمال الفرق وارد.

571

 

تحديد دائرة الحجّيّة

وقبل أن نشرع في بيان الأدلّة العقليّة على حجّيّة خبر الواحد وبطلانها نذكر هنا حدود الحجّيّة الثابتة لخبر الواحد، وتنقيح موضوعها على ضوء هذين الدليلين الصحيحين وهما السيرة والسنّة. والكلام في ذلك يقع في جهات:

 

حجّيّة الأخبار مع الواسطة:

الجهة الاُولى: في حجّيّة خبر الثقة مع الواسطة وعدمها، والبحث فيها تارةً يقع ثبوتاً بمعنى أنّه هل يمكن ثبوت الحجّيّة للأخبار مع الواسطة بالدليل اللفظيّ، أو لا ؟ واُخرى يقع إثباتاً بمعنى أنّه هل دلّ الدليل على حجّيّة الخبر مع الواسطة بعد فرض الإمكان، أو لا ؟

والبحث الثبوتيّ قد مضى في أعقاب آية النبأ، وظهر إمكان ثبوت الحجّيّة للخبر مع الواسطة ولو بالدليل اللفظيّ، فهنا يتمحّض الكلام في مرحلة الإثبات لكي نرى أنّ الدليلين اللذين تمّت دلالتهما على حجّيّة خبر الثقة هل يشملان خبر الثقة مع الواسطة، أو لا ؟

فنقول: أمّا السيرة فلا إشكال في شمولها لخبر الثقة مع الواسطة، فإنّ أصحاب الأئمّة كانوا يعملون بخبر الثقة مع الواسطة، وهذا ما يكون في طول استكشاف رضا الإمام(عليه السلام) بذلك، أو أنّه يستفاد رضا الإمام(عليه السلام)بذلك من عدم ردعه، وعلى أيّ حال يثبت المقصود.

والدليل على أنّهم كانوا يعملون بذلك هو: أنّه كما كانت تدخل في محلّ ابتلائهم عموماً الأخبار الظنّيّة بلا واسطة، كذلك لا إشكال في أنّه كانت تدخل في محلّ ابتلائهم عموماً الأخبار الظنّيّة مع الواسطة، فإنّ الأخبار المرويّة عن رسول

572

الله(صلى الله عليه وآله)، وأمير المؤمنين(عليه السلام) عن غير طريق الأئمّة كانت مع الوسائط قطعاً، بل وكذا الروايات المرويّة عن الباقر والصادق(عليهما السلام)، فإنّها كانت تنقل للأجيال المتأخّرة، كالمعاصرة للإمام الجواد، والهادي، والعسكريّ(عليهم السلام)بواسطة، أو واسطتين، أو ثلاث، أو أكثر. ومَن يطّلع بحسب الخارج على كيفيّة تلقّي أصحاب الأئمّة(عليهم السلام)للروايات، وكيفيّة اهتمامهم لجمعها من الرواة السابقين عليهم يعرف بوضوح أنّ مثل هذه الروايات كانت تتناقل جيلاً بعد جيل، وتكون داخلة في رواياتهم، والدليل المادّيّ القطعيّ الذي يكون بيدنا تلقّينا لهذه الروايات منهم، فإنّ هذه الروايات تلقّيناها بسند تكون قطعة من هذا السند مشتملة على أفراد متعدّدين واقعين في زمان الأئمّة(عليهم السلام). وخلاصة الكلام: أنّ كون الأخبار مع الواسطة داخلة في محلّ ابتلائهم عموماً من بديهيّات التأريخ.

وعليه نقول: إمّا أنّهم كانوا يعملون بهذه الروايات، أو لا ؟ أمّا الشقّ الأوّل فهو المقصود. وأمّا الشقّ الثاني فهو باطل؛ إذ لا نحتمل أنّهم كانوا يتركون العمل بهذه الأخبار بلا سؤال، فإنّ حال هذه الأخبار ليس حال الاستخارة والقرعة التي يكون الاعتماد عليها في كشف الحكم على خلاف الطبع العقلائيّ.

فخبر الثقة مع الواسطة إمّا أنّ الارتكاز العقلائيّ العامّ قائم على عدم الفرق بينه وبين خبر الثقة بلا واسطة، وإمّا أنّ هناك ميلاً لهم نحو العمل بخبر الثقة مع الواسطة بحيث يكون ذلك مستساغاً عقلائيّاً، أو لا أقلّ من أنّه لم يكن لهم ميل إلى الخلاف، أو ارتكاز على الخلاف، كما هو الحال في القرعة والاستخارة، فلا أقلّ من فرض التحيّر والتبلبل، فيكثر السؤال لا محالة على تقدير عدم السيرة على العمل بخبر الثقة مع الواسطة، ويكثر الجواب بالنفي؛ إذ لو كان الجواب بالإثبات لقامت السيرة على العمل به، والدواعي للسؤال والجواب والنقل متوفّرة، وكيف لا مع أنّ هذا من الابتلاءات العامّة، وممّا يتوقّف عليه أساس الشريعة وكيان الدين؛

573

لأنّ أكثر أحكام الشريعة إنّما تتلقّى بهذا الترتيب، فلو سألوا واُجيبوا بالنفي لكان يصلنا ذلك ضمن عدّة أخبار، فما ظنّك بالحال مع ما ترى: من أنّه لم ترد حتّى رواية واحدة ضعيفة تدلّ على ذلك.

إن قلت: إنّ هذا منقوض بالخبر الظنّيّ الذي يكون راويه غير ثقة، فإنّه أيضاً يأتي فيه عين هذا البيان: من أنّه كان محلّ الابتلاء، وأنّه لا أقلّ من عدم الميل العقلائيّ إلى ترك العمل به، ومع ذلك لا تقولون بحجّيّته.

قلت: نعم، هذا يأتي في كلّ أمارة عامّة الابتلاء كثيرة الوقوع في كثير من موارد الاستنباط، لكنّه قد وردت طوائف عديدة من الأخبار من الممكن كونها ناظرة إلى الردع عن خبر غير الثقة:

منها: ما ورد من النهي عن العمل بالخبر غير العلميّ(1)، فلعلّه وارد في الردع عن العمل بخبر غير الثقة.

ومنها: الأخبار الواردة في أنّه لابدّ من التثبّت في الدين، وعدم أخذ الدين إلّا من مقام أمين، ونحو ذلك من العناوين الكلّيّة(2)، فلعلّها واردة أيضاً في الردع عن ذلك.

 


(1) لعلّه ينظر(رحمه الله) إلى الخبرين اللذين مضى نقلهما في أوّل البحث عن السنّة التي قد يدّعى دلالتها على عدم حجّيّة خبر الواحد: رواية محمّد بن عليّ بن عيسى(1)، ورواية محمّد بن عيسى(2).

(2) لعلّه(رحمه الله) ينظر إلى مثل حديث زيد الشحّام عن أبي جعفر(عليه السلام) في قول الله عزّ وجلّ:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 36، ص 86.

(2) مستدرك الوسائل، ج 3، ب 9 من صفات القاضي، ح 10، ص 186. وكذلك البحار،ج 2، ب 29 من كتاب العلم، ح 33، ص 241.

574

ومنها: الأخبار الواردة في النهي عن العمل بأخبار المخالفين معلّلة ذلك بعلّة عامّة: من أنّهم لا يؤمنون على الدين، وأنّهم خانوا الله وخانوا رسول الله، وأنّه إن أخذت دينك منهم فقد أخذته من الخائنين، ونحو ذلك(1). فهذه الطائفة لعلّها تردع بالتعليل الوارد فيها عن العمل بأخبار الشيعة إذا كانوا خائنين لله ورسوله.

ومنها: ما ورد في النهي عن العمل بخبر إلّا تحت شروط وقيود، كقوله: (لاتأخذ أحكامك إلّا من كلّ قديم العهد في أمرنا مسنّ في حبّنا)(2).

 


﴿فَلْيَنظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِه﴾، قال: قلت: ما طعامه ؟ قال: «علمه الذي يأخذه عمّن يأخذه»(1)، وروايات الأخذ من الصادق(2)، ورواية أبي البختريّ عن أبي عبدالله(عليه السلام): «...فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه»(3)، ورواية أبي حمزة الثماليّ عن أبي عبدالله(عليه السلام): «...إيّاك أن تنصب رجلاً دون الحجّة، فتصدّقه في كلّ ما قال»(4).

(1) لعلّه(رحمه الله) ينظر إلى الحديث 42 من الباب 11 من صفات القاضي من الجزء 18 من الوسائل، ص 109. ولعلّه ينظر أيضاً إلى مثل مقبولة عمر بن حنظلة المانعة من التحاكم لدى قضاة الجور. نفس الباب، الحديث 1، ص 99.

(2) لعلّه(رحمه الله) ينظر إلى رواية أحمد بن حاتم بن ماهويه قال: كتبت إليه يعني

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل، ج 18، الباب 7 من صفات القاضي، الحديث 10، ص 43.

(2) من قبيل ما في الوسائل، ج 18، الباب 7 من صفات القاضي، الحديث 37، والباب 8 منها، الحديث 67 إلى 70، والباب 10 منها، الحديث 12.

(3) الوسائل، ج 18، الباب 8 من صفات القاضي، الحديث 2، ص 53.

(4) الوسائل، ج 18، الباب 10 من صفات القاضي، الحديث 6، ص 91، ونحوه الحديث 15، ص 93.