449

مدى حقّانيّة العقل العملىّ

وأمّا الأمر الثالث: وهو الكلام في مدى حقّانيّة العقل العملىّ، فهنا موقفان:

موقف المثبتين، وموقف المشكّكين.

أمّا الموقف الأوّل: فقد ذكروا لبيان حقّانيّة العقل العملىّ وجهين:

الوجه الأوّل: أنّ قضايا العقل العملىّ اتّفاقيّة بين تمام العقلاء، اذن فهي حقّة.

ومن الواضح: أنّ مجرّد اتّفاق العقلاء ليس بالمباشرة دليلاً على الصحّة والحقّانيّة. فكأنّ المقصود من الاستدلال به ما يكون من سنخ الاستدلال بالتجربة، بأن يقال: إنّ المعارف البشريّة النابعة من حاقّ النفس تكون مضمونة الصحّة، ويستحيل فيها الخطأ، بخلاف المعارف التي يتدخّل فيها الاُمور الخارجة عن النفس، ومعرفة الضرورة الخلقيّة هي من المعارف النابعة من حاقّ النفس؛ بدليل اتّفاق العقلاء عليها؛ إذ إنّ اتّفاقهم عليها شاهد على كون المنشأ لهذه المعرفة أمراً مشتركاً بين الجميع؛ إذ لو كان المنشأ لها أمراً غير مشترك بين الجميع، لما حصل اتّفاق الجميع عليها، وليس هناك شيء مشترك بين الجميع عدا النفس البشريّة، فتثبت أنّ هذه المعرفة نابعة من النفس وفطريّة للإنسان.

ويرد عليه: أنّ من عاشرناهم ورأيناهم من الناس لم يكن الأمر المشترك بينهم منحصراً في النفس البشريّة، بل هم مشتركون ـ أيضاً ـ في تعايشهم في مجتمع إنسانىّ، ومشاهدتهم لقوانين مقنّنة في المجتمع، وتربيتهم في حجر الأب والاُمّ أو المعلّم ونحو ذلك(1). فمن احتمل كون هذه المعرفة مستوحاة من تلك القوانين والمجتمعات والتربية والتعليمات، لم يمكن إثبات عدمه له بهذا الوجه، ومن لايحتمل ذلك لايحتاج إلى هذا الوجه.

الوجه الثاني: ما ذكره بعض: من أنّه لو خلق إنسان منفرداً، وعاش منفرداً، ولم يشاهد أىّ مجتمع أو تعليم وتربية ونحو ذلك، ثُمّ حمل على الإخبار بشيء ما، ولم توجد له أىّ فائدة صدفة في الكذب، فهذا الإنسان سيصدق في إخباره، وهذا شاهد على أنّه يدرك


(1) والمجتمعات والتعاليم المختلفة مشتركة في كثير من المناشئ، كالمصالح والغرائز، فمن لا يدرك بوجدانه حقّانيّة الحسن والقبح، يحتمل أنّ المقدار المشترك بين الناس من الحسن والقبح المعترف بهما عند جميع المجتمعات ناشئ من التعاليم الاجتماعيّة المستوحاة من تلك المصالح والغرائز. وطبعاً أنّ تعاليم من هذا القبيل لا يشترط فيها التطابق الكامل والشامل لتمام الموارد مع المصالح والغرائز حتّى ينقض ببعض الموارد التي نرى الحسن والقبح المعترف بهما اجتماعيّاً يتخلّفان عن المصالح والغرائز.

450

حسن الصدق وقبح الكذب.

وهنا ـ أيضاً ـ من الواضح: أنّ مجرّد إدراك هذا الشخص ليس دليلاً مباشراً على المطلوب. وكأنّه ذكر ذلك لجبر النقص الذي أحسّ به ـ ولو ارتكازاً ـ في الوجه الأوّل من ثبوت جامع آخر من التعايش في المجتمع وملاحظة القوانين وما شابه ذلك، ففرض شخص فاقد لذلك كي يكون توافقه لباقي العقلاء في درك الحسن والقبح دليلاً على كون هذا الدرك نابعاً من حاقّ الفطرة والنفس البشريّة.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ هذا صرف فرض وخيال، ولم نجرّبه خارجاً كي نرى هل يدرك هذا الإنسان الضرورة الخلقيّة، أو لا؟ وهذا الفرض يقابله فرض الشيخ الرئيس ابن سينا حيث ذكر بصدد الاستشهاد على عدم ثبوت واقعيّة العقل العملىّ: أنّنا لو فرضنا شخصاً وجد وعاش منفرداً، لا يكون مدركاً بعقله ولا بوهمه ولا بحسّه الحسن والقبح.

والواقع: أنّ كلا الفرضين لا يفيدنا بحسب الفنّ شيئاً.

وثانياً: أنّه لو سلّمنا في الجملة العلم بأنّ هذا الشخص سيختار الصدق، فإنّ هذا العلم لو تحقّق، فإنّما يتحقّق لمن يدرك سابقاً واقعيّة الحسن والقبح، فإدراكه السابق لذلك يجرّه إلى الاعتقاد بأنّ الإنسان الذي وجد وعاش منفرداً سيختار الصدق. أمّا من لا يدرك واقعيّة الحسن والقبح، فلا مسوّغ له لدعوى العلم بأنّ هذا الشخص سيختار الصدق؛ كي يجعل هذا دليلاً على واقعيّة الحسن والقبح.

وثالثاً: لو سلّم ـ على رغم فرض عدم إدراكنا السابق لواقعيّة الحسن والقبح ـ أنّ هذا الإنسان سيختار الصدق، تطرّق احتمال أن يكون اختياره للصدق لميل وغريزة نفسانيّة في الطبع البشرىّ يدفعه نحو الصدق متى ما لم تكن له مصلحة في الكذب، أو أن يكون اختياره للصدق لإدراكه بالعقل النظرىّ مصلحة الصدق ومفسدة الكذب على ما قاله الفلاسفة من كون إدراك مصالح الاُمور الحسنة ومفاسد الاُمور القبيحة واضحة لدى كلّ عاقل، وقد مضى أنّ إدراك الحسن والقبح غير مرتبط بباب الميل والغريزة، وبباب المصلحة والمفسدة.

وأمّا الموقف الثاني: وهو موقف التشكيك في العقل العملىّ: فتارة يكون بالمنطق الأخبارىّ، واُخرى بالمنطق التجريبىّ، وثالثة بالمنطق العقلىّ.

أمّا المنطق الأخبارىّ: فهو دعوى كثرة الأخطاء في العقل العملىّ ببرهان وقوع

451

الاختلاف الكثير فيه بين الناس؛ إذ لا يمكن حقّانيّة الآراء المتضادّة جميعاً، فلا يبقى اعتماد على العقل العملىّ.

وهذا الكلام يمكن أن يكون المراد منه منع حصول الإدراك العقلىّ للحسن والقبح، وقد مضى الكلام فيه، ويمكن أن يكون المراد منه منع ضمان الحقّانيّة، وهذا هو الذي نتكلّم عنه الآن.

وقد اُورد على ذلك تارة بالنقض بمسألة قبح إجراء المعجز على يد الكاذب، وقبح المعصية، وحسن الطاعة والمعرفة. وقد مضى الجواب عن ذلك.

واُخرى بالحلّ: بأنّ العقل العملىّ قد أدرك حسن العدل وقبح الظلم، ولم يقع خلاف في ذلك، وإنّما الخلاف في تطبيق هاتين الكبريين العقليّتين.

والجواب: أنّ قولنا: العدل حسن والظلم قبيح ضروريّتان بشرط المحمول، ونحن نشرح الكلام في ذلك بالنسبة إلى قولنا: (الظلم قبيح)، ومنه يظهر الكلام في قولنا: (العدل حسن)، فنقول: لايتحصّل معنىً معقول للظلم عدا سلب ذي الحقّ حقّه. فقد فرض في الرتبة المتقدّمة على هذا الكلام حقّ للمظلوم، سواء كان هو غير الظالم، أو كان هو نفس الظالم، كما في ظلم الشخص نفسه(1) ؛ إذ يكفي التغاير بين الظالم والمظلوم بالاعتبار، ونحن نتكلّم فيما يجب أن يكون مفروضاً في الرتبة المتقدّمة على الظلم، وهو الحقّ، فنقول:

إنّ هذا الحقّ تارة يفترض أنّه ليس مدركاً بالعقل، وإنّما هو حقّ قانونىّ واعتبارىّ بحت، واُخرى يفترض كونه مدركاً بالعقل:

فإن فرض الأوّل: فمن الواضح: أنّ العقل العملىّ لا يدرك قبح مخالفته؛ لعدم اعترافه به، وإنّما الحاكم بقبحها هو القانون والمجتمع أو الفرد الذي اعتبر هذا الاعتبار؛ ولذا ترى أنّ ما يقبح في مجتمع رأس مالي من تصرّفات في أموال لايقبح في مجتمع شيوعىّ مثلاً، باعتبار أنّ ملكيّة الفرد وسلطنته أمر اعتبارىّ اعتبره المجتمع الأوّل، ولم يعتبره المجتمع الثاني.

وإن فرض الثاني: أي: إنّ العقل العملىّ أدرك الحقّ، فهذا بنفسه هو الإدراك للقبح. فمعنى قولنا مثلاً: (إنّ من حقّ اليتيم أن لايضرب) هو أنّه يقبح ضرب اليتيم. فقولنا: (الظلم


(1) ظلم الشخص نفسه بمنطق العقل العملىّ غير معقول، إلّا بمعنى: أن يرتكب في حقّ نفسه ما حرّمه عليه المولى، كقتل نفسه؛ إذ هو مملوك للمولى لا لنفسه، وهذا راجع إلى ظلم المولى. ولا نتعقّل أىّ تغاير اعتبارىّ في الرتبة المتقدّمة على الظلم بين الشخص ونفسه بنحو يوجب تعقّل ظلم الشخص نفسه.

452

قبيح) يرجع بالأخرة إلى قولنا: (القبيح قبيح)، وهذه قضيّة بشرط المحمول.

وبتعبير آخر: أنّ قولنا: الظلم قبيح لا يصلح إلّا أن يكون منبّهاً ومشيراً إلى عدّة قضايا مفروضة في الرتبة السابقة، فقد جعل الظلم اسماً لكلّ ما فرض في المرتبة السابقة قبحه، وهذا هو السرّ في عدم الخلاف في قبح الظلم.

والحاصل: أنّ إدخال قولنا: (الظلم قبيح والعدل حسن) في البراهين والأبحاث الفنّيّة ليس إلّا عبارة عن لعب الألفاظ بالاُمور العقليّة والمطالب الفنّيّة، نظير لعب كلمة (بيان) في قولهم: «يقبح العقاب بلابيان» بها، إذ إنّه جاء صدفة التعبير بكلمة (البيان) في لسان أوّل من عبّر عن هذا القانون «بقبح العقاب بلابيان»، ثُمّ اُسّس من زمان المحقّق النائينىّ(رحمه الله)إلى زماننا هذا ثلث الاُصول على هذا اللفظ، كما يتّضح ذلك بمراجعة ما مضى من بحث قيام الأمارات مقام القطع الطريقىّ، وما يأتي ـ إن شاء الله ـ من بحث الجمع بين الحكم الظاهرىّ والواقعىّ.

والصحيح في دفع منشأ التشكيك للأخبارىّ أن يقال: إنّ العقل العملىّ ينقسم إلى قسمين: عقل أوّل، وعقل ثان. كما قسّموا العقل النظريّ إلى قسمين: بديهىّ أوّلىّ، وبرهانىّ ثانوىّ (ونحن أضفنا إليهما الإدراك بحساب الاحتمالات). والعقل الأوّل يدرك حسن الأشياء وقبحها بقطع النظر عن مسألة التزاحم، والعقل الثاني يميّز الأهمّ من المهمّ عند التزاحم. وكثرة الاختلاف إنّما هي في الثاني، حتّى أنّ ما يحكى: من أنّ بعض المجتمعات تكون الرئاسة فيها مختصّة بقاتل الرئيس السابق، وليس قتل الرئيس قبيحاً عندهم، بل من يقتله ويقوم مقامه يرونه مستحقّاً للمدح، يرجع في الحقيقة إلى ما ذكرناه: من الاختلاف بينهم وبين المجتمعات التي شاهدناها في تمييز الأهمّ من المهمّ لدى التزاحم. فكلّ إنسان يدرك أنّ الطموح وطلب العزّ والرفعة في نفسه حسن(1)؛ ولذا ترى المجتمعات الاُخرى يحسّنون ذلك في غير موارد التزاحم بقبيح كالقتل. كما أنّ كلّ إنسان يدرك قبح قتل الإنسان في نفسه؛ ولذا ترى ذاك المجتمع الذي كان يحسّن قتل الرئيس


(1) الحسن والقبح العقليّان بالمعنى المدرك للعقل العملىّ لا يتصوّران بنحو تكون لهما واقعيّة حقيقيّة في فعل بشأن نفس الفاعل. نعم، يتصوّر بشأنه المصلحة والمفسدة والكمال والنقص. وحينما يؤمر من قبل المولى الحقيقىّ بعمل بشأن نفسه يصبح هذا العمل باعتباره امتثالاً لأمر المولى حسناً، لكن هذا بلحاظه امتثالاً لأمر المولى لا بشأن نفس الفاعل.

453

بهدف الوصول إلى العزّ يقبّح قتله بغير هذا الهدف، أو قتله قبل رئاسته، أو بعد سقوطه من الرئاسة. فالاختلاف بينهم وبين سائر المجتمعات في تشخيص ما هو الأهمّ من هذين الأمرين. أمّا عدم درك أصل الحسن والقبح، فلايوجد لدى إنسان إلّا ذاك الأبله الذي لا يدرك بديهيّات العقل النظرىّ أيضاً.

والحاصل: أنّ التشكيك الأخبارىّ هنا بلحاظ كثرة الخطأ في العقل العملىّ؛ لما نراه من الاختلافات الكثيرة، وكذا البرهان الثالث من براهين عدم حقّانيّة العقل العملىّ، وهو عدم ذاتيّة الحسن والقبح؛ لاختلافهما باختلاف الوجوه والاعتبارات، ناشئان عن الغفلة عن مسألة التزاحم في باب العقل العملىّ، وتخيّل أنّ العقل العملىّ يدرك حسن عدّة اُمور وقبح عدّة اُمور اُخرى مباينة للاُولى، فيتراءى ـ حينئذ ـ الاختلاف بين العقلاء(1)، كما يتراءى ـ أيضاً ـ الاختلاف في ذلك باختلاف الوجوه والاعتبارات. وبالالتفات إلى هذه النكتة يرتفع كلا الاشتباهين. وكأنّ الغفلة نشأت عن تخيّل أنّ الحسن والقبح المدركين للعقل العملىّ عبارة عن صحّة المدح والذمّ على الحسن والقبيح، وعدم الالتفات إلى أنّ الحسن والقبح المدركين للعقل العملىّ ثابتان في الرتبة المتقدّمة على المدح والذمّ؛ إذ إنّه على هذا لا يبقى مجال لتصوّر اجتماع حسن وقبح على شيء واحد بعنوانين، وترجيح أحدهما على الآخر؛ إذ حسن الشيء ليس إلّا عبارة عن صحّة المدح عليه، وقبحه ليس إلّا عبارة عن صحّة الذمّ عليه. فاختلاف الناس في صحّة المدح والذمّ ليس إلّا اختلافاً في أصل الحسن والقبح، في حين أنّ الواقع: أنّ صحّة المدح والذمّ تكون في المرتبة المتأخّرة عن اعتقاد الفاعل بحسن فعله أو قبحه(2).


(1) ولا يخفى أنّ الاختلاف بين العقلاء ينشأ كثيراً في الأخلاقيّات التي لا واقعيّة لها، وتكون وليدة للقانون والبيئة والعادات وما شابه ذلك، كما في كشف العورة وحجاب المرأة وغير ذلك ممّا لا حسن وقبح واقعىّ فيه ما لم يفرض أمر من قبل المولى الحقيقىّ، فيرجع إلى حسن الامتثال وقبح المعصية. وينبغي الفصل بين الأخلاقيّات التي لها واقع مستقلّ والأخلاقيّات التي لا واقع لها عدا القوانين والعادات، والخلط بينهما قد يؤدّي إلى التشكيك الأخبارىّ الذي عرفت باعتبار مشاهدة الاختلافات بين العقلاء.

(2) لايخفى أنّ القبح وكذا الحسن الثابتين بنحو المطلق الشمولىّ يسريان إلى الحصص، فالحصّة التي يتصادق عليها العنوانان يتكاسر فيها الحسن والقبح، ويثبت فيها الأقوى فقط. وهذا كاف في غفلة صاحب الشبهة عن مسألة التزاحم، حيث لايرى في الحصص الّا حسناً فقط أو قبحاً فقط، من دون حاجة إلى الرجوع إلى افتراض أنّ الحسن والقبح يعني صحّة مدح أو ذمّ الفاعل على الفعل. ولو كان مقصوده (رضوان الله عليه) من اجتماع الحسن والقبح عدم التكاسر في الحصّة لعدم سريانها إليها، فهذا غير صحيح.

454

وأمّا المنطق التجريبىّ: فهو دعوى أنّ المصدر الأساس للمعارف البشريّة المضمونة الصحّة هي التجربة، وكلّ علم لم ينشأ عن التجربة يمكن أن يكون مطابقاً للواقع، ويمكن أن يكون مخالفاً له، ومن هذا القبيل العلم بالحسن والقبح الذاتيّين.

وإشكالنا على هذا المنطق مبنائىّ؛ إذ حقّق في محلّه عدم كون التجربة المصدر الأساس للمعرفة، واحتياجها إلى الرصيد العقلىّ الثابت في الرتبة المتقدّمة عليها، وليس هنا مجال تفصيل الكلام في ذلك.

وأمّا المنطق العقلىّ: فهو دعوى عدم ارتباط العقل العملىّ بالبرهان بموادّها وفروعها.

وهذا الوجه قائم على أساس القول بانحصار ضمان حقّانيّة أىّ قضيّة في كونها برهانيّة، أي: من موادّ البرهان، وهي البديهيّات الستّ، أو من الفروع المترتّبة على ذلك بالحدّ الأوسط.

أمّا كيف يقرّب عدم ثبوت هذا الضمان بالنسبة إلى العقل العملىّ؟ فهذا ما يتحدّث عنه المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله) بالشكل التالي:

ذكر(رحمه الله) أنّ البديهيّات منحصرة في ستّة أقسام: الأوّليّات، والفطريّات، والحسّيّات، والتجريبيّات، والحدسيّات، والمتواترات.

وقضايا العقل العملىّ لا تدخل في شيء من هذه الأقسام الستّة:

أمّا عدم دخولها في الأربعة الأخيرة، فواضح.

وأمّا الفطريّات فلا علاقة لقضايا العقل العملىّ بها؛ إذ القضايا الفطريّة ـ دائماً ـ تكون منطوية على قياس، كما في قولنا: الأربعة زوج، الذي قياسه معه، ولاينفكّ منه لغاية ظهوره، وهو انقسامها إلى المتساويين، أمّا في قبح الظلم ـ مثلاً ـ فلا نرى أىّ قياس مستبطن فيه.

وأمّا الأوّليّات فهي التي يكفي تصوّر طرفيها للجزم بالحكم، وليس الأمر في باب العقل العملىّ كذلك، وإلّا لما وقع الخلاف فيه.

أقول: أمّا ما أفاده تبعاً للمنطق القديم: من كون موادّ البرهان ـ وهي البديهيّات ـ ستّ، فقد مضى الكلام فيه، وعرفت أنّ الصحيح انحصارها في ثلاثة؛ لأنّ التجريبيّات والحدسيّات والمتواترات غير مضمونة الصحّة، والمضمون صحّته هو: الأوّليّات،

455

والفطريّات، وكذا الحسّيّات بالنسبة إلى وجود واقع في الجملة(1) دون مطابقة الواقع في الخصوصيّات. وعلى أىّ حال، فهذه النكتة لا تكون دخيلة فيما هو المقصود؛ إذ لا نزاع في عدم كون العقل العملىّ دخيلاً في الأربعة الأخيرة. وأمّا كيفيّة استنتاجه لعدم ضمان حقّانيّة العقل العملىّ، فكان الأفضل أن يغيّر نهج البيان لذلك؛ إذ ليس ضمان حقّانيّة كلّ واحد من القضايا الستّ أو الثلاث بملاك يخصّه، بل بنكتة مشتركة فيما بينها، وهي: إدراكها من حاقّ النفس ـ بلا دخل شيء آخر خارج عن النفس وقواها ـ أوحى إلى النفس بذلك الحكم، كقانون أو تأديب أو غير ذلك(2).

فينبغي أن يقال ابتداءً في مقام بيان عدم ضمان حقّانيّة العقل العملىّ: إنّ قضايا العقل العملىّ لا تنبع من حاقّ النفس؛ بدليل وقوع الخلاف فيها بين النفوس. وعلى أيّ حال، فهذا ليس إشكالاً على جوهر كلامه (رضوان الله عليه) بقدر ما هو تحسين لصياغة المنهج. هذا.

والذي ينبغي أن يكون مراده(قدس سره) من هذا الوجه هو التشكيك المنطقىّ في العقل العملىّ، لا التشكيك الاُصولىّ؛ فإنّ هذا الوجه لايفيد أزيد من ذلك.

وعلى أىّ حال، فالاستدلال على عدم ضمان حقّانيّة قضايا العقل العملىّ باختلاف العقلاء فيها باعتباره ـ على حدّ تعبيره ـ شاهداً على عدم كونها من الأوّليّات، أو ـ على حدّ تعبيرنا ـ شاهداً على عدم دخولها في جامع الضرورىّ، وعدم نبعها من النفس وقواها، غير صحيح؛ وذلك لأمرين:

الأوّل: منع ثبوت اختلاف العقلاء في ذلك؛ إذ لو كان المراد بالاختلاف الاختلاف في تمييز الحسن من القبيح بعد تسليم أصل الحسن والقبح، فقد مضى أنّ الاختلاف إنّما هو في باب الترجيح، لا في أصل كون هذا حسناً وذلك قبيحاً(3).


(1) قد مضى عدوله (رضوان الله عليه) عن ذلك. نعم، المحسوسات بالحسّ الباطنىّ مضمونة الصحّة.

(2) في المحسوسات بالحسّ الباطنىّ نكتة الضمان أقوى من ذلك، وهي: كونها معلومة بالعلم الحضورىّ لدى النفس.

(3)وهناك اختلاف ـ أيضاً ـ في أصل كون هذا حسناً وذاك قبيحاً في الاُمور التي يكون حسنها وقبحها راجعاً إلى القانون أو العادة، ولا واقعيّة في المرتبة المتقدّمة على القانون والعادة، كما في موضوع الحجاب والسفور.

456

ولو كان المراد مخالفة الأشعرىّ في أصل الحسن والقبح، قلنا: إنّ الأشعرىّ لم يخالف في الحسن والقبح، وإنّما خالفنا بفرض إسنادهما إلى الشارع. وهذا من باب الخلط بين الحمل الأوّلىّ والثانوىّ وعدم التمييز بينهما، وهو غير الاختلاف في أصل الحسنوالقبح. وهذا نظير الاختلاف في أنّ الوجوب والإمكان ـ مثلاً ـ هل هما انتزاعيّان،كما هو المشهور، أو من لوح الواقع، كما هو المختار، مع الاشتراك في الإيمان بأصل الوجوب والإمكان. إذن فالاختلاف الذي يشير إليه المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله) غير ثابت، إلّا إذا قصد بذلك أنّه هو(رحمه الله) يخالفنا في ذلك، ويفرض عدم إدراكه(رحمه الله) لحسن الطاعة وقبح المعصية.

الثاني: أنّه لا مسوّغ لدعوى: أنّ كلّ ما هو مضمون الصحّة لكونه نابعاً من النفس بما لها من القوى فهو متّفق عليه بين العقلاء؛ وذلك لأنّه على رغم اشتراك الناس في قوى النفس قد يقع الخلاف بينهم في بعض ما هو مضمون الصحّة؛ لأحد أمرين:

الأوّل: أنّ الأشخاص مختلفون في تصاعدهم على وفق الحركة الجوهريّة في مراتب النفس وقواها؛ ولهذا تختلف دائرة البديهيّات سعة وضيقاً باختلاف الأشخاص إلى أن نصل إلى الأبله الذي لا يدرك كثيراً من بديهيّات العقل النظرىّ ـ مثلاً ـ التي يدركها متعارف الناس. ومن الممكن أن يوجد شخص في أعلى مراتب علوّ النفس ورقيّها، ويدرك بالبداهة كلّ ما هو نظرىّ عندنا.

الثاني: أنّ فهم النفس قد يغطّى بتأثير من الشبهات العلميّة، أو الشهوات النفسيّة، فلا يدرك ما كان يدركه لولا الشبهات أو الشهوات.

ولذا ترى أنّه في كلّ زمان من الأزمنة وإلى يومنا هذا كان يوجد في العقلاء المفكّرين والفلاسفة الفنّيّين من ينكر استحالة اجتماع النقيضين. هذا.

وقد اتّضح بما ذكرناه: أنّ كلّ ما أفاده القوم في المقام لإثبات مدركات العقل العملىّ أو نفيها أو التشكيك فيها غير صحيح.

457

العقل العملىّ لايخضع للبرهان

والواقع: أنّ أصل الحسن والقبح لا يمكن البرهنة عليه: لا بعقل التجربة، ولا بعقل البرهان، ولا بالبداهة.

أمّا الأوّل: فلوضوح عدم ارتباط قضايا العقل العملىّ بباب التجربة.

وأمّا الثاني: فلأنّ البرهنة على شيء عبارة عن تشكيل القياس، وإثبات الحدّ الأكبر للحدّ الأصغر بواسطة ثبوته للحدّ الأوسط. وذلك موقوف على درك ثبوته للحدّ الأوسط في المرتبة المتقدّمة على هذا القياس. فنحتاج فيما نحن فيه إلى حكم العقل العملىّ بالنسبة إلى الحدّ الأوسط، فننقل الكلام إليه إلى أن ينتهي الكلام إلى ما لا يكون انطباق الحكم عليه بواسطة حدّ آخر، وإلّا لتسلسل.

فنقول: إنّ تلك القضيّة الرئيسة غير ثابتة بالبرهان.

وأمّا الثالث: فلوضوح أنّه لا يمكن البرهنة على أىّ بديهىّ ببداهته.

نعم، يبقى في المقام شيء: وهو أنّ من يدرك حسن شيء أو قبحه هل يمكنه البرهنة على أنّ هذا الإدراك هل هو نابع من حاقّ النفس، أو أنّه ناشئ من تأديب المؤدّبين، وتعليم المعلّمين، وإيحاء المجتمع والقوانين، أو لا؟

والتحقيق: أنّ هذا ـ أيضاً ـ لا يمكن البرهنة عليه، وإنّما الشيء الممكن في المقام هو: أن يعرض هذا الشخص على نفسه في أىّ قضيّة من قضايا العقل العملىّ هذين الاحتمالين، أعني: كون هذا الإدراك ناشئاً عن حاقّ النفس، أو من التأديب والتلقين، فإن احتمل الثاني، أصبح هذا سبباً في الإنسان السوىّ؛ لزوال إدراكه وقطعه بتلك القضيّة. وإذا زال قطعه بذلك، لم يمكن إرجاع القطع؛ إذ احتمال كون هذا الإدراك معلولاً للتأديب والتلقين حاله حال سائر احتمالات معلوليّة شيء لشيء ممّا لايزول إلّا بأحد طريقين: إمّا التجربة، بإبعاد ما يحتمل علّيّته؛ كي يرى هل يبقى ما احتمل معلوليّته، أو لا؟ وإمّا بمخالفته لقوانين العلّيّة، كرفض معلوليّة شيء لشيء أخسّ منه وأسفل في سلّم الوجود.

458

وفيما نحن فيه لا يوجد شيء من الطريقين: أما التجربة فلأنّنا لم نجرّب أحداً بعزله عن المجتمع والتأديبات؛ كي نرى هل يدرك قضايا العقل العملىّ، أو لا؟ وأمّا قوانين العلّيّة فلأنّ معلوليّة ذلك للتلقين والتأديب ليست على خلاف قوانين العلّيّة.

أمّا إذا لم يزل إدراكه وقطعه بذلك مع كونه إنساناً سويّاً، فعدم زواله مع استعراض هذين الاحتمالين على النفس إمّا يكون ناشئاً عن عدم معلوليّته للتأديب أو التلقين، وإمّا عن اعتقاده بعدم معلوليّته لذلك. ومن يعتقد بذلك، يكفيه اعتقاده، ولا يحتاج إلى دليل.

والواقع: أنّ العقل العملىّ على قسمين: عقل أوّل مضمون الحقّانية، يدرك أصل الحسن والقبح، فنحكم به بحسن الصدق، وقبح الكذب، وحسن العفو، وقبح الإيذاء بلاتقصير(1)، إلى غير ذلك من القضايا التفصيليّة للعقل العملىّ. وعقل ثان يكثر فيه الخطأ يكون حاكماً في باب التزاحم وتغليب جانب الحسن أو القبح.


(1) لابأس هنا بالإشارة إلى أنّ الحسن والقبح المدركين بالعقل العملىّ أمران متباينان هويّة، وليس حسن الفعل أو الترك يعني قبح نقيضه، وقبح الفعل أو الترك يعني حسن نقيضه، وإن صحّ التعبير عرفاً عن نقيض الحسن بالقبيح، أو عن نقيض القبيح بالحسن.

وبتعبير أدقّ نقول: نحن لا نبحث عن المعنى اللغوىّ لكلمة الحسن والقبح، كي يعود البحث لفظيّاً، وإنّما نقصد في المقام: أنّ لدينا هويّتين متباينتين: إحداهما ما يمدح الإنسان على فعله أو تركه من دون أن يكون نقيضه محظوراً عقلاً وثانيتهما ما هو المحظور عقلاً فعلاً أو تركاً. وليسمّ الأوّل بالحسن، والثاني بالقبيح. وهذا هو الذي يفسّر لنا عنصر الإلزام تارة وعدم الإلزام اُخرى في منطق العقل العملىّ.

فمثلاً: نرى أنّ العقل يلزمنا بترك الكذب أو بكتمان السرّ أو طاعة المولى، في حين نرى أنّ العقل لا يلزمنا بالعفو عمّن ظلمنا، وإن كان يستحسن ذلك. والسرّ في هذا: أنّ الكذب أو إفشاء السرّ أو عصيان المولى قبيح، في حين أنّ القصاص ليس قبيحاً، وإن كان العفو حسناً. وليس الفرق بين ما يشتمل على عنصر الإلزام وما لا يشتمل عليه فرق درجة؛ ولذا ترى أنّ من يترك العفو، ويأخذ بحقّه من الظالم لا يذمّ أصلاً، لا أنّه يذمّ ذمّاً خفيفاً مثلاً؛ ولذا ترى ـ أيضاً ـ أنّه عند تزاحم الحسن والقبيح ـ دائماً ـ يغلب جانب القبح مهما كان قبحه ضئيلاً وحسن الحسن بالغاً ذروة الحسن ما لم يكن بمعنى قبح تركه.

فمثلاً: كشف سرّ للأخ تكون درجة سرّيّته ضئيلة جدّاً يكون قبيحاً، ولو ترتّب على ذلك نفع كبير للمجتمع، على رغم حكم العقل بحسن نفع المجتمع. فترى أنّ القبح هنا غلب الحسن مهما فرض القبح ضئيلاً والحسن بليغاً.

459

 

قاعدة الملازمة

 

وأمّا الجهة الثانية: وهي البحث عن قاعدة الملازمة، فنتكلّم في ذلك على مبان ثلاثة في العقل العملىّ:

المبنى الأوّل: افتراض أنّ الحسن والقبح عبارة عن قانون الشرع، وعلى هذا لا معنىً لافتراض الملازمة بين الحسن والقبح وحكم الشرع؛ إذ ليسا هما إلّا الحكم الشرعىّ، لا ملاكاً للحكم الشرعىّ.

والمبنى الثاني: افتراض رجوعهما إلى قانون العقلاء وتطابقهم على حكم مجعول لهم، كما نسبه المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله) إلى الفلاسفة، وذكر المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله)(1):أنّ حكم العقلاء بما هم عقلاء بشيء وجعلهم له لايستلزم حكم الشارع بما هو شارع به، ولكنّه يستلزم حكمه به بما هو عاقل، بمعنى: أنّه يتضمّن حكمه به؛ إذ هو ـ أيضاً ـ أحد العقلاء، وقد فرض تطابق العقلاء عليه. وحكم الشارع بما هو عاقل ينتج نفس نتيجة حكمه بما هو شارع: من ترتّب الثواب والعقاب؛ فإنّ المدح والذمّ المترتّبين على فعل الحسن والقبيح يختلفان باختلاف فاعل المدح والذمّ، فمدح العبد الذليل العاجز وذمّه شيء، ومدح المولى العزيز القادر وذمّه شيء آخر. ومدح المولى عبارة عن ثوابه، وذمّه عبارة عن عقابه.

أقول: إنّ المفروض أنّ العقلاء إنّما تطابقوا على الحكم لا بمجرّد أنّهم عقلاء، وإلّا لرجع ذلك إلى حكم العقل لا إلى حكم العقلاء وجعلهم، بل إنّما تطابقوا على الحكم، وتوافقوا عليه لاشتراكهم في شيء آخر أيضاً، وهو: الميل النفسانىّ لهم إلى جلب المصلحة ودفع


(1) المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله) تكلّم عن الحسن والقبح العقليّين في كتابه نهاية الدراية في عدّة مواضع بالمناسبة، ولكن عمدة كلامه في ذلك في موضعين، كلاهما في المجلّد الثاني من المجلّدات الثلاث لكتابه: أحدهما في بحث التجرّي ص 8، والثاني في بحث الانسداد ص 124 فصاعداً.

460

المفسدة. فلمّا رأوا ثبوت مصالح عامّة ونوعيّة في بعض الاُمور، ومفاسد كذلك في بعضها، تطابقوا على مدح مرتكب الأوّل، وذمّ مرتكب الثاني؛ كي يسعد بذلك المجتمع، وسعادة المجتمع ترجع إلى سعادة الأفراد، والشارع ليس شريكاً مع العقلاء في مصالحهم ومفاسدهم، ولا ينتفع بما ينتفعون به، ولا يتضرّر بما يتضرّرون به، وهو غنىّ عن العباد، غير محتاج إلى طاعتهم، ولا متضرّر بمعصيتهم. فدلالة تطابق العقلاء بالتضمّن على تطابق الشارع معهم غير صحيحة؛ لأنّ نكتة التطابق إنّما توجب تطابق العباد فيما بينهم، ولاترتبط بالمولى العزيز(1).

نعم، هنا كلام، وهو: أنّ هذا المولى صحيح أنّه لم يكن شريكاً معنا في المصالح والمفاسد، لكنّه يتحفّظ بأحكامه على مصالحنا، ودفع المفاسد عنّا، لكن هذا غير مرتبط بما هو محلّ الكلام فعلاً، وإنّما يرتبط باستكشاف الحكم الشرعىّ عن طريق العقل النظرىّ، باعتبار كشف العلّة عن المعلول، من باب تبعيّة الأحكام الشرعيّة للمصالح والمفاسد في نظر العدليّة.

المبنى الثالث: هو المبنى الصحيح: من أنّ الحسن والقبح العقليّين أمران واقعيّان يدركهما العقل.


(1) وبتعبير آخر: هل يفترض أنّ تطابق العقلاء على المدح والذمّ نشأ عن حرصهم على المصالح الشخصيّة، ودفعهم للمفاسد الشخصيّة، وإنّما جعلوا أحكام العقل العملىّ بنحو يحفظ المصالح النوعيّة، ويدفع المفاسد النوعيّة؛ لرجوع المصالح والمفاسد النوعيّة بوجه وآخر إلى المصالح والمفاسد الشخصيّة، ولو بمعنى رجوعها أحياناً إلى ذلك، فجعلوا أحكام الحسن والقبح عامّة بنكتة الاحتياط والتحرّز عمّا قد يترتّب من مفسدة شخصيّة، أو فوات مصلحة شخصيّة؟

أو يفترض أنّ العقلاء جعلوا أحكام العقل العملىّ بنكتة حبّهم العاطفىّ والغريزىّ لحفظ المصالح النوعيّة، ودفع المفاسد النوعيّة، ولو لم ترجع إلى الشخصيّة؟

أو يفترض أنّهم جعلوا هذه الأحكام لما أدركوا من حسن حفظ المصالح النوعيّة، ودفع المفاسد النوعيّة؟

والثالث لا يمكن المصير إليه؛ إذ ينقل الكلام إلى نفس حسن حفظ المصالح النوعيّة، ودفع المفاسد النوعيّة، فمن الذي جعل ذلك؟ ولماذا جعل؟!

والأوّل والثاني لا يدلّان بالتضمّن على موافقة المولى سبحانه؛ إذ هو غنىّ عن المصالح، ومنزّه عن العواطف. نعم، يبقى علمنا الخاصّ صدفة بأنّه تعالى يهتمّ بمصالح العباد، وهذا أمر آخر كما جاء بيانه في المتن.

461

والواقع: أنّ حكم العقل بالحسن والقبح بهذا المعنى لا يستلزم حكم الشرع على طبقه، ولا ينافي الحكم على طبقه، بتخيّل أنّه مع حكم العقل يكون حكم الشرع لغواً وبلا فائدة.

وتوضيح ذلك: أنّ نفس إدراك الحسن والقبح له اقتضاء للتحرّك نحو الفعل والترك، ولابدّ من ملاحظة النسبة بين هذا الاقتضاء ومدى اهتمام المولى بالفعل أو الترك، فإن كان الثاني أكثر من الأوّل، أبرز المولى ما في نفسه من شدّة الاهتمام عن طريق الحكم والجعل؛ إذ إنّ عدم الإبراز كاشف عن عدم الاهتمام. وليس حكم العقل في المقام موجباً للغويّة هذا الحكم؛ إذ بحكم المولى وإبرازه لشدّة الاهتمام يشتدّ الحسن أو القبح، ويضاف إلى الحسن والقبح الثابتين أوّلاً حسن طاعة المولى وقبح معصيته.

وإن لم يكن الثاني أكثر من الأوّل، لم يكن داع للمولى إلى جعل الحكم على وفق ما حكم به العقل العملىّ. إذن فحكم العقل العملىّ لا هو مناف لحكم الشارع، ولا هو مستلزم له، وإنّما يكون حكم الشارع وعدمه تابعاً لمدى اهتمام المولى بالفعل أو الترك. هذا.

وعدم جعل الحكم من قبل المولى بناءً على نفي الملازمة ـ فيما لو كان الحسن والقبح حكمين عقلائيّين ـ يؤمّن من عقاب المولى، لكنّه لا يؤمّن على هذا المبنى ـ وهو واقعيّة الحسن والقبح ـ من عقابه؛ فإنّ نفس الحسن والقبح الواقعيّين عند إدراكهما يكفيان للاستحقاق الواقعىّ للمدح والذمّ، ومدح المولى ثوابه، وذمّه عقابه. فالعقل العملىّ لم يكن مثبتاً للحكم الشرعىّ، لكنّه مثبت لنتيجته: من استحقاق الثواب والعقاب(1).

 


(1) لايخفى أنّ الحسن والقبح يستتبعان أمرين مختلفين في الهويّة: أحدهما ما قد نسمّيه بالمدح والذمّ بالمعنى الذي يكون عبارة عن مجرّد التحسين والتقبيح للفاعل وسريرته، والثاني المجازاة والمكافأة التي يستحقّها الشخص بحكم العقل العملىّ، وهو الثواب والعقاب. هذا بناءً على واقعيّة الحسن والقبح. أمّا بناءًعلى عقلائيّتها، فالتحسين والتقبيح ـ أيضاً ـ نوع مكافأة عقلائيّة تأديباً ومنعاً عن المفاسد. ويشهد لتعدّد الأمرين وعدم رجوع أحدهما إلى الآخر: أنّ المدح والذمّ يعدّان من حقّ كلّ أحد يطّلع على صدور الحسن أو القبيح عن هذا الإنسان، في حين أنّ الثواب والعقاب يثبتان ـ بناءً على واقعيّة الحسن والقبح ـ على من اُحسن بشأنه، ولمن هضم حقّه، ويثبتان ـ أيضاً ـ لوليّ المجتمع كتأديب، ودفع للمفاسد، وجلب للمصالح.

ورأيت المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله) في بحثه عن الانسداد في نهاية الدراية ملتفتاً إلى تعدّد الأمرين، إلّا أنّه يقول: إنّ المدح والذمّ قد يقصد بهما معنىً أعمّ بحيث يشمل الثواب والعقاب، وبهذا المعنى يؤمن بأنّ مدح

462


المولى ثوابه، وذمّه عقابه. فإن كان اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)يقصد هذا المعنى، فلابأس بذلك، وأمّا إن كان المقصود إنكار وجود أمرين متباينين هويّة، يستتبعهما الحسن والقبح، وكأنّهما لايستتبعان إلّا شيئاً واحداً، وهو المدح والذمّ، ومدح المولى ثوابه، وذمّه عقابه، فهو غير صحيح.

ثُمّ إنّ استتباع الحسن والقبح العقليّين للثواب والعقاب من قبل المولى من دون استلزامهما لحكم المولى قد يورد عليه ـ بعد ما اتّضح من الفرق بين المدح والذمّ والثواب والعقاب، وأنّ العقاب إنّما هو شأن المظلوم، أو شأن وليّ المجتمع للتأديب ودفع المفاسد ـ: أنّه لامسوّغ للعقاب في عالم الآخرة من قبل المولى، لا بملاك التأديب ودفع المفسدة؛ لأنّ المفروض أنّه قد انتهت حياة الدنيا، ولا فائدة في التأديب، ولا بملاك المظلوميّة؛ لأنّه لم يظلم المولى؛ إذ لم يكن المولى قد حكم بشيء حتّى تكون مخالفته ظلماً له، فيستحقّ العقاب من قبله بحكم العقل العملىّ.

والواقع: أنّ حكم العقل العملىّ يكشف عن عدم رضا المولى بمخالفته؛ للقطع بأنّ المولى لا يرضى بالقبيح. فروح الحكم ثابت، وقاعدة الملازمة بهذا المعنى تامّة، ومخالفة العقل العملىّ مخالفة للمولى بهذا المعنى، فيكون قد ظلم المولى، ويستحقّ العقاب. نعم، الحكم بملاك اهتمام إضافيّ وزيادة على المقدار الذي أدركه العقل بحاجة إلى إبراز من قبل المولى، ولا يستلزمه حكم العقل. فإن كان مقصود اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) هو هذا المعنى الذي شرحناه، فهو تامّ.

وفي ختام الكلام لا بأس بأن نتعرّض بالمناسبة لما هو المحرّك الحقيقىّ للإنسان نحو الأعمال الحسنة وترك الأعمال القبيحة، فنقول: قد أفاد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في مقدّمة كتاب فلسفتنا ما حاصله: أنّ حبّ الذات يكمن وراء الحياة الإنسانيّة كلّها، ويوجّهها بأصابعه، فحبّ الذات ـ بمعنى حبّ اللذّة وبغض الألم ـ هو الذي يفسّر سلوك الإنسان في مجالات الأنانيّة والإيثار على السواء، ولايمكن تكليف الإنسان أن يتحمّل مختاراً مرارة الألم دون شيء من اللذّة في سبيل أن يلتذّ الآخرون ويتنعّموا، إلّا إذا انتزعت منه إنسانيّته، واُعطي طبيعة جديدة لا تتعشّق اللذّة، ولا تكره الألم. ولدى الإنسان استعدادات كثيرة للالتذاذ بأشياء متنوّعة: مادّية، كالطعام والشراب والمتع الجنسيّة وما إليها، أو معنوية، كالالتذاذ الخلقىّ والعاطفىّ بقيم خلقيّة، أو أليف روحىّ أو عقيدة معيّنة وما إليها. وهذه الاستعدادات تنضج بعضها عند الإنسان بصورة طبيعيّة كاستعداده للالتذاذ الجنسىّ مثلاً، في حين نجد أنّ ألواناً اُخرى منها ربّما لا تظهر في حياة الإنسان، وتظلّ تنتظر عوامل التربية التي تساعدها على نضجها وتفتّحها. وغريزة حبّ الذات من وراء هذه الاستعدادات جميعاً تحدّد سلوك الإنسان وفقاً لمدى نضج تلك الاستعدادات. فطريق تربية الإنسان وجعله على مستوى التضحية والإيثار وما إلى ذلك هو: إدخال هذه الاُمور في دائرة التذاذاته، وإدراجها في حيطة حبّ الذات. وذلك يتمّ باُسلوبين قد سلكهما الأنبياء العظام صلوات الله عليهم أجمعين:

أحدهما: أن يفهم هذا الإنسان أنّ الحياة ليست عبارة عن هذه الحياة الدنيويّة القصيرة، بل وراءها حياة دائمة. وما يتراءى من التزاحم بين المصالح الشخصيّة الضيّقة ومصالح الإيثار والتضحية إنّما هو بلحاظ هذه الحياة القصيرة المدى، وما يرى بالنظرة القصيرة خلاف المصلحة الشخصيّة قد يرى بالنظرة الواسعة على وفق المصلحة الشخصيّة.

والثاني: إنضاج وتنمية تلك الاستعدادات الخلقيّة الخيّرة؛ كي يلتذّ الإنسان بالأعمال الخيّرة، وبذلك

463


تدخل تلك التضحيات والإيثارات في دائرة اللذّات الشخصيّة وحبّ الذات.

أقول: إن كان المقصود بهذا الكلام كون العلّة الغائيّة لأفعال الإنسان ـ حتّى التضحيات والإيثارات ـ هي اللذّة الشخصيّة، والتخلّص الشخصىّ من الألم، فهذا خلاف الواقع؛ فإنّ اللذّة والألم الروحيّين إنّما ينشآن عن الوصول إلى المحبوب أو فقده، أو لقاء المبغوض أو فقده، فهناك حبّ وبغض متعلّق بشيء في المرتبة المتقدّمة على اللذّة والألم، أي: إنّ هناك ما يكون مطلوباً للإنسان، ويكون غاية يصبو إليها في المرتبة المتقدّمة على اللذّة والألم، والحبّ والبغض غير اللذّة والألم؛ ولذا يكونان فعليّين قبل اعتقاد فعليّة المحبوب والمبغوض، في حين أنّ اللذّة والألم يصبحان فعليّين باعتقاد فعليّة المحبوب والمبغوض.

والحاصل: أنّ العلّة الغائيّة لمن يحبّ الإحسان إلى اليتيم هي ارتياح اليتيم، لا ارتياحه هو فحسب، وان كان يترتّب على ذلك ارتياحه هو. وهذا هو السرّ فيما يحكم به العقل العملىّ: من أنّ من يحسن إلى شخص حبّاً له يكون مديناً له بدرجة غير ثابتة فيما لو أحبّ إحسانه، ولكنّه لم يقدر خارجاً على إحسانه، فلو كان صدور الإحسان عنه لأجل التذاذه هو فحسب دون التذاذ محبوبة، كان حاله حال من أحبّ ذاك المحبوب والإحسان إليه، ولكنّه لم يتمكّن من ذلك؛ فإنّ من تمكّن من ذلك وفعل إنّما فعل لأجل نفسه، فلا موجب للامتنان منه إلّا بنكتة أنّه سنخ إنسان يلتذّ براحة ذاك الشخص، وهذا أمر مشترك على حدّ سواء بين من قدر على الإحسان ومن عجز عنه.

وإن كان المقصود بهذا الكلام حصر العلّة الفاعليّة لتحريك الإنسان في اللذّة والألم دون العلّة الغائيّة، كما فسّر هو (رضوان الله عليه) كلامه بذلك حينما أشكلت عليه بما سبق أو ببعض ما سبق، فذكر: أنّه ليس المقصود أنّ الإنسان حينما يقوم بمثل عمليّات الإيثار يقوم بها لغاية التذاذه هو، بل غايته نفس النتائج التي يلتذّ بها، وإنّما المقصود: أنّ التذاذه بتلك النتائج هو العلّة الفاعليّة المؤثّرة في اندفاعه نحوها، ولولا التذاذه بها أو تألّمه من فقدها، لما تحرّك نحوها.

أقول: إن كان المقصود بهذا الكلام حصر العلّة الفاعليّة لتحريك الإنسان في اللذّة والألم، قلنا: إنّ كون اللذّة والألم علّة فاعليّة يجب أن يرجع إلى أحد معان ثلاثة:

1 ـ كون اللذّة والألم هما الدافعان القهريّان للإنسان بلااختيار.

2 ـ كونهما دخيلين في القدرة.

3 ـ كونهما دخيلين في تحقّق الإرادة مع فرض انحفاظ القدرة والاختيار بغضّ النظر عنهما.

والأوّل: يعني الجبر وعدم الاختيار، وينهي موضوع قيم العقل العملىّ والمعنويّات.

والثاني: ـ أيضاً ـ يعني الجبر؛ إذ لو كان الالتذاذ بالشيء أو التألّم من نقيضه هو الذي يحدث القدرة على الشيء، فهذا يعني عدم القدرة على النقيض؛ إذ لايلتذّ به، بل يتألّم منه، في حين أنّ القدرة يجب أن تكون متساوية النسبة بين الطرفين، وإلّا لخرجت عن كونها قدرة.

والثالث: يرجع إلى كون اللذّة والألم دخيلين في العلّة الغائيّة؛ إذ مع تماميّة الالتفات إلى العلّة الغائيّة ومع تماميّة القدرة على الشيء لامعنىً لتوقّف انقداح الإرادة على شيء آخر، كاللذّة والألم، فتوقّف ذلك عليه إمّا يعني دخله في القدرة، أو يعني دخله في الغاية المطلوبة.

وقد يقال: إنّ العلّة الغائيّة التي هي متأخّرة في الوجود عن المعلول تكون بوجودها العلمىّ هي العلّة

464


الفاعليّة لتحريك الإنسان، وهي المقترنة بالمعلول زماناً والمتقدّمة عليه رتبة. وللإنسان في عمله للخير علّتان غائيّتان: إحداهما النتيجة المطلوبة التي يلتذّ بها أو يتألّم بفقدها، والثانية نفس ذاك الالتذاذ أو التخلّص من الألم. والاُولى وحدها لا تصبح بوجودها العلمىّ علّة فاعليّة، ولا تحرّك الإنسان؛ وذلك لأنّها مزاحمة بعلّة غائيّة اُخرى، وهي: راحة الفاعل؛ فإنّ الفاعل كما يحبّ راحة اليتيم كذلك يحبّ راحة نفسه، والمفروض أنّ ذاك العمل يتعبه، ويأخذ شيئاً من نشاطه، والإنسان يحبّ راحة ومصلحة نفسه ـ مهما كانت صغيرة وضئيلة ـ أكثر من حبّه لراحة ومصلحة الآخرين مهما كانت كبيرة. أمّا الثانية: فهي التي تعوّض ما فقده من الراحة الشخصيّة براحة شخصيّة اُخرى، وقد تكون أكبر بكثير من الراحة المفقودة، وبذلك تتمّ العلّة الفاعليّة، أي: يصبح العلم بها علّة فاعليّة. ولعلّ هذا هو مقصوده ـ رضوان اللَّه تعالى عليه ـ من كون اللذّة والألم علّة فاعليّة.

إلّا أنّ هذا البيان ـ أيضاً ـ غير تامّ لأمرين:

الأوّل: أنّ من البديهىّ أنّ الراحة الشخصيّة الثانية أحياناً تفوق الراحة الشخصيّة الاُولى، ومن الواضح ـ أيضاً ـ أنّ الراحة الشخصيّة الثانية تساوي مدى حبّه ورغبته فيما اشتاق إليه من راحة الآخرين، وهذا يعني: أنّ ما اشتاق إليه من راحة الآخرين يفوق اشتياقه إلى راحة نفسه، إذن فلماذا يفترض أنّ هذا لا يحرّكه نحو المطلوب ما لم ينضمّ إلى الراحة الثانية؟

والثاني: أنّه ليس ـ دائماً ـ التحرّك والعمل متعباً وفاقداً للراحة، فحينما نفترض مستوىً من العمل لا ينافي الراحة ولا يوجب التعب، غاية ما هناك أنّ صدوره عن الإنسان بحاجة إلى داع له، وفرضنا أنّه اشتاق ولو بدرجة ضعيفة إلى نتيجة هذا العمل من راحة الآخرين، فلماذا لايحرّكه ذلك ما لم ينضمّ إلى الراحة الشخصيّة التي تتولّد من راحة الآخرين؟

وخلاصة الكلام: أنّه ليس المحرّك الأساس الذي يكمن وراء كلّ الأعمال البشريّة ـ دائماً ـ هو حبّ اللذّة وبغض الألم، بل نفس اشتياقه إلى أعمال الخير يكون دافعاً ومحرّكاً. نعم، لا نتحاشى من ثلاثة اُمور:

الأوّل: بداهة استحالة انفكاك حبّ الذات ـ بمعنى حبّ اللذّة وبغض الألم ـ من الإنسان ما لم يبدّل إلى طبيعة اُخرى.

الثاني: أنّ اللذّة والألم يرافقان دائماً الأعمال الخيريّة ـ فيمن يحبّ الخير ـ أو فقدانها، باعتبار أنّ الوصول إلى المحبوب يوجب اللذّة، وفقدانه يوجب الألم.

الثالث: أنّ هذين اللذّة والألم يساعدان على الأعمال الخيّرة، ويصبحان دافعاً آخر إلى صفّ دافعه الأوّل، فيؤكّد أو يكمّل أثره، ويتّفق في كثير من الأحيان أنّ الدافع الأوّل ـ لولا الدافع الثاني ـ ناقص وغير كاف لتحريك الإنسان في مقابل ما يملكه من حبّ الراحة مثلاً. فتلك الانفعالات العاطفيّة والتأثّرات النفسيّة والالتذاذات الروحيّة تكمّل الدافع وتحرّك الإنسان. ولعلّ هذا هو الذي أوحى إلى ذهن سيدنا الاُستاذ الشهيد (رضوان الله عليه) بما قاله في مقدّمة فلسفتنا، ونقلناه عنه.

465

الدليل العقليّ

4

 

 

 

القُصور في عالم الحجّيّة

 

 

 

 

 

467

 

 

 

 

المرحلة الثالثة: مرحلة الحجّيّة، فقد يدّعى القصور بحسب عالم الحجّيّة من ناحية ورود الردع من الشارع عن الأدلّة العقليّة.

ودعوى الردع عنها تتصوّر على نحوين:

الأوّل: دعوى الردع عن خوض الطريق العقلىّ والتفكير فيه لاستنباط الحكم الشرعىّ؛ باعتبار أنّ هذا الطريق سيوصلنا إلى القطع بخلاف الواقع، فصحيح أنّه بعد حصول القطع يكون القطع حجّة على رغم كونه خلاف الواقع، لكنّه مع ذلك سيعاقب هذا الإنسان على مخالفته للواقع؛ لأنّه فوّته باختياره؛ لسلوكه لذاك الطريق، والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

الثاني: دعوى الردع عن نفس العمل بالقطع الحاصل عن طريق العقل بعد فرض حصوله. ويفترق الوجه الثاني عن الوجه الأوّل في اُمور:

منها: أنّه لو حصل له القطع صدفة بخلاف الواقع عن طريق العقل بلا تفكير وتعمّد في سلوك الطريق العقلىّ، كان معذوراً في العمل بقطعه على الأوّل دون الثاني.

ومنها: أنّ البحث على الأوّل يتمحّض في مرحلة الإثبات؛ إذ لا إشكال في إمكانه ثبوتاً. وعلى الثاني يقع البحث في أصل إمكانه ثبوتاً.

وعلى أىّ حال، فلنذكر أوّلاً البحث الثبوتىّ على الوجه الثاني، ثُمّ نعقّب ذلك بالبحث الإثباتىّ.

أمّا البحث الثبوتىّ: فقد أفاد الاُصوليّون في المقام: أنّ حجّيّة القطع ذاتيّة، وكلّ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات، وحجّيّة كلّ شيء تكون بالقطع، وحجّيّة القطع تكون بذاته، فلا يمكن الردع عنها؛ فإنّ ذاتىّ الشيء لا يمكن انفكاكه منه. وفرّعوا على ذلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ومعذّريّة الشكّ عقلاً ما لم تقم حجّة شرعيّة؛ وذلك لعدم وجود ما هو حجّة بالذات، وعدم الانتهاء إليه. ومن هنا وقعوا في حيص وبيص في كيفيّة تصوير حجّيّة

468

الأمارات بالعرض ورجوعها إلى ما بالذات، حتّى أدّى ذلك عند بعضهم إلى القول بجعل العلم والطريقيّة، والالتزام بكفاية صرف اعتبار العلم والطريقيّة في الحجّيّة، وما إلى ذلك ممّا أدّى إليه هذا المبنى.

وقد أوضحنا في أوّل مباحث القطع: أنّ ذاتيّة حجّيّة القطع ـ بالمعنى الذي تتفرّع عليه هذه الاُمور ـ ممّا لا أساس له، ويجب البدء في الحساب من مولويّة المولى، فلو أنكر أحد ـ والعياذ بالله ـ مولويّته رأساً، لم يبق موضوع لبحث حجّيّة القطع بحكمه، ولو سلّمت له المولويّة بمعنى حقّ الطاعة والتعظيم الخاصّ على العباد، فلابدّ أن ينظر في مقدار سعة هذا الحقّ وضيقه. فإن حكم العقل العملىّ باختصاصه بالأحكام المقطوعة، تمّ قبح العقاب عند الشكّ، وإن حكم بسعة دائرة الحقّ لفرض الشكّ، لم يبق أساس لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وأمّا مسألة إمكان ردع الشارع عن حجّيّة القطع، فيمكن دفع هذه الدعوى بوجهين:

الوجه الأوّل: أن يقال: إنّ حقّ المولويّة تنجيزىّ، وليس معلّقاً على عدم إسقاط المولى له، وحينئذ لا معنىً للردع عن حجّيّة القطع؛ إذ مع فعليّة المولويّة لابدّ من الطاعة، ورفعها غير ممكن لتنجيزيّتها. فالترخيص في مخالفة القطع قبيح، وصدور القبيح عن المولى مستحيل.

إلّا أنّ كون حقّ المولويّة تنجيزيّاً أو تعليقيّاً لا يمكن البرهنة عليه.

فلو سلّم الأخبارىّ تنجيزيّة حقّ المولويّة، كان هذا جواباً كافياً في مقام الاحتجاج معه، أمّا لو ادّعى تعليقيّته، فهذا الجواب إنّما هو دعوى في مقابل دعوى، يدّعي صاحب كلّ من الدعويين وجدانيّتها.

الوجه الثاني: أنّ يقال: إنّ ترخيص الشارع ـ بعد تسليم كون حقّ المولويّة تعليقيّاً ـ إمّا أن يكون بحكم نفسىّ، أو يكون بحكم طريقىّ، وكلاهما مستحيل:

أمّا الأوّل: فلأنّ الحكم النفسىّ ينشأ عن مبادئ الحكم في نفس المتعلّق، والمفروض أنّ هذا الشخص يقطع بحكم آخر خلاف هذا الحكم، فيقطع بمبادئ اُخرى في المتعلّق، ولا يمكنه التصديق بكلا الحكمين؛ للتضادّ بين الأحكام في المبادئ، فيلزم اجتماع الضدّين في اعتقاد المكلّف فقط، أو فيه وفي الواقع.

469

وأمّا الثاني: فلأنّ الحكم الطريقىّ ينشأ ـ كما سيأتي بيانه إن شاء اللَّه تعالى في بحث الجمع بين الحكم الظاهرىّ والواقعىّ ـ بملاك التحفّظ على مبادئ حكم نفسىّ، وبعد فرض قطع العبد بحكم في المقام: من إباحة أو تحريم أو غير ذلك، فهو لا محالة قاطع بعدم وجود مبادئ حكم آخر في هذا الشيء، فلا يمكنه التصديق بالحكم الطريقىّ الذي يأتي لهدف التحفّظ على مبادئ الأحكام النفسيّة. وهذا بخلاف فرض الشكّ الذي نجمع فيه بين الحكم الواقعىّ والظاهرىّ؛ إذ هناك لا يعلم العبد بعدم ثبوت المبادئ في الشيء الفلاني، ويحتمل ثبوت المبادئ والحكم النفسىّ فيه، وعلى فرض ثبوته فيه يكون منجّزاً بالحكم الطريقىّ، واحتمال التكليف المنجّز منجّز. أمّا في المقام فلا يحتمل تكليفاً بالنسبة إلى هذا الشيء ينجّز على فرض ثبوته بالحكم الطريقىّ؛ كي يكون احتمال التكليف المنجّز منجّزاً له(1).

وهذا الجواب يمتاز من الجواب الأوّل بأنّه لا يختصّ بفرض تنجيزيّة حقّ المولويّة(2).

هذا. تبقى هنا صورة واحدة يمكن للمولى فيها الترخيص في مخالفة القطع بناءً على تعليقيّة الحقّ، وهي: فرض تعلّق غرض المولى بصدور الامتثال عن العبد بملاك حبّه للمولى ـ مثلاً ـ فحسب، لا بملاك التنجيز العقلىّ، فيرفع عنه المولويّة كي يكون عمل العبد لو عمله خالصاً لحبّه مثلاً، دون دخل التنجيز في الحساب. لكن هذا الفرض لا واقع له فيما نحن فيه.

وأمّا البحث الإثباتىّ: فنحن بحاجة إليه بالنسبة إلى فرض الردع عن الخوض في الأدلّة العقليّة. أمّا الردع عن حجّيّة القطع، فقد عرفت عدم إمكانه.

وما يمكن الاستدلال به على ذلك من الروايات طوائف خمس:


(1) يكفي لمعقوليّة وصول الحكم الطريقىّ برفع حقّ المولويّة: أن يحتمل هذا العبد خطأ بعض قطوعه في الواقع، ممّا أوجب اضطرار المولى إلى اتّخاذ احتياط في تمام قطوعه برفع حقّ المولويّة عنه. والقاطع كان لا يعقل أن يحتمل خطأ قطعه حين القطع، لكن احتماله لخطأ بعض قطوعه على الإجمال معقول. إذن فبناءً على تعليقيّة حقّ المولويّة لا يتمّ هذا الوجه، وإنّما يتمّ بناءً على تنجيزيّته، ويرجع بروحه إلى الوجه الأوّل.

(2) عرفت أنّه يختصّ بذلك، ويكون مرجع الوجهين بعد فرض الاختصاص بذلك إلى وجه واحد، وكلّ من البيانين مكمّل للبيان الآخر.

470

الاُولى: ما دلّ على تحريم الحكم بغير ما أنزل اللَّه(1).

ويرد على الاستدلال به: أنّ حكم العقل رافع لموضوع ذلك؛ لأنّ المفروض أنّنا قد أدركنا عن طريق العقل كون الحكم الفلاني ممّا أنزل اللَّه وحكم به.

الثانية: ما دلّ على تحريم الحكم والقول بغير علم، أو بلا هدى، أو بلا حجّة(2).

وهذه حالها حال الطائفة الاُولى، فبإدراك العقل يثبت العلم والبيّنة والهدى.

الثالثة: ما دلّ على النهي عن الاستقلال عنهم(عليهم السلام) في الأحكام(3).

والجواب: أنّ الرجوع إلى الأدلّة العقليّة لا يعني الاستقلال عنهم؛ فإنّنا إنّما نخوض فيها بعد مراجعة الأخبار الواردة عنهم؛ كي نعرف هل ورد عنهم نهي عن ذلك، أو لا؟ وهذا ليس استقلالاً عنهم.

الرابعة: ما دلّ على عدم قبول الأعمال من دون ولاية ولىّ اللَّه(4).

ويرد على الاستدلال بذلك:

أوّلاً: أنّ المقصود بتلك الروايات ليس هو البطلان، بل نفي مرتبة القبول والثواب.

وثانياً: أنّ الرجوع إلى الدليل العقلىّ لا ينافي التديّن بولاية ولىّ اللَّه.

الخامسة: الأخبار الرادعة عن الرأي الناهية عنه، أو المبيّنة لعدم معذوريّة المعتمد عليه، بدعوى: شمول إطلاقها للرأي العقلىّ القطعىّ(5).

وهذه الطائفة هي العمدة في الاستدلال.

ولكن يرد على الاستدلال بها:

أوّلاً: أنّ دعوى القطع بكون المراد من الرأي فيها ما كان متعارفاً في ذاك الزمان من الأدلّة العقليّة الظنّيّة ـ من القياس والاستحسانات ـ ليست مجازفة؛ وذلك لشهادة اُمور كثيرة على ذلك، يحصل من مجموعها القطع بذلك بحساب الاحتمالات:

فمنها: الشواهد التأريخيّة الدالّة على إطلاق الرأي في ذلك الزمان على الظنون العقليّة،


(1) راجع الوسائل ج 27 بحسب طبعة آل البيت، الباب 5 من صفات القاضي، مضافاً إلى الآيات القرآنيّة:«ومن لم يحكم بما أنزل الله فاُولئك هم الكافرون ـ الظالمون ـ الفاسقون». سورة المائدة، الآية: 44 و45 و47.

(2) المصدر السابق، الباب 4 من صفات القاضي، مضافاً إلى القرآن: ﴿َلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾. سورة الإسراء، الآية: 36. ﴿إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾. سورة يونس، الآية: 36.

(3) المصدر السابق، الباب 7 من صفات القاضي.

(4) الوسائل ج 1، الباب 29 من مقدّمة العبادات، ص 118 فصاعداً بحسب طبعة آل البيت.

(5) الوسائل، الباب 6 من صفات القاضي.

471

ممّا يشهد على أنّه كان مصطلحاً خاصّاً بينهم.

ومنها: ورود كثير من تلك الأخبار في مقام الردّ على أصحاب الرأي بذاك المعنى، كأبي حنيفة وابن شبرمة وغيرهما.

ومنها: ما فيها من التعبير تارة بالرأي، واُخرى بالقول بغير علم، ممّا يوحي إلى كون المراد منهما شيئاً واحداً.

وثانياً: أنّ هذه الأخبار لو تمّت دلالتها، فهي معارضة لطائفتين:

الطائفة الاُولى: ما دلّت على حجّيّة العقل، والحثّ على اتّباعه، ومع تعارضهما لابدّ من أحد اُمور ثلاثة:

الأوّل: أن يجمع بينهما بانقلاب النسبة، بأن يقال: إنّ العقل والرأي متساويان، ويشملان العقل والرأي الظنّيّين والقطعيّين، ولكن العقل الظنّىّ من القياس والاستحسان قد ثبت عدم حجّيّته بأخبار كثيرة، ممّا تقيّد روايات حجّيّة العقل واتّباعه، فتصبح روايات حجّيّة العقل واتّباعه بعد التقييد أخصّ من روايات الردع عن العمل بالرأي.

ويرد عليه بعد منع كبرى الجمع بانقلاب النسبة ـ كما يأتي بيانه في محلّه إن شاء الله ـ: منع ثبوت صغراها فيما نحن فيه كما سيظهر لك قريباً.

الثاني: أن يقال: إنّ النسبة بينهما ابتداءً عموم مطلق؛ لأنّ روايات حجّيّة العقل لم ترد لتشريع حكم زائد على أحكام العقل، والعقل بنفسه مستقلّ بالحكم بأصالة عدم حجّيّة العقل الظنّىّ ما لم يشرّع الشارع الحكم بحجّيّته، وأنّ الشكّ في الحجّيّة مساوق للقطع بعدمها(1). فإذا كانت روايات حجّيّة العقل لا تدلّ على تشريع ذلك، فلا محالة لا تدلّ على حجّيّة العقل الظنّىّ.

وبتعبير آخر: أنّ هذه الروايات لم تدلّ إلّا على إمضاء العقل، ولا معنىً لإمضائه إلّا الاعتراف بمنجزيّة ما يراه منجّزاً ومعذّريّة ما يراه معذّراً، والمفروض أنّه لا يرى الظنّ في ذاته منجّزاً أو معذّراً. فإذا كانت روايات حجّيّة العقل بهذا البيان مختصّة بالأحكام القطعيّة للعقل، فهي أخصّ من روايات الردع عن الرأي، فتقدّم عليها بالأخصّيّة.

ويرد عليه: ما سيظهر لك من كون النسبة بينهما عموماً من وجه لا مطلقاً.


(1) قد يقال: إنّه بناءً على إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان تكون الحجّيّة بمعنى التنجيز ثابتة؛ لكن هذا لا يضرّ بأخصّيّة روايات حجّيّة العقل؛ إذ يكفي في ذلك عدم حجّيّة الظنّ في التعذير، سنخ أنّ الحجّيّة بمعنى التعذير ثابتة للشكّ والظنّ بناءً على القول بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، ولكن الحجّيّة بمعنى التنجيز غير ثابتة.

472

الثالث: أن يقال: إنّهما متعارضان بالعموم من وجه، ومتساقطان في مادّة التعارض، وهذا هو الحقّ في مقام العلاج(1)؛ وذلك لأنّه كما أنّ أخبار حجّيّة العقل أخصّ من أخبار الردع عن الرأي؛ لعدم شمولها للحكم العقليّ الظنّىّ، كذلك أخبار الردع عن الرأي أخصّ من ناحية اُخرى من أخبار حجّيّة العقل؛ لأنّها لا تشمل الأحكام البديهيّة للعقل، ولا القريبة من الموادّ البديهيّة التي لا تحتاج إلى مزيد تروّ وتأمّل؛ وذلك لعدم صدق عنوان الرأي الموجود في الأخبار عليها قطعاً؛ لأنّه ظاهر فيما يحتاج إلى مزيد تروّ وتفكّر(2).

وقد ظهر بما ذكرناه: أنّ النسبة بين الطائفتين عموم من وجه، سواء سلّمنا أنّ الأخبار الرادعة عن الرأي لا تشمل الأحكام العقليّة التي هي في المرتبة المتقدّمة على الأحكام الشرعيّة، بخلاف أخبار حجّيّة العقل، أو قلنا بعكس ذلك، أو قلنا بشمولهما معاً لذلك، أو قلنا بعدم شمولهما معاً لذلك؛ فإنّه يكفي في إثبات كون النسبة بينهما عموماً من وجه ما ذكرناه: من عدم شمول أخبار الردع عن الرأي للعقل البديهىّ وما يشبهه. وإذا كانت النسبة بينهما عموماً من وجه سقطتا في مادّة الاجتماع، وبالتالي لا يبقى دليل على الردع عن الأدلّة العقليّة.

هذا كلّه بعد تسليم صحّة سند الطائفتين، إلّا أنّ ما رأيناه من أخبار حجّيّة العقل هو الأخبار التي جمعها المحدّث الكلينىّ(رحمه الله) في الكافي، في باب العقل والجهل، وهي بين ما لا يدلّ على مطلوبنا، وما لا يكون صحيحاً سنداً.

فالأولى في مقام دفع الأخبار الرادعة عن الرأي ـ بعد فرض تسليم شمولها للرأي القطعىّ ـ هو إيقاع المعارضة بينها وبين الطائفة الآتية:

الطائفة الثانية: ما دلّت على الحثّ على اتّباع العلم، وبيانه للناس(3)، بنحو يدلّ على أصل الترخيص في تحصيله، لا على خصوص حجّيّته بعد حصوله. والنسبة بينها وبين ما دلّت على الردع عن الرأي ـ بعد تسليم شمولها للرأي القطعىّ ـ هي العموم من وجه؛ إذ


(1) يعني بعد ما سلّم افتراضاً من التعارض، وشمول الرأي للرأي القطعىّ.

(2) كأنّ هذا الكلام مأخوذ من اشتقاق الرأي من مادّة التروّي، ولا يبعد انصراف مثل قوله «دين اللَّه لا يصاب بالعقول» أيضاً إلى ما يحتاج إلى تعقّل وتروّ، على أنّ ذلك ليس ردعاً عن سلوك طريق العقل، وإنّما هو ردع عمّا يصيبه العقل. وقد عرفت عدم إمكانيّة الردع عن القطع العقلىّ، فلابدّ من حمله على مثل القياس والاستحسان.

(3) راجع اُصول الكافي ج 1، كتاب فضل العلم، الباب 1 ـ 4.

473

الأخبار الدالّة على وجوب اتّباع العلم تشمل العلم الحاصل من العقل والعلم الحاصل منالأخبار، وأمّا الأخبار الرادعة عن الرأي فتختصّ بما يكون حاصلاً من العقل، ولكنّها تعمّ الرأي العلمىّ والرأي الظنّىّ، ومادّة الاجتماع هي الرأي العلمىّ العقلىّ، وتتساقطان فيها بالتعارض، فلا يبقى ما يدلّ على الردع عنها.

 

قطع القطّاع

 

قد عرفت عدم إمكان الردع عن حجّيّة القطع، إمّا بالبيان المشهور، أو بأحد البيانين اللذين اخترناهما. وهذا الكلام يرد ـ تماماً ـ في قطع القطّاع، فلايمكن الردع عنه.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ الإنسان لو التفت إلى كونه قطّاعاً، وأنّ هذه الحالة تورّطه كثيراً في تفويت الأغراض اللزوميّة للمولى، يجب عليه بقدر الإمكان علاج نفسه، والابتعاد عن العوامل غير المتعارفة التي تؤدّي به إلى تلك القطوع.

وهذه الدعوى تكون نظير دعوى الأخباريّ: عدم جواز الخوض في الأدلّة العقليّة المورثة للقطع.

وهذه مسألة جديدة يوجد ما يشبهها في الاُصول.

توضيح ذلك: أنّ الخطاب تصحّحه القدرة، وينجّزه العلم، وكما وقع البحث ـ بالنسبة إلى القدرة المؤثّرة في تصحيح الخطاب ـ عن أنّه هل يجوز للعبد تفويت القدرة؛ كي يقبح خطابه، ويستريح من حكم المولى، وذلك إمّا في زمان الواجب (وهذا ما بحث في علم الاُصول، وعبّر عنه بعنوان: الامتناع بالاختيار لاينافي الاختيار)، أو قبل وقت الواجب (وهذا ما بحث في علم الاُصول تحت عنوان: المقدّمات المفوّتة) كذلك نبحث هنا ـ بالنسبة إلى العلم المنجّز للخطاب ـ عن أنّه هل يجوز للعبد تفويت العلم بالأحكام الإلزاميّة للمولى، بجعل نفسه قطّاعاً بالخلاف، أو عدم علاجه لهذا المرض مع الإمكان؛ كي يستريح من تنجّز ذلك الحكم عليه، أو لا؟ وهذا لم يحرّر حتّى الآن في علم الاُصول.

وتحقيق الكلام في ذلك: أنّ هذا مربوط بمدى سعة دائرة مولويّة المولى وضيقها، الذي