المولفات

المؤلفات > مباحث الاُصول، القسم الثاني - الجزء الأوّل

462


المولى ثوابه، وذمّه عقابه. فإن كان اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)يقصد هذا المعنى، فلابأس بذلك، وأمّا إن كان المقصود إنكار وجود أمرين متباينين هويّة، يستتبعهما الحسن والقبح، وكأنّهما لايستتبعان إلّا شيئاً واحداً، وهو المدح والذمّ، ومدح المولى ثوابه، وذمّه عقابه، فهو غير صحيح.

ثُمّ إنّ استتباع الحسن والقبح العقليّين للثواب والعقاب من قبل المولى من دون استلزامهما لحكم المولى قد يورد عليه ـ بعد ما اتّضح من الفرق بين المدح والذمّ والثواب والعقاب، وأنّ العقاب إنّما هو شأن المظلوم، أو شأن وليّ المجتمع للتأديب ودفع المفاسد ـ: أنّه لامسوّغ للعقاب في عالم الآخرة من قبل المولى، لا بملاك التأديب ودفع المفسدة؛ لأنّ المفروض أنّه قد انتهت حياة الدنيا، ولا فائدة في التأديب، ولا بملاك المظلوميّة؛ لأنّه لم يظلم المولى؛ إذ لم يكن المولى قد حكم بشيء حتّى تكون مخالفته ظلماً له، فيستحقّ العقاب من قبله بحكم العقل العملىّ.

والواقع: أنّ حكم العقل العملىّ يكشف عن عدم رضا المولى بمخالفته؛ للقطع بأنّ المولى لا يرضى بالقبيح. فروح الحكم ثابت، وقاعدة الملازمة بهذا المعنى تامّة، ومخالفة العقل العملىّ مخالفة للمولى بهذا المعنى، فيكون قد ظلم المولى، ويستحقّ العقاب. نعم، الحكم بملاك اهتمام إضافيّ وزيادة على المقدار الذي أدركه العقل بحاجة إلى إبراز من قبل المولى، ولا يستلزمه حكم العقل. فإن كان مقصود اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) هو هذا المعنى الذي شرحناه، فهو تامّ.

وفي ختام الكلام لا بأس بأن نتعرّض بالمناسبة لما هو المحرّك الحقيقىّ للإنسان نحو الأعمال الحسنة وترك الأعمال القبيحة، فنقول: قد أفاد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في مقدّمة كتاب فلسفتنا ما حاصله: أنّ حبّ الذات يكمن وراء الحياة الإنسانيّة كلّها، ويوجّهها بأصابعه، فحبّ الذات ـ بمعنى حبّ اللذّة وبغض الألم ـ هو الذي يفسّر سلوك الإنسان في مجالات الأنانيّة والإيثار على السواء، ولايمكن تكليف الإنسان أن يتحمّل مختاراً مرارة الألم دون شيء من اللذّة في سبيل أن يلتذّ الآخرون ويتنعّموا، إلّا إذا انتزعت منه إنسانيّته، واُعطي طبيعة جديدة لا تتعشّق اللذّة، ولا تكره الألم. ولدى الإنسان استعدادات كثيرة للالتذاذ بأشياء متنوّعة: مادّية، كالطعام والشراب والمتع الجنسيّة وما إليها، أو معنوية، كالالتذاذ الخلقىّ والعاطفىّ بقيم خلقيّة، أو أليف روحىّ أو عقيدة معيّنة وما إليها. وهذه الاستعدادات تنضج بعضها عند الإنسان بصورة طبيعيّة كاستعداده للالتذاذ الجنسىّ مثلاً، في حين نجد أنّ ألواناً اُخرى منها ربّما لا تظهر في حياة الإنسان، وتظلّ تنتظر عوامل التربية التي تساعدها على نضجها وتفتّحها. وغريزة حبّ الذات من وراء هذه الاستعدادات جميعاً تحدّد سلوك الإنسان وفقاً لمدى نضج تلك الاستعدادات. فطريق تربية الإنسان وجعله على مستوى التضحية والإيثار وما إلى ذلك هو: إدخال هذه الاُمور في دائرة التذاذاته، وإدراجها في حيطة حبّ الذات. وذلك يتمّ باُسلوبين قد سلكهما الأنبياء العظام صلوات الله عليهم أجمعين:

أحدهما: أن يفهم هذا الإنسان أنّ الحياة ليست عبارة عن هذه الحياة الدنيويّة القصيرة، بل وراءها حياة دائمة. وما يتراءى من التزاحم بين المصالح الشخصيّة الضيّقة ومصالح الإيثار والتضحية إنّما هو بلحاظ هذه الحياة القصيرة المدى، وما يرى بالنظرة القصيرة خلاف المصلحة الشخصيّة قد يرى بالنظرة الواسعة على وفق المصلحة الشخصيّة.

والثاني: إنضاج وتنمية تلك الاستعدادات الخلقيّة الخيّرة؛ كي يلتذّ الإنسان بالأعمال الخيّرة، وبذلك