المولفات

المؤلفات > مباحث الاُصول، القسم الثاني - الجزء الأوّل

464


الفاعليّة لتحريك الإنسان، وهي المقترنة بالمعلول زماناً والمتقدّمة عليه رتبة. وللإنسان في عمله للخير علّتان غائيّتان: إحداهما النتيجة المطلوبة التي يلتذّ بها أو يتألّم بفقدها، والثانية نفس ذاك الالتذاذ أو التخلّص من الألم. والاُولى وحدها لا تصبح بوجودها العلمىّ علّة فاعليّة، ولا تحرّك الإنسان؛ وذلك لأنّها مزاحمة بعلّة غائيّة اُخرى، وهي: راحة الفاعل؛ فإنّ الفاعل كما يحبّ راحة اليتيم كذلك يحبّ راحة نفسه، والمفروض أنّ ذاك العمل يتعبه، ويأخذ شيئاً من نشاطه، والإنسان يحبّ راحة ومصلحة نفسه ـ مهما كانت صغيرة وضئيلة ـ أكثر من حبّه لراحة ومصلحة الآخرين مهما كانت كبيرة. أمّا الثانية: فهي التي تعوّض ما فقده من الراحة الشخصيّة براحة شخصيّة اُخرى، وقد تكون أكبر بكثير من الراحة المفقودة، وبذلك تتمّ العلّة الفاعليّة، أي: يصبح العلم بها علّة فاعليّة. ولعلّ هذا هو مقصوده ـ رضوان اللَّه تعالى عليه ـ من كون اللذّة والألم علّة فاعليّة.

إلّا أنّ هذا البيان ـ أيضاً ـ غير تامّ لأمرين:

الأوّل: أنّ من البديهىّ أنّ الراحة الشخصيّة الثانية أحياناً تفوق الراحة الشخصيّة الاُولى، ومن الواضح ـ أيضاً ـ أنّ الراحة الشخصيّة الثانية تساوي مدى حبّه ورغبته فيما اشتاق إليه من راحة الآخرين، وهذا يعني: أنّ ما اشتاق إليه من راحة الآخرين يفوق اشتياقه إلى راحة نفسه، إذن فلماذا يفترض أنّ هذا لا يحرّكه نحو المطلوب ما لم ينضمّ إلى الراحة الثانية؟

والثاني: أنّه ليس ـ دائماً ـ التحرّك والعمل متعباً وفاقداً للراحة، فحينما نفترض مستوىً من العمل لا ينافي الراحة ولا يوجب التعب، غاية ما هناك أنّ صدوره عن الإنسان بحاجة إلى داع له، وفرضنا أنّه اشتاق ولو بدرجة ضعيفة إلى نتيجة هذا العمل من راحة الآخرين، فلماذا لايحرّكه ذلك ما لم ينضمّ إلى الراحة الشخصيّة التي تتولّد من راحة الآخرين؟

وخلاصة الكلام: أنّه ليس المحرّك الأساس الذي يكمن وراء كلّ الأعمال البشريّة ـ دائماً ـ هو حبّ اللذّة وبغض الألم، بل نفس اشتياقه إلى أعمال الخير يكون دافعاً ومحرّكاً. نعم، لا نتحاشى من ثلاثة اُمور:

الأوّل: بداهة استحالة انفكاك حبّ الذات ـ بمعنى حبّ اللذّة وبغض الألم ـ من الإنسان ما لم يبدّل إلى طبيعة اُخرى.

الثاني: أنّ اللذّة والألم يرافقان دائماً الأعمال الخيريّة ـ فيمن يحبّ الخير ـ أو فقدانها، باعتبار أنّ الوصول إلى المحبوب يوجب اللذّة، وفقدانه يوجب الألم.

الثالث: أنّ هذين اللذّة والألم يساعدان على الأعمال الخيّرة، ويصبحان دافعاً آخر إلى صفّ دافعه الأوّل، فيؤكّد أو يكمّل أثره، ويتّفق في كثير من الأحيان أنّ الدافع الأوّل ـ لولا الدافع الثاني ـ ناقص وغير كاف لتحريك الإنسان في مقابل ما يملكه من حبّ الراحة مثلاً. فتلك الانفعالات العاطفيّة والتأثّرات النفسيّة والالتذاذات الروحيّة تكمّل الدافع وتحرّك الإنسان. ولعلّ هذا هو الذي أوحى إلى ذهن سيدنا الاُستاذ الشهيد (رضوان الله عليه) بما قاله في مقدّمة فلسفتنا، ونقلناه عنه.