المولفات

المؤلفات > مباحث الاُصول، القسم الثاني - الجزء الأوّل

458

وفيما نحن فيه لا يوجد شيء من الطريقين: أما التجربة فلأنّنا لم نجرّب أحداً بعزله عن المجتمع والتأديبات؛ كي نرى هل يدرك قضايا العقل العملىّ، أو لا؟ وأمّا قوانين العلّيّة فلأنّ معلوليّة ذلك للتلقين والتأديب ليست على خلاف قوانين العلّيّة.

أمّا إذا لم يزل إدراكه وقطعه بذلك مع كونه إنساناً سويّاً، فعدم زواله مع استعراض هذين الاحتمالين على النفس إمّا يكون ناشئاً عن عدم معلوليّته للتأديب أو التلقين، وإمّا عن اعتقاده بعدم معلوليّته لذلك. ومن يعتقد بذلك، يكفيه اعتقاده، ولا يحتاج إلى دليل.

والواقع: أنّ العقل العملىّ على قسمين: عقل أوّل مضمون الحقّانية، يدرك أصل الحسن والقبح، فنحكم به بحسن الصدق، وقبح الكذب، وحسن العفو، وقبح الإيذاء بلاتقصير(1)، إلى غير ذلك من القضايا التفصيليّة للعقل العملىّ. وعقل ثان يكثر فيه الخطأ يكون حاكماً في باب التزاحم وتغليب جانب الحسن أو القبح.


(1) لابأس هنا بالإشارة إلى أنّ الحسن والقبح المدركين بالعقل العملىّ أمران متباينان هويّة، وليس حسن الفعل أو الترك يعني قبح نقيضه، وقبح الفعل أو الترك يعني حسن نقيضه، وإن صحّ التعبير عرفاً عن نقيض الحسن بالقبيح، أو عن نقيض القبيح بالحسن.

وبتعبير أدقّ نقول: نحن لا نبحث عن المعنى اللغوىّ لكلمة الحسن والقبح، كي يعود البحث لفظيّاً، وإنّما نقصد في المقام: أنّ لدينا هويّتين متباينتين: إحداهما ما يمدح الإنسان على فعله أو تركه من دون أن يكون نقيضه محظوراً عقلاً وثانيتهما ما هو المحظور عقلاً فعلاً أو تركاً. وليسمّ الأوّل بالحسن، والثاني بالقبيح. وهذا هو الذي يفسّر لنا عنصر الإلزام تارة وعدم الإلزام اُخرى في منطق العقل العملىّ.

فمثلاً: نرى أنّ العقل يلزمنا بترك الكذب أو بكتمان السرّ أو طاعة المولى، في حين نرى أنّ العقل لا يلزمنا بالعفو عمّن ظلمنا، وإن كان يستحسن ذلك. والسرّ في هذا: أنّ الكذب أو إفشاء السرّ أو عصيان المولى قبيح، في حين أنّ القصاص ليس قبيحاً، وإن كان العفو حسناً. وليس الفرق بين ما يشتمل على عنصر الإلزام وما لا يشتمل عليه فرق درجة؛ ولذا ترى أنّ من يترك العفو، ويأخذ بحقّه من الظالم لا يذمّ أصلاً، لا أنّه يذمّ ذمّاً خفيفاً مثلاً؛ ولذا ترى ـ أيضاً ـ أنّه عند تزاحم الحسن والقبيح ـ دائماً ـ يغلب جانب القبح مهما كان قبحه ضئيلاً وحسن الحسن بالغاً ذروة الحسن ما لم يكن بمعنى قبح تركه.

فمثلاً: كشف سرّ للأخ تكون درجة سرّيّته ضئيلة جدّاً يكون قبيحاً، ولو ترتّب على ذلك نفع كبير للمجتمع، على رغم حكم العقل بحسن نفع المجتمع. فترى أنّ القبح هنا غلب الحسن مهما فرض القبح ضئيلاً والحسن بليغاً.