163

الاستصحاب في مورد الشبهات المفهوميّة، ورآه مقدّماً على عموم العامّ أو الإطلاق، وإن لم يتمّ عنده الاستصحاب في ذلك، رجع إلى عموم التكليف وإطلاقه، وإن لم يتمّ العموم والإطلاق، أو رآه معارضاً للاستصحاب في الشبهات المفهوميّة من دون تقديم أحدهما على الآخر(1)، رجع إلى الاُصول النافية للتكليف.

وفي القسم الثالث يرجع إلى إطلاق دليل رفع التكليف عن الصبىّ ما لم يثبت عنده المقيّد له، فلو رأى أنّ الملازمة العقليّة الثابتة بين حكم العقل وحكم الشرع واسعة بسعة طرفيها بحيث تشمل غير البالغ، قيّد بها إطلاق أدلّة الرفع.

 

شمول التقسيم لغير المجتهد

الأمر الثاني: أنّ الموضوع لهذا التقسيم هل ينبغي أن يكون خصوص المجتهد؛ لاختصاص الوظائف المقرّرة للظانّ والشاكّ به، أو ليس كذلك؟

اختار المحقّق النائينىّ(قدس سره) وجملة من المحقّقين الأوّل.

والتحقيق: أنّه ينبغي هنا البحث في مقامين:

الأوّل: أنّه هل يكون غير المجتهد داخلاً في هذا التقسيم ولو لأجل كونه كالمجتهد في الجملة في ثبوت وظيفة الشكّ والظنّ له؟ فإنّ ثبوت وظيفة الشكّ والظنّ له في الجملة كاف في دخوله في التقسيم.


(1) أفاد اُستاذنا الشهيد (رضوان الله عليه): أنّه لو قلنا بجريان استصحاب موضوع المخصّص في الشبهة المفهوميّة، فعندئذ: لو علمنا من الخارج أنّ صدق عنوان موضوع المخصّص ـ لغة ـ ملازم لانتفاء حكم العامّ، وكان المولى سنخ مولىً يترقّب منه كونه بصدد بيان المعنى اللّغويّ، بأن لم تكن نسبته ونسبتنا إلى المعنى اللّغويّ على حدّ سواء، دلّ العامّ بالملازمة على عدم صدق ذلك العنوان، فيكون حاكماً على الاستصحاب.

وإن لم يكن المولى كذلك، وقعت المعارضة بين العامّ والاستصحاب.

وإن لم نعلم من الخارج بذلك، وإنّما كان لدينا عامّ وخاصّ متنافيان لايمكن اجتماع حكمهما على مورد واحد، فالعامّ بعمومه يدلّ على ثبوت حكمه في مورد الشكّ المفهوميّ في عنوان الخاصّ، وصدق ذلك يلازم خروج هذا المورد من دليل الخاصّ إمّا تخصّصاً بأن لايكون عنوان الخاصّ صادقاً في علم الله ـ لغة ـ عليه، أو تخصيصاً بأن يكون عنوان الخاصّ صادقاً عليه، ومع ذلك لايصدق عليه حكم الخاصّ، وعندئذ إن قلنا بتقدّم التخصّص على التخصيص لدى الدوران بينهما، كما لو كان الخاصّ بلسان العموم بناءً على أنّ تخصّص العامّ أولى من تخصيصه، قدّم العامّ على الاستصحاب، وإلّا ـ كما لو كان الخاصّ بلسان الإطلاق مع عدم كون التخصّص أولى من التقييد ـ تعارض العامّ والاستصحاب.

164

والثاني: أنّه هل يثبت لغير المجتهد تمام الوظائف المقرّرة للظانّ والشاكّ كالمجتهد، أو لا؟

أمّا المقام الأوّل: فالصّحيح: أنّ غير المجتهد ينبغي إدخاله في التقسيم؛ فإنّه مكلّف بالأحكام الشرعيّة بلا إشكال، فلابدّ له من الالتفات إليها. وإذا التفت إليها فتارة يحصل له القطع بالحكم، كما في الأحكام الضروريّة القطعيّة له، وعندئذ يعمل بقطعه. وهذا هو القسم الأوّل.

واُخرى لايحصل له القطع به، ولكن يوجد لديه طريق ظنّيّ إلى الحكم، كفتوى المجتهد، وعلى هذا التقدير: تارة يحصل له القطع بحجّيّة ذاك الطريق الظنّيّ، فيدخل في القسم الثاني.

واُخرى يشكّ في ذلك، أو لايوجد مجتهد، أو لايتمكّن من الرجوع إليه، فيدخل في القسم الثالث، ويعمل بما يحكم به عقله من الاُصول العقليّة: من براءة، أو احتياط، أو تفصيل. فحال غير المجتهد في الأقسام هو حال المجتهد عيناً.

إلّا أنّه قد يدّعى أنّ الطرق الظنّيّة للمجتهد كثيرة، ولغيره منحصرة في فتوى المجتهد. وهذا لايوجب خروج غير المجتهد عن المقسم.

وأمّا المقام الثاني: فمن المستحسن بيانه في ضمن البحث عن عنوان (عمليّة الإفتاء للعامّيّ) وأنّ المجتهد كيف يصحّ له إفتاء العامّيّ وبيان حكمه له؟ ولابأس بأن نلحق بذلك ـ في خاتمة البحث ـ الكلام في حكم المجتهد غير الأعلم: هل يجوز له العمل بفتواه، أو يجب عليه الرجوع إلى الأعلم كما يجب على غير المجتهد الرجوع إلى المجتهد؟ وبهذا يكتمل بحث فنّىّ مهمّ قد أهمله الأصحاب؛ فإنّهم لم ينقّحوا في مورد من الموارد عمليّة الإفتاء للعامّيّ، ولامسألة رجوع غير الأعلم إلى الأعلم وعدم رجوعه إليه:

 

1 ـ تفسير عمليّة الإفتاء:

وليس المقصود من هذا البحث البرهنة على جواز التقليد، بل المقصود ـ بعد تسليم جواز التقليد بأدلّته المذكورة في محلّها ـ إيضاح الطريقة التي يتمّ بها تعقّل إفتاء المجتهد للعامّيّ، وتقليد العامّيّ له.

165

فنقول: إنّ المرتكز في الأذهان هو: أنّ الإفتاء عبارة عن عمليّة بيان ما عرفه مَنْ هو مِن أهل الخبرة لمن ليس من أهل الخبرة، كما هو الحال في جميع موارد رجوع الجاهل إلى العالم.

وتصوير ذلك واضح بالنسبة إلى الأحكام الواقعيّة التي عرفها المجتهد بالقطع واليقين؛ لأنّ الحكم الواقعىّ ثابت بشأن الجميع، سواء في ذلك المجتهد والعامّيّ، وإنّما الفرق بينهما هو: أنّ المجتهد ذوخبرة وبصيرة يتمكّن بها من درك الحكم، بخلاف العامّيّ، فرجوعه إليه كرجوع الناس في شتّى الفنون والعلوم من الطبّ والهندسة وغير هما إلى أهل الخبرة.

ولكن يقع الإشكال فيما إذا لم يكشف المجتهد الحكم الواقعىّ بمستوى القطع واليقين، فاضطرّ إلى التنزّل إلى الحكم الظاهرىّ الثابت بأصل أو أمارة، فسوف تواجه عمليّة الإفتاء في الغالب مشكلة اختصاص الحكم الظاهرىّ بالمجتهد، وذلك ليس من جهة أخذ عنوان الاجتهاد في موضوعه، بل لأنّه مقيّد بقيد لايتحقّق إلّا في المجتهد: فحجّيّة خبر الواحد ـ مثلاً ـ مشروطة بالفحص عن المعارض والمخصّص والمقيّد، والحاكم، والذي يقدر على ذلك هو المجتهد، وليس العامّيّ. وحجّيّة استصحاب النجاسة في الماء المتغيّر الزائل تغيّره تتوقّف على يقين سابق، وفحص في الأخبار، وهما لايحصلان إلّا للمجتهد. وأصالة الاشتغال إنّما تجري عند تحقّق العلم الإجمالىّ بأحد حكمين، وهو إنّما يحصل للمجتهد... وعندئذ فالمجتهد بأىّ شيء يفتي العامّىّ؟ بالحكم الواقعىّ، أم بالحكم الظاهرىّ؟

فإن أراد إفتاءه بالحكم الواقعىّ، لم يجز له ذلك؛ لأنّ حاله في ذلك حال العامّىّ، غاية الأمر إمكان افتراض كونه ظانّاً بالحكم الواقعىّ، ولكن الظنّ لايغني من الحقّ شيئاً.

وإن أراد إفتاءه بالحكم الظاهريّ، ورد عليه: أنّ هذا الحكم مختصّ بالمجتهد نفسه، ولم يتحقّق موضوعه بشأن العامّيّ، ويكون حاله حال حكم الولاية والقضاء المختصّين بالفقيه، ولا معنىً لأن يفتي أحداً بما يختصّ بنفسه!!

على أنّه قد يتّفق عدم ثبوت الحكم بشأن المجتهد أيضاً، كما في إفتاء الرجل المجتهد للمرأة بحرمة نظرها إلى الرجال بلا ريبة، مع عدم قطعه بالحرمة الواقعيّة، فهنا يشتدّ الإشكال؛ إذ يقال: إن أراد الإفتاء بالحكم الواقعىّ، فهو غير عالم به، وإن أراد الإفتاء

166

بالحكم الظاهرىّ، فهو غير ثابت بشأنه، ولابشأن المرأة التي تقلّده، أمّا الأوّل؛ فلعدم حرمة نظر الرجل إلى مثله، وأمّا الثاني؛ فلعدم تماميّة قيود الحكم الظاهرىّ غالباً بشأن العامّيّ.

وهذا الإشكال لو استعصى على الحلّ بحسب الطبع الأوّلي للتقليد، بمعنى: أنّه لم يمكن تطبيق قاعدة الرجوع إلى أهل الخبرة ابتداءً على التقليد، كشفنا بنفس جواز التقليد عن أمر يتمّ به المطلوب، ويثبت به الحكم الظاهرىّ للعامّيّ؛ إذ المفروض مسلّميّة جواز التقليد، وذلك كدعوى: أنّ فحص المجتهد يقوم مقام فحص العامّىّ، فيتمّ بشأنه موضوع حجّيّة خبر الواحد، وكذلك يقينه وشكّه و...

وبيان حقيقة الحال في هذا الإشكال يستدعي البحث عن ثلاثة اُمور:

أوّلاً: هل الأحكام الظاهريّة خاصّة ـ بغضّ النظر عن دليل جواز التقليد ـ بالمجتهد، أو لا؟

ثانياً: لو ثبت اختصاص الحكم الظاهرىّ ـ ابتداءً ـ بالمجتهد، فهل يمنع ذلك عن مصداقيّة التقليد؛ لقاعدة الرجوع إلى أهل الخبرة قبل اكتشاف نكتة خاصّة من دليل جواز التقليد، أو لا؟

ثالثاً: ما هي النكتة التي تحلّ مشكلة التقليد لو لم يمكن حلّها في المرحلتين الاُولى والثانية، وانحصر الأمر في حلّها بالرجوع إلى دليل جواز التقليد؛ لاكتشاف نكتة الحلّ؟

وتختلف النتيجة باختلاف النكتة، كما تختلف النتيجة بالحاجة إلى نكتة مستفادة من جواز التقليد، وعدم الحاجة إليها؛ لاشتراك الحكم الظاهريّ بينهما ابتداءً، أو لعدم مانعيّة اختصاصه بالمجتهد عن تطبيق قانون الرجوع إلى أهل الخبرة في المقام. وبهذا يخرج البحث عن كونه بحثاً علميّاً صرفاً، وينتهي إلى نتيجة عمليّة.

ولنبحث الآن الأمر الثاني، ثُمَّ الثالث، ثُمَّ الأوّل، فلدينا مقامات ثلاثة للبحث:

المقام الأوّل: في أنّه بناءً على اختصاص الحكم الظاهرىّ بالمجتهد، هل يمكن إدخال التقليد في قاعدة الرجوع إلى أهل الخبرة، بلا حاجة إلى اكتشاف نكتة خاصّة مستنبطة من دليل جواز التقليد، أو لا؟

غاية ما يمكن استفادته من مجموع كلماتهم في الموارد المتفرّقة لتوجيه الحال بحيث

167

ينطبق قانون الرجوع إلى أهل الخبرة على التقليد في أحكام الشريعة، هو أن يقال: صحيح أنّه كانت حجّيّة الدليل حكماً ظاهريّاً خاصّاً بالمجتهد بحسب الفرض، ولكنّ المحكىّ بالدليل هو حكم واقعىّ مشترك بين العامّيّ والمجتهد، وحجّيّة الدليل عبارة عن طريقيّته وجعله علماً تعبّداً، فالمجتهد بإمكانه أن يفتي بالحكم الواقعىّ الشامل للعامّيّ؛ لأنّه عالم به ولو تعبّداً، ولايفتي بالحكم الظاهرىّ كي يقال: إنّه مختصّ بالمجتهد، فلايكون التقليد فيه مصداقاً للرجوع إلى أهل الخبرة.

ولكن الملحوظ في ذلك:

أوّلاً: أنّ هذا لو تمّ، فهو يختصّ بمورد الأمارات الحاكية عن الواقع، دون مورد الاُصول العمليّة التي ليس مُفادها حكماً واقعيّاً، كي يتمّ فيه القول: إنّ مُفاد دليل حجّيّتها هو العلم التعبّديّ بالواقع وطريقيّتها إلى الواقع، فلايمكن للمجتهد أن يفتي في موردها بالحكم الواقعيّ؛ لعدم علمه به، ولابالحكم الظاهرىّ؛ لاختصاصه بالمجتهد بحسب الفرض.

وثانياً: أنّ هذا لو تمّ في الأمارات، فإنّما يتمّ على مبنىً واحد، وهو مبنى جعل الطريقيّة، كما ذهب إليه المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، ولايتمّ على سائر المباني، كجعل الحكم المماثل وغيره، فعلى سائر المباني ـ غير جعل الطريقيّة ـ لايمكن للمجتهد الإفتاء بالحكم الواقعيّ؛ لعدم علمه به، ولا بالحكم المماثل أو غيره من الأحكام الظاهريّة؛ لأنّها تختصّ بالمجتهد.

وثالثاً: أنّ هذا لايتمّ حتّى في الأمارات على مبنى جعل الطريقيّة والعلم تعبّداً واعتباراً؛ وذلك لأنّ موضوع الرجوع إلى أهل الخبرة ليس مجرّد كون من يرجع إليه عالماً؛ ولذا أفتوا بعدم جواز التقليد ممّن حصل له العلم بالحكم عن طريق الرمل والأسطرلاب والنوم، ونحو ذلك، بل الموضوع هو خبرويّته، بأن يكون عالماً عن خبرة، والعلم الاعتبارىّ والجعلىّ لايحقّق خبرويّة بالنسبة إلى الإنسان، فلنفرض أنّ دليل جعله عالماً أصبح حاكماً على أدلّة حرمة الإفتاء بغير علم؛ لأنّه أخرجه بالتعبّد عن موضوع الحرمة، وهو عدم العلم، ولكنّ هذا غير كاف لحلّ مشكلة التقليد الذي هو عبارة عن الرجوع إلى أهل الخبرة، ودليل اعتباره عالماً إنّما دلّ على علمه بالاعتبار، ولم يدلّ على اعتباره علماً عن خبرة. وقد اتّضح بهذا العرض: أنّه ـ بعد تسليم اختصاص الحكم الظاهريّ بالمجتهد ـ

168

لايمكن تطبيق قاعدة الرجوع إلى أهل الخبرة على المقام، من دون افتراض مؤونة زائدة تكشف ببركة دليل جواز التقليد.

المقام الثاني: في أنّه لو لم يمكن تطبيق قاعدة الرجوع إلى أهل الخبرة على التقليد في الأحكام الشرعيّة ابتداءً؛ لعدم اشتراك العامّيّ للمجتهد في الحكم، فما هي النكتة التي نستكشفها من دليل التقليد في سبيل تحقّق الاشتراك في الحكم وتتميم عمليّة التقليد؟

يمكن تتميم عمليّة التقليد بجعل دليل التقليد كاشفاً عن مؤونة زائدة في المقام، وهي: تنزيل حالات المجتهد من الفحص واليقين والعلم الإجمالىّ و... منزلة ثبوتها للعامّيّ، ففحصه فحصه، ويقينه يقينه، و...

وبتعبير آخر يقال: إنّ العامّيّ فحص بوجوده التنزيليّ، وتيقّن بوجوده التنزيلىّ و... فالأحكام الظاهريّة تصبح بذلك مشتركة بين المجتهد والعامّيّ، فيفتيه المجتهد بالحكم الظاهرىّ، ويرجع إليه العامّيّ في ذلك؛ لكونه عالماً به عن خبرة. والتنزيل بالنسبة إلى موارد الحكم العقليّ ـ كالبراءة العقليّة ـ لابدّ أن يكون بمعنى جعل حكم شرعىّ مماثل للحكم العقلىّ وفي رتبته.

وتختلف الثمرة العمليّة لهذا الوجه عن القول باشتراك الحكم بين العامّيّ والمجتهد ـ بغضّ النظر عن جواز التقليد ـ من وجوه، أهمّها اثنان:

الأوّل: أنّه يسقط على هذا الوجه أهمّ أدلّة التقليد، وهو سيرة العقلاء، فإنّ سيرة العقلاء إنّما قامت على رجوع الجاهل إلى أهل الخبرة، ولم تقم على تلك المؤونة الزائدة، وهي تنزيل حالات المجتهد منزلة ثبوتها للعامّيّ(1).

والثاني: أنّه على هذا الوجه لايجوز للمجتهد الإفتاء، إلّا إذا أحرز جواز تقليد العامّىّ له، بأن أحرز عدالة نفسه، وعرف أنّه أعلم من غيره، أو تساويه لغيره بناءً على جواز تقليد أحد المتساويين؛ وذلك لأنّ حكمه الظاهرىّ إنّما يثبت كونه حكماً ظاهريّاً للعامّىّ بجواز تقليده الدالّ على ذاك التنزيل، فلو لم يعلم بذلك لم يعلم بكون ما يفتي به حكماً للعامّىّ كي يفتيه به، إلّا إذا أحرز موافقته في الرأي لمن يجوز له تقليده، وهذا بخلاف ما لو قلنا


(1) بل لايسقط هذا الدليل؛ لأنّ السيرة العقلائيّة في اُمورهم على التقليد تقتضي منهم الجري ـ ولو غفلة ـ على هذا المنوال في الشرعيّات.

169

باشتراك الحكم بين المجتهد والعامّيّ ابتداءً وبغضّ النظر عن جواز التقليد(1).

ولنا مسلك آخر متوسّط بين مسلك التنزيل ومسلك اشتراك الحكم ابتداءً، وبغضّ النظر عن دليل التقليد، وهو: أن يقال: إنّ الحكم الذي يفتي به المجتهد يتمّ بالنظر إلى دليل التقليد اشتراكه بين العامّىّ والمجتهد، وإن لم يكن مشتركاً بينهما بغضّ النظر عن دليل التقليد، فلاحاجة إلى فرض مؤونة زائدة، وهي التنزيل.

وبيان ذلك: أنّ التقليد في كلّ مسألة سابقة يثبت موضوع الحكم الظاهريّ في المسألة اللّاحقة، فيقلّد فيها، وهذا يشبه ما يقال في بحث الإخبار مع الواسطة وإن لم يكن مثله تماماً.

مثاله: أنّ المجتهد إذا علم بأحد حكمين، فوجب عليه الاحتياط، فعلمه بذلك ليس منزّلاً منزلة علم العامّىّ، ولكن فتواه بثبوت أحد الحكمين على سبيل الإجمال حجّة في حقّ العامّىّ، فيتحقّق له العلم بأحد الحكمين اعتباراً، فيجب عليه الاحتياط، فيفتيه المجتهد بوجوب الاحتياط.

وأيضاً: لو علم المجتهد بنجاسة الماء المتغيّر بملاقاة النجس، كان ذلك حجّة في حقّ العامّىّ، فقد تمّ له العلم اعتباراً بالنجاسة، فيثبت بشأنه الاستصحاب عند زوال التغيّر، فيفتيه المجتهد بعد زوال التغيّر بالنجاسة استصحاباً.

وأمّا بالنسبة إلى الفحص، ففحص المجتهد عن المعارض لما دلّ على وجوب صلاة الجمعة مثلاً ـ والذي أدّى إلى إفتائه بوجوب صلاة الجمعة؛ لعدم وجدانه للمعارض ـ يفيد العامّىّ، بأن يقال: إنّ فحص كلّ شخص بحسبه، ففحص المجتهد يكون بالتتبّع في كتب الأخبار، وفحص العامّىّ يكون باطّلاعه على إفتاء مجتهده بما كان من نتيجة فحص المجتهد، ففحص العامّىّ عن عدم المعارض عبارة عن فحصه عن إخبار المجتهد بعدم المعارض.

وقد ظهر بما ذكرناه: أنّ نفس وجود فتوى المجتهد في المسألة السابقة يكفي في صحّة فتواه في المسألة اللّاحقة بالنسبة إلى غير جهة الفحص.

وأمّا بالنسبة إلى الفحص، فلابدّ له أن يقصد في إفتائه للعامّىّ: أنّ هذا هو حكمك


(1) لايخفى أنّ الثمرة الثانية ليست من الثمرات المهمّة؛ إذ للمجتهد أن يفتي بفتواه، بأن يقول: هذا حكم الله في حقّي وحقّ من يجوز له تقليدي. وليس عليه تشخيص الصغرى.

نعم، قد يشكل الأمر من ناحية كون التصدّي للإفتاء مع عدم جواز تقليده إغراءً للناس بجواز تقليده وتضليلاً لهم. إلّا أنّ هذا ليس ثمرة لبحثنا؛ فإنّه يرد على كلّ المباني في المقام.

170

الظاهرىّ لو اطّلعت على استنباطي. وهذه الفتوى ما لم تصل إلى العامّىّ لا أثر لها، وبمجرّد وصولها إليه يتمّ في حقّه موضوع الحكم الظاهرىّ؛ لتحقّق الفحص؛ إذ ليس عليه فحص أكثر من ذلك.

وهذا المسلك يتّحد مع مسلك التنزيل في الثمرة الثانية التي مضى بيانها: من عدم جواز الإفتاء للمجتهد، إلّا بإحراز جواز تقليده للعامّىّ؛ لأنّ ثبوت الحكم للعامّىّ على هذا المسلك ـ أيضاً ـ كان فرعاً لجواز التقليد.

ويمتاز هذا المسلك على مسلك التنزيل بلحاظ الثمرة الاُولى، وهي: سقوط أهمّ أدلّة التقليد، أعني سيرة العقلاء، فإنّ السيرة لاتسقط على هذا المسلك؛ لأنّنا لم نحتج في التقليد إلى مؤونة زائدة، كتنزيل حالة المجتهد منزلة ثبوتها للعامّىّ؛ كي يقال بعدم قيام السيرة عليها.

ويمتاز مسلك التنزيل على هذا المسلك بموافقة نتيجته لما هو المركوز في جميع الأذهان من اتّحاد المجتهد والعامّىّ ـ دائماً ـ في الحكم الذي يستنبطه، فإذا كانت حالات المجتهد منزّلة منزلة ثبوتها للعامّىّ في جميع الآثار والأحكام، إذن اتّحد العامّىّ والمجتهد في الحكم دائماً، في حين أنّه يكون علم المجتهد ـ بناءً على مسلكنا الذي أشرنا إليه ـ علماً اعتباريّاً للمقلّد، لاتنزيليّاً، فقد يقع الاختلاف في الحكم بينهما، وذلك فيما إذا وجد حكم يختصّ بالعلم الوجدانىّ دون الاعتبارىّ، فإنّ هذا الحكم يثبت في حقّ العامّىّ على مسلك التنزيل؛ لثبوت العلم الوجدانىّ له تنزيلاً، ولايثبت في حقّه على هذا المسلك.

مثال ذلك: أنّه لو بنينا على ما ذهب إليه بعض من التفصيل ـ في كون العلم الإجماليّ علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة وعدمه ـ بين العلم الوجدانىّ والاعتبارىّ، بكون الأوّل كذلك دون الثاني، فالعلّيّة التامّة للتنجيز ثابتة للمجتهد لدى علمه الوجدانىّ بأحد حكمين إلزاميّين، وغيرُ ثابتة للعامّىّ؛ لأنّ علمه اعتبارىّ، وليس وجدانيّاً، فربّما تجب الموافقة القطعيّة على المجتهد دون العامّىّ. فهذا المسلك مخالف من حيث النتيجة لما هو المركوز في جميع الأذهان من اتّحاد المجتهد والعامّىّ ـ دائماً ـ في الحكم الذي يستنبطه(1).


(1) لايخفى أنّ هذه النتيجة المخالفة للارتكاز يوجد في مقدّماتها ـ أيضاً ـ ما هو خلاف الارتكاز، وهو فرض العلم الاعتبارىّ سبباً للتنجيز والتعذير؛ فإنّ العلم الاعتبارىّ ـ بالمعنى الذي يختلف جوهريّاً عن العلم التنزيلىّ ـ يكون تأثيره في التنجيز والتعذير غير معقول، كما سيبيّن ـ إن شاء الله ـ في المستقبل، وهو في نفس الوقت خلاف المرتكز العقلائيّ.

ولكن بالإمكان تبنّي نفس المسلك الأخير، وهو: (أنّ التقليد في كلّ مسألة ينقّح موضوع التقليد في المسألة التي بعدها) مع تبديل فرض تفسير حجّيّة فتوى المجتهد للمقلّد بمعنى كونها علماً اعتباريّاً له، بتفسيرها بمثل تنزيل فتواه للمقلّد منزلة العلم في الأثر، وبهذا تنتفي في المقام النتيجة المخالفة للارتكاز.

171

إلّا أنّ هذا الارتكاز لم يعلم كونه مأخوذاً من مدرك صحيح؛ كي يكون حجّة، بل هو ناشئ من عدم الالتفات إلى هذه المطالب.

وقد تلخّص من كلّ ما ذكرناه: أنّ عمليّة الإفتاء والتقليد في غير موارد قطع الفقيه بالحكم الواقعيّ، يمكن تفسيرها بأحد مسالك أربعة:

الأوّل: ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ تحقيقه في المقام الثالث من شمول الأحكام الظاهريّة بنفس أدلّتها للعامّىّ، فيفتيه المجتهد بها.

والثاني: ما مضى في المقام الأوّل من دعوى أنّ المجتهد يصبح ببركة الحكم الظاهريّ عالماً اعتباراً بالحكم الواقعىّ للعامّىّ، فيفتيه به.

والثالث: ما ذكرناه في هذا المقام من مسلك التنزيل.

والرابع: ما ذكرناه في هذا المقام من المسلك المتوسّط بين الأوّلين والثالث.

فلو ثبتت صحّة المسلك الأوّل فيما يأتي من بحث المقام الثالث، لم تصل النوبة إلى المسالك الاُخرى، وإلّا وصلت النوبة إلى تلك المسالك، وعندئذ نقول: إنّ المسلك الثاني قد مضى إبطاله، وأمّا المسلك الثالث، فيتوقّف على أمرين:

الأوّل: أن نمتلك دليلاً على التقليد غير سيرة العقلاء؛ لما مضى من أنّ سيرة العقلاء لم تقم على تنزيل حالات العالم منزلة ثبوتها للجاهل.

وهذا ثابت في المقام؛ فإنّ دليل التقليد غير منحصر بسيرة العقلاء.

والثاني: أن لايمكن الأخذ بمفاد دليل التقليد من دون الالتزام بمؤونة زائدة، وهي مؤونة التنزيل، فتثبت تلك المؤونة بدلالة الاقتضاء.

إذن فمادمنا نمتلك المسلك الرابع لاتصل النوبة إلى المسلك الثالث؛ لأنّ الرابع خال عن المؤونة الزائدة.

172

نعم، لو فرضنا أنّ ما أشرنا إليه من مخالفة نتيجة المسلك الرابع ـ أحياناً ـ للارتكاز مبطل لهذا المسلك، تعيّن المسلك الثالث.

هذا، والواقع: أنّ المسلكين الثالث والرابع كليهما مخالفان للارتكاز؛ فإنّ المرتكز هو: اشتراك الحكم في نفسه ـ وبغضّ النظر عن التقليد ـ بين العالم والجاهل. والاعتماد على هذا الارتكاز يعني الكشف إنّاً عن اشتراك الحكم بغضّ النظر عن التقليد ـ إن أمكن ذلك ـ كما في مورد الأمارات، أو في مطلق موارد الأمارات والاُصول، على بيان سيأتي ـ إن شاء الله ـ في ذيل البحث عن المقام الثالث.

وأمّا لو لم نثق بمفاد هذا الارتكاز ـ ولو لفرض قطعيّة بطلانه في موارد الاُصول التي ليس فيها علم اعتبارىّ ـ لم يمكن الكشف عن الحكم المشترك قبل جواز التقليد، ورجعنا مرّة اُخرى إلى المسلك الرابع.

ثُمَّ إنّ هنا امتيازاً لكلّ من المسلك الأول والثالث والرابع على المسلك الثاني، وهو: أنّ تلك المسالك ـ غير المسلك الثاني ـ كما يمكن تطبيقها في الأحكام المشتركة بين المجتهد والمقلّد، كذلك يمكن تطبيقها بوضوح في الأحكام الخاصّة بالمقلّد، كمسائل الحيض والنفاس للمرأة، إذا كان المجتهد رجلاً.

وأمّا المسلك الثاني، وهو: كون المجتهد ببركة الحكم الظاهريّ عالماً اعتباراً بالحكم الواقعيّ، فقد يشكل في الأحكام المختصّة بالمقلّد؛ إذ ليس بشأن المجتهد حكم ظاهريّ كي يكون ببركته محرزاً للحكم الواقعىّ.

والتحقيق في المقام: أنّه لا مانع ثبوتاً من إمكان تماميّة هذا المسلك في الأحكام المختصّة بالمقلّد؛ وذلك لكفاية ترتّب أثر واحد بشأن المجتهد في ثبوت الحكم الظاهريّ له، وذاك الأثر هو: جواز الإفتاء بناءً على أنّ العلم الاعتبارىّ كما يقوم مقام القطع الطريقىّ كذلك يقوم مقام القطع الموضوعىّ(1).


(1) ولو لا قيامه مقام القطع الموضوعىّ، لما أمكن تصحيح التقليد حتّى في الأحكام المشتركة بالعلم الاعتبارىّ للمجتهد، إلّا بدلالة الاقتضاء لدليل جواز التقليد، فإنّ علم المجتهد موضوع لجواز التقليد، فلايقوم العلم الاعتبارىّ مقام الموضوعيّ، وبالتالي لايتمّ التقليد إلّا بنكتة لزوم لغويّة دليل جواز التقليد الدالّة بالاقتضاء على قيامه مقام الموضوعىّ، وبهذا يسقط مرّة اُخرى أهمّ أدلّة التقليد، وهو سيرة العقلاء؛ إذ لامعنىً لفرض دلالة الاقتضاء للسيرة العقلائيّة.

173

ولكنّ الكلام في تماميّة ذلك إثباتاً؛ إذ ما كان من أدلّة حجّيّة الخبر بلسان (صدّق العادل)، أو (ليس لأحد التشكيك فيما يرويه ثقاتنا) ونحو ذلك ممّا ينظر إلى مرحلة العمل؛ لأنّ القطع والشكّ ليسا اختياريّين، فالمقصود هو التصديق والتشكيك العمليّان، أقول: ما كان من الأدلّة بلسان ترتيب الأثر العملىّ، إنّما يدلّ على جعل العلم واعتباره في خصوص المعلوم الذي له أثر عملىّ، فلابدّ من افتراض أثر عملىّ للمعلوم؛ كي يثبت العلم الاعتبارىّ به، ويترتّب بالتالي أثر العلم أيضاً.

أمّا لو لم يكن للمعلوم أثر عملىّ، وكان الأثر خاصّاً بالعلم، فلايشمله الدليل.

نعم، لو ورد مثلاً: (إن أخبرك الثقة، فأنت عالم اعتباراً) كان ذلك شاملاً لفرض ترتّب الأثر على العلم وإن لم يترتّب أثر المعلوم.

المقام الثالث: في أنّ الأحكام الظاهريّة هل تشمل العامّىّ بنفس أدلّتها بلا نظر إلى دليل التقليد، أو لا؟

والإشكال في ذلك كان تارة من ناحية أنّ القطع والظنّ والشكّ بخصوصيّاتها المخصوصة المترتّب عليها الحكم الظاهرىّ لاتحصل للعامّيّ إلّا نادراً.

واُخرى من ناحية أنّ الفحص إنّما يتمكّن منه المجتهد دون العامّىّ إلّا نادراً.

والإشكال من الناحية الاُولى لايمكن الجواب عنه؛ فإنّ نفس القطع والشكّ والظنّ بتلك الخصوصيّات موضوعة للحكم، وهي لاتحصل للعامّىّ(1).

وأمّا الإشكال من الناحية الثانية، وهي الفحص، فبالنسبة إلى الاُصول ـ أيضاً ـ لاعلاج له؛ لأنّها مشروطة بنفس الفحص(2)، والمفروض عجز العامّىّ عن الفحص.

وأمّا بالنسبة إلى الأمارات: فإن قلنا: إنّ حجّيّتها مشروطة بنفس الفحص عمّا بأيدينا من الأخبار، فأيضاً لاعلاج له مادام لم يتمّ الفحص من قبل العامّىّ.


(1) لو آمنّا في باب الاستصحاب بما احتمله المحقّق الخراسانىّ: من أنّ اليقين السابق إنّما اُخذ طريقاً إلى أن يكون الاستصحاب حكماً بقائيّاً، ونحن نؤمن بذلك، أمكن أن يقال في المقام: إنّ اليقين السابق للفقيه كاف لإفتائه للعامّىّ بالاستصحاب في الشبهات الحكميّة. وأمّا الشكّ، فهو حاصل للعامّىّ، وأمّا الظنّ، فليس هو بوجوده الموضوعىّ في النفس موضوعاً للحكم الظاهرىّ، وإنّما موضوع الحجّيّة هوالأمارة التي تكون في معرض الوصول، وهي أمر واقعيّ.

(2) بل بعدم الحاكم في معرض الوصول، وهذا أمر واقعيّ.

174

وأمّا إن قلنا: إنّ نفس الخبر الذي ليس له معارض في معرض الوصول، والعامّ الذي ليس له مخصّص في معرض الوصول و... حجّة، والفحص إنّما هو للكشف عن صغرى الحجّة، فالإشكال في ذلك مرتفع؛ فإنّ المجتهد يكشف بالفحص عمّا هو حجّة عليه وعلى العامّىّ.

فتحصّل: أنّ المسلك الأوّل إن تمّ فإنّما يتمّ في الجملة، ونحن نحتاج غالباً إلى الرجوع إلى غيره من المسالك.

بقي في المقام شيء، وهو: أنّ ما ذكرناه من الإشكال في عمليّة الاستفتاء: من أنّ الحكم الظاهرىّ ـ ابتداءً وقبل جواز التقليد ـ مختصّ بالمجتهد، أمر مغفول عنه في أذهان عامّة الناس من المجتهد والعامّىّ، فالمرتكز هو: أنّ ما يستنبطه المجتهد يكون من أوّل الأمر مشتركاً بينه وبين العامّىّ، ومن هنا يمكن أن يدّعى: أنّ مقتضى الإطلاق المقامىّ للأدلّة اللفظيّة للتقليد إمضاء ما في أذهانهم، بمعنى: أنّ الشارع جعل حكماً ظاهريّاً موحّداً للمجتهد والعامّىّ بحيث يترتّب عليه آثار الاشتراك الابتدائىّ.

وتوضيح ذلك: أنّنا تارة نفترض أنّ الدليل اللفظىّ للتقليد دلّ على رجوع العامّىّ إلى المجتهد في حكمه لنفس المجتهد، وهذا يعني: أنّ حكم العامّىّ هو عين حكم المجتهد، وعليه لايوجد في المقام إطلاق مقامىّ لدليل التقليد؛ فإنّه يكفي لكون حكم العامّىّ عين حكم المجتهد ما بيّنّاه في المسلك الرابع: من أنّ التقليد في كلّ مسألة ينقّح موضوع التقليد في مسألة اُخرى. وإن لم يتمّ هذا المسلك، دلّ دليل التقليد رأساً بدلالة الاقتضاء على مسلك التنزيل الذي يوحّد حكم العامّىّ مع حكم المجتهد، وبذلك ينتهي الحديث.

واُخرى نستظهر من الدليل اللفظيّ للتقليد رجوع العامّىّ إلى رأي المجتهد بشأن العامّىّ، لا رجوعه إلى رأي المجتهد بشأن نفسه، وعندئذ يقال: إنّ ظاهر قوله: «رأي المجتهد بشأن العامّىّ حجّة للعامّيّ» هو: أنّ موضوع هذا الحكم بالحجّيّة هو رأي المجتهد بشأن العامّىّ المفروض وجوده بقطع النظر عن هذا الحكم، لاالمتوقّف وجوده على نفس هذه الحجّيّة(1)، وهنا لايمكن حلّ الإشكال بالانتقال مباشرة إلى التنزيل بدلالة الاقتضاء


(1) لايبعد أن يقال: إنّ هذا البيان إنّما يتمّ بعد فرض عدم تماميّة المسلك الرابع، ولايقاوم المسلك الرابع؛ فإنّ ظهور دليل التقليد في كون الحكم الذي وقع موضوعاً للحجّيّة ثابتاً بشأن العامّىّ قبل التقليد، ليس بأكثر ممّا هو محفوظ في ضمن المسلك الرابع الذي يحلّ التقليد الواحد إلى عدّة تقاليد، ويكون كلّ تقليد سابق محقّقاً لموضوع التقليد اللاحق ومثبتاً ـ قبل التقليد اللاحق ـ للحكم الذي هو مصبّ التقليد اللاحق، وكان الحكم في مورد التقليد الأوّل مشتركاً بينهما قبل التقليد أيضاً، إذن فالمسلك الرابع لايبطل بهذا الوجه، ولانستطيع أن نستفيد ببركة هذا الوجه فوائد المسلك الأوّل أو الثاني.

175

ومن دون المرور بالإطلاق المقامىّ؛ وذلك لأنّ حكم العامّىّ قبل جواز التقليد غير حكم المجتهد، فحكم المجتهد ـ مثلاً ـ هو البراءة؛ للفحص، وانحلال العلم الإجمالىّ، في حين أنّ حكم العامّىّ هو الاحتياط؛ لعدم الفحص، وعدم انحلال العلم الإجمالىّ، فكان على المجتهد أن يفتي العامّىّ بالاحتياط، وإنّما أفتاه بالبراءة لغفلته عن هذه النكتة، واعتقاده بوحدة الحكم بينه وبين العامّىّ قبل جواز التقليد، فالواقع: أنّ المجتهد فهم من دليل التقليد أنّ الشارع أمضى وحدة الحكم الظاهريّ الثابت قبل جواز التقليد، واشتراكه بين المجتهد والعامّىّ، وعندئذ نقول: إنّه كلّما تكلّم المتكلّم بكلام يتخيّل الناس منه شيئاً، لالقصور في العبارة، بل لقصور في فهمهم، يكون مقتضى الإطلاق المقامىّ إمضاء ذلك الشيء، فنستنتج من ذلك كون الأحكام مشتركة بين المجتهد والعامّىّ بغضّ النظر عن التقليد.

ويبقى علينا أن نتصوّر ثبوتاً وجهاً يناسب هذا الاشتراك، فنقول:

إنّ الإشكال كان تارة من ناحية الفحص، واُخرى من ناحية اليقين، وأمّا الشكّ، فهو حاصل للعامّيّ.

أمّا الفحص، فيمكن أن يفرض عدم كونه شرطاً بنفسه، وكون الشرط عدم ثبوت المعارض أو الحاكم فيما بأيدينا من الأخبار، والفحص طريق إليه.

وأمّا اليقين، فيمكن أن يقال: إنّ الشرط في الاستصحاب ـ مثلاً ـ ليس خصوص يقين الشخص، بل يقينه أو يقين شخص آخر، بشرط موافقة يقين الشخص الآخر للواقع، هذا كلّه بلحاظ الأمارات والاُصول الشرعيّة.

وأمّا في الاُصول العقليّة، فيمكن الالتزام بجعل حكم شرعيّ مماثل له بشأن العامّىّ، وتصوير ثبوته بشأن العامّىّ في المرتبة السابقة على جواز التقليد هو عين تصويره في

176

الاُصول الشرعيّة؛ فإنّ ذاك الحكم المماثل شرعىّ لاعقلىّ(1).

 


(1) ونحن نستذوق إعادة البحث هنا بعيداً عن النقاط التي أوجبت التشويش في الشكل الذي أوردناه في المتن، فنقول:

قال الشيخ الأعظم الأنصارىّ(رحمه الله) في أوّل فرائده:

«اعلم أنّ المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعىّ فإمّا أن يحصل له الشكّ فيه، أو القطع، أو الظنّ... ».

وعلّق على ذلك الشيخ الآخوند(رحمه الله) في أوّل تعليقه على كتاب فرائد الاُصول بقوله:

«مراده بالمكلّف: من وضع عليه القلم من البالغ العاقل لاخصوص من تنجّز عليه التكليف؛ وإلّا لما صحّ جعله مقسماً لما ذكر من الأقسام؛ إذ بينها من لم يكن عليه تكليف، أو لم ينجّز عليه... ».

وغيّر(رحمه الله) في كفايته في أوّل بحث القطع كلمة: «المكلّف» بكلمة: «الذي وضع عليه القلم»، ولعلّ كلامه في تعليقه على الفرائد يوضّح نكتة هذا التبديل في العبارة الوارد في الكفاية.

وعلى أيّ حال، فيمكن أن يكون المنظور له(رحمه الله) في تعليقته على الفرائد أحد أمرين:

الأوّل: أنّ كلمة (المكلّف) قد تنصرف ـ ولو بسبب ظهور المشتقّ في المتلبّس بالفعل ـ إلى من عليه التكليف الإلزامىّ ولو في الجملة، أو من تنجّز عليه تكليف مّا، أو من صار تكليف مّا فعليّاً عليه بمرتبة الفعليّة التامّة بحسب ما يراه(رحمه الله)من ثبوت المراتب للحكم ولفعليّته، في حين أنّ البالغ العاقل ربّما لايكون في أوّل بلوغه قد وجب عليه صوم أو صلاة أو أيّ واجب آخر، وهو ـ أيضاً ـ يتّصف بالشكّ أو الظنّ أو القطع، ويرجع إلى نفس وظائف الشكّ أو الظنّ أو القطع، فالأولى تغيير التعبير بــ «الذي وضع عليه القلم»؛ فإنّه أعمّ من أن يكون مكلّفاً بالفعل؛ وذلك إمّا بدعوى شمول مرحلة الجعل له بمجرّد البلوغ بناءً على كون التكليف ذا مراتب، وأوّلها مرتبة الجعل، وأنّ هذه المرتبة تنطبق على الإنسان من أوّل البلوغ، وإمّا بدعوى أنّ وضع القلم يشمل قلم الترخيص بناءً على أنّ الترخيص ـ أيضاً ـ أمر مجعول ويوضع بالقلم، والبالغ إن لم تشمله الواجبات شملته الترخيصات بلا إشكال.

فإن كان هذا هو المراد، فالجواب عنه واضح، وهو: أنّ البالغ لو لم تكن الواجبات فعليّة عليه في أوّل بلوغه، فلا إشكال في فعليّة المحرّمات عليه كشرب الخمر، فعنوان فعليّة التكليف في الجملة عليه ثابت بلا إشكال.

والثاني: أن يكون المقصود: أنّ عنوان «المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعىّ» يعني: المكلّف بنفس الحكم الشرعىّ الذي التفت إليه، وأراد تعيين وظيفته بالنسبة إليه، في حين أنّ ذاك الحكم الشرعيّ ربّما لايكون تكليفاً عليه، بل يكون حكماً ترخيصيّاً، في حين أنّ الحكم الترخيصىّ ـ أيضاً ـ يعتبر وضعاً للقلم مثلاً.

وهذا ـ أيضاً ـ يكون جوابه واضحاً، وهو: أنّه لا نكتة لفرض انصراف هذا العنوان إلى فعليّة التكليف بالنسبة إلى نفس الحكم الشرعيّ الذي أراد تعيين وظيفته بشأنه، بل تعرف فعليّة التكليف به وعدمها بنفس تعيين الوظيفة بشأنه.

وعلى أيّ حال، فلايعدو هذا النقاش عن كونه نقاشاً لفظيّاً غير ذي أهمّية.

وإنّما المهمّ في المقام بحثان:

البحث الأوّل: راجع إلى غير البالغ والذي كان مميّزاً وقابلاً للتكليف وإن رفع عنه امتناناً، فهل ينبغي شمول حديثنا له، أو لامورد للحديث عنه؛ لأنّه على أيّ حال خارج عن قلم التكليف، فلا أثر للبحث عنه؟

الظاهر: أنّ الصحيح هو الأوّل؛ فإنّه حتّى لو كان في علم الله غير بالغ يمكن تصوير شكّه في التكليف، فهو بحاجة إلى تعيين الوظيفة بالقياس إلى المورد مادام أنّ نفي التكليف عنه لم يكن بنكتة عدم قابليّة الشخص

177


للتكليف، بل بنكتة الامتنان، ونذكر لذلك مثالين:

الأوّل: ما لو شكّ في البلوغ، كما لو شكّ في تماميّة الخامسة عشر من عمره، فهل يجري استصحاب عدم البلوغ مثلاً، أو لا؟

ولو لم نرغب في مثال الشبهة الموضوعيّة بسبب أنّ تعيين الوظيفة في مورد الشبهة الموضوعيّة كما في قاعدتي التجاوز والفراغ ليس من وظيفة علم الاُصول، فبالإمكان فرض الشبهة حكميّة، كما لو شكّ فيما جعل حدّاً للبلوغ هل هو الدخول في الخامسة عشر، أو إكمالها مثلاً، أو شكّ في مفهوم ما جعل حدّاً للبلوغ سعةً وضيقاً كالإنبات لو شكّ في أنّ مفهومه هل هو إنبات الشعر الخشن، أو يشمل الشعر الرقيق؟

ولنفترض أنّ هذا الشخص كان مجتهداً كي لايختلط هذا البحث بالبحث الآتي عن شمول حديثنا لغير المجتهد وعدمه، فهنا يبحث هذا الشخص عن أنّه هل يُوجد في أدلّة التكاليف عموم أو إطلاق يمكن الرجوع إليه لإثبات التكليف، أو هل يوجد استصحاب عدم التكليف، ويتقدّم على العموم أو الإطلاق ـ لو كان ـ في الشبهات الموضوعيّة، أو يتعارضان في الشبهات الحكميّة أو المفهوميّة، أم ماذا؟

الثاني: ذكر بعض الفقهاء ثبوت الأحكام الناشئة من قاعدة الملازمة بين حكم العقل بالقبح والحرمة الشرعيّة، أو استحقاق العقاب على غير البالغين كثبوتها على البالغين، وذلك من قبيل حرمة الظلم مادام أنّ نفي التكليف عنه لم يكن لأجل عدم قابليّة الموضوع، فلابدّ له من تحصيل مؤمّن من قطع أو ظنّ معتبر أو العمل بوظيفة الشاكّ الشرعيّة أو العقليّة.

البحث الثاني: راجع إلى غير المجتهد، فهل هذا التقسيم إلى الشاكّ والظانّ والقاطع ينبغي اختصاصه بالمجتهد، أو ينبغي شموله للعامّىّ؟

والبحث هنا يقع في مقامين:

الأوّل: في أنّه هل يكون غير المجتهد داخلاً في هذا التقسيم ولو لأجل كونه كالمجتهد في الجملة في ثبوت وظيفة الشاكّ والظانّ له؟؛ فإنّ ثبوت وظيفة الشكّ والظنّ له في الجملة كاف في دخوله في التقسيم.

والثاني: أنّه هل يثبت لغير المجتهد تمام الوظائف المقرّرة للظانّ والشاكّ كالمجتهد، أو لا؟

أمّا المقام الأوّل: فالصحيح أنّ غير المجتهد ينبغي إدخاله في التقسيم؛ فإنّه مكلّف بالأحكام الشرعيّة بلا إشكال، فلابدّ له من الالتفات إليها، وإذا التفت إليها فتارة يحصل له القطع بالحكم كما في الأحكام الضروريّة القطعيّة له، وعندئذ يعمل بقطعه، وهذا هو القسم الأوّل.

واُخرى لايحصل له القطع به، ولكن يوجد لديه طريق ظنّيّ إلى الحكم كفتوى المجتهد، وعلى هذا التقدير: تارة يحصل له القطع بحجيّة ذاك الطريق الظنّي، فيدخل في القسم الثاني.

واُخرى يشكّ في ذلك، أو لايوجد مجتهد، أو لايتمكّن من الرجوع إليه، فيدخل في القسم الثالث، ويعمل بما يحكم به عقله من الاُصول العقليّة من براءة أو احتياط أو تفصيل، فحال غير المجتهد في الأقسام هو حال المجتهد عيناً. إلّا أنّه قد يدّعى: أنّ الطرق الظنّيّة للمجتهد كثيرة، ولغيره منحصرة في فتوى المجتهد. وهذا لايوجب خروج غير المجتهد عن المقسم.

وأمّا المقام الثاني: فهو البحث عن أنّ الطرق الكثيرة الثابتة للمجتهد من الظنون الحجّة أو الاُصول العمليّة الكثيرة هل هي ثابتة للعامّىّ، أو لا؟←

178


فقد يقال: إنّ هذه خاصّة بالمجتهد، ولاتشمل العامّىّ؛ لأنّ شروط الحجّيّة غير موجودة بشأنه، فحجّيّة خبر الواحد ـ مثلاً ـ مشروطة بالفحص عن المعارض والمخصّص والمقيّد والحاكم، والذي يقدر على ذلك هو المجتهد، وليس العامّىّ.

وهذا في الحقيقة ينتهي إلى الاستشكال في أصل عمليّة التقليد.

وتوضيح الحال هو: أنّ مسألة التقليد ـ بحسب ما هو مركوز في أذهان العقلاء ـ عبارة عن رجوع غير أهل الخبرة إلى أهل الخبرة، وهذا واضح بالنسبة إلى المسائل التي يصل فيها الفقيه إلى القطع واليقين بحكم الله الواقعىّ؛ فإنّ حكم الله الواقعىّ مشترك بين العالم والجاهل، إلّا أنّ الجاهل لايستطيع أن يصل إليه بنفسه؛ لأنّه ليس من أهل الخبرة والبصيرة، في حين أنّ المجتهد هو من أهل الخبرة والبصيرة، فإذا اكتشف الحكم رجع المقلّد إليه رجوع الشخص إلى أهل الخبرة والتخصّص، ولكن ماذا نصنع في الموارد التي لايصل الفقيه فيها إلى اكتشاف الحكم الواقعىّ اكتشافاً قطعيّاً، بل غاية ما يصل إليه عبارة عن الحكم الظاهرىّ من باب حجّيّة الأمارة أو الأصل، وفي غالب الأحيان ليس الحكم الظاهرىّ مشتركاً بين العالم والجاهل؛ لأنّ شروط الحجّيّة غير موجودة بشأن الجاهل: فحجّيّة خبر الواحد ـ مثلاً ـ مشروطة بالفحص عن المعارض والمخصّص والمقيّد والحاكم، والذي يقدر على ذلك هو المجتهد، وليس العامّىّ. وحجّيّة استصحاب النجاسة في الماء المتغيّر الزائل تغيّره تتوقّف على يقين سابق وفحص في الأخبار، وهما لايحصلان إلّا للمجتهد. وأصالة الاشتغال إنّما تجري عند تحقّق العلم الإجمالىّ بأحد حكمين، وهو إنّما يحصل للمجتهد... وعندئذ فالمجتهد بأيّ شيء يفتي العامّىّ؟ هل بالحكم الواقعىّ أو بالحكم الظاهرىّ؟

فإن أراد إفتاءه بالحكم الواقعىّ، لم يجز له ذلك؛ لأنّ حاله في ذلك حال العامّىّ، غاية الأمر إمكان افتراض كونه ظانّاً بالحكم الواقعىّ، ولكن الظنّ لايغني من الحقّ شيئاً.

وإن أراد إفتاءه بالحكم الظاهرىّ، ورد عليه: أنّ هذا الحكم مختصّ بالمجتهد نفسه، ولم يتحقّق موضوعه بشأن العامّىّ، ويكون حاله حال حكم الولاية والقضاء المختصّين بالفقيه، ولامعنىً لأن يفتي أحداً بما يختصّ بنفسه!!

ولايمكن دفع هذا الإشكال بأنّ مفاد الأمارات هو حكم واقعىّ، أي: إنّ الأمارة تحكي عن الحكم الواقعىّ وإن كانت حجّية الأمارات حكماً ظاهريّاً، فالمجتهد يفتي العامّىّ بمفاد الأمارات.

إذ من الواضح ـ بغضّ النظر عن أنّ هذا الحلّ لو تمّ لاختصّ بمورد الأمارات، ولايشمل مورد الاُصول ـ أنّ مجرّد كون الأمارات حاكية عن الحكم الواقعىّ لاأثر له في حلّ الإشكال؛ فإنّ الذي ينفعنا في مقام العمل هو حجّيّتها، والنتيجة تتبع أخسّ المقدّمات، فالعمل يكون على الحكم الظاهرىّ لاعلى الحكم الواقعىّ.

كما لايمكن دفع هذا الإشكال بمثل مسلك الشيخ النائينىّ(قدس سره): من جعل العلم الاعتبارىّ.

ولابمسلك تنزيل غير العلم منزلة العلم.

فإنّه مضافاً إلى أنّ العلم الجعليّ أو الاعتبارىّ المطروح من قبل الشيخ النائينىّ(رحمه الله) قد طرحه في باب الأمارات دون الاُصول يرد عليهما: أنّ العلم الاعتبارىّ أو التنزيل لايحقّق الخبرويّة حتّى تنطبق في المقام قاعدة الرجوع إلى أهل الخبرة.

وإذا أفلست هذه الأوجه الثلاثة من الجواب بوضوح، قلنا: إنّ هنا أوجهاً اُخرى أكثر عُمقاً من هذه الأوجه ←

179


التي أمكن تفنيدها بأقلّ التفات:

والوجه الأوّل: أن يقال: إنّ تقليد العامّىّ للمجتهد في الأحكام الظاهريّة ينحلّ في واقعه إلى عدّة تقاليد شبيهاً بما يقال في الأخبار مع الواسطة، فالتقليد في كلّ مسألة سابقة يثبت موضوع الحكم الظاهرىّ في المسألة اللاحقة:

فمثلاً: إذا علم المجتهد بأحد حكمين إلزاميّين، قلّده العامّىّ في ذلك، وثبت له ما هو بمنزلة العلم بأحدهما،أي: قامت الحجّة له على أحد الحكمين، فيفتيه المجتهد ـ عندئذ ـ بوجوب الاحتياط. ولو علم المجتهد بنجاسة الماء المتغيّر بملاقاة النجس، كان ذلك حجّة للعامّىّ على نجاسته، فيثبت بشأنه الاستصحاب عند زوال التغيّر، فيفتيه ببقاء النجاسة استصحاباً. وإذا فحص المجتهد عن المعارض ونفاه، قلّده العامّىّ في ذلك، فثبت له بالحجّة عدم المعارض، وهذا عبارة اُخرى عن فحصه عن عدم المعارض، فأصبح ذاك الخبر حجّة له، فيفتيه المجتهد بحجّيّة ذاك الخبر... وهكذا.

الوجه الثاني: لو لم نقبل بالتحليل الذي مضى؛ وذلك بدعوى: أنّ العامّىّ لايلتفت أصلاً إلى هذا التحليل حتّى تتمّ في قرارات نفسه عدّة تقاليد مترتّبة، فلم يتمّ بذلك تطبيق قانون الرجوع إلى أهل الخبرة على التقليد في الشرعيّات في الأحكام الظاهريّة، كفتنا غفلة الناس عن هذا الإشكال وتطبيقهم ذلك على الأحكام الظاهريّة في الشرعيّات؛ إذ لو لم ترض الشريعة بذلك، لكان عليها أن تردع العقلاء عن تطبيقهم هذا القانون على الفقه بلحاظ الأحكام الشرعيّة ولم تفعل، وهذا معناه: رضا الشريعة بهذه الغفلة وبهذا التطبيق غير الصحيح، فبهذا يصحّ التقليد في جميع الموارد الفقهيّة. ويثبت بذلك: أنّ التقليد المشرَّع في الشريعة الإسلاميّة لايشترط فيه رجوعه دائماً إلى قانون الرجوع إلى أهل الخبرة.

الوجه الثالث: أن يقال: إنّ دليل التقليد ليس منحصراً في السيرة العقلائيّة، بل لدينا نصوص كثيرة تدلّ على التقليد: من قبيل قوله: «أفيونس بن عبدالرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: نعم» الوسائل، ب 11 من صفات القاضي، ح 33. وقوله: «أما لكم من مفزع؟! أما لكم من مستراح تستريحون إليه؟! ما يمنعكم من حارث بن المغيرة النصرىّ؟!» المصدر نفسه، ح 24. وقوله: «شقّتي بعيدة، ولست أصل إليك في كلّ وقت، فممّن آخذ معالم ديني؟ قال: من زكريّا بن آدم القمّي المأمون على الدين والدنيا» المصدر نفسه، ح 27. وغير ذلك من الروايات.

فهذه النصوص دلّت على تقليد الفقيه في جميع الأحكام الشرعيّة الواقعيّة والظاهريّة؛ وبهذا نفهم أنّه لايشترط في التقليد في الشريعة الإسلاميّة رجوعه بالدقّة إلى قانون الرجوع إلى أهل الخبرة.

الوجه الرابع: أن يقال: كما أنّ العامّىّ مشترك مع الفقيه في الأحكام الواقعيّة، فرجوعه إليه فيما قطع به من الأحكام الواقعيّة رجوع إلى أهل الخبرة كذلك هو مشترك معه في الأحكام الظاهريّة، وطبعاً لايفتي الفقيه بحكم ظاهرىّ إلّا إذا حصل له القطع بذلك، فرجوع العامّىّ إليه رجوع إلى أهل الخبرة بلاحاجة إلى تحليل التقليد إلى عدّة تقاليد، وبلاحاجة إلى إخراج التقليد من مساره المفهوم عقلائيّاً: من كونه رجوعاً إلى أهل الخبرة بدعوى إطلاق في روايات التقليد، أو بدعوى إمضاء السيرة العقلائيّة برغم خطئها.

والوجه في ذلك: أنّ موضوع الحكم الظاهرىّ والذي يتخيّل عدم توفّره بشأن العامّىّ: إمّا هو عبارة عن الفحص عن المعارض أو المخصّص أو المقيّد أو الحكم أو الوارد على الأمارات، في حين أنّه ليس الفحص

180

2 ـ حكم المجتهد غير الأعلم

ونبحث هنا عن مدى اعتماد غير الأعلم على رأي نفسه، بمعنى: أنّه هل يحصل له العلم بالوظيفة، فيعمل بما علمه، أو المفروض أنّه لايحصل له العلم، فلايمكنه العمل بالرأي من دون مراجعة الأعلم في ذلك؟؛ إذ من الواضح أنّه لابدّ ـ دائماً ـ من الانتهاء إلى العلم، وما عداه كالظنّ لايغني من الحقّ شيئاً، غاية الأمر أنّ متعلّق العلم هو الحكم الواقعىّ تارة، والحكم الظاهرىّ اُخرى.

والإشكال في اعتماد المجتهد على رأي نفسه يتبلور لدى اجتماع اُمور ثلاثة:

1 ـ أن يعتقد المجتهد أو يحتمل مفضوليّة نفسه عن غيره.

 


بذاته هو الشرط، وإنّما الشرط هو واقع عدم معارض في معرض الوصول أو مقيّد كذلك أو... وحينما أحرز المجتهد هذا الواقع فقد أحرز أمراً واقعاً نسبته إليه وإلى العامّىّ على حدّ سواء، فيفتيه بالحكم الظاهرىّ المشترك بينهما.

وكذلك الفحص عمّا يدلّ على الوثاقة ليس هو الشرط بذاته لجعل الحجّيّة لخبر الواحد، وإنّما الشرط هو واقع وجود دليل على الوثاقة، وهذا ما يحرزه المجتهد، وهو أمر واقعىّ نسبته إلى الفقيه والعامّىّ على حدّ سواء.

وإمّا هو عبارة عن الشكّ والظنّ؛ فإنّهما المتواجدان في باب الأمارات والاُصول.

ولكنّا نقول: إنّ الشكّ حاصل للعامّىّ، وأمّا الظنّ فليس هو بوجوده الموضوعىّ في النفس موضوعاً للحكم الظاهرىّ، وإنّما موضوع الحجّيّة هو الأمارة التي تكون في معرض الوصول، وهي أمر واقعىّ.

وإمّا هو الفحص المشروط به جريان الاُصول.

وهنا ـ أيضاً ـ نقول: ليس الفحص بنفسه هو الشرط، وإنّما الشرط عدم وجود الحاكم في معرض الوصول، وهو أمر واقعىّ.

نعم، يبقى شيئان:

أحدهما: اليقين السابق في باب الاستصحاب في مثل استصحاب نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره.

وهذا لاعلاج له إلّا إذا آمنّا بمقالة الشيخ الخراسانىّ(قدس سره): من أنّ اليقين السابق إنّما اُخذ طريقاً إلى أن يكون الاستصحاب حكماً بقائيّاً. ونحن نؤمن بذلك.

وثانيهما: العلم الإجمالىّ بمثل الظهر والجمعة الذي يكون موضوعاً لفتوى المجتهد بوجوب الاحتياط.

وهذا يمكن علاجه بأنّ العلم الإجمالىّ الواسع بالأحكام والمقتضي للاحتياط بقدر الإمكان ثابت للعامّىّ، فكان المهمّ حلّه في موارد الأمارات بحجّيّتها، وقد عرفت أنّ حجّيّتها تابعة لاُمور واقعيّة نسبتها إلى العامّىّ والمجتهد على حدّ سواء، وبقي الباقي الذي يفتي فيه الفقيه بوجوب الاحتياط.

وعلى أيّ حال، فهذا الوجه الرابع بقدر ما يتمّ لايُبقي مجالاً للوجوه السابقة: من دعوى انحلال التقليد إلى عدّة تقاليد، أو دعوى إمضاء السيرة العقلائيّة الخاطئة التي تُرجع التقليد إلى مراجعة أهل الخبرة، أو دعوى كون الأدلّة اللفظيّة مصحّحة للتقليد بعيدة عن النظر إلى مسألة الخبرويّة.

وفي رأينا أنّ هذا الوجه ألطف الوجوه وأصفاها.

181

2 ـ أن يخالفه الأعلم في فتواه.

3 ـ أن يكون مورد الخلاف بينهما من الاُمور الفنّيّة التي يتصوّر فيها البحث والنقاش وتغلّب أحدهما على الآخر، لامن الظهور العرفىّ الساذج الذي لايتصوّر فيه ذلك، ويبقى كلّ واحد منهما مدّعياً لظهور الكلام فيما يراه.

فإذا اجتمعت هذه الفروض الثلاثة، فغير الأعلم يقطع أو يحتمل أنّه لو ناقشه الأعلم في رأيه لعدل عنه، ومع هذا القطع أو الاحتمال لايحصل له العلم بفتواه، فكيف يجوز له العمل برأيه؟! وعدول غير الأعلم عن رأيه بسبب مناقشة الأعلم لرأيه يتصوّر على نحوين:

الأوّل: أن يخرج بذلك عن موضوع الحكم الذي كان يفتي به إلى موضوع حكم جديد، وذلك كما في مسألة البراءة التي موضوعها الشكّ، فغير الأعلم قد يجري البراءة بسبب شكّه في الحكم، في حين أنّه لو ناقشه الأعلم في المسألة قد يخرجه من الشكّ، فينتفي موضوع البراءة بالنسبة إليه، وكما في تمسّكه بإطلاق ﴿أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ﴾ ـ مثلاً ـ الذي موضوعه الشكّ في التقييد، في حين أنّ الأعلم يثبت له التقييد.

والثاني: أن يظهر له خطأه في الحكم من دون تبدّل الموضوع، كما لو قال غير الأعلم باستحالة الترتّب، أو شمول دليل الاستصحاب للاستصحاب المثبت، وأثبت له الأعلم خلاف ذلك.

أمّا القسم الأوّل: فالإشكال فيه أهون منه في القسم الثاني؛ إذ المفروض أنّ مناقشة الأعلم له في الرأي لاتثبت خطأه، وإنّما تؤثّر في تبديل الموضوع، ومن هنا قد يقال: لايجب عليه تبديل الموضوع بمراجعة الأعلم في بحث المسألة، ويجوز له العمل بما يرتئيه.

نعم، يبقى هنا إشكال اشتراط التمسّك بالبراءة أو الإطلاق بالفحص، ومن أنحاء الفحص الرجوع إلى الأعلم في بحث المسألة.

وهذا الإشكال يمكن دفعه بأن يقال: إنّ دليل وجوب الفحص لايشمل الفحص بهذا المعنى، لافي باب الأمارات ولافي باب الاُصول.

أمّا في باب الأمارات، فالدليل على وجوب الفحص عندهم أمران:

182

الأوّل: العلم الإجماليّ، ولكنّ العلم الإجماليّ ـ هنا ـ لم يتحقّق من أوّل الأمر إلّا بمقدار من المخصّص يمكن الحصول عليه بالفحص المستقلّ عن مراجعة الأعلم، إذا كان الفاحص من أهل الفنّ ومصداقاً لعنوان الخبير بالصناعة كما هو المفروض، فالعلم الإجماليّ لايقتضي أكثر من الفحص المستقلّ عن مراجعة الأعلم.

والثاني: اختصاص بناء العقلاء، أو سيرة المتشرّعة على حجّيّة العامّ الصادر عمّن يعتمد ـ دائماً ـ على المخصّصات والمقيّدات المنفصلة بما بعد الفحص. وهذا البناء يمكن دعوى اختصاصه بالفحص المستقلّ ـ أيضاً ـ لمن هو خبير بالصناعة، ولايبنون على الفحص أكثر من ذلك.

وأمّا في باب الاُصول، فالدليل على وجوب الفحص ـ أيضاً ـ أمران:

الأوّل: الإجماع، ومن المعلوم اختصاصه بالفحص المستقلّ، وعدم قيام الإجماع على ضرورة الفحص بمعنى الرجوع إلى الأعلم في البحث.

والثاني: أخبار (هلّا تعلّمت)، وهي ليست في مقام بيان المقدار الواجب من التعلّم، وإنّما هي في مقام بيان أصل وجوب التعلّم(1) فلاتدلّ على وجوب الفحص بهذا المقدار، كما يأتي توضيح ذلك في محلّه إن شاء الله(2).

وأمّا القسم الثاني: فالإشكال فيه أركز منه في القسم الأوّل، ولايتمّ الجواب عنه بما أجبنا به في القسم الأوّل، كما هو واضح.

وهنا نردّ الإشكال، تارة بالنقض، واُخرى بالحلّ:

أمّا الأوّل: فبالنقض بالأعلم؛ فإنّه ربّما يحصل له احتمال مثل الاحتمال الحاصل لغير


(1) الأوجه من هذا البيان: دعوى انصراف الأمر بالتعلّم إلى المقدار المتعارف من التعلّم، ويكفي فيه فحص الخبير بالفنّ فيما بيديه من الأدلّة، من دون حاجة إلى مراجعة الأعلم في بحث المسألة.

(2) لايخفى أنّه بناءً على الوجه الذي اخترناه في البحث السابق، وهو تكييف أصل التقليد: بأنّ الأحكام الواقعيّة والظاهريّة مشتركة من أوّل الأمر بين المجتهد والعامّىّ، لايبقى مجال للبحث هنا بهذا الاُسلوب، بل ينبغي أن يقال: إنّ الفحص لم يكن هو الشرط الحقيقي، وإنّما الشرط عدم معرضيّة البيان للمعارض أو الحاكم أو المقيّد أو المخصّص أو التكليف للوصول، فلوكان يحتمل احتمالاً معتدّاً به عقلائيّاً أنّ ذلك يصله بالبحث مع الأعلم، فلامحالة سقطت فتواه عن الحجّيّة. وأمّا النقوض: بمثل فرض أعلم يأتي مستقبلاً، أو فرض أعلم مات، أو فرض صيرورة الأعلم الحالي بعد عشر سنين أعلم منه الآن وأمثال ذلك، فلاتجعل المعارض أو الحاكم أو المقيّد أو بيان الحكم أو نحو ذلك في معرضيّة وصوله الآن، فكلّ أمثال هذه النقوض ساقطة.

183

الأعلم، وهناك عدّة مناشئ لحصول هذا الاحتمال له:

الأوّل: أنّ الأعلم ليس ـ دائماً ـ في حالة انشراح الصدر وصفاء الذهن، بل ربّما يبتلي ببعض الأعراض الصحّيّة، أو الروحيّة، أو المشاكل الحياتيّة، ونحو ذلك ممّا يؤثّر في صفاء الذهن، ممّا يجعله يحتمل أنّه لو ناقشه غير الأعلم في رأي يرتئيه في هذه الحالة، لتغلّب عليه في النقاش(1).

الثاني: أنّ الأعلم ربّما يحتمل بشأن نفسه أن يصبح بالمستقبل أعلم منه في هذه الحال، ويعدل عن بعض فتاواه التي يفتي بها الآن.

الثالث: أنّه ليس الفرق ـ دائماً ـ بين الأعلم وغيره بمراتب كثيرة بحيث لايتّفق أن يصبح الأعلم مغلوباً لغير الأعلم في النقاش، بل قد يكون الفارق بينهما قليلاً بحيث قد يَغْلِب وقد يُغْلَب، وإن كانت غلبته أكثر من مغلوبيّته بأضعاف المرّات مثلاً.

الرابع: أنّه ربّما يفرض أعلم الموجودين مفضولاً بالنسبة إلى مجتهد ميّت كالشيخ الأنصاريّ(رحمه الله) مثلاً، ممّا يجعله يحتمل أنّه لو كان يناقشه لكان يعدله عن رأيه، أ فهل يقال: إنّه ـ عندئذ ـ لايجوز له الاعتماد على رأيه؟!

إلّا أنّ هذا الوجه قابل للنقاش؛ فإنّ أعلميّة العلماء الراحلين إنّما تكون بمعنى كونهم أصفى ذهناً وأقوى فهماً وأكثر تأثيراً في دفع عجلة العلم إلى الأمام، في حين أنّ المجتهد الحىّ قد يكون بمستوىً أنزل في هذه الاُمور، ولكنّه في نفس الوقت يكون أعلم الأحياء ـ دائماً ـ هو الأعلم حتّى بالنسبة إلى الأموات، بمعنى: الأجود استنباطاً؛ لأنّ إفادات الماضين بقيت لهذا الشخص، وأضاف إليها إفادات نفسه، فهو أعلم ممّن مضى وإن كانت إفادات من مضى أكثر من إفاداته هو، ففي فرض النقاش يكون هو الذي يغلب الشيخ الأنصاريّ(رحمه الله) إلّا أنّ هذه الغلبة تعني في الحقيقة غلبة جماعة من المحقّقين من حيث المجموع على الشيخ الأنصاريّ(رحمه الله)(2).

الخامس: أنّ كون الشخص أعلم من جميع الماضين والمعاصرين لايعني أنّ الله تعالى


(1) وقد يلتزم صاحب الإشكال بالنسبة إلى هذا المورد من النقض بأنّه متى احتمل الأعلم ذلك وجب عليه انتظار ساعة صفاء الذهن.

(2) هذا النقاش إنّما يتمّ عند وجود فاصل زمنىّ كبير بين الماضي والحىّ، أمّا مع قصر الفاصل الزمنيّ، فقد يتّفق كون الميّت أعلم من أعلم الأحياء بتمام معنى الكلمة.

184

غير قادر على أن يخلق رجلاً أعلم منه، فيكفي في النقض أن يعلم الأعلم أو يحتمل أنّ الله لو خلق رجلاً أعلم منه وناقشه لعدله عن بعض فتاواه(1).

السادس: لو لم يكفِ مجرّد الفرض، قلنا: إنّ هذا الفرض واقع؛ فإنّ الإمام(عليه السلام) أعلم منه، فهو يعلم أو يحتمل أنّ الإمام(عليه السلام) لو ناقشه فنّيّاً في الرأي، لعدله عن رأيه.

والإنصاف: أنّ التأمّل في هذه النقوض يورث القطع بوجود جواب حلّىّ لأصل الإشكال؛ إذ مع تعميم الإشكال للأعلم ينسدّ باب الاجتهاد على الشيعة كما سدّ من قبل على غيرهم، وهذا ممّا يقطع بخلافه، فينبغي أن تفرض حجّيّة فتوى الأعلم لنفسه مسلّمة قبل الجواب الحلّىّ بحيث يصحّ أن يبحث عن نكتة الحجّيّة على شكل البحث الإنّي. وهذه النقوض جملة منها قابلة للنقاش، ولكن تكفي تماميّة بعضها(2).

وأمّا الثاني: وهو الحلّ، فحاصل الكلام في ذلك: أنّ استنباط غير الأعلم تارة يكون مورده ظهور الدليل اللفظي، كدعوى شمول دليل الاستصحاب للشكّ في المقتضي مثلاً.

واُخرى يكون مورده حكم العقل، كدعوى استحالة الترتّب، أو اجتماع الأمر والنهي، أو إمكانهما.

أمّا القسم الأوّل: وهو ما لو أحرز الظهور بشكل لايتردّد فيه إلّا من ناحية مخالفة


(1) ينبغي أن يكون النقض الخامس على وفق هذه المنهجة: هو العلم بأنّه سيأتي في المستقبل من هو أعلم منه، أو احتمال ذلك في أقلّ تقدير، ويكون النقض بالفرض نقضاً سادساً.

(2) لايخفى أنّ الإشكال في اعتماد غير الأعلم على فتاوى نفسه من دون مراجعة الأعلم يمكن بيانه بشكلين:

الأوّل: أن يقال: إنّ غير الأعلم إذا التفت إلى احتمال تبدّل رأيه على تقدير مناقشة الأعلم له في الرأي، عجز عن تحصيل الوثوق بما يرتئيه، وبالتالي يسقط رأيه ـ غير البالغ مستوى الوثوق والاطمئنان أو العلم ـ عن الحجّيّة، وعلى هذا التفسير قديفترض ورود أكثر النقوض السابقة.

الثاني: أن يقال: ـ بعد تسليم حجّيّة رأيه له في الجملة برغم احتمال طروّ التبدّل؛ وذلك لدلالة سيرة العقلاء أو المتشرّعة، أو أىّ دليل آخر على ذلك ـ إنّ حجّيّته مشروطة بالفحص بقدر الإمكان عمّا يعارض هذا الرأي. وهذا لايرد عليه أكثر تلك النقوض؛ فإنّ رجوع غير الأعلم إلى الأعلم في البحث لو قلنا بوجوبه عند الإمكان، لاينبغي نقضه بمثل فرض أعلميّة الميّت، أو أعلميّة الإمام(عليه السلام)، أو أعلميّته هو في المستقبل، أو إمكان أن يخلق الله تعالى رجلاً أعلم منه، أو ماشابه ذلك؛ إذ في هذه الفروض لايمكنه الفحص بالرجوع إلى الأعلم، والفحص إنّما يجب بقدر الإمكان، أمّا احتمال الأعلم تبدّل رأيه لو انتظر ساعة صفاء الذهن، أو ناقش غير الأعلم الذي قد يغلبه في الرأي ولو نادراً، فإن وصل إلى مستوى سلب الوثوق بعدم تبدّل الرأي بانتظار ساعة صفاء الذهن، أو المناقشة لغير الأعلم، فقد يقال بوجوب انتظار ساعة الصفاء، أو النقاش مع الإمكان.

185

الأعلم، فنقول: إنّ الدليل على حجّيّة ذلك هو عين الدليل على حجّيّة الظهور من سيرة العقلاء أو المتشرّعة، فسيرة العقلاء أو المتشرّعة كما هي قائمة على حجّيّة الظهور كذلك هي قائمة على أنّ هذا المستوى من الإحراز غير العلمىّ من قبل من يعدّ من أهل الخبرة والبصيرة بالفنّ كاف في إثبات الظهور(1).

وأمّا القسم الثاني: وهو حكم العقل، فهو تارة يكون عمليّاً راجعاً إلى مسألة الحسن والقبح.

واُخرى يكون نظريّاً كالحكم بالإمكان والامتناع.

أمّا الأوّل: كما لو رأى غير الأعلم عدم قبح الكذب في مورد ما، فهو خارج عمّا نحن فيه؛ لأنّ حكم العقل العملىّ ليس إلّا من الأحكام الوجدانيّة، لاالفنّيّة التي تقبل النقاش، فهو فاقد للشرط الثالث من شرائط مورد الإشكال.

وأمّا الثاني: كما لو رأى امتناع اجتماع الأمر والنهي، أو الترتّب، أو إمكانهما، فخلاصة القول فيه: أنّ اجتهاده في مثل اجتماع الأمر والنهي، أو الترتّب يعني الفحص عن المقيّد العقلىّ لإطلاق (صلّ) لإثبات صحّة الصلاة في المكان المغصوب، أو عند تزاحم الأهمّ، فإن أدّى اجتهاده إلى الإمكان، فهذا يعني أنّه لم يظفر بالمقيّد، ولايجب عليه الفحص بمعونة الأعلم، وهذا داخل في القسم السابق الذي مضى أنّ الإشكال فيه أهون، وأنّ الجواب عنه هو منع دلالة دليل الفحص على هذا المقدار من الفحص.

وإن أدّى اجتهاده إلى الامتناع، فهذا يعني الظفر بالمقيّد العقليّ للإطلاق.

وعندئذ نقول: إنّ العموم أو الإطلاق الذي أدّى نظر الخبير البصير إلى وجود المقيّد له بحيث لو لامخالفة الأعلم لكان عالماً بذلك، لايكون حجّة في منطق سيرة العقلاء أو المتشرّعة.


(1) هذا مرجعه إلى مبدأ حجّيّة الظهور لدى الشخص كأمارة على ثبوت الظهور العرفىّ، وهذا يرجع في روحه إلى أنّ المسألة دخلت في الفرض الأوّل، وهو فرض أنّ عدوله عن رأيه يساوق تبدّل الموضوع له، لاانكشاف الخطأ في الحكم؛ لأنّ الظهور المتكوّن في نفسه كان حجّة في الكشف عن الظهور العرفىّ، وقد تبدّل ذلك بظهور آخر.

والواقع: أنّ لبّ الجواب بكلّ تشقيقاته يرجع ـ دائماً ـ إلى أحد أمرين:

إمّا إنكار كون المورد من الموارد التي يتصوّر فيها الأعلميّة.

وإمّا دخول المورد في القسم الأوّل الذي مضى حلّ الإشكال فيه.

186

وأمّا قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، فحالها حال حكم العقل العملىّ، فالملازمة بينهما نفياً وإثباتاً أمر وجدانىّ يدركها واحد، ولايدركها آخر، ولاتقبل النقاش الفنّىّ.

 

الجهة الثانية في التثليث الوارد في التقسيم

 

يقع البحث في هذه الجهة عن التثليث الذي ذكره الشيخ(رحمه الله)، وهو: أنّ المكلف: إمّا أن يحصل له القطع، أو الظن، أو الشكّ.

وهنا إيرادان:

الإيراد الأوّل: دعوى لزوم التداخل؛ لأنّ الظنّ غير المعتبر حكمه حكم الشكّ، مع أنّه داخل في الظنّ، فإن كان داخلاً فيما أراده الشيخ(رحمه الله) بالشكّ لزم ما ذكرناه من التداخل، وإلّا ورد عليه: أنّه لابدّ من إدخاله في المراد بالشكّ؛ لأنّ حكمه هو حكم الشكّ، فتخصيص القسم الثالث بغير الظنّ ولو لم يكن معتبراً جزافٌ.

وأمّا الجواب عن ذلك: بأنّ المقصود هو التقسيم باعتبار الأحكام الذاتيّة(1) وهي ضروريّة الحجّيّة للقطع، وامتناعها للشكّ وإمكانها للظنّ، فغير صحيح؛ فإنّه إن اُريد بالشكّ الترديد ومجموع الاحتمالين، فامتناع جعل الحجّيّة له مسلّم، لكن هذا ليس استيعاباً للأقسام؛ إذ لم يذكر حكم أحد الاحتمالين.

مضافاً إلى أنّ إرادة مجموع الاحتمالين من الشكّ خلاف سياق كلام الشيخ(قدس سره) حيث جعله في سياق الظنّ والقطع، وكلّ منهما عبارة عن طرف واحد؛ إذ لايمكن الظنّ أو القطع بكلا الطرفين.

وإن اُريد به أحد الاحتمالين، فجعل الحجّيّة له بمكان من الإمكان؛ فإنّ الاحتمال له كشف ناقص بلا إشكال وإن كان معارضاً بكاشف مثله، ومن الممكن أن يجعل المولى الحجّيّة لأحد الكشفين، كما لو اعتقد ـ مثلاً ـ أنّ احتمال ثبوت التكليف أغلب مصادفة للواقع من احتمال عدمه، فجعل احتمال التكليف حجّة.


(1) كما قد يستظهر ذلك من عبارة الشيخ الأعظم(رحمه الله) في أوّل البراءة، فراجع.

187

والتحقيق في المقام: أنّه تارة يفرض أنّ مقصود الشيخ(قدس سره) من هذا التقسيم بيان أقسام مباحث الكتاب.

واُخرى يفرض أنّ مقصوده بيان أقسام موضوع الوظائف العمليّة:

أمّا على الأوّل: فيمكن حمل الشكّ في كلامه على ما يعمّ الظنّ غير المعتبر من دون أن يرد عليه إشكال التداخل؛ وذلك لأنّ الظنّ والشكّ وإن كانا قد يتصادقان في مورد واحد، ولكنّهما لايتداخلان من حيث العنوان، فالظنّ يبحث عنه في باب الظنّ من حيث أنّه هل هو معتبر، أو لا، وبعد فرض عدم اعتباره يدخل فيما يبحث عنه في باب الشكّ، وهو البحث عمّا هو الأصل الجاري في المقام ما دام المفروض عدم حجّيّته.

إلّا أنّ هذا الفرض لايناسب ما في عبارة الشيخ(رحمه الله) من الترديد حيث يقول: «إمّا أن يحصل له القطع، أو الظنّ، أو الشكّ»؛ فإنّ ظاهر ذلك عدم التصادق في المورد أيضاً، فالمناسب لتعبيره(قدس سره) هو الفرض الثاني.

وأمّا على الثاني: فيرد إشكال التداخل على كلام الشيخ(رحمه الله) ما لم يحمل الظنّ في كلامه على الظنّ المعتبر بإخراج الظنّ غير المعتبر من هذا العنوان، وإدخاله في العنوان الثالث، وهو الشكّ، ويشهد لهذا الحمل ما صنعه الشيخ(قدس سره) في أوّل البراءة حيث ذكر عين هذا التقسيم وقيّد الظنّ ـ على ما أتذكّر ـ بكونه معتبراً (1).

والإيراد الثاني: دعوى أنّ التثليث الذي جاء في عبارة الشيخ الأعظم(قدس سره) في غير محلّه، وينبغي تثنية الأقسام كما صنعه المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) بناءً منه على تعميم الحكم للواقعىّ والظاهرىّ، فالظنّ المعتبر على هذا يساوق القطع بالحكم، وغير المعتبر ملحق بالشكّ، فلا يبقى إلّا قسمان.

والجواب: أنّنا قد ذكرنا أنّ تقسيم الشيخ(رحمه الله): إمّا بلحاظ أقسام كتابه، أو بلحاظ أقسام موضوعات الوظائف العمليّة، فإن كان باللحاظ الأوّل، فالمتعيّن هو التثليث؛ لأنّ أبحاث كتابه ثلاثة لااثنان: (بحث القطع، وبحث الظنّ، وبحث الشكّ).

وإن كان بلحاظ الثاني فالمتعيّن ـ أيضاً ـ هو التثليث؛ فإنّ موضوعات الوظائف ثلاثة:


(1) الموجود في عبارة الشيخ(رحمه الله) في أوّل البراءة الإشارة إلى إمكانيّة اعتبار الظنّ، وعدم إمكانيّة اعتبار الشكّ، وحجّيّة القطع بنفسه، وهذا أقرب إلى ما مضى: من الحمل على الأحكام الذاتيّة للقطع والظنّ والشكّ ممّا ذكر هنا من الحمل على إخراج الظنّ غير المعتبر من العنوان الثاني، وإدخاله في العنوان الثالث.