المولفات

المؤلفات > مباحث الاُصول، القسم الثاني - الجزء الأوّل

165

فنقول: إنّ المرتكز في الأذهان هو: أنّ الإفتاء عبارة عن عمليّة بيان ما عرفه مَنْ هو مِن أهل الخبرة لمن ليس من أهل الخبرة، كما هو الحال في جميع موارد رجوع الجاهل إلى العالم.

وتصوير ذلك واضح بالنسبة إلى الأحكام الواقعيّة التي عرفها المجتهد بالقطع واليقين؛ لأنّ الحكم الواقعىّ ثابت بشأن الجميع، سواء في ذلك المجتهد والعامّيّ، وإنّما الفرق بينهما هو: أنّ المجتهد ذوخبرة وبصيرة يتمكّن بها من درك الحكم، بخلاف العامّيّ، فرجوعه إليه كرجوع الناس في شتّى الفنون والعلوم من الطبّ والهندسة وغير هما إلى أهل الخبرة.

ولكن يقع الإشكال فيما إذا لم يكشف المجتهد الحكم الواقعىّ بمستوى القطع واليقين، فاضطرّ إلى التنزّل إلى الحكم الظاهرىّ الثابت بأصل أو أمارة، فسوف تواجه عمليّة الإفتاء في الغالب مشكلة اختصاص الحكم الظاهرىّ بالمجتهد، وذلك ليس من جهة أخذ عنوان الاجتهاد في موضوعه، بل لأنّه مقيّد بقيد لايتحقّق إلّا في المجتهد: فحجّيّة خبر الواحد ـ مثلاً ـ مشروطة بالفحص عن المعارض والمخصّص والمقيّد، والحاكم، والذي يقدر على ذلك هو المجتهد، وليس العامّيّ. وحجّيّة استصحاب النجاسة في الماء المتغيّر الزائل تغيّره تتوقّف على يقين سابق، وفحص في الأخبار، وهما لايحصلان إلّا للمجتهد. وأصالة الاشتغال إنّما تجري عند تحقّق العلم الإجمالىّ بأحد حكمين، وهو إنّما يحصل للمجتهد... وعندئذ فالمجتهد بأىّ شيء يفتي العامّىّ؟ بالحكم الواقعىّ، أم بالحكم الظاهرىّ؟

فإن أراد إفتاءه بالحكم الواقعىّ، لم يجز له ذلك؛ لأنّ حاله في ذلك حال العامّىّ، غاية الأمر إمكان افتراض كونه ظانّاً بالحكم الواقعىّ، ولكن الظنّ لايغني من الحقّ شيئاً.

وإن أراد إفتاءه بالحكم الظاهريّ، ورد عليه: أنّ هذا الحكم مختصّ بالمجتهد نفسه، ولم يتحقّق موضوعه بشأن العامّيّ، ويكون حاله حال حكم الولاية والقضاء المختصّين بالفقيه، ولا معنىً لأن يفتي أحداً بما يختصّ بنفسه!!

على أنّه قد يتّفق عدم ثبوت الحكم بشأن المجتهد أيضاً، كما في إفتاء الرجل المجتهد للمرأة بحرمة نظرها إلى الرجال بلا ريبة، مع عدم قطعه بالحرمة الواقعيّة، فهنا يشتدّ الإشكال؛ إذ يقال: إن أراد الإفتاء بالحكم الواقعىّ، فهو غير عالم به، وإن أراد الإفتاء