778

روايات خاصّة في القرعة

وأمّا روايات القرعة الواردة في موارد خاصّة فهي على قسمين:

الأول _ ما لا علاقة له بباب المرافعة والقضاء، فلا معنى للحديث عن أنّها هل تدل على الحجّية القضائية فحسب أو على الحجّية الذاتية؟ من قبيل الرواية الواردة عن محمد بن عيسى _ بسند تام _ عن الرجل أنّه سئل عن رجل نظر إلى راعٍ نزا على شاة قال: «إن عرفها ذبحها وأحرقها، وإن لم يعرفها قسّمها نصفين أبداً حتى يقع السهم بها، فتذبح وتحرق، ونجت سائرها»(1).

والاعتماد على هذا الحديث مبني على استظهار كون المراد بـ «الرجل» هو الإمام (عليه السلام).

وعلى أيّ حال فهذا الحديث _ كما قلنا _ أجنبي عن المقام، وهو حديث خاصّ بمورده لا مبرِّر للتعدّي عنه إلى مورد آخر، فإنّ الارتكاز المتشرّعي قائم على عدم مرجعيّة القرعة بشكل عام في غير باب النزاع.

والثاني _ الروايات الواردة في باب المرافعة، لكنّها جميعاً ناظرة إلى الحجّية القضائية، ولا علاقة لها بموقف يتّخذه نفس المترافعين مستقلّاً عن القاضي، وذلك من قبيل الروايات الواردة في تعيين من عليه اليمين عند تعارض الشهود، وقد مضى ذكرها فيما سبق في بحث تعارض البيّنتين، ونذكر هنا كنموذج رواية الحلبي التامّة سنداً قال: «سئل أبو عبداللّه (عليه السلام) عن رجلين شهدا على أمر، وجاء آخران فشهدا على غير ذلك، فاختلفوا. قال: يقرع بينهما فأيّهما قرع فعليه اليمين، وهو أولى بالحقّ»(2).


(1) وسائل الشيعة، ج16، ص358، الباب 3 من الأطعمة المحرمة، ح1.

(2) نفس المصدر، ج18، ص185، الباب 12 من كيفيّة الحكم، ح11.

779

ورواية داود بن يزيد العطّار، عن بعض رجاله، عن أبي عبداللّه (عليه السلام): «في رجل كانت له امرأة، فجاء رجل بشهود أنّ هذه المرأة امرأة فلان وجاء آخران فشهدا أنّها امرأة فلان، فاعتدل الشهود وعدّلوا، فقال: يقرع بينهما فمن خرج سهمه، فهو المُحِقّ، وهو أولى بها»(1).

وهذا الحديث وإن لم يصرّح فيه بأنّ القرعة لتعيين من عليه اليمين لا لفصل الخصومة بها مباشرةً، لكنّه محمول جمعاً على مفاد باقي روايات القرعة عند تعارض الشهود من أنّها لتشخيص من عليه اليمين لا لفصل الخصومة بها ابتداءً. وعلى أيّة حال فالحديث ضعيف بالإرسال.

ومن قبيل الروايات الواردة في فصل الخصومة بالقرعة وهي غالباً واردة في غير باب الأموال كالحديث الوارد عن الحلبي _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام)، قال: «إذا وقع الحرّ والعبد والمشرك على امرأة في طهر واحد، وادّعوا الولد أُقرع بينهم، وكان الولد للذي يقرع»(2).

وما رواه الصدوق بسنده عن الحكم بن مسكين، عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا وطأ رجلان أو ثلاثة جاريةً في طهر واحد فولدت فادّعوا جميعاً أقرع الوالي بينهم فمن قرع كان الولد ولده ويردّ قيمة الولد على صاحب الجارية. قال: فإن اشترى رجل جاريةً، فجاء رجل فاستحقّها، وقد ولدت من


(1) نفس المصدر، ج14، ص184، الباب 12 من نكاح العبيد والإماء، ح8.

(2) نفس المصدر، ج18، ص187، الباب 13 من كيفيّة الحكم، ح1. ورواه عن الحلبي ومحمد بن مسلم في ج14، ص567، الباب 57 من نكاح العبيد والإماء، ح3.

780

المشتري، ردَّ الجارية عليه، وكان له ولدها بقيمته»(1). والحكم بن مسكين ثقة لرواية بعض الثلاثة عنه، غير أنّ سند الصدوق إلى الحكم بن مسكين غير معلوم لدينا، ولكن الشيخ الطوسي (رحمه الله) روى نفس الحديث بسند تام.

وأيضاً ورد حديث _ بسند تام _ عن سليمان بن خالد، عن أبي عبداللّه (عليه السلام)، قال: «قضى علي (عليه السلام) في ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد، وذلك في الجاهليّة قبل أن يظهر الإسلام فأقرع بينهم، فجعل الولد للذي قرع...»(2).

وورد أيضاً _ بسند تام _ عن الحلبي عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا وقع المسلم واليهودي والنصراني على المرأة في طهر واحد أُقرع بينهم...»(3).

وهناك حديث واحد في باب القضاء دلّ على القرعة في باب الأموال، وهو حديث سماعة التامّ سنداً عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إنّ رجلين اختصما إلى علي (عليه السلام) في دابّة فزعم كلّ واحد منهما أنّها نتجت على مذوده، وأقام كلّ واحد منهما بيّنةً سواءً في العدد فأقرع بينهما سهمين، فعلّم السهمين كلّ واحد منهما بعلامة، ثم قال: أللّهم ربَّ السماوات السبع، وربّ الأرضين السبع، وربّ العرش العظيم، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم أيّهما كان صاحب الدابّة وهو أولى بها فأسألُكَ أن يقرع، ويخرج سهمُه، فخرج سهم أحدهما، فقضى له بها»(4). وهذا الحديث محمول على فرض نكولهما عن اليمين؛ لما دلّ _ في باب النزاع في الأموال مع تساوي البيّنتين _ على


(1) وسائل الشيعة، ج16، ص190، الباب13 من كيفيّة الحكم، ح14. وج14، ص566، الباب57 من نكاح العبيد والإماء، ح1.

(2) نفس المصدر، ج14، ص 566، الباب 57 من نكاح العبيد والإماء، ح2.

(3) نفس المصدر، ج17، ص571، الباب 10 من ميراث ولد الملاعنة.

(4) نفس المصدر، ج18، ص185، الباب 12 من كيفيّة الحكم، ح12.

781

أنّ الوظيفة هي التحالف، فلو حلفا قُسِّم المال بينهما، ولو حلف أحدهما كان المال له، ولو كان أحدُهما ذا اليد دون الآخر وُجّه اليمين إلى ذي اليد. إذاً فلم يبق بعد إخراج هذه الفروض مورد لهذا الحديث إلا فرض نكول المتداعيين.

وبعض أحاديث الباب مردّد بين إلحاقه بما ورد في فصل النزاع، أو عدّه ممّا ورد في غير مورد فصل النزاع، كما ورد عن حمّاد، عن المختار، قال: «دخل أبوحنيفة على أبي عبداللّه (عليه السلام) فقال له أبوعبداللّه (عليه السلام): ما تقول في بيت سقط على قوم فبقي منهم صبيّان ‏أحدهما حرٌّ والآخر مملوك لصاحبه، فلم يعرف الحرّ من العبد؟ فقال أبوحنيفة: يعتق نصف هذا ونصف هذا، فقال أبو عبداللّه (عليه السلام): ليس كذلك، ولكنّه يقرع بينهما، فمن أصابته القرعة فهو الحرّ، ويعتق هذا، فيجعل مولىً لهذا»(1). وسند الحديث ضعيف بالمختار؛ إذ لم تثبت وثاقته.

وعن حريز عمّن أخبره، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) باليمين في قوم انهدمت عليهم دارهم وبقي صبيّان أحدهما حرّ والآخر مملوك فَأسْهَمَ أمير المؤمنين (عليه السلام) بينهما، فخرج السهم على أحدهما، فجعل له المال، وأعتق الآخر»(2).

فإمّا أن يقال: إنّه لم يكن في مورد الحديثين نزاع؛ إذاً فالحديثان واردان في غير باب النزاع، وقد مضى أنّ الارتكاز المتشرّعي يدل على عدم مرجعيّة القرعة بشكل عام في غير باب النزاع، فلا يمكن التعدّي من المورد، أو يقال _ وهو الصحيح _: إنّ هذا الارتكاز غير وارد في مثل مورد الحديثين ممّا هو من شأنه وقوع النزاع، وإنّما لم يقع النزاع لأنّ


(1) نفس المصدر، ص188، الباب 13 من كيفيّة الحكم، ح7.

(2) نفس المصدر، ص189، ح8.

782

طرفي القضيّة طفلان؛ إذاً فهذا ملحق بالقسم الثاني، أعني ما ورد في مورد النزاع. وعلى أيّ حال فالصحيح _ بغضّ النظر عمّا عرفت من ضعف السند _ هو عدم إمكان التعدّي عن مورد الحديثين حتى لو أنكرنا ذاك الارتكاز؛ وذلك لعدم ثبوت نفي خصوصيّة المورد من قبل العرف.

هذا، وهناك حديث تام السند من القسم الثاني _ أي: وارد في مورد خاصّ في باب النزاع _ قد يمكن التعدّي عرفاً _ بإلغاء خصوصيّة المورد _ منه إلى سائر موارد النزاع ممّا لا يمكن فيه فصل النزاع بسائر مقاييس القضاء، فيصبح مؤيِّداً لما استفدناه من الروايات العامّة وهو حديث أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في قصّة أمير المؤمنين (عليه السلام) مع شابّ قُتل أبوه ظلماً حيث عيَّن (عليه السلام) مالَ أبيه المقتول بالقرعة، والحديث مذكور بكامله في الكافي في باب النوادر من كتاب الديات(1)، ومذكور مرسلاً في الفقيه في باب الحيل في الأحكام(2)، ومذكور ببعض قطعاته _ ومنها القطعة التي تدل على مقصودنا _ في الوسائل في الباب العشرين من كيفيّة الحكم(3).

هذا تمام الكلام في روايات القرعة، وهي العمدة في الدليل على القرعة.

أمّا الاستدلال عليها بقوله تعالى:﴿وَمٰا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاٰمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾(4)، وقوله تعالى:﴿فَسٰاهَمَ فَكٰانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾(5) بدعوى أنّ الآيتين دلّتا على مشروعيّة القرعة في سالف الزمان، فتثبت مشروعيّتها في هذا


(1) الكافي، ج7، ص371، ح8.

(2) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص15، ح11.

(3) وسائل الشيعة، ج18، ص204، الباب 20 من كيفية الحكم، ح1.

(4) آل عمران: 44.

(5) الصافات: 141.

783

الزمان، إمّا بالاستصحاب أو بأنّ ذكرها في القرآن من دون تعليق عليها دليل الإمضاء، فهذا الاستدلال لا يفيدنا شيئاً؛ لأنّ الآيتين لم تدلّا على كبرى كلّية نتمسّك بها في مورد الشك، وإنّما دلّتا على ثبوت القرعة وقتئذٍ في الجملة، والقدر المتيقّن من ذلك فرض التراضي والتباني عليها في الأمور المباحة.

كما أنّ الاستدلال عليها بالسيرة العقلائية بدعوى قيام السيرة على القرعة في زمن المعصوم من دون ردع لا يفيدنا أيضاً، فإنّ السيرة دليل لبّي، والمتيقَّن منها فرض التراضي والتباني عليها في دائرة المباحات.

وأيضاً الاستدلال عليها بالإجماع لا يُفيد؛ إذ لا أقلّ من احتمال المدركيّة.

785

الفصل الرابع

 

 

الحكم على الغائب

 

 

  1- نفوذ الحكم على الغائب

  2- أقسام الحكم على الغائب

  3- أقسام الغائب

 

 

787

الحكم على الغائب

نفوذ الحكم على الغائب

الحكم على الغائب بالبيّنة نافذ بدليل إطلاق حجّية البيّنة، مضافاً إلى ما ورد من النص الخاص الدال على ذلك، وهو ما ورد _ بسند تام _ عن جميل بن درّاج عن جماعة من أصحابنا عنهما (عليهماالسلام) قالا: «الغائب يقضى عليه إذا قامت عليه البيّنة، ويباع ماله، ويقضى عنه دينه وهو غائب، ويكون الغائب على حجّته إذا قدم. قال: ولا يدفع المال إلى الذي أقام البيّنة إلا بكفلاء»(1).

ويمكن علاج ما فيه من الإرسال بدعوى أنّ مثل جميل بن دراج الذي هو من أجلّة الرواة لو نقل عن جماعة نستبعد بحساب الاحتمال كون أُولئك الجماعة كلّهم كاذبين.

فبناءً على هذا النص ينفذ الحكم على الغائب بالبيّنة، ولكنّه إذا رجع كان على حجّته، فلو أبطل البيّنة ببيّنة معارضة _ مثلاً _ بطل الحكم، فحتى لو فرضنا أنّ دليل نفوذ حكم الحاكم وعدم جواز نقضه الذي سنبحث عنه _ إن شاء اللّه _ يشمل مثل هذا المورد فهذا النص يقيّد ذاك الدليل، ويثبت أنّ الغائب على حجّته، فإن كان


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص216، الباب 26 من كيفيّة الحكم، ح1.

788

يمتلك حجّة تُغيّر مقاييس القضاء انتقض الحكم.

وهذا النص قد يقال إنّه يختصّ بباب الدَين بقرينة قوله: «ويباع ماله، ويقضى عنه دينه» وقد يقال: إنّ هذه جملة مستقلّة وحكم مستقل غير الحكم الأول، وهو: «يقضى عليه إذا قامت عليه البيّنة»، أو يقال _ بعد استظهار ارتباط الجملتين إحداهما بالأُخرى، أو احتماله _: إنّ هذا الارتباط لا يعني تقييد الجملة الأُولى بباب الدَين، وإنّما الجملة الثانية راجعة إلى بعض موارد الجملة الأُولى، وهو مورد الدين مع بقاء الجملة الأُولى على إطلاقها.

ولو قلنا بالإجمال بدعوى أنّه لا أقلّ من احتمال صلاحيّة الجملة الثانية للقرينيّة على إرادة خصوص باب الدين أمكن أن يقال: إنّ العرف يُلغي خصوصيَّة مورد الدَين لاستظهار أنّ الرواية ناظرة إلى نكتة مرتكزة عند العقلاء أو المتشرّعة، وهي حجّية البيّنة، ولا فرق في ذلك بين باب الدَين وغيره.

ولو لم نقبل بهذا التقريب أيضاً كفانا أنّ الحكم على مقتضى القاعدة وذلك لحجّية البيّنة على الإطلاق، فيثبت الحكم في غير باب الدين بمقتضى القواعد.

أما ما ورد في ذيل الحديث من شرط أخذ الكفيل من المدّعي لاحتمال نقض الغائب للحكم بإقامة الحجّة إذا حضر، فهو مقيّد في بعض نُقلِه بقوله: «إذا لم يكن مليّاً» وهذا النقل ضعيف سنداً بجعفر بن محمد بن حكيم الذي لا دليل على توثيقه عدا وروده في أسانيد كامل الزيارات.

ولعلّنا لسنا بحاجة في إثبات هذا القيد إلى هذا الحديث الضعيف سنداً، وذلك بدعوى أنّ المفهوم وفق المناسبات من الحديث الأول ليس هو أخذ الكفيل مطلقاً حتى فيما إذا كان مليّاً؛ لأنّ أَخْذ الكفيل إنّما هو لضمان القدرة على الأداء على تقدير ما لو أثبت الغائب بعد رجوعه أنّ الحقّ كان معه، وإذا لم يكن مليّاً فقد يعجز عن الأداء.

789

ثم إنّ هنا حديثاً يدل على عدم جواز إصدار الحكم على الغائب، وهو ما عن أبي البختري عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه السلام) قال: «لا يُقضى على غائب»(1)، وحمله صاحب الوسائل على معنى أنّه لا يقضى عليه قضاءً باتّاً، بل الغائب على حجّته، ويؤخذ من الحاضر الكفيل. ولعلّ هذا جمع تبرّعي.

وبالإمكان الجمع بالتخصيص بأن يقال: إنّ الغائب يشمل بإطلاقه الغائب الذي يمكن إبلاغه للحضور ويستطيع الحضور بسهولة، والغائب الذي ليس كذلك، وحديث الحكم على الغائب بالبيّنة منصرف وفق الارتكاز عن القسم الأول ومختصّ بالقسم الثاني، فيكون أخصّ من حديث المنع عن الحكم على الغائب ويقدّم عليه بالتخصيص. وعلى أيّ حال فحديث المنع عن الحكم على الغائب ساقط سنداً.

هذا، وينبغي إشباع الكلام في مسألة الحكم على الغائب من زاويتين:

أوّلاً في أقسام ما يحكم به، وثانياً في أقسام الغائب:

أقسام الحكم على الغائب

أمّا أقسام ما يحكم به فقد اتّضح في الأبحاث السابقة أنّه تارةً يحكم بالبيّنة، وأُخرى باليمين، وثالثةً بالقرعة، ورابعةً بقاعدة العدل والإنصاف، فهل يجوز الحكم على الغائب بكلّ هذه الأمور، أو لا؟

أمّا الحكم بالبيّنة فلا إشكال في جوازه على الغائب إمّا بإطلاق دليل حجّية البيّنة، أو بالنصّ الذي مضى، أو بدعوى أنّ دليل القضاء بالبيّنة إن لم يكن له إطلاق لفظي لفرض غياب المحكوم عليه فالعرف يتعدّى من الحاضر إلى الغائب؛ لارتكاز عدم الفرق بينهما إلا بالمقدار الذي يتدارك بكون الغائب على حجّته.


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص217، الباب 26 من كيفيّة الحكم، ح4.

790

وأمّا الحكم باليمين فاليمين تارةً تكون وظيفة الحاضر، وأُخرى تكون وظيفة الغائب:

مثال الأول _ ما لو ثبت دَينٌ للحاضر على الغائب إلا أنّ الغائب يعتقد أنّه قد أدّاه سابقاً، والحاضر ينكر ذلك، وهنا قد يقال: لا يمكن تحليف الحاضر قبل إحضار الغائب؛ لأنّ تحليف المنكر من حقّ المدّعي، وقد ظهر من أبحاثنا السابقة جوابه، حيث وضّحنا أنّ التحليف إنّما يكون من حقّ المدّعي حينما يكون الحقّ المتنازع عليه في سلطة المنكر، ويكون ترك النزاع من صالح المنكر، فيكون المدّعي مخيَّراً بين أن يترك النزاع أو يحلّف المنكر، أمّا إذا كان الحقّ المتنازع عليه تحت سلطة المدّعي، وكان المنكر هو المنتفع برفع النزاع كما في مثال إنكار أداء الدين فالحلف يكون من حقّ المنكر نفسه.

وقد يقال: يجوز تحليف الحاضر والحكم وفق الحلف رغم غياب المدّعي تمسُّكاً بالإطلاق اللفظي لقوله: «اليمين على المدّعى عليه».

وهذا الكلام أيضاً غير صحيح؛ إذ لا إطلاق لفظي لهذا النص، فإنّ النص إنّما ينظر إلى تعيين من عليه اليمين، أمّا متى يصحّ تحليفه هل عند حضور المدّعي أو مطلقاً فهذا مطلب آخر ليس بصدد بيانه.

والصحيح: أنّه يجوز تحليفه في غياب المدّعي؛ وذلك لأحد وجهين:

الأول _ التمسُّك بدليل حجّية الأصل الذي يكون في صالح المنكر؛ إذ لم نجزم بتخصيصه في باب القضاء إلا بمقدار التحليف؛ أي: إنّنا جزمنا بعدم جواز الحكم وفق هذا الأصل قبل تحليفه، أمّا بعد التحليف فنتمسّك بدليل حجّية هذا الأصل المثبت لكون القضاء على طبقه قضاءً بالحقّ والعدل.

والثاني _ أن يقال: لو لم يتمّ إطلاق لفظي لدليل تحليف المنكر يشمل فرض حضور

791

المدّعي وغيابه معاً، فالعرف يتعدّى من فرض الحضور إلى فرض الغياب؛ لارتكاز عدم الفرق بينهما إلا بالمقدار الذي يتدارك بأن الغائب على حجّته.

إذاً فالمنكر يحلف، والقاضي يحكم وفق حلفه، فإذا رجع الغائب وأقام البيّنة بطل حلف المنكر؛ لأنّ الغائب على حجّته، وذلك إمّا بمقتضى القواعد بناءً على أنّ دليل عدم جواز نقض حكم الحاكم لا يشمل فرض غياب المحكوم عليه وإدلاء حجّة تامّة بعد حضوره، وكذلك دليل عدم سماع البيّنة من المدّعي بعد تحليف المنكر ينصرف بالارتكاز عن مثل هذا المورد، وإمّا بمقتضى النص الماضي الدالّ في مورد القضاء بالبينة على أن الغائب على حجّته بناءً على التعدّي من مورد القضاء بالبيّنة إلى مورد القضاء باليمين بالأولويّة.

ومثال الثاني _ ما لو ادّعى الحاضر ديناً على الغائب ولا بيّنة له، فكانت الوظيفة تحليف المنكر، ولكنّه غائب، فهل يكون غيابه بمنزلة النكول ويحلّف المدّعي، أو يُحكم له؟ طبعاً لا يكون ذلك إلا في فرض كون أصل غيابه فراراً عن الحلف، فعندئذٍ إن شمله دليل حكم النكول بإطلاق لفظي فلا إشكال في تعدّي العرف من فرض نكول المنكر وهو حاضر إلى هذا الفرض، لعدم احتماله الفرق. ولا مورد هنا لدعوى كون الغائب على حجّته.

وأمّا الحكم بالقرعة، أو قاعدة العدل والإنصاف فنوضّح الحال فيه بالتعرّض لعدّة فروع:

الفرع الأول _ لو كان هناك تداعٍ على المال ووصلت النوبة على تقدير حضورهما إلى القرعة إلا أن أحدهما كان غائباً فلا مورد للحكم بالقرعة؛ إذ القرعة هنا إنّما تكون بعد نكولهما عن الحلف، فلابدّ من حضوره كي يعرض عليه الحلف فينكل حتى تصل النوبة إلى القرعة، إلا إذا كان غيابه بعنوان الفرار عن الحلف بحيث صدق

792

عليه النكول، فهنا بالإمكان الأخذ بدليل القرعة كما لو كان حاضراً؛ إذ لو لم يتمّ إطلاق لفظي فلا أقلّ من عدم احتمال العرف الفرق.

أما لو فرضنا أنّ الشخص الحاضر استعدّ للحلف فلا يبعد تحليفه _ ولو تعدّياً من فرض حضور الخصم _، لعدم احتمال الفرق إلا بقدر كون الغائب على حجّته، فإن حلف ولم يكن غياب الغائب نكولاً أُعطي نصف المال، وأُوقف النزاع بالنسبة للنصف الآخر إلى حين حضور الخصم، وإذا حضر طبّقت عليه قاعدة الغائب على حجّته في النصف الأول كما كان له حقّ الحلف بالنسبة للنصف الثاني، أمّا إذا كان غيابه بعنوان النكول فالحاضر يأخذ بحلفه تمام المال، ولا مورد لقاعدة أنّ الغائب على حجّته.

الفرع الثاني _ لو كان النزاع على غير المال كالولد نتيجةً لجهلهما بالواقع وكان أحدهما غائباً حكم بالقرعة ولو لم يتم إطلاق لفظي في الدليل؛ لعدم احتمال الفرق عرفاً، ولا مورد هنا لقاعدة أنّ الغائب على حجّته؛ لأنّ المفروض جهلهما بالواقع.

الفرع الثالث _ لو كان النزاع في المال نتيجةً لجهلهما بالواقع بحيث لو كانا حاضرين لوصلت النوبة إلى قاعدة العدل والإنصاف، إلا أنّ أحدهما كان غائباً، فالظاهر أنّ الحاضر يأخذ حصّته بقاعدة العدل والإنصاف؛ لعدم احتمال دخل حضور الآخر في ذلك، ولا مورد هنا لقاعدة أنّ الغائب على حجّته؛ لأنّ المفروض جهلهما معاً بالواقع.

الفرع الرابع _ لو كان التداعي على غير المال كالزوجة بحيث لو كانا حاضرين وتساويا في البيّنة أو لم تكن لهما بيّنة، وصلت النوبة إلى القرعة لتعيين من عليه الحلف، ولكن المفروض أنّ أحدهما غائب والحاضر لا يمتلك بيّنة، فلا يبعد القول بالقرعة لتعيين من عليه الحلف ولو تعدّياً من فرض الحضور؛ لعدم احتمال الفرق إلا

793

بمقدار أنّ الغائب على حجّته، فلو خرجت القرعة باسم الغائب أُوقف النزاع إلى حين حضوره، ولو خرجت باسم الحاضر حُلِّف، فلو حلف حكم له، ولكن الغائب يكون على حجّته: إمّا بمقتضى القاعدة، وإما بالتعدّي بالأولويّة من مورد النص الوارد في فرض القضاء بالبيّنة.

أقسام الغائب

وأمّا أقسام الغائب فالكلام فيها كما يلي:

الغائب تارةً لا يمكن إحضاره بسهولة وفي وقت قريب يتسامح عرفاً في تأخير القضاء إلى ذاك الوقت، وأُخرى يمكن ذلك كما لو كان في نفس البلد مثلاً.

فالفرض الأول هو المتيقّن من مورد الحكم على الغائب.

وأمّا الفرض الثاني وهو ما لو أمكن إحضار الغائب، فتارةً يفترض أنّ القاضي يحتمل أن يكون حضوره مؤثِّراً في قلب الموازين بأن تكون معه حجّة _ من بيّنة أو غيرها _ بحيث لو حضر لتغيّر ميزان القضاء، وأُخرى نفترض أنّ القاضي قد حصل له العلم بأنّ الغائب لا يمتلك حجّةً لو حضر.

فإن فرض الأول فلا إشكال في وجوب إخباره وفتح باب الحضور عليه؛ لانصراف أدلّة القضاء وأدّلة حجّية مقاييس القضاء عن فرض إغفال الذهن عن أحد الخصمين المؤدّي إلى عدم إدلائه بحجّته لو كانت له حجّة، فإنّ المناسبات والارتكازات العرفيّة تؤدّي إلى انصراف من هذا القبيل بلا شكّ.

وإن فرض الثاني فأيضاً لا يبعد دعوى نفس الانصراف عقلائيّاً أيضاً ما دام علم القاضي معرّضاً للخطأ، فالمفروض تهيئة الفرصة أمام الغائب للحضور لكي يكون له مجال الإدلاء بحجّته على تقدير امتلاكه للحجّة وخطأ علم القاضي بعدم امتلاكه لها.

794

وأمّا إذا أخبر الغائب القادر على الحضور بالأمر، وطلب منه الحضور، ولكنّه تعمّد عدم الحضور، فتارةً يفترض أنّ المقاييس فعلاً تامّة للحكم ضدّه وإن احتمل أنّه لو حضر لأدلى بحجّة تؤثر في تبديل المقاييس بأن يقيم معه بيّنة مثلاً، وأُخرى يفترض عدم تماميّة ذلك:

فإن فرضت تماميّة المقاييس للحكم عليه جاز للقاضي الحكم عليه غيابياً، إذ لو لم يكن في الأدلّة إطلاق لفظي كفانا عدم احتمال الفرق عرفاً بين أن يحضر ولا يُدلي بحجّة أو أن يتعمّد الغياب. ولا مورد هنا لقاعدة الغائب على حجّته.

وإن فرضت عدم تماميّة المقاييس للحكم عليه، كما لو كان عليه اليمين ولم يكن يعدّ غيابه نكولاً، فلم يمكن للقاضي الحكم عليه غيابياً، كما لم يمكنه الحكم له ضدّ الحاضر، فللقاضي هنا جلبه قهراً؛ لأنّ هذا هو المفهوم من دليل ثبوت منصب القضاء له.

بقي الكلام في فرع واحد: وهو ما إذا لم يحضر الخصم، ولكنّه أرسل وكيلاً عنه، فهل يغني حضور وكيله عن حضوره، أو لا؟

والجواب: أنّه لو كان عمل الوكيل هو الحلف بدلاً عنه فمن الواضح أنّ هذا لا يجوز، ولو كان عمله مجرّد الإخبار عن حال الغائب من كونه ناكلاً مثلاً فقبول كلامه يتوقّف على قبول خبر الواحد في الموضوعات، أو كون المخبر بيّنةً عادلةً، أو اعتراف الخصم مسبقاً للقاضي بأنّ ما يخبرك به هذا الوكيل عنّي فهو مُمضىً علي، بناءً على أنّ إخبار المخبر في مثل هذا الفرض حجّة في المرتكز العقلائي. وأمّا إذا كان الوكيل عمله تهيئة المقدّمات وتوضيح الأمور والإرشاد مع حضور الموكلّ عند ضرورة حضوره، فهذا لا بحث فيه.

هذا تمام الكلام في الحكم على الغائب.

795

الفصل الخامس

 

 

مدى نفوذ حكم القاضي

 

 

  1- فرض الخطأ في المحكوم به

  2- فرض تبدّل المقاييس

  3- فرض الخطأ في المقاييس

 

 

797

فرض الخطأ في المحكوم به

لا إشكال في نفوذ حكم القاضي بشأن من حكم عليه، وبشأن الشخص الثالث ما لم يعلم بخطأ القاضي، أو لم يكن مقياس آخر للقضاء يختلف عن مقياسه، ويكفي دليلاً على النفوذ الارتكاز العقلائي والمتشرّعي الحاكم بأنّ القضاء إنّما جعل لفصل الخصومة، وشُرِّع لأجل التنفيذ، ولا تحتمل مشروعيّة القضاء من دون نفوذه.

والإشكال في نفوذ حكم القاضي إنّما ينشأ من أحد مناشئ ثلاثة:

1_ فرض الخطأ في المحكوم به.

2_ فرض تبدّل المقاييس لنفس القاضي أو لقاضٍ آخر.

3_ فرض الخطأ في المقاييس.

فالكلام يقع في فروض ثلاثة:

فرض الخطأ في المحكوم به

الفرض الأول _ فرض الخطأ في المحكوم به: ومثاله ما لو أقام المدّعي بيّنةً على مدّعاه، فحكم القاضي وفق البيّنة بينما كان المنكر أو شخص ثالث عالماً بأنّ المدّعي كاذب في دعواه، وأنّ الحقّ مع المنكر، أو حلف المنكر يميناً فاجرة، فحكم القاضي وفق يمينه؛ لأنّ المدّعي لم يكن يمتلك البيّنة هو أو شخص ثالث يعلم كذب المنكر.

798

وهنا بالنسبة للمحكوم عليه لا ينبغي الإشكال في نفوذ الحكم عليه ولو علم بالخطأ، وذلك لوجهين:

الأول _ الارتكاز القائل بأنّ القضاء إنّما شرّع لفصل الخصومة، والمحكوم عليه يدّعي غالباً العلم بأنّه على حقّ، فلو كان علمه بذلك مانعاً عن نفوذ القضاء كان هذا خلف مشروعيّته لفصل الخصومة.

والثاني _ مقبولة عمر بن حنظلة: «إذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنّما استخفّ بحكم اللّه، وعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ على اللّه، وهو على حدّ الشرك باللّه»(1). وليس المقصود من قوله: «حكم بحكمنا» حقّانيّة المحكوم به كي يقال: إنّ الكلام في المصداق، وأنّه إذا أخطأ في المحكوم به إذاً لم يحكم بحكمهم، وإنّما المقصود هو الحكم بما يحكم به الإمام (عليه السلام) وهو الحكم وفق مقاييس القضاء، أما كون المقياس الذي يحكم به منتجاً لما يطابق الواقع فهو لم يكن مطلوباً من رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) فضلاً عن غيره، وقد ورد عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) أنّه قال: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان، وبعضكم ألحنُ بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعت له به قطعة من النار»(2).

وفي خصوص ما إذا كان الحكم وفق تحليف المدّعي للمنكر يدل أيضاً على المقصود ما مضى في محلّه ممّا ورد من «أنّ اليمين تذهب بحق المدّعي»(3).

وأمّا بالنسبة للمحكوم له فمن الواضح أنّه لو علم بخطأ الحكم كان عليه ردّ الحقّ إلى أهله، وذلك:


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص99، الباب 11 من صفات القاضي، ح1.

(2) نفس المصدر، ص169، الباب 2 من كيفيّة الحكم، ح1.

(3) نفس المصدر، ج18، ص179 _ 180، الباب 9 و10 من كيفيّة الحكم.

799

أوّلاً _ بمقتضى القاعدة بعد البناء على كون حكم الحاكم غير مغيّر للواقع.

وثانياً _ بمقتضى ما مضى عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) من قوله: «أَيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعت له به قطعة من النار».

وأمّا الشخص الثالث الذي عرف خطأ الحاكم فلا يحقّ له أن يخالف الحقّ المحكوم به رغم علمه بخطئه، ولا أن يخالف الحقّ الذي يعلم به: أمّا الأول فلما مضى من الارتكاز والمقبولة الدالّين على نفوذ حكم القاضي، وأمّا الثاني فلمقتضى القاعدة بعد أن لم يكن حكمُ القاضي مغيّراً للواقع، والارتكاز والمقبولة لا يدلّان على جواز مخالفة من له الحقّ واقعاً رغم العلم به، وإنّما يدلّان على عدم جواز مخالفة حكم الحاكم، ولا تنافي بين العمل بحكم الحاكم والعمل بحقّ ذي الحقّ الحقيقي، فلو حكم الحاكم بأنّ الدار لزيد _ مثلاً _ لأنّه كان ذا اليد، وحلّفه بطلب من المدّعي فحلف، فثبت لدى الحاكم ظاهراً أنّه له، فحكم بذلك، وكان الشخص الثالث عالماً بأنّ هذه الدار لعمرو وأنّ زيداً حلف يميناً فاجرة، وأراد الشخص الثالث شراء الدار أو استيجارها، كان عليه إرضاؤهما معاً: أمّا المنكر فلأنّ له الحقّ حسب حكم الحاكم، وأمّا المدّعي فلأنّه هو ذو الحقّ واقعاً.

يبقى الكلام في فرع واحد: وهو أنّ المحكوم عليه لو علم بحرمة ما حكم به عليه، وأنّ العمل وفق حكم القاضي يوجب ارتكابه للحرام فماذا يصنع؟ ومثاله ما لو حكم القاضي بالزوجيّة وفقاً لرأي الزوج الذي أقام البيّنة على ذلك، بينما المرأة قاطعة بعدم الزوجيّة، فلو أطاعت القاضي تورّطت في الزنا، ولو خالفت كان هذا ردّاً لحكم القاضي الذي هو كالرادّ على اللّه، فما هي وظيفتها في المقام؟ سواء فرضنا الحرمة الثابتة لها حرمة واقعية، كما لو علمت وجداناً بعدم الزوجيّة، أو كانت ظاهريةً، كما لو بنت ظاهراً اجتهاداً أو تقليداً على عدم الزوجيّة لوقوع العقد باللّغة الفارسية مثلاً،

800

فعلى أيّ حال يقع التعارض بين دليل نفوذ حكم القاضي وحرمة مخالفته ودليل حرمة الفعل المحكوم به.

وهنا يقع الكلام تارةً في وجود إطلاق لدليل نفوذ حكم القاضي لمثل هذا المورد وعدمه بقطع النظر عن دعوى الانصراف، وأُخرى في أنّه لو تمّ إطلاق لدليل النفوذ في نفسه ولولا الانصراف، فهل يمكن دعوى انصراف الإطلاق عن المقام، أو لا؟ وثالثةً لو تمّ الإطلاق ولم يتمّ الانصراف فما هو علاج التعارض في المقام؟

أمّا الإطلاق فدليل مشروعيّة القضاء يدل _ بضمّه إلى الارتكاز أو المقبولة _ على نفوذ القضاء لا محالة، فالكلام يجب أن يقع في أصل دليل مشروعيّة القضاء لكي نرى هل يشمل ما نحن فيه، أو لا؟ وبالإمكان أن يناقش في إطلاق أكثر أدلّة القضاء في المقام: فالإجماع دليل لبّي لا إطلاق له، ولزوم الهرج من عدم مشروعيّة القضاء أو عدم نفوذه ليس له إطلاق للمقام؛ إذ إنّ استثناء فرض حرمة المحكوم به لا يوجب الهرج، والمقبولة وردت في الدَين والميراث، وهذا وإن كان يحمل على المثالية، ويفهم منه الإطلاق، إلا أنّ هذا الفهم يقتصر على المقدار الذي لا يحتمل عرفاً الفرق فيه بين الدَين والميراث، واحتمال الفرق في مورد حرمة المحكوم به وارد لا محالة.

وقد يقال: إنّ حديث داود بن أبي يزيد العطّار عن بعض رجاله عن أبي عبداللّه (عليه السلام) وارد في خصوص ما نحن فيه، أو يشمل إطلاقه ما نحن فيه؛ حيث ورد في رجل كانت له امرأة فجاء رجل بشهود أنّ هذه المرأة امرأة فلان، وجاء آخران فشهدا أنّها امرأة فلان، فاعتدل الشهود وعدّلوا، فقال: «يقرع بينهم، فمن خرج سهمه فهو المُحقّ، وهو أولى بها»(1).


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص184، الباب 12 من كيفيّة الحكم، ح8.

801

ولكن أصل النزاع المفترض في هذا الحديث ليس من قبيل ما نحن فيه؛ لأنّه لم يفترض النزاع بين الزوج والزوجة، وإنّما افترض النزاع بين رجلين، وأيّهما وقع الحكم عليه سوف لا يؤدّي ذلك إلى ابتلائه بالحرام. أمّا دعوى إطلاق الرواية لفرض كون المرأة نافيةً لإحدى الزوجيَّتين، لا جاهلةً بالواقع، فقد يناقش فيها بأنّ الرواية لم تكن بصدد البيان من هذه الناحية، وإنّما هي بصدد البيان من ناحية نزاع الرجلين، لا من ناحية رأي المرأة في الموضوع.

إلا أنّه لا يبعد القول بتماميّة الإطلاق المقامي للحديث؛ لأنّ فرض عدم وجود رأي لها في الموضوع فرض نادر، وتخصيص الحديث بهذا الفرض النادر بعيد، وعلى أيّة حال فالحديث ساقط سنداً.

إلا أنّه بالإمكان التمسّك بإطلاق حديث أبي خديجة قال: «قال أبو عبداللّه جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضياً، فتحاكموا إليه»(1).

وقد نقل الحديث بمتن آخر أيضاً وهو ما يلي: «بعثني أبو عبداللّه (عليه السلام) إلى أصحابنا، فقال: قل لهم: إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى في شيء من الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفسّاق، اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا، فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً، وإيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر»(2).


(1) نفس المصدر، ص4، الباب الأول من صفات القاضي، ح5.

(2) نفس المصدر، ص100، الباب 11 من صفات القاضي، ح6.

802

وقد يناقش في شمول إطلاق المتن الثاني لما نحن فيه، بناءً على افتراض أنّ قوله (عليه السلام): «شيء من الأخذ والعطاء» إشارة إلى القضايا الماليّة، فلا يشمل مثل المقام ما دمنا نحتمل الفرق، إلا أنّ المتن التامّ سنداً إنّما هو المتن الأول وليس هذا المتن، وهذا التعبير غير وارد فيه، فإطلاقه يشمل المقام.

وأمّا دعوى الانصراف فنكتتها هي قياس ما نحن فيه بسائر الولايات من قبيل ولاية الأب، أو الفقيه، أو المالك، فإنّ كلّ هذه الولايات تنصرف إلى غير دائرة المحرّمات، فإنّها ولايات مجعولة من قبل الشريعة الإسلامية، والولاية المجعولة من قبل شريعةٍ مّا تنصرف لا محالة إلى الولاية في نفس دائرة الشريعة لا الولاية حتى تغيير الشريعة، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وولاية القاضي لا تشذّ عن هذه الولايات.

إلا أنّ الظاهر أنّ نكتة الانصراف الموجودة في سائر الموارد غير موجودة في المقام، فإنّ المفهوم عرفاً ومتشرّعيّاً هو ما قلنا من أنّ جعل الولاية في دائرة الشريعة إنّما يكون ضمن تلك الدائرة لا عليها، ولكن في خصوص باب القضاء المفروض فيما نحن فيه أنّه وقع الخلاف بين المتخاصمين في أصل الحكم في الشريعة، فأحدهما يعتقد أنّ الحكم كذا، والآخر يعتقد نقيض ذلك، والمناسب للشريعة جعل حاكم يفصل الخصومة في مثل هذه الحال، فالانصراف المدّعى في سائر موارد الولايات لا يأتي هنا.

فإذا تمّ التعارض بين دليل نفوذ القضاء ودليل حرمة المحكوم به فما هو العلاج؟

لا يبعد أن يقال: إنّ دليل نفوذ القضاء حاكم على دليل حرمة المحكوم به؛ لأنّه ناظر إلى جميع الأحكام المختلف فيها بين المتخاصمين، سواء كان الخلاف فيها لأجل الخلاف في الموضوع أو كان خلافاً في أصل الحكم.

نعم، لو أمكن للمحكوم عليه التجنّب عن الحرام من دون التورّط في مخالفة