150

في الأحكام الظاهرية لقضائه؛ فهذا غير مسألة النفوذ في منطقة سلطة الآخرين على نفوسهم وأموالهم، فإذا احتملنا وجود شرط شرعي لذلك لم يكن نفيه تمسّكاً بإطلاق دليل الولاية، فإنّه تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية.

وإن قصد بذلك نفوذ حكم هذا الشخص على المحكوم عليه مثلاً من دون أن يعطى له ما لطبيعة القضاء النافذ من الكشف؛ قلنا: إنّ هذا أجنبي عن طبيعة باب القضاء، ولم يثبت فيه عدم الفصل كي يتم التعدّي من القسم الأول إلى القسم الثاني.

الثاني _ أنّه كما كان دليل نفوذ القضاء في القسم الأول دليلاً لفظيّاً وهو إطلاق دليل ولاية الفقيه الذي نصب هذا قاضياً، كذلك دليل عدم نفوذ القضاء في القسم الأول والثاني يكون أحياناً دليلاً لفظيّاً، كما لو قطع المحكوم عليه بأنّ المال المتنازع فيه ملكه، فهو مسلّط عليه بإطلاق دليل «الناس مسلّطون على أموالهم» أو أثبت بإطلاق دليل لفظي زوجيّة المرأة التي تدّعي بطلان الزوجيّة، فبعد فرض عدم الفصل يقع التعارض بين الدليلين.

لا يقال: إنّ دليل نفوذ القضاء حاكم على الأدلّة الأُخرى؛ لأنّه عنوان ثانوي ناظر إلى باقي العناوين.

فإنّه يقال: إنّ النظر ثبت في القسم الأول فحسب؛ أمّا التعدّي إلى القسم الثاني فلم يكن بظهور لفظي ناظر إلى موارد القسم الثاني أيضاً، وإنّما كان بمجرّد اكتشاف الملازمة بعدم الفصل، وهذا لا يحقّق ملاك الحكومة وهو النظر.

ونتيجة كلّ ما مضى حتى الآن: هي أنّه لا يجوز للفقيه أن ينصب شخصاً فاقداً لبعض الشرائط الماضية للقضاء.

ويمكن أن يستثنى من ذلك كلّ مورد يكون المرتكز عقلائيّاً دخوله في حقّ الولاية، فيتمّ الإطلاق المقامي لدليل الولاية فيه.

151

مثاله: أنّ المرتكز عقلائيّاً بشأن الولي والسلطان أن يكون من حقّه نصب إنسان كفوءٍ للقضاء قاضياً ولو لم يكن فقيهاً ما دام عارفاً بموازين القضاء ولو عن تقليد. فنصب القاضي الكفوء بالمواصفات المعقولة التي يرتئيها الولي هو من شؤون الولاية، وهذا يحقّق الإطلاق المقامي لدليل الولاية، فيصبح من حقّ الفقيه نصب إنسان كفوء عارف بمسائل القضاء _ عن تقليد _ للقضاء.

وهذا الوجه _ كما ترى _ أضيق دائرةً بكثير من الوجه الأول الذي ناقشناه في فسح المجال أمام الفقيه لنصب فاقد بعض الشرائط الماضية للقضاء.

والأن لنراجع الشرائط الماضية واحداً بعد آخر لنرى أنّ أيّ واحد منها يمكن للفقيه غضّ النظر عنه في نصبه بناءً على الوجه الأول لو تمّ، وبناءً على الوجه الثاني، فنقول:

الشرط الأول: العلم، وبديهي عدم معقوليّة نصب الجاهل للقضاء، ولكن كون علمه عن اجتهاد وإن كان قد أُخذ في مصبّ النصب العام الوارد عن المعصوم (عليه السلام) لكن يمكن التغاضي عنه في نصب الفقيه لشخصٍ ما للقضاء بناءً على كلا الوجهين: أمّا على الوجه الأول فلأنّه لا دليل على كون الاجتهاد شرطاً فقهيّاً للقضاء، وأمّا على الوجه الثاني فلما مضى من أنّ المرتكز عقلائيّاً أنّ من شؤون الوالي أن ينصب الكفوء قاضياً ولو لم يكن فقيهاً.

الشرط الثاني: البلوغ، فإن استفدنا هذا الشرط بالتعدّي من دليل محجوريّة الصغير؛ إذاً كان هذا شرطاً فقهيّاً لا يمكن التغاضي عنه بشيء من الوجهين. وإن استفدناه بعدم الإطلاق في دليل القضاء، أو بأخذ قيد الرجولة في قوله: «انظروا إلى رجل منكم» تمّ فيه الوجه الأول؛ إذ لم يبقَ دليل على كون البلوغ شرطاً فقهيّاً ولا يتم فيه الوجه الثاني لعدم قيام ارتكاز عقلائي على صحّة نصب غير البالغ قاضياً.

152

الشرط الثالث، والرابع، والخامس: العقل، والرشد، والإسلام: ومن الواضح عدم إمكان التغاضي عنها.

الشرط السادس: الذكورة، فإن كان دليلنا عليه عدم الإطلاق، أو أخذ قيد الرجولة في قوله: «انظروا إلى رجل منكم» تمّ فيه الوجه الأول، لكن الوجه الثاني لا يتم؛ لأنّ ارتكاز صلاحيّتها للقضاء لو نصبها الولي غير ثابت في جوّ المسلمين وإن ثبت في أجواء الغربيّين، فإنّ ثبوته في أجواء الغربيّين لا يكفي لتماميّة الإطلاق المقامي كما هو واضح. وإن كان دليلنا عليه مثل التعدّي من اشتراط الذكورة في إمام الجماعة، أو استفادة عدم صلاحيّتها للقضاء من مثل قوله تعالى: ﴿أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصٰامِ غَيْرُ مُبِينٍ﴾(1) إذاً يكون هذا شرطاً فقهيّاً لا يتمّ فيه شيء من الوجهين.

الشرط السابع: طهارة المولد، فإن كان الدليل عليه التعدّي من باب صلاة الجماعة والشهادة فهو شرط فقهي لا يمكن التغاضي عنه بشيء من الوجهين، وإن كان الدليل عدم الإطلاق تطرّق فيه الوجه الأول، ولم يتطرّق فيه الوجه الثاني؛ لعدم ارتكاز يساعد على نصبه في جوّ المسلمين.

الشرط الثامن، والتاسع: الإيمان، وأن لا يكون مصداقاً لسلطان الجور وأياديه: وكلّ منهما من الشروط الفقهية التي لا يمكن التغاضي عنها بشيء من الوجهين.

الشرط العاشر: الحرّيه، فإن كان الدليل عليه ما مضى من رواية محمد بن مسلم؛ إذاً هو شرط فقهي لا يتطرّق فيه شيء من الوجهين، وإن كان الدليل عليه عدم الإطلاق فالوجه الأول يتأتّى فيه، ولعلّ الوجه الثاني لا يتأتّى فيه.


(1) الزخرف: 18.

153

الشرط الحادي عشر، والثاني عشر: الكتابة، والبصر، ويتأتّى فيهما كلا الوجهين.

الشرط الثالث عشر: الضبط، وهو بمعناه الواضح اشتراط لا يمكن رفع اليد عنه، والأكثر من ذلك حاله حال البصر والكتابة.

الشرط الرابع عشر، والخامس عشر: عدم الصمم والخرس، وذلك بقدر ما يرجع إلى الشروط الأُخرى حاله حال تلك الشروط، وبقدر ما يفترض شرطاً مستقلّاً حاله حال اشتراط البصر.

الشرط السادس‏عشر: العدالة، ولا يتأتّى فيه شيء من الوجهين؛ لأنّه شرط فقهي.

ثم لو ناقشنا في الوجه الثاني أيضاً، ولم نقبل الإطلاق المقامي الذي شرحناه أشكل الأمر في مثل زماننا الذي وفّق اللّه العاملين في سبيل الإسلام لإقامة دولة الحقّ في قطعة من الأرض مثل (إيران)، وتكون الحاجة ملحّة لنصب قضاة كثيرين في الأطراف، ولا يوجد فقهاء مستعدّون لتقبّل ذلك بقدر الكفاية، فيضطرّ الولي الفقيه أن ينصب آخرين غير فقهاء للقضاء في كثير من المناطق، فهل يوجد لذلك تخريج فنّي أو لا؟

هنا لابدّ من الرجوع إلى دليل وجوب القضاء كفاية، وقد مضى لذلك دليلان: أحدهما عدم رضا الشارع باختلال النظام، واهتمامه بحفظ النظام. والثاني توقّف النهي عن المنكر على ذلك.

والوجه الثاني لا يفيدنا هنا شيئاً؛ لأنّ قضاء غير الفقيه لو لم يكن نافذاً فسوف لن يمنع عن تحقّق المنكر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواجبان يتوقّفان على القضاء النافذ، ونفوذ قضاء غير الفقيه أوّل الكلام.

أمّا الوجه الآخر وهو اهتمام الشارع بحفظ النظام، فإن فسّر بمعنى وجوب حفظ

154

النظام علينا فأيضاً لا يفيدنا في المقام، فإنّ النظام الواجب علينا حفظه إنّما هو النظام الناتج عن القضاء النافذ، ونفوذ قضاء غير الفقيه أوّل الكلام.

لكن هناك تفسير آخر لذلك، وهو علمنا بأنّ الإسلام وضع من القوانين ما يكفي لحفظ النظام، فإذا توقّف حفظ النظام على نفوذ القضاء، فهو بنفسه دليل على نفوذ القضاء، فهذا دليل على أنّ الإسلام يسمح لغير الفقيه بالقضاء عند توقّف حفظ النظام عليه؛ أي: يثبت بذلك نفوذ قضائه؛ لعلمنا بأنّ نفوذ قضائه هو الطريق الوحيد لحفظ النظام، وأنّ اهتمام الشارع بحفظ النظام بالغ إلى درجة يوجب السماح بما يتوقّف عليه من نفوذ القضاء.

نعم، بما أنّ هذا دليل لبي لابدّ فيه من الاقتصار على القدر المتيقّن، وهو القضاء لغير الفقيه بتعيين من قبل الولي الفقيه، لا بلا تعيين، بل القضاء بلا تعيين قد يولّد بنفسه اختلال النظام؛ فإنّ نظام كلّ مجتمع يتوقّف على أن تكون أمثال هذه التعيينات بيد الولي المشرف على ذلك المجتمع.

التوكيل في القضاء

بقي الكلام في أنّه هل يمكن حلّ الإشكال عن طريق افتراض أن ينصب الفقيه وكيلاً من قبله في القضاء فاقداً لبعض الشرائط الماضية، بأن يقال: إنّ وكيل القاضي ليس قاضياً كي يشترط فيه تلك الشرائط أو لا؟ وبناءً على تصوير ذلك يجب على الوكيل اتّباع رأي الموكّل في القضاء عملاً بالوكالة، بينما القاضي المنصوب من قبل الفقيه يقضي وفق رأيه أو رأي مقلَّده.

وهذا الوجه لو تمّ لم تصل النوبة إلى الوجه السابق من تجويز جعل غير الفقيه قاضياً لدى الاضطرار؛ إذ لا اضطرار إلى ذلك ما دام يمكن حلّ الإشكال عن

155

طريق التوكيل.

والواقع أنّ التوكيل بمعناه المفهوم عرفاً في أبواب العقود والإيقاعات، والذي لا يرجع في روحه إلى نصب القاضي غير مفهوم في المقام؛ فإنّ التوكيل يتصوّر في القضايا الاعتبارية البحتة التي ينسب العرف فيها المضمون المُنْشأ بالاعتبار إلى الموكّل حقيقةً، فيعتبر مالك العين مثلاً بائعاً حقيقةً حينما يصدر إنشاء البيع من الوكيل، وكذا ينسب الطلاق حقيقة إلى الزوج في نظر العرف رغم صدور صيغة الطلاق من قبل وكيل الزوج، وهكذا.

أمّا باب القضاء فليس حاله من هذا القبيل ولا يعتبر قضاء الوكيل قضاءً للموكّل، وذلك بنكتة توسّط رأي الوكيل في تشخيص الحكم الذي قد لا يكون رأياً للموكّل، ولو من باب عدم إطّلاعه على القضيّة، وحال التوكيل في القضاء يشبه حال التوكيل في التصرفات المادّية كالأكل مثلاً.

نعم، قد يمكن التوكيل في إجراء صيغة الحكم فحسب؛ بأن يفترض أنّ القاضي الفقيه هو الذي ينظر في الأمر ويشخّص الحكم، ثم يرسل وكيله في إجراء صيغة الحكم، لكن يحكم بما ارتاه القاضي.

156

قاضي التحكيم

وأمّا الأمر الثالث _ وهو أنّه هل من حق المترافعين تحكيم غير الواجد لشرائط المنصوب من قبل المعصوم، أو غير المنصوب من قبله ولا من قبل الفقيه، وهو المسمّى بـ «قاضي التحكيم» أو لا؟

فلنذكر مقدمةً لذلك: أنّ قاضي التحكيم يتصور على نحوين:

الأول _ أن يتحاكم المترافعان إلى إنسان واجد للشرائط الفقهية للقضاء، إلا أنّه ليس منصوباً من قبل المعصوم أو الفقيه، ومثاله في زماننا من كان واجداً لشرائط القضاء من قبيل الإيمان والعدالة ولم يكن فقيهاً، بناءً على أنّ شرط الفقاهة ليس شرطاً فقهيّاً، وإنّما أخذ قيداً في النصب العام من قبل الإمام المعصوم (عليه السلام) وبذلك يتضح إمكانيّة تصوير قاضي التحكيم بهذا النحو في زماننا.

الثاني _ أن يتحاكما إلى إنسان غير واجد للشرائط الفقهية للقضاء بدعوى أنّها شرائط للقاضي المنصوب، لا لقاضي التحكيم.

ولا يخفى أنّ قاضي التحكيم وإن لم يكن منصوباً للقضاء في المرتبة السابقة على التحكيم لكن لا معنى لنفوذ قضائه ما لم يثبت إمضاء من قبل الشريعة لتحكيمه الصادر من المتحاكمين، فإنّ الولاية للّه ولا ينفذ حكم أحد على أحد من دون تنفيذ من قبل الشريعة.

157

أدلّة النفوذ

وعلى أيّ حال فالذي يمكن أن يجعل دليلاً على نفوذ قضاء قاضي التحكيم أمور:

الروايات

الأول _ الروايات من قبيل:

1_ ما رواه الكشّي في رجاله عن العياشي، عن أحمد بن منصور، عن أحمد بن الفضل الكناسي قال: «قال لي أبو عبداللّه (عليه السلام): أيّ شيء بلغني عنكم؟ قلت ما هو؟ قال: بلغني أنّكم أقعدتم قاضياً بالكناسة. قال: قلت: نعم _ جعلت فداك _ رجل يقال له عروة القتات، وهو رجل له حظ من العقل، نجتمع عنده، فنتكلّم ونتساءل، ثم يردّ ذلك إليكم. قال: لا بأس»(1). فقد يقال: إنّ هذا دليل على نفوذ قضاء قاضي التحكيم، فإنّ عروة القتات نصبه نفس الناس قاضياً وليس ولي الأمر، إلا أنّ الحديث قابل للمناقشة سنداً ودلالةً.

أمّا من حيث السند فنقول: إنّ أحمد بن منصور إن كان هو الخزاعي كما شوهد نقل العياشي عنه، فافتراض عدم سقوط الواسطة بعيد، إلا أن يفترض معمّراً؛ لأنّ أحمد بن منصور الخزاعي من أصحاب الرضا (عليه السلام) والعياشي ينقل عن أصحاب علي بن الحسن بن فضّال الذي هو من أصحاب الهادي والعسكري(عليهماالسلام). وإن كان شخصاً آخر غيره فأيضاً يبعد افتراض عدم سقوط الواسطة بينه وبين العياشي، أو بينه وبين من ينقل عن الصادق (عليه السلام). وعلى أيّ حال فلا دليل على وثاقة أحمد بن منصور، ولا على وثاقة أحمد بن الفضل الكناسي، ولعلّه أحمد بن الفضل الخزاعي بقرينة رواية أحمد بن منصور عنه.


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص107، الباب 11 من صفات القاضي، ح 31.

158

وأمّا من حيث الدلالة فلئن كان صدر الحديث ظاهراً في إرادة القضاء بالمعنى المقصود لنا فذيله وهو قوله: «نجتمع عنده، فنتكلّم ونتساءل، ثم يردّ ذلك إليكم» ظاهر في البحث العلمي والفقهي، وبعد هذا لا أقلّ من الإجمال.

ولو فرضناه ظاهراً _ رغم هذا _ في إرادة القضاء فلا دليل على أنّ عروة القتات لم يكن داخلاً في المنصوب بالنصب العام في مقبولة عمر بن حنظلة، ألّلهم إلا أن يتمسّك بالإطلاق بملاك ترك الاستفصال، إلا أنّ هذا الإطلاق غير تام في المقام؛ لأنّ الظاهر اجتماع الشرائط الواردة في مقبولة عمر بن حنظلة في عروة القتات، فقد كان شيعيّاً كما هو ظاهر من نصبهم له، ومن قوله: «ثم يردّ ذلك إليكم»، وعارفاً بالأخبار والروايات كما يظهر من قوله: «ثم يردّ ذلك إليكم»، وكان واجداً لحسن الظاهر الكاشف عن العدالة؛ إذ يستبعد تجمّعهم بهذا الشكل حول ظاهر الفسق.

ولو ثبت أنّ هذا الحديث ورد قبل ورود مقبولة عمر بن حنظلة وقبل أيّ نصب عام من قبل الإمام للقضاء، فغاية ما يدل عليه هذا الحديث هو نفوذ قضاء قاضي التحكيم بالمعنى الأول _ أعني الواجد للشرائط غير المنصوب _ دون المعنى الثاني _ أعني غير الواجد للشرائط _؛لما عرفت من أنّ الإطلاق بملاك ترك الاستفصال غير تام في المقام.

2_ ما عن أبي بصير بسند تام عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال في رجل كان بينه وبين أخٍ له مماراة في حقّ، فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه وبينه، فأبى إلا أن يرافعه إلى هؤلاء: «كان بمنزلة الذين قال اللّه (عزوجل): ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمٰا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَى الطّٰاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا

159

أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾(1)»(2).

وجه الاستدلال هو التمسّك بالإطلاق؛ إذ لم يقيّد الرجل الذي دعا أحد الأخوين صاحبه إلى الترافع إليه بقيد سوى قيد التشيّع، فمقتضی الإطلاق صحّة التحاكم عند الرجل الشيعي ولو لم يكن منصوباً، بل ولو لم يكن واجداً لسائر الشرائط.

إلا أنّ الظاهر عدم تماميّة الإطلاق؛ إذ هو بصدد الردع عن التحاكم إلى حكّام الطاغوت، لا بصدد بيان من يجوز التحاكم إليه من الشيعة كي يتمّ الإطلاق: ومن هنا يتبيّن أنّه لو فرض ثبوت ورود هذا الحديث قبل مقبولة عمر بن حنظلة وقبل أيّ نصب عام من قبل الإمام، فإنّما يدل على نفوذ قضاء قاضي التحكيم بالمعنى الأول دون الثاني.

3_ ما عن الحلبي بسند تام قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): ربّما كان بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشيء فيتراضيان برجل منّا؟ فقال: ليس هو ذاك، إنّما هو الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف والسوط»(3)؛ بناءً على أنّ النظر في هذا الحديث إلى حرمة التحاكم لدى من هو غير منصوب، أو عدم نفوذ حكمه، فيفصّل الإمام (عليه السلام) بين من يجبر الناس على حكمه بالسيف والسوط فيحرم أو لا ينفذ، وبين من تراضى به المترافعان وكان شيعيّاً فيحلّ وينفذ.

إلا أنّ هذا التفسير غير واضح؛ إذ الظاهر: أنّ قوله: «ليس هو ذاك» إمّا هو إشارة إلى ما هو المعروف من حرمة الترافع لدى الطاغوت، أو لدى حاكم الجور، ݣݣفيفسّر


(1) النساء: 60.

(2) وسائل الشيعة، ج 18، ص3، الباب الأول من صفات القاضي، ح2.

(3) نفس المصدر ، ص5، الباب الأول من صفات القاضي، ح8.

160

الإمام (عليه السلام) ذاك المعروف بالترافع لدى من يحكم الناس بالسيف والسوط من الأُمراء الظالمين، ويقول: إنّ هذه الحرمة غير ثابتة في الترافع لدى رجل منّا، وليس بصدد بيان مدى جواز ونفوذ قضاء هذا الرجل، كي يتمّ الإطلاق، أو هو إشارة إلى كلام مسبق بين الإمام والسائل محذوف، ولانعرفه ما هو، فلا يتم الإطلاق أيضاً. ولو فرض ثبوت ورود هذا النص قبل النصب العام ودلالته على نفوذ قضاء قاضي التحكيم، فلا يدل إلا على نفوذ قضاء القاضي بالمعنى الأول دون الثاني؛ لما عرفته من عدم تماميّة الإطلاق.

4_ ما مضى من رواية أبي خديجة(1) بناءً على حمل السيد الخوئي لها على قاضي التحكيم، إلا أنّه مضى إبطال ذلك.

5_ ما ورد من حديث نبوي رأيته في كتاب القضاء للمولى علي الكني (رحمه الله)(2)، وهو قوله (صلى الله عليه و آله): «من حكم بين اثنين تراضيا به، فلم يعدل فعليه لعنة اللّه». وأورد المولى الكني (رحمه الله) على الاستدلال بذلك بضعف السند، وبأنّه وارد مورد حكم آخر، وهو عدم جواز الحكم بغير العدل، وليس بصدد بيان جواز القضاء لكلّ من رضيا به كي يتم الإطلاق، وبأنّه معارض بما دلّ على إذن الإمام في القاضي، والثاني مقدّم بالأخصّية. ولو فرض أنّ النسبة عموم من وجه كفانا أنّه بعد التعارض والتساقط لا يصلح دليلاً على المقصود.

أقول: إشكاله الأخير جزء ممّا سيأتي إن شاء اللّه من البحث عن أدلّة عدم نفوذ قضاء قاضي التحكيم غير المنصوب.


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص4، الباب الأول من صفات القاضي، ح5.

(2) ص 24.

161

6_ ما عن موسى بن أكيل عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سئل عن رجل يكون بينه وبين أخٍ له منازعة في حقّ فيتّفقان على رجلين يكونان بينهما، فحكما، فاختلفا فيما حكما؟ قال: وكيف يختلفان؟ قال: حكم كلّ واحد منهما للذي اختاره الخصمان. فقال: ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين اللّه فيمضي حكمه»(1).

والسند ضعيف بذبيان بن حكيم الذي لم تثبت وثاقته، والدلالة ضعيفة بعدم الإطلاق لفرض عدم اجتماع الشرائط فيهما، كما يظهر من قوله: «ينظر إلى أعدلهما وأفقههما(2) في دين اللّه»، على أنّ الرواية واردة في حكم تعارض الحكمين لا في أصل نفوذ الحكم كي يتم فيه الإطلاق. ولو فرض وروده قبل النصب العام فإنّما يدل على نفوذ قضاء قاضي التحكيم بالمعنى الأول.

ومنه يظهر الكلام أيضاً في رواية داود بن الحصين عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في رجلين اتّفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف فرضيا بالعدلين، فاختلف العدلان بينهما عن القول أيّهما يمضي الحكم؟ قال: «ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه، ولا يلتفت إلى الآخر»(3). وسند الحديث تام.

أمّا ذيل مقبولة عمر بن حنظلة الوارد فيما كان كلّ منهما اختار رجلاً من أصحابنا، فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما، واختلفا فيما حكما، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ فقال: «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص88، الباب 9 من صفات القاضي، ح45.

(2) قد يقال: إنّ الفقاهة لا يقصد بها المعنى المصطلح اليوم في مقابل التقليد، فمن يتقن الأحكام عن طريق التقليد فهو أيضاً فقيه في الأحكام لغةً.

(3) وسائل الشيعة، ج 18، ص80، الباب 9 من صفات القاضي، ح20.

162

وأورعهما...»(1) فالأمر فيه أوضح، فإنّ هذا ذيل للصدر الدالّ على النصب العام، ومفروض السائل أنّ المتنازعين رضيا بشخصين داخلين في ذاك النصب العام.

أدلّة الوفاء بالشرط

الثاني _ أن يتمسّك بأدلّة الوفاء بالشرط والعقد، بأن يقال: إنّ المترافعين قد تشارطا وتعاقدا على قبول حكم هذا الحاكم بنحو شرط الفعل، أو على نفوذه بنحو شرط النتيجة بناءً على مشروعيّة شرط النتيجة، فيجب عليهما العمل بقضائه، أو ينفذ قضاؤه بدليل وجوب الوفاء بالشرط ونفوذه. ويمكن الإيراد على ذلك بوجوه:

1_ عدم نفوذ الشرط الابتدائي بناءً على رأي المشهور، ولكنّ المرجّح عندنا نفوذه على تفصيل موكول إلى محلّه.

2_ رجوع التحاكم دائماً إلى المشارطة غير واضح، ولكن قد يقال: لا نفهم معنى التحاكم والرضا به حكماً إلا التباني والتشارط على قبول حكمه.

3_ أنّ هذا الوجه روحه روح نفوذ الشرط لا روح نفوذ القضاء بما هو قضاء، فينحصر مفعوله في دائرة المباحات، ولا يؤثّر في إثبات الزوجيّة ونفيها، وإثبات الولد ونفيه، وفي الدماء، وما شابه ذلك ممّا لا مجال لإثباته بالشرط، بل لابدّ فيه من الرجوع إلى أدلّة الأحكام الشرعية في ذاتها.

آيات قرآنية

الثالث _ التمسّك بآيات من قبيل: ﴿وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾(2). و﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ﴾، أو


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص75، الباب 9 من صفات القاضي، ح1.

(2) النساء: 58.

163

﴿الظّٰالِمُونَ﴾، أو ﴿الْفٰاسِقُونَ﴾»(1). ممّا قد يستفاد منها أصل جواز الحكم من قبل الناس من دون أن يؤخذ في ذلك أيّ شرط من شرائط القاضي المنصوب ولا شرط النصب، فقد يقال: إنّ هذه الآيات راجعة إلى قاضي التحكيم، كما استدلّ السيد الخوئي بها على عدم اشتراط الاجتهاد في قاضي التحكيم حيث قال في تكملة المنهاج:

«وأمّا قاضي التحكيم فالصحيح أنّه لا يعتبر فيه الاجتهاد خلافاً للمشهور، وذلك لإطلاق عدّة من الآيات منها قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا وَإِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ...﴾(2)»(3).

أقول: إنّ هذه الآيات إنّما هي بصدد بيان أنّ الإنسان حينما يحكم يجب أن يكون حكمه حكماً بالعدل وبما أنزل الله. أمّا متى يحكم ولمن يجوز الحكم؟ فهذه مسألة أُخرى لم تكن الآيات بصددها؛ كي تثبت بإطلاقها عدم شرط الاجتهاد، أو عدم شرط النصب، أو عدم أيّ شرط آخر.

السيرة العقلائية

الرابع _ بناء العقلاء وسيرتهم بدعوى قيام ذلك على تنفيذ حكم قاضي التحكيم رغم عدم نصبه ما دام المترافعان قد تراضيا به، ولم يرد ردع عن ذلك وهو دليل الإمضاء.

أقول: هذا الوجه أيضاً لو تم فإنّما يثبت نفوذ حكم قاضي التحكيم بالمعنى الأول؛


(1) المائدة: 44_45_47.

(2) النساء: 58.

(3) ج1، ص 9.

164

إذ من كان فاقداً لشرط من الشروط الفقهية للقضاء فنفس دليل ذاك الشرط _ حينما لا يكون الدليل منحصراً في عدم الدليل على النفوذ وأصالة عدم النفوذ _ دليل على الردع عن هذا البناء العقلائي لو ثبت.

والواقع أنّ هذا البناء غير ثابت من قبل العقلاء بأكثر من روح الوفاء بالشرط، فحاله حال الوجه الثاني.

الإجماع

الخامس _ الإجماع _ قال المولى الكني (رحمه الله):ݢ «نعم، في المفتاح حكاية الإجماع عليه من الخلاف والمجمع، مع أنّ في الأخير لم يدّعه صريحاً بل قال: كان دليل نفاذ من يرضى الخصمان به بشرط اتّصافه بالشرط المذكور هو الإجماع أيضاً، وإلا فما أعرف له دليلاً. وفي المسالك والكفاية: أنّهم لم يذكروا فيه خلافاً، وفي الرياض: لم ينقلوا فيه خلافاً أصلاً، ويؤيّده: دعوى الإجماع ممن عرفت(1) على أنّه يشترط في قاضي التحكيم جميع ما يشترط في القاضي المنصوب _ ولو عموماً _ عدا الإذن، فإن تمّ إجماع أو شهرة قويّة موجبة لقوّة إطلاقات القضاء وموهنة لما دلّ على اشتراط الإذن _ كما هو الظاهر وبه ينجبر ضعف سند النبوي(2) بل ودلالته _ وإلا فالوجه العدم»(3).

هذا هو النص الذي أردنا نقله عن كتاب المولى الكني (رحمه الله)، ثم يذكر عدم وجود ثمرة لهذا البحث في زماننا؛ لأنّ كلّ من هو واجد للصفات فهو منصوب، ومن ليس واجداً لها لا أثر للتحاكم لديه.


(1) إشارة إلى كلام سابق له في كتاب القضاء.

(2) إشارة إلى النبوي الذي مضى من قوله (صلى الله عليه و آله): «من حكم بين اثنين تراضيا به فلم يعدل فعليه لعنة اللّه».

(3) كتاب القضاء، ص 24.

165

أقول: بعد ما عرفت من الوجوه التي يمكن أن تكون مدركاً للإجماع لا قيمة للإجماع، وقد حقّقنا في محلّه أنّ الشهرة والإجماع الفتوائيّين لا يجبران السند والدلالة أمّا عدم الثمرة في زماننا فمبني على كون جميع الشروط حتى الاجتهاد شروطاً فقهية، وقد عرفت الكلام في ذلك.

هذا، وقد ظهر أيضاً أنّ هذا الإجماع لو تم فإنّما يدل على نفوذ حكم قاضي التحكيم بالمعنى الأول فقط دون الثاني؛ لأنّ الإجماع لم يقم على أكثر من نفوذ حكم قاضي التحكيم الواجد لجميع الشرائط عدا الإذن.

هذا تمام الكلام في أدلّة نفوذ حكم قاضي التحكيم.

أدلّة عدم النفوذ

وبالإمكان أن يستدلّ على عدم نفوذ حكم قاضي التحكيم في قبال ما مضى من الاستدلال على نفوذه بوجهين:

الأول: الآيات القرآنية وهي:

1_ قوله تعالى: ﴿يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّٰهِ وَالرَّسُولِ...﴾(1).

2_ وقوله تعالى: ﴿فَلاٰ وَرَبِّكَ لاٰ يُؤْمِنُونَ حَتّٰى يُحَكِّمُوكَ فِيمٰا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّٰا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾(2).

وتقريب الاستدلال بذلك هو أن يقال: إنّ المقصود بالردّ إلى اللّه والرسول وتحكيم الرسول هو الردّ والتحكيم ولو بالواسطة بأن يردّ إلى من يمثل الرسول ويحكّم من نصب


(1) النساء: 59.

(2) النساء: 65.

166

من قبل الرسول. والمفهوم من الأمر بالردّ إلى من يمثّل الرسول، أو تحكيم من نصب من قبل الرسول هو كونه ممثّلاً له، ومنصوباً من قبله في المرتبة السابقة على الردّ والتحكيم، وهذا يعني أنّ القاضي يجب أن يكون منصوباً في المرتبة السابقة على الردّ إليه وتحكيمه، وهذا معناه عدم نفوذ حكم قاضي التحكيم.

وهذا الدليل _ لو تم ما ذكر من التقريب _ يقدّم على ما مضى من دليل السيرة وبناء العقلاء لو تم في نفسه؛ لأنّ هذا ردع عنه، وعلى أدلّة وجوب الوفاء بالشرط والعقد لو تم الاستدلال بها؛ لأنّ الشرط يصبح بسبب هذا الوجه شرطاً مخالفاً للكتاب، وعلى إطلاقات الروايات والآيات التي مضى الاستدلال بها على قاضي التحكيم لو تمّت وذلك بالتقييد.

الثاني: ما ورد عن سليمان بن خالد، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «اتّقوا الحكومة، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبي أو وصي نبي»(1). وللصدوق (رحمه الله) سند تام لهذا الحديث إلى سليمان بن خالد. أمّا سليمان نفسه فيمكن إثبات وثاقته بما عن النجاشي بشأنه من قوله: «كان قارئاً فقيهاً وجهاً»؛ فإنّ كونه وجهاً يلازم حسن الظاهر، وهو أمارة على العدالة. ونقل الكشّي أيضاً عن حمدويه عن أيوب بن نوح توثيقه وهو واقع في أسانيد كامل الزيارات، فإن لم نعتمد على كتاب الكشّي ولا على وقوعه في أسانيد كامل الزيارات كفانا ما عرفته عن النجاشي.

وأمّا دلالة الحديث فبيانها: أنّه يحصر الحكم بالنبي وبمن كان وصيّاً له، وهذا يعني أنّ الحاكم يجب أن يكون نبيّاً أو وصيّاً أو منصوباً من قبل أحدهما، ولهجة كون القضاء للنبي والوصي لا تناسب افتراض إمضاء الحكم في طول تراضي المترافعين


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص7، الباب 3 من صفات القاضي، ح3.

167

بدعوى أنّه أصبح منصوباً في طول التحكيم، فهذه الرواية أيضاً تردّ بناء العقلاء ونفوذ الشرط، وتقيّد المطلقات.

هذا؛ ولكن قد يقال بانصراف الحكومة إلى منصب الحكومة، لا إلى مجرّد الحكم ولو بتراضي المترافعَين، فتصبح هذه الرواية دليلاً على أنّ القاضي المنصوب يجب أن يكون منصوباً من قبل النبي أو الوصي، وتصبح أجنبيّة عمّا نحن فيه، وتصبح حالها حال ما روي عن إسحاق بن عمّار بسند غير تام، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لشريح: يا شريح قد جلست مجلساً لا يجلسه إلا نبي أو وصي نبي أو شقي»(1).

هذا كلّه في الكلام عن شخصيّة القاضي.


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص7، الباب 3 من صفات القاضي، ح2 .

168

الخاتمة في حق تعيين القاضي

وفي ختام البحث عن شخصية القاضي لا بأس بالحديث عمّن بيده تعيين القاضي، هل هو المدعي، أو المنكر، أو كلاهما؟

ذكر السيد الخوئي في مباني تكملة المنهاج ما لفظه: «هل يكون تعيين القاضي بيد المدّعي، أو بيده والمدّعى عليه معاً؟ فيه تفصيل: فإن كان القاضي قاضي التحكيم فالتعيين بيدهما معاً، وإن كان قاضياً منصوباً فالتعيين بيد المدّعي»(1).

وذكر فى الهامش في مقام الاستدلال على ذلك ما لفظه:

«أمّا الأول فلما عرفت من أنّ حكمه غير نافذ إلا بعد اختيار المتخاصمين إيّاه وتراضيهما به، وأمّا الثاني فهو المشهور بين الأصحاب، بل ادُّعي عليه الإجماع، ويدل عليه: أنّ المّدعي هو الملزَم بإثبات دعواه بأيّ طريق شاء وأراد، وليس للمدّعى عليه أيّ حقّ في تعيين الطريق له، أو منعه عن إثبات دعواه بطريق خاصّ كما تشير إلى ذلك عدّة من الآيات، فالنتيجة أنّ تعيين القاضي بيد المدّعي سواءٌ أَرَضي


(1) تكملة المنهاج، ج 1، ص 9.

169

به المدّعى عليه أم لا»(1).

وتعرّض في المتن لفرض التداعي قائلاً:

«وأمّا إذا تداعيا فالمرجع في تعيين القاضي عند الاختلاف هو القرعة»(2).

وقال: في الهامش بصدد الاستدلال على ذلك ما لفظه:

«وذلك حيث إنّ كلّاً منهما مدّع؛ فلكلّ منهما الحقّ في تعيين الطريق لإثبات مدّعاه، وليس للآخر منعه عنه، فلو عيّن أحدهما حاكماً، والآخر حاكماً آخر، ولا يمكن الجمع بينهما، فالمرجع في تعيين الحاكم هو القرعة»(3).

أقول: بالنسبة لقاضي التحكيم _ لو آمنّا به _ يكون التعيين بيدهما معاً؛ إذ إنّ نفوذ الحكم خلاف الأصل، وأدلّة نفوذ حكم قاضي التحكيم لو تمّت لا تشمل فرض ما إذا كان التحكيم من قبل أحدهما من دون رضا الآخر، فالإجماع والسيرة لو ثبتا كان من الواضح اختصاصهما بفرض التحكيم من كلا الطرفين. ودليل الوفاء بالشرط _ أيضاً _ من الواضح اختصاصه بذلك؛ إذ لولا رضاهما معاً لم يكن تشارط في المقام، والروايات أكثرها تختصّ بفرض رضاهما معاً، وقصّة عروة القتّات تقول: «نجتمع عنده فنتكلّم ونتسائل»، ولو فهم من ذلك القضاء فظاهره تراضي الكلّ، أو _ على الأقلّ _ لا إطلاق له لغیر هذا الفرض. ورواية أبي بصير «في رجل كان بينه وبين أخٍ له مماراة في حقّ، فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه وبينه، فأبى إلا أن يرافعه إلى هؤلاء كان بمنزلة الذين قال اللّه (عزوجل)...» واردة بشأن رفض هذا الخصم تحكيم صاحبه شخصاً من الشيعة، وإصراره على تحكيم حاكم الجور، فلنفترض أنّنا


(1) تكملة المنهاج ، ص 9_ 10.

(2) نفس المصدر ، ص 10.

(3) نفس المصدر.

170

فهمنا من ذلك قضاء قاضي التحكيم، لكن لا نظر لها إلى فرض ما إذا رفض هذا الخصم خصوص الشخص الذي عيّنه الخصم الآخر، وطالب بشخص آخر من الشيعة. وأمّا الآيات كقوله: ﴿وَإِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ _ لو تم فيها إطلاق لقضاء التحكيم _ فهي منصرفة بمناسبات الحكم والموضوع عن فرض كون القاضي غير منصوب وغير محكّم من قبل الطرفين، بأن كان محكّماً من طرف واحد، سنخ انصرافها من شخص غير منصوب وغير محكّم من قبل أي واحد من الطرفين فهل يقال: إنّ الآية تدل بإطلاقها مثلاً على جواز ممارسة كلّ أحد للقضاء ما دام يحكم بالعدل سواء كان منصوباً من قبل ولي الأمر أو لا، وسواء رضي به أحد أو لا؟!

وأمّا بالنسبة للقاضي المنصوب فيمكن توجيه الاستدلال على كون اختيار القاضي بيد المدّعي بأخذ نكتتين بعين الاعتبار:

الأُولى _ أن يقصد بالمدّعي من إذا ترَكَ النزاع تُرك، لا خصوص من عليه البيّنة، فمثلاً لو طالب خصمه بدين له والخصم يدّعي الوفاء، فالبيّنة على الخصم المدعي للوفاء، لكنّ الذي يشكو إلى القاضي لمطالبة الحقّ إنّما هو المنكر للوفاء.

الثانية _ أن يقال: إنّ المفهوم عرفاً من النصب للقضاء ليس مجرّد إعطائه منصب فصل النزاع لو ترافعا عنده، بل إعطاؤه ذلك إضافةً إلى حقّ جلب الخصم والتحقيق بشأن النزاع لو شكاه أحد ثم فصل النزاع.

وعندئذٍ يتم القول بأن المدّعي _ بمعنى من سيرفع المخاصمة _ من حقّه أن يختار لرفع المخاصمة أيّ قاضٍ شرعي أراد، ولا يحقّ لصاحبه منعه عن ذلك، بل تجب عليه الاستجابة للتحقيق، ثم الخضوع للحكم؛ لأنّ من حقّ القاضي جرّه إلى ذلك.

وأمّا الاستشهاد بالآيات على المدّعى فأمر غير مفهوم. وإن كان المقصود بذلك الإشارة إلى مثل آية ﴿وَإِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ بدعوى أنّ

171

إطلاق ذلك بعد ضرورة ‏تخصيصه بفرض رفع النزاع من قبل الشاكي إليه يشمل فرض ما إذا لم يكن القاضي مرْضيّاً من قبل الطرف الآخر قلنا: لازم ذلك _ على مبناه القائل بأنّ هذه الآيات دليل على قضاء التحكيم _ دلالة الآيات على أنّه في قاضي التحكيم أيضاً لا يشترط رضا الطرفين، وهذا ما لا يلتزم به. وعلى أيّ حال فقد عرفت عدم تماميّة إطلاق من هذا القبيل في هذه الآيات.

يبقى الكلام فيما فرضه من مسألة التداعي بعد أن نُؤوّل التداعي أيضاً بمعنى ما إذا احتاج كلّ منهما إلى الشكوى ورفع النزاع، حتى ولو كان أحدهما مدّعياً والآخر منكراً، كما لو فرضنا أنّ أحداً ادّعى على الآخر الدين وأنكره الآخر، ولكنّ المدّعي قد ضيّق على المنكر بتكرير المطالبة، وتكثير مخاصمته ليل نهار، فرأى المنكر أنّ علاج المشكل هو رفع الشكوى إلى حاكم يخصم النزاع فيستريح من مضايقات المدّعي، كما أنّ المدّعي أيضاً رأى أنّ طريق إنقاذه لحقّه عبارة عن رفع الشكوى إلى الحاكم، فاختلفا في اختيار القاضي ولا يمكن الجمع بينهما، فما هو طريق تعيين القاضي؟ وهنا يقول السيد الخوئي (رحمه الله): إنّ طريق تعيين القاضي هو القرعة التي جعلت لكلّ أمرٍ مشكل.

وقد يورد على هذا الكلام بإيرادين:

الإيراد الأول، أن يقال: إنّ مقتضی الروايات الماضية: مقبولة عمر بن حنظلة(1)، ورواية داود بن الحصين(2)، ورواية موسى بن أكيل(3)، هو الرجوع عند تعارض الحكمين إلى الترجيح بالأعدليّة والأفقهيّة، لا القرعة.

والجواب: أنّ هذه الروايات إنّما وردت بشأنّ ترجيح أحد الحكمين على الآخر بعد


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص75، الباب 9 من صفات القاضي،ح1.

(2) نفس المصدر، ص80، ح20.

(3) نفس المصدر، ص88، ح45.

172

صدورهما، ونحن الآن نتكلّم فيما قبل الحكم لتشخيص من له حقّ الحكم، لا فيما بعد صدور الحكمين برضا كلا الخصمين بهما كما هو مورد الروايات.

الإيراد الثاني، وهو تطوير للإيراد الأول بهدف التخلّص من الجواب الذي مضى أن يقال: لو اختلف الخصمان في رفع النزاع إلى القاضي، فرفع هذا النزاع إلى قاضٍ، ورفع الآخر إلى قاضٍ آخر، فتارةً نفترض أنّ أحد القاضيين يتقبّل النزاع، ويجلب الخصم الآخر، ويحقّق الموضوع، ويحكم، دون أن يقوم القاضي الآخر بعمل مماثل لذلك، وعندئذٍ لا ينبغي الكلام في نفوذ حكم ذاك الحاكم؛ لما مضى من أنّ المفهوم عرفاً من النصب للقضاء ليس مجرّد فصل النزاع عند ترافعهما معاً إليه، بل يشمل ذلك فرض ما إذا رفع الشاكي الشكوى إليه، فمن حقّه أن يجلب الخصم الآخر، ويحقّق، ويقضي، والرادّ عليه كالرادّ على اللّه.

وأُخرى نفترض أنّ كلا القاضيين قد قاما بهذه العملية، واختلفا في الحكم، وحينئذٍ إمّا أن نقول: إنّ المورد دخل تحت مفاد الروايات الماضية الواردة في تعارض الحكمين، ونلتزم بالترجيح لا بالقرعة، وخصوصيّة مورد الروايات من تراضي الخصمين بهما ملغيّة عرفاً، فالمهمّ هو شرعيّة قضاء كلّ منهما في نفسه. أو نقول: إنّ أيّاً منهما كان متقدّماً في إصدار الحكم ينفذ حكمه، ويعتبر حكم الآخر نقضاً لحكم الحاكم، ولا يلتفت إليه، فإن صدر الحكمان في وقت واحد رجعنا إلى الترجيح الوارد في الروايات لا إلى القرعة.

أقول: تارةً نفترض أنّ القاضي هو ولي الأمر أيضاً، كالفقيه في زماننا، فهو بإمكانه _ بحكم ولاية الفقيه _ أن يجلب الخصم الآخر، ويفصل الخصومة إذا رأى المصلحة في ذلك، ولا يبقى مجال بعد ذلك لحكم حاكم آخر، وأُخرى نفترض أنّه ليس وليّاً للأمر كالفقيه بناءً على إنكار ولاية الفقيه، وكغير الفقيه المنصوب قاضياً من قبل

173

الفقيه بناءً على ولاية الفقيه، وهنا يجب أن نرجع إلى ما يفهم عرفاً من دليل النصب، فالمفهوم عرفاً من دليل النصب أمران:

الأول _ أنّ الخصمين إذا ترافعا لديه كان له حقّ التحقيق وفصل النزاع.

والثاني _ أنّ الشاكي منهما الذي يشكو من ظلم يقع عليه لو رفع الأمر إليه كان له حقّ جلب المتّهم والتحقيق، وبالتالي فصل النزاع.

أمّا لو كان كلاهما شاكيين، وشكى كلّ منهما إلى غير الذي شكى إليه الآخر، ولم يرضيا باشتراكهما معاً في فصل الخصومة كي يدخل الأمر تحت الصورة المفروضة في مورد الروايات الماضية، فشمول إطلاق دليل النصب لكلّ منهما بأن يعطيه حقّ المبادرة في القضاء لعلّه غير عرفي ولا نشك فقهيّاً في ثبوت مقتضي نفوذ القضاء في كلّ منهما لولا المعارض، فلا يبقى عدا تعيين أحدهما بالقرعة بناءً على شمول قاعدة القرعة لموارد عدم وجود تعيّن واقعي.

وقد يقال: لئن لم يشمل إطلاق دليل القضاء كلّاً منهما في المقام إذاً هما ليسا منصوبين للقضاء في خصوص المقام، فما معنى تعيين أحدهما بالقرعة؟!

وقد يجاب على ذلك بأنّ معنى حجّية القرعة في ذلك _ بناءً على شمول قاعدة القرعة لموارد عدم وجود تعيّن واقعي كما هو الحال في قصّة يونس (عليه السلام) _ هو أنّه ما دام مقتضي القضاء في كلّ منهما تامّاً، فالقرعة ترفع المانع عمّن وقعت باسمه بتعيين السقوط في الآخر.

هذا، ولكن مقتضى أدلّة القرعة _ وهذا ما سوف نبحثه بالتفصيل عند البحث حول الطريق الخامس من طرق الإثبات في القضاء _ أن ما ذكره السيد الخوئي في المتداعيين اللذين اختار كلّ واحد منهما قاضياً غير ما اختاره الآخر من لزوم الرجوع إلى القرعة لا يخلو من إشكال؛ لوجهين:

174

الأول _ أنّ حجّية القرعة إنّما هي حجّية قضائيّة، وتقع القرعة من قبل القاضي؛ إذاً لا تشمل أصل تعيين القاضي، ولا دليل على الحجّية الذاتية _ أي بقطع النظر عن القضاء _ للقرعة.

ولكن لولا الإشكال الثاني لتمّ عندئذٍ لدينا دليل على الحجّية الذاتيّة في المقام؛ لأنّ عموم الموضوع في قوله: «كلّ مجهول ففيه القرعة»(1)قد شمل مورد الكلام في حين أنّه في هذا المورد لا تتصوّر حجّية قضائيّة، فتثبت الحجّية الذاتيّة في خصوص هذا المورد.

الثاني _ أنّ حجّية القرعة إنّما هي لكلّ أمر مجهول لدينا متعيّن في الواقع؛ بينما في هذا المورد لا تعيّن في الواقع.

ولا يبعد القول بأنّ أيّاً منهما بادر إلی القضاء فقضاؤه نافذ بإطلاق دليل النصب، ولا يبقى مجال لحكم الآخر، ولو تعاصرا في الحكم دخل في مورد الروايات التي وردت في تعارض الحكمين، وحكمت بالترجيح لا بالقرعة.

أمّا لو لم نقبل بهذا البيان، إذاً فلو أرادا حقّاً حلّ المشكل عن طريق القضاء فعليهما أن يتوافقا على قاضٍ واحد، ولو عن طريق القرعة التي هي مشروعة بالتراضي والتشارط في المباحات ولو مع عدم تعيّن في الواقع _ على ما سوف يأتي إن شاء اللّه في محلّه _ بل التراضي بالقرعة يحلّ المشكل قهراً بلا حاجة إلى دليل لو بقي الرضا مستمرّاً بعد القرعة، وكذلك لو أراد أحدهما حلّ المشكل فعليه أن يرضى بقاضي الآخر. أمّا لو بقيا متشاكسين في تعيين القاضي فهذا حاله حال أن يتركا رفع المخاصمة إلى القاضي رأساً، والعيب فيهما وليس في قوانين القضاء.


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص189، الباب 13 من كيفيّة الحكم ، ح 11.