في اليوم العاشر من المحرّم أثناء المعركة؛ فإنّ وجود نساء البيت العلوي ومخدّرات الهاشميّين في خضم هذه المحنة لابدّ أن يثير في النفوس العطف، وفي القلوب الانكسار، مهما كانت تلك النفوسُ متوحّشةً والقلوبُ قاسية.
أمّا الأطفال، فقد قدّمتهم الثورة كدليل على أنّ هؤلاء القوم الذين يحاربون خوفاً وطمعاً قد بلغ بهم الأمر ـ حينما نسوا الله فأنساهم ذكر أنفسهم(1)، بلغ بهم الأمر ـ حدّاً لا يوصف من الدناءة والوضاعة واللؤم، فلهذا خاطبهم الحسين (عليه السلام) بقوله: «إن كان الذنب ذنب الكبار، فما هو ذنب هؤلاء الأطفال؟»(2).
(1) قال تعالى: (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون). الحشر: 19.
(2) «ويلكم! إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون يوم المعاد، فكونوا في أمر دنياكم أحراراً ذوي أحساب، امنعوا رحلي وأهلي من طغامكم وجهّالكم». تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:450 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت. و«إنّي اُقاتلكم وتقاتلوني، والنساء ليس عليهنّ جناح». مثير الأحزان: 73 بحسب الطبعة الثالثة لمنشورات مدرسة الإمام المهدي (عليه السلام) بقم. و«إن لم ترحموني فارحموا هذا الطفل». تذكرة الخواصّ: 227 بحسب طبعة منشورات الشريف الرضي بقم.
وبهذه المشاركة أضاف للثورة رصيداً عاطفيّاً ضخماً، جعلها تحتلّ مركز القمّة بين الفواجع على طول التاريخ، وتحرّك مشاعر المسلمين وعواطفهم وأحاسيسهم إلى يومنا هذا.
والاُسلوب الثاني: اُسلوب التذكير والوعظ الذي استخدمه الإمام (عليه السلام) وصحبه (رضوان الله عليهم)؛ فلقد ذكَّر الإمامُ القومَ بقوله: «انسبوني من أنا، أَلستُ ابن بنت نبيّكم؟»(1)، ثمّ يقول: «لم تحاربونني؟! أَلِسُنّة غيّرتها أم لبدعة ابتدعتها؟!»(2). وفي موضع آخر يقول: «إن لم يكن لكم دينٌ وكنتم عرباً كما تزعمون، فكونوا أحراراً في دنياكم»(3)؛ ذلك في إشارة منه للقوم حينما هجموا على بيوت عقائل الرسالة، إلّا أنّهم
(1) «فانسبوني فانظروا من أنا.. ألست ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه وابن عمّه؟!». تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:424 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.
(2) «أتقتلوني على سنّة بدّلتها؟! أم على شريعة غيّرتها؟!». ينابيع المودّة لذوي القربى 3:80 بحسب الطبعة الاُولى لدار الاُسوة للطباعة والنشر بقم.
(3) «إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم هذه، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون». اللهوف على قتلى الطفوف: 120 بحسب طبعة منشورات جهان بطهران.
وصلوا حدّاً لم ينسوا دينهم فحسب، بل نسوا حتّى أعرافهم العربيّة التي تعوّدوها وتسالموا عليها.
ولهذا أيضاً نجد الإمام (عليه السلام) يصف حال الناس بقوله: «والدين لعقٌ على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديّانون»(1).
وعلى ضوء ما سبق نكون قد رسمنا صورة موجزة لمقوّمات الثورة من جهة ولحالة الاُمّة أيضاً: فالاُمّة ـ كما قلنا ـ بلغت حالة الاحتضار أو الموت، لا تقوى على المعارضة، وتعيش أزمة معقّدة من الخوف، في الوقت الذي يحاول الحكّام جرَّ الاُمّة إلى الهاوية، وقتل روح العزّة والكرامة، وتفتيت كيانها الحضاري، وإبعادها عن رسالتها السمحاء.
(1) كشف الغمّة في معرفة الأئمّة (عليهم السلام) 2:32 بحسب طبعة مكتبة بني هاشم بتبريز.
5النهضة الحسينيّة
مشاهد موت الإرادة في
المجتمع الحسيني
° التخويف بالموت من عقلاء المسلمين.
° موقف عبيدالله بن الحرّ الجعفي.
° موقف زعماء البصرة.
° مغادرة بني أسد محلّ سكناهم.
° موقف أهل الكوفة من مقتل رسول الحسين (عليه السلام) .
° الاندفاع نحو خطّ السلطة.
° محنة مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة.
° التناقض بين عمل الاُمّة وعواطفها.
قد(1) ذكرنا في المحاضرات السابقة أنّ(2) الإمام الحسين (عليه السلام) وقف ليعالج مرضاً من أمراض الاُمّة كما وقف من قبله أخوه الإمام الحسن (عليه أفضل الصلاة والسلام) ليعالج مرضاً آخر من أمراض الاُمّة:
فبينما قدّر للإمام الحسن (عليه السلام) أن يعالج مرض الشكّ في الاُمّة الإسلاميّة التي بدأت في عهد أميرالمؤمنين تشكّ في الخطّ الرسالي الذي سار عليه قادة أهل البيت (عليهم السلام)، واستفحل لديها هذا الشكّ حتّى تحوّل إلى حالة مَرَضيّة في عهد الإمام الحسن.. بينما عالج الحسن (عليه السلام)
(1) راجع: كتاب أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ودورهم في تحصين الرسالة الإسلاميّة، المحاضرة التاسعة عشرة: 495 بحسب الطبعة الثالثة والمحقّقة من قِبل اللجنة التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد السيّد محمّدباقر الصدر (قدس سره).
(2) راجع: ما تقدّم تحت عنوان: موقف الإمام الحسين (عليه السلام) على مستوى الاُمّة، وما تقدّم تحت عنوان: شرائح الاُمّة التي شكّلت مجال عمل الإمام الحسين (عليه السلام).
هذه الحالة المرضيّة التي لم يكن بالإمكان علاجها حتّى بالتضحية، عالج الإمام الحسين (عليه السلام) حالةً مرضيّةً اُخرى، هي حالة انعدام الإرادة مع وضوح الطريق.
الاُمّة الإسلاميّة التي كانت تشكّ ـ أو التي بدأت تشكّ ـ في واقع المعركة القائمة داخل الإطار الإسلامي بين الجناحين المتصارعين، اتّضح لها بَعْد هذا الطريقُ. لكنّ هذا الطريق اتّضحت لها معالمه بعد أن فقدت إرادتها، بعد أن نامت، واستطاع الذين اغتصبوها وسرقوا شخصيّتها وزوّروا إرادتها وأباحوا كرامتها، استطاعوا أن يخدّروها، وأن يجعلوها غير قادرة على مجابهة موقف من هذا القبيل.
هذه الحالة المَرَضِيّة الثانية عالجها الإمام الحسين (عليه السلام) بالموقف الذي شرحناه(1)، وشرحنا أنّه كان بالإمكان عدّة بدائل للموقف الذي اتّخذه الإمام الحسين (عليه السلام)، إلّا أنّ كلّ البدائل الممكنة والمتصوّرة لم تكن تحقّق الهدف في علاج هذه الحالة المَرَضيّة، وكان الطريق الوحيد لعلاج هذه الحالة المَرَضيّة هو الخطّ الذي سار عليه سيّد الشهداء (عليه أفضل الصلاة والسلام).
وهنا نحاول أن نستعرض عمق هذا المرض في جسم الاُمّة الإسلاميّة؛
(1) تحت عنوان: مبرّرات الإمام الحسين (عليه السلام) في اختيار (الموقف الرابع).
حتّى نعرف أنّه بقدر عمق هذا المرض في جسم الاُمّة الإسلاميّة لابدّ وأن يفكّر في العلاج أيضاً بتلك الدرجة من العمق.
وإذا كان من المقدّر ـ كما فهمنا في محاضرة سابقة ـ أنّ العلاج الوحيد للحالة المَرضيّة الثانية هذه هو التضحية، فبقدر ما يكون هذا المرض عميقاً في جسم الاُمّة يجب أن تكون التضحية أيضاً عميقةً مكافئةً لدرجة عمق هذا المرض في جسم الاُمّة، وهذا المرض كان يشمل كلّ قطّاعات الاُمّة(1)، عدا بصيص هنا وهناك تجمّع على الإمام الحسين (عليه السلام) خلال خطّ عمله وحركته.
المشهد الأوّل: التخويف بالموت من عقلاء المسلمين:
نلاحظ كيف أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) حينما قرّر السفر من المدينة إلى مكّة، أو في النهاية حينما قرّر الهجرة من الحجاز متّجهاً إلى العراق، متّجهاً إلى تسلّم مسؤوليّاته كشخص ثائر حاكم على طواغيت بني اُميّة.. نرى كيف أنّ هذا الإمام الذي رُسِمَ له هذا الخطّ، كيف كان يتلقّى من كلّ صوب وحدب النصائح من عقلاء المسلمين ـ أو مَن يسمّون يومئذ
(1) تقدّم ذلك تحت عنوان: مبرّرات الإمام الحسين (عليه السلام) في اختيار (الموقف الرابع).
بعقلاء المسلمين ـ الذين يؤثرون التعقّل على التهوّر.. كيف أنّ هؤلاءالعقلاء أجمعت كلمتهم على أنّ هذا التصرّف من الإمام الحسين (عليه السلام) ليس تصرّفاً طبيعيّاً؛ كانوا يخوّفونه بالموت، كانوا يقولون له: «كيف تثور على بني اُميّة وبنو اُميّة بيدهم السلطان، بيدهم الرجال والمال، بيدهم كلّ وسائل الإغراء والترغيب والترهيب؟!».
كانوا يحدّثونه عن النتائج التي وصل إليها الإمام عليّ (عليه السلام) في صراعه مع بني اُميّة، والتي وصل إليها الإمام الحسن (عليه السلام) في صراعه مع بني اُميّة. كانوا يمنّونه السلامة، كانوا لا يتصوّرون أنّ التضحية يمكن أن تكون بديلاً لحياة بالإمكان الاحتفاظ بأنفاسها مهما كانت هذه الأنفاس، ومهما كانت ملابسات هذه الأنفاس.
هذه النصائح لم يتلقَّها الإمام الحسين (عليه السلام) من رعاع أو من عوام، وإنّما تلقّاها من سادة المسلمين، من الأشخاص الذين كان بيدهم الحلّ والعقد في المجتمع الإسلامي، تلقّاها من أشخاص من قبيل: عبدالله بن عبّاس(1)، وعبدالله بن عمر بن الخطّاب(2)، وعبدالله بن جعفر الطيّار(3)،
(1) الفتوح 5:66 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.
(2) المصدر السابق: 23.
(3) تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:387 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.
ومن قِبَل أخيه محمّد بن الحنفيّة(1)، ومن قِبَل غيرهم من سادة الرأيفي المجتمع الإسلامي.
حتّى إنّ عبدالله بن جعفر، الذي هو ابن عمّه، وابن أخي عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، بالرغم من وشائج النسب الوثيق، بالرغم من ارتباطه النَسَبي بالخطّ كان منهاراً نفسيّاً، إلى الدرجة التي أرسل فيها رسالة إلى الإمام الحسين (عليه السلام) حينما سمع بعزمه على سرعة الخروج من مكّة: «أنْ انتظر حتّى ألحق بك»، وماذا كان يريد من هذا الانتظار؟
والإمام الحسين (عليه السلام) لم ينتظره. حينما وصل عبدالله بن جعفر إلى مكّة كان الإمام الشهيد (عليه السلام) قد خرج من مكّة، فذهب عبدالله بن جعفر رأساً إلى والي بني اُميّة في مكّة، وأخذ منه كتاب الأمان للإمام الحسين (عليه السلام)، وذهب بالكتاب إلى الحسين (عليه السلام)، وهو يرى أنّه قد استطاع بهذا أن يقضي على كلّ مبرّرات خروج الإمام الحسين، لماذا يخرج الحسين (عليه السلام) من مكّة؟ لأنّه خائف في مكّة، وقد جاء الأمان له من سلاطين بني اُميّة(2).
(1) المصدر السابق: 341.
(2) المصدر السابق: 387 ـ 389.
هذه النصائح كانت تعبّر عن نوع من الانهيار النفسي الكامل الذي شمل زعماء المسلمين وسادة المسلمين، فضلاً عن الجماهير التي كانت تعيش هذا الانهيار مضاعفاً في أخلاقها وسلوكها وأطماعها ورغباتها.
هذه السلبيّة والبرود المطلق الذي كان يواجهه الإمام الحسين (عليه السلام)، أو تواجهه حركة الإمام الحسين، بالرغم من قوّة المثيرات، هذا البرود المطلق ـ في لحظات ترقّب العطاء الحقيقي، هذا البرود ـ كان يعبّر عن ذلك الانهيار النفسي على مختلف المستويات.
المشهد الثاني: موقف عبيدالله بن الحرّ الجعفي:
عبيدالله بن الحرّ الجعفي يقصده الحسين (عليه السلام) بنفسه، يقصده إلى خيمته، يتوسّل به على أن يرتبط بهذا الخطّ، يتّصل بهذا الخطّ، وهو أعرف الناس بصحّة هذا الخطّ وصواب هذا الخطّ، فيعزّ عليه أن يقدّم قطرةً من دمه، يعزّ أن يقدّم شيئاً سوى الفرس(1)، ولم يستطع أن يذوق طعم التضحية إلّا على مستوى تقديم فرس واحدة.
(1) تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:407 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.
المشهد الثالث: موقف زعماء البصرة:
الإمام الحسين (عليه السلام) يكتب إلى ستّة من زعماء البصرة، يختارهم من اُولئك الذين لهم ارتباطات مع خطّ الإمام علي (عليه السلام).
زعماء البصرة على قسمين: زعماء مرتبطون مع خطّ بني اُميّة، مرتبطون مع خطّ طلحة والزبير، وزعماء يرتبطون مع خطّ الإمام علي ومدرسة الإمام علي (عليه السلام).
يختار الإمام الشهيد (عليه السلام) ستّةً من الأشخاص الذين يرتبطون بمدرسة الإمام علي (عليه السلام) ويشعرون بالولاء لمفاهيم هذه المدرسة وشعاراتها وأهدافها(1)، يكتب إليهم، يستنصرهم ويستصرخهم، ويشعرهم بالخطر الداهم الذي تواجهه الاُمّة الإسلاميّة متمثّلاً في كسرويّة وقيصريّة يزيد بن معاوية(2).
(1) «وقد كان الحسين بن علي قد كتب إلى رؤساء أهل البصرة، مثل: الأحنف بن قيس ومالك بن مسمع والمنذر بن الجارود وقيس بن الهيثم ومسعود بن عمرو وعمر بن عبيدالله بن معمر، فكتب إليهم كتاباً يدعوهم فيه إلى نصرته والقيام معه في حقّه». المصدر السابق: 357.
(2) راجع: المنتظم في تاريخ الاُمم والملوك 5:299 بحسب الطبعة الاُولى لدار الكتب العلميّة ببيروت.
فماذا يكون ردّ الفعل لهذه الرسالة؟!
يكون ردّ الفعل إذا استثنينا شخصاً واحداً، وهو ]يزيد[ بن مسعود النهشلي الذي كتب مستجيباً، إذا استثنينا هذا الشخص الواحد يكون ردّ الفعل هو البرود المطلق، أو الخيانة.
أ ـ يبعث أحدهم برسول الحسين (عليه السلام) (1) إلى عبيد الله بن زياد، وكان وقتئذ والياً على البصرة ـ صدّقوا: أنّ هذا الشخص الذي قام بهذا العمل هو من شيعة عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وكان علويّاً(2)، ولكنّه علويٌّ فَقَدَ كلَّ مضمونه، فقد كلَّ معناه، فقد كلّ إرادته ـ جاء إلى هذا الرسول، أخذه مع الرسالة إلى عبيد الله بن زياد، لماذا؟ لا حبّاً في عبيد الله بن زياد، ولا إيماناً بخطّ عبيد الله بن زياد، ولكن حفاظاً على نفسه، وابتعاداً بنفسه عن أقلّ مواطن الخطر، عسى أن يصطلح في يوم ما عبيد الله بن زياد.
على أنّ ابن رسول الله كتب إليه يستصرخه، وهو لم يكشف هذه الورقة للسلطة الحاكمة وقتئذ لكي لا يتّخذ هذا نقطة ضعف عليه، لكي يبتعد عن
(1) رسول الحسين (عليه السلام) مولى اسمه سليمان، والذي بعث به إلى عبيد الله هو المنذر بن الجارود.
(2) حيث شهد الجمل مع عليّ (عليه السلام)، انظر: المعرفة والتاريخ 3:313 بحسب الطبعة الثانية لمؤسّسة الرسالة ببيروت.
أقلّ نقاط الضعف، ولكي يوفّر له كلّ عوامل السلامة، وكلّ ضمانات البقاء الذليل.. لكي يوفّر له كلّ ضمانات البقاء الذليل أخذ رسول الإمام الحسين (عليه السلام) ، وأخذ الرسالة، وقدّم الرسالة والرسول بين يدي عبيد الله بن زياد، فأمر عبيد الله بن زياد بالرسول فقتل رضوان الله عليه(1).
ب ـ شخص آخر من هؤلاء الزعماء: الأحنف بن قيس، الذي عاش مع خطّ جهاد الإمام علي، الذي عاش مع حياة الإمام عليّ (عليه السلام) عن قرب، وتربّى على يديه(2)، ماذا كان جوابه لابن الإمام علي (عليهما السلام) ؟!
قال له في رسالة أجاب بها على رسالته، قال له: «(وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ)(3)»(4)، أمره بالتصبّر والتريّث، وقال له بأنّه لا يستخفّنّك الذين لا يوقنون، معرّضاً بالطلبات التي كان الإمام الحسين (عليه السلام) يتلقّاها من شيعته.
(1) تاريخ الاُمم والملوك، 5:357 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.
(2) اعتزل الجمل وشهد صفّين، انظر: أسد الغابة في معرفة الصحابة 1:69 بحسب طبعة دار الفكر ببيروت.
(3) الروم: 60.
(4) أنساب الأشراف 3:163 بحسب الطبعة الاُولى لدار التعارف للمطبوعات ببيروت.
كيف تبرّر الاُمّة المهزومة هزيمتها؟
وفي الواقع: إنّ رسالة الأحنف تعبّر في الحقيقة عن أخلاقيّة الاُمّة المهزومة، عن أخلاقيّة الاُمّة في حال الهزيمة؛ فإنّ الاُمّة في حالة تعرّضها للهزيمة النفسيّة، في حالة فقدانها لإرادتها وعدم شعورها بوجودها كاُمّة، في مثل هذه الحالة تنشأ لديها بالتدريج أخلاقيّة معيّنة هي أخلاقيّة هذه الهزيمة.
وأخلاقيّة هذه الهزيمة تصبح قوّة كبيرة جدّاً بيد صانعي هذه الهزيمة لإبقاء هذه الهزيمة وإمرارها وتعميقها وتوسيعها.. فيصبح العمل الشجاع تهوّراً، ويصبح التفكير في شؤون المسلمين استعجالاً، ويصبح الاهتمام بما يقع على الإسلام والمسلمين من مصائب وكوارث ـ يصبح كلّ هذا الاهتمامُ ـ نوعاً من الخفّة واللا تعقّل، نوعاً من العجلة وقلّة الأناة، نوعاً من التسرّع في العمل أو التفكير، هذه الأخلاقيّة هي أخلاقيّة الهزيمة التي تصطنعها الاُمّة لكي تبرّر هذه الهزيمة.
الاُمّة حينما تُهزم، حينما تشعر بأنّها قد انتهت مقاومتها، تنسج بالتدريج مفاهيم غير مفاهيمها الاُولى، وقيماً وأهدافاً ومُثُلاً غير القيم والمثل والأهداف التي كانت تتبنّاها في الأوّل، لكي تبرّر ـ أخلاقيّاً
ومنطقيّاً وفكريّاً ـ الموقف الذي تقفه.
فالإمام الحسين (عليه السلام) في الواقع كان يريد أن يبدّل هذه الأخلاقيّة، كان يريد أن يصنع أخلاقيّةً جديدةً لهذه الاُمّة تنسجم مع القدرة على التحرّك، مع القدرة على الإرادة.
حينما كان يقول الإمام الحسين (عليه السلام): «لا أرى الحياة مع الظالمين إلّا برماً»(1) لم يكن هذا مجرّد شكوى، وإنّما كان هذا عمليّة تغيير لأجل إيجاد ـ أو لأجل الإرجاع في الواقع، لأجل إرجاع ـ هذه الأخلاقيّة الاُخرى التي فقدها الأحنف بن قيس، وفقدها كلُّ الناس الذين مشوا مع الأحنف بن قيس. هؤلاء الذين تبدّل عندهم مفهوم: وليست الحياة مع الظالمين إلّا جحيماً وشقاءً، تبدّل هذا المفهوم إلى مفهوم لزوم الحفاظ على الحياة وعلى النَّفَس الذي يصعد وينزل، مهما كان مضمون هذا النَّفَس، ومهما كانت ملابسات هذا النَّفَس.
كان لابدّ من صنع هذه الأخلاقيّة الجديدة التي تهزُّ ضمير الاُمّة وتحرّكها وتصنع لها إرادتها من جديد.
(1) تاريخ الاُمم والملوك 5:404 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.
المشهد الرابع: مغادرة بني أسد محلّ سكناهم:
حبيب بن مظاهر يستأذن من الإمام الحسين (عليه السلام) أن يذهب ويدعو عشيرته بني أسد للالتحاق بخطّ سيّد الشهداء (عليه السلام)، وكلّ المسلمين يعرفون من هو حبيب بن مظاهر، في مواقفه، وفي جهاده، في بياض تاريخه، في صفاء سيرته، وفي ورعه وتقواه.
يذهب حبيب بن مظاهر ليطلب العون والمدد من عشيرة بني أسد للإمام (عليه السلام)، وتكون النتيجة لذلك أنّ عشيرة بني أسد تغادر بأجمعها تلك الليلة المنطقة، وتنسحب هذه العشيرة انسحاباً إجماعيّاً.
فيرجع حبيب بن مظاهر ليبلّغ الإمام الحسين (عليه السلام) هذه النتيجة الغريبة، أنّ عشيرةً تخشى أن تبقى بعد اليوم، بل تخشى أن تبقى حتّى حياديّة؛ لأنّ بالإمكان أنّ عمر بن سعد لا يكتفي بهذا الحياد، فتغادر المنطقة نهائيّاً. ولم يكن جواب سيّد الشهداء (عليه السلام) على ذلك إلّا قال: «لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم»(1).
هذا البرود، هذا السكون، هذه الهزيمة النفسيّة قبل الهزيمة الخارجيّة، هذه الهزيمة هي مرض الاُمّة الذي كان يعالجه الإمام الحسين (عليه السلام).
(1) الفتوح 5:90 ـ 91 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.
المشهد الخامس: موقف أهل الكوفة من مقتل رسول الحسين(عليه السلام):
الصيداوي ـ أظنّه قيس بن مسهّر الصيداوي(1) ـ الذي أرسله الإمام الحسين (عليه السلام) ، الذي أرسله لكي يبلّغ رسالته إلى أهل الكوفة، لكي يُعطي لأهل الكوفة إشعاراً بأنّه في الطريق وأنّه على الأبواب، هذا الرسول يدخل الكوفة بعد أن انقلبت الكوفة، وبعد أن تغيّرت الكوفة غير الكوفة، وسيطر عبيد الله بن زياد على كلّ القطّاعات العسكريّة في الكوفة، يؤخذ أسيراً إلى عبيد الله بن زياد.
وقبل أن يصل إلى عبيد الله بن زياد يمزّق الكتاب، فيقف بين يدي عبيد الله بن زياد، يقول له: «لماذا مزّقت الكتاب؟»، يقول: «لأ نّي لا اُريد أن تطّلع عليه»، يقول: «وماذا كان فيه؟»، يقول: «لو كنت اُريد أن اُخبرك لما مزّقت هذا الكتاب»، فيقول له عبيد الله بن زياد: «إنّي أقتلك، إلّا إذا صعدت على هذا المنبر وقلت بالصراحة شيئاً في سبِّ عليِّ بن أبي طالب والحسن والحسين».
(1) كان أهل الكوفة قد أرسلوه بكتبهم إلى الحسين (عليه السلام)، ثمّ أرسله (عليه السلام) مع مسلم إليهم، ثمّ أرسله بكتابه إلى أهل الكوفة، حيث أخذه الحصين بن تميم وبعث به إلى عبيد الله بن زياد. راجع: تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:352، 354، 394 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.
هذا الرسول الأمين يغتنمها فرصة، ويصعد على المنبر في هذه اللحظةالحاسمة، في آخر لحظة من حياته.. في هذا الإطار العظيم من البطولةوالشجاعة والتضحية، أمام عبيد الله بن زياد وأمام شرطته وجيشه، يوجّه خطابه إلى أهل الكوفة ويقول: «أنا رسول الحسين إليكم، إنّ الحسين على الأبواب»، يؤدّي هذه الرسالة بكلّ بطولة وبكلّ شجاعة، فيأمر عبيد الله بن زياد به فيقتل.
وماذا يكون الصدى لمثل هذه الدفعة المثيرة القويّة؟!
هؤلاء الذين كتبوا إلى الإمام الحسين (عليه السلام) يطلبونه، الآن رسول الإمام الحسين (عليه السلام) على المنبر بهذا الشكل غير الاعتيادي، رسول الإمام الحسين (عليه السلام) على المنبر والسيف فوق رقبته، وهو يودّع الحياة في آخر لحظة من اللحظات، وهو يبلّغهم الرسالة بكلّ أمانة وشجاعة، ويضحّي في سبيل تبليغها بدمه، بروحه، فماذا يكون أثر ذلك؟
يكون أثر ذلك أنّه حينما يأمر عبيد الله بن زياد به أن يُقتل فيُقتل، يأتي شخصٌ من أهل الكوفة(1) فيقطع رأسه، فيقال له: لماذا قطعت رأسه؟ يقول: لكي اُريحه بذلك(2).
(1) هو: عبدالملك بن عمير اللخمي.
(2) وردت هذه الزيادة في: أنساب الأشراف 3:169 بحسب الطبعة الاُولى لدار التعارف للمطبوعات ببيروت، والإرشاد في معرفة حجج الله على العباد 2:71 بحسب طبعة دار المفيد ببيروت.
هذه الاُمّة لا تفكّر إلّا هذا المستوى من الشفقة في حياتها، الشفقة التي تشعر بها هي الشفقة على هذا المستوى. أمّا الشفقة على الوجود الكلّي، الشفقة على الكيان، والشفقة على العقيدة، هذه الشفقة انتزعت من قلوبها؛ لأنّها شفقة تكلّف ثمناً غالياً.
الشفقة التي لا تكلّف ثمناً هي أن يقطع رقبة هذا الشخص، أن يريحه من هذه الحياة، من الحياة في ظلِّ عبيد الله بن زياد. ولكنّ الشفقة التي تكلّف ثمناً، تلك الشفقة انتزعت من قلوبهم.
هذه المظاهر من البرود والسكون بالرغم من قوّة الإثارة، هذه المظاهر هي دليلٌ على عمق ما وصلت إليه الاُمّة من انحلال.
المشهد السادس: الاندفاع نحو خطّ السلطة:
إلى جانب ذلك، أو في عكس ذلك: ذلك الاندفاع المحموم نحو خطّ السلطان، نحو خطّ الحكم القائم.
فعبيد الله بن زياد استطاع خلال اُسبوعين ـ أو خلال ثلاثة أسابيع على أكثر تقدير ـ بعد مقتل مسلم بن عقيل (رضوان الله عليه) إلى أوّل
المحرّم أن يجنّد عشرات الاُلوف من أبناء هذا البلد، الذي كان ـ ولا يزالإلى ذلك الوقت ـ يحمل رسالة علي (عليه السلام)، والولاء لعلي، جنّد من هذا البلد عشرات الآلاف، واستجاب له مئاتٌ من الأشخاص الذين كانوا قد حاربوا مع الإمام علي (عليه السلام) في صفّين، وحاربوا مع الإمام علي في سائر مراحل جهاده:
أ ـ استجاب له شخصٌ من قبيل عمرو بن الحجّاج. ومن هو عمرو بن الحجّاج؟
عمرو بن الحجّاج هو من اُولئك الذين اضطُهدوا في سبيل الإمام علي (عليه السلام)، ومن اُولئك الذين عاشوا المحنة أيّام زياد، ولكنّه لم يستطع أن يواصل المحنة، طلّق عقيدته قبل أن يصل إلى آخر الشوط؛ لأنّه شعر أنّ هذه العقيدة تكلّف ثمناً غالياً، وأنّه إذا طلّقها أمكنه أن يشتري بدلاً عنها دنيا واسعة.
هذا الشخص (عمرو بن الحجّاج) الذي رافق الإمام عليّاً (عليه السلام) في جهاده انهار أخيراً، انتهت إرادته، وانتهت شخصيّته كإنسان مسلم يفكّر في الإسلام.
عمرو بن الحجّاج نفسه هو الذي كلّفه عمر بن سعد بأسوأ عمل يمكن أن يُكلَّف به إنسان، كلّفه بالحيلولة دون سيّد الشهداء (عليه السلام) والماء، فبقي واقفاً على الماء يمنع ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) والبقيّة الباقية من ثقل النبوّة عن أن يشربوا من الماء.
ب ـ واستجاب لذلك شبث بن ربعي. ومن هو شبث بن ربعي؟
هذا الرجل الذي عاش مع جهاد أميرالمؤمنين (عليه السلام)، هذا الرجل الذي كان يعي مدلول حرب صفّين، وكان يدرك بأنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) في حرب صفّين يمثّل رسول الله (صلى الله عليه وآله) في غزوة بدر.
ولكنّ الدنيا، ولكنّ الانهيار النفسي، ولكنّ النَّفَسَ القصير خَنَقَه في النهاية، فذاب وتميّع، واشتدّ تميّعه بالتدريج، إلى أن وصل إلى حدٍّ أنّ عبيد الله بن زياد يبعث عليه ليقاتل الحسين ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فماذا يكون العذر؟ ماذا يكون الجواب؟
لا يملك أن يعتذر بعذر من الأعذار إلّا أن يقول: «أنا مريض»؛ يعتذر بأنّه مريض، كلمة باردة جدّاً على مستوى بروده النفسي.
ثمّ يبعث عبيد الله بن زياد إليه الرسول مرّة اُخرى، يقول: «المسألة حدّيّة، لا مرض في هذه الحالة، إمّا أن تكون معنا، وإمّا أن تكون عدوّنا».
فبمجرّد أن يتلقّى هذه الرسالة ويعرف أنّ المسألة حدّيّة يقوم شبث بن ربعي ويلبس ما كان يلبسه، ثمّ يخرج متّجهاً إلى عبيد الله بن زياد وهو يقول: «لبّيك»(1).
(1) «أمّا شبث فاعتلّ بمرض، فقال له ابن زياد: أتتمارض؟ إن كنت في طاعتنا فاخرج إلى قتال عدوّنا، فلمّا سمع شبث ذلك خرج». الأخبار الطوال: 254 بحسب طبعة منشورات الشريف الرضي بقم، والفتوح 5:89 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.
وكان شبث قد استجاب قبل ذلك لطلب ابن زياد في تفريق الناس عن مسلم بن عقيل. راجع: تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 5:369 ـ 370 بحسب الطبعة الثانية لدار التراث ببيروت.
هذه الاستجابات من هذا الطرف وذاك البرود وتلك السلبيّة من ذلك الطرف هو أكبر دليل على هذا المرض.
المشهد السابع: محنة مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة:
والدليل الذي هو أكبر من هذا هو محنة مسلم وهانئ. محنة مسلم وهانئ التي يقلّ نظيرها في التاريخ، هذه المحنة تصوّر هذا المرض ـ وهو في قمّته، وهو في شدّته ـ بأفظع تصوير.
قد يذهب وهمُ الإنسان إلى أنّ مسلم بن عقيل (رضوان الله عليه) كيف استطاع ـ أو كيف اتّفق له ـ أن يفرّط بكلّ هذه القوى الضخمة التي كانت بين يديه؟! كيف فرّط بهذه القوى الشعبيّة التي بين يديه؟! بين عشيّة وضحاها بقي وحيداً فريداً يتسكّع في الطرقات؟! كيف فرّط بمثل هذه القوى؟! كيف لم يستثمر هذه القوى في معركته مع عبيد الله بن زياد؟!
في الواقع: إنّ هذه القوى لم تكن قوىً إلّا على الورق، لم تكن هذه القوى قوىً إلّا في سجلّ تسجيل الأسماء حينما سجّل الأسماء فبلغت ثمانية عشر ألفاً(1)، أو بلغت عشرين ألفاً(2)، أو بلغت ثلاثين ألفاً(3)، كانت قوىً على الورق؛ وذلك لأنّ هؤلاء الثمانية عشر ألفاً أو العشرين ألفاً كانوا جزءاً من هذه الاُمّة الميْتة، من هذه الاُمّة المنهارة.
هذا الانهيار العجيب المفاجئ في لحظة، هذا الانهيار العجيب المفاجئ في ساعة هو يعكس تلك الهزيمة السابقة.. هذه الهزيمة وراؤها هزيمة: هزيمة النفس، هزيمة الوجدان، هزيمة الضمير، تلك الهزيمة في النفس والوجدان والضمير هي أساس هذه الهزيمة(4):
أ ـ عبيد الله بن زياد يبعث على هانئ بن عروة، يقول له: «تعالَ زر الأمير، الاُمراء لا يطيقون الجفاء، لماذا أنت منقطع عن الأمير؟»، هذا
(1) الأخبار الطوال: 241، 243، 253 بحسب طبعة منشورات الشريف الرضي بقم.
(2) الوارد في كتاب مسلم بن عقيل إلى الإمام الحسين (عليه السلام) يبشّره فيه بمبايعة أهل الكوفة له بحسب نقل ابن الأعثم: «نيّف وعشرون ألفاً». الفتوح 5:45 بحسب الطبعة الاُولى لدار الأضواء ببيروت.
(3) المختصر في أخبار البشر 1:235 بحسب طبعة دار المعارف بمصر.
(4) أي: «الانهيار العجيب المفاجئ في ساعة».