260

وسعتها أمرٌ زائدٌ على أصل النجاسة، حاله حال فرض نجاسة مستقلّة، فإنْ كانت الثانية لا تتنجّز بالعلم الأوّل، فكذلك السعة والزيادة لا تتنجّز به.

وثانياً: أنّ مصبّ التنجيز بتعلّق العلم به بحسب الحقيقة، هو حرمة شرب النجس، أو التوضّوء به، أو الصلاة فيه، لا نجاسته، ولو سلّمنا أنّ نجاسة الملاقي متّحدة مع نجاسة الملاقى فمن الواضح أنّ حرمة الملاقي حكم آخر غير حرمة الملاقى، وطرف العلم الإجمالي الأوّل كان هو الحكم الأوّل دون الثاني.

نعم، هنا تفسير آخر للانبساط، يتمّ بناءً على القول بالتنجيز بالعلم الإجمالي الأوّل، إلّا أنّ الانبساط بهذا التفسير ليس إلّا خيالاً شعرياً، وذلك عبارة عن أنْ يقال: إنّ الشريعة أمرتنا بالاجتناب عن النجس، وإنّ الاجتناب عن النجس يكون بمعنىً لا يتحقق إلّا بتركه وترك ملاقيه، وإنّ هذا الاجتناب ليس هو عين التركين أو منطبق عليهما، كي يقال بالانحلال: إلى ما هو طرف للعلم الإجمالي الأوّل، وما ليس طرفاً له، وإنـّما هو أمر بسيط متحصّل بالتركين، والشكّ في أحدهما شكّ في المحصّل، فلا بدّ من ترك الملاقى والملاقي معاً، كي يحصل له القطع بالعمل بما تنجّز عليه من الاجتناب عن النجس.

ولكن لم يرد علينا في الشريعة الأمر بتحصيل عنوان بسيط متحصّل من ترك النجس وترك ما يلاقيه، وإنـّما الذي ورد في الأخبار عبارة عن النهي عن التوضّوء والنهي عن الشرب، ونحو ذلك، ومن المعلوم أنّ عدم التوضّوء به أو عدم شربه مغاير لعدم التوضّوء بملاقيه وعدم شربه، والنهي المتعلّق بهذا غير النهي المتعلّق بذاك(1) .

 

العلم الإجمالي في الملاقي

وأمـّا المقام الثاني ـ وهو تنجيز العلم الإجمالي الثاني بالنجاسة لحرمة الملاقي وعدمه ـ فلا إشكال في عدم تنجيزه إذا حصل بعد خروج طرف الملاقى عن محلّ الابتلاء بانعدامه، أو تطهيره، أو غير ذلك، وإنـّما الكلام يقع في غير هذا


(1) ولو سلّمنا دخول المقام في الشكّ في المحصّل، لزم وجوب الاجتناب عن كل ما احتملنا ملاقاته لنجس متنجز علينا بالعلم الإجمالي أو التفصيلي .

261

الفرض، والأصحاب (قدّس الله أسرارهم) بين قائل بعدم التنجيز مطلقاً، وقائل بالتفصيل في ذلك. والصحيح هو التنجيز مطلقاً.

وهذا العلم الإجمالي في حدّ ذاته تامّ الجهات، فلا بدّ في دعوى عدم تنجيزه من إبراز نكتة أوجبت عدم التنجيز. وللأصحاب وجوه عديدة في إبراز نكتة عدم التنجيز نبحثها تباعاً في المقام:

 

بيان السيّد الاُستاذ

الوجه الأوّل: ما اعتمد عليه السيّد الاُستاذ(1)، وهو مختصّ بفرض تقدّم العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو طرفه زماناً على العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو طرف الملاقى، ويفرض فى هذا الوجه أنّ العلم الإجمالي مقتض لوجوب الموافقة القطعيّة، وليس علّة تامّة له.

وبيانه: أنّ العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو طرف الملاقى مسبوق زماناً بالعلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو طرفه، وهذا يوجب صحّة التمسّك بأصالة الطهارة في الملاقي، لا لدعوى انحلال العلم الإجمالي الثاني بالأوّل حقيقة، ولا لدعوى انحلال الأثر العقلي للعلم الثاني ـ بمعنى زوال علّيّته أو اقتضائه للتنجيز ـ بل العلم الثاني باق حقيقة، وباق على صفة اقتضائه للتنجيز، إلّا أنّ تأثير الاقتضاء خارجا مشروط بعدم المانع ـ وهو جريان الأصل الترخيصي في أحد الطرفين وحده ـ والمانع هنا موجود، وهو أصالة طهارة الملاقي، ولا تعارض بأصالة الطهارة في طرف الملاقى، لأنّ هذا الأصل قد سقط في الزمان السابق بالمعارضة لأصالة طهارة الملاقى، فأصالة الطهارة الجارية في الملاقي الآن خالية عن المعارض.

ويرد عليه: أوّلاً: ما مضى في بعض الأبحاث السابقة(2) من أنّ المانع عن جريان الأصلين السابقين بقاءً إنـّما هو العلم الإجمالي بوجوده البقائي، ولذا لو انحلّ العلم الإجمالي بعد حدوثه بالعلم التفصيلي: بأنّ الإناء الشرقي كان نجساً من أوّل الأمر، والشكّ البدوي في نجاسة الإناء الآخر، فلا إشكال في جريان الأصل فيه بقاءً،


(1) راجع مصباح الاُصول: ج 2، ص 415، والدراسات: ج 3، ص 265 ـ 266.

(2) مضى ذلك في التنبيه الخامس.

262

وعليه نقول: إنّ العلم الإجمالي الأوّل بوجوده البقائي مقارن زماناً لحدوث العلم الإجمالي الثاني، فلا وجه لاختصاص المانعيّة والتأثير بأحدهما دون الآخر، فهما يمنعان في عرض واحد عن جريان الاُصول، فأصالة الطهارة في طرف الملاقى لها معارضان في عرض واحد، وهما: أصالة الطهارة في الملاقى، وأصالة الطهارة في الملاقي، فيتساقط الجميع (1).

وثانياً ـ أنّ هذا الكلام غير صحيح حتّى لو فرض أنّ المانع عن الأصلين السابقين بقاءً هو العلم الإجمالي بوجوده الحدوثي. وتوضيح ذلك: أنّ هناك خطأ في أصل سير التفكير الذي أدّى بصاحبه إلى القول بأنّ الأصلين السابقين تعارضا وتساقطا، وهذا الأصل الجديد خال عن المعارض، ونحن في الجواب الأوّل جارينا هذا السير في التفكير، وحافظنا على مباني الإشكال، ومع ذلك أبطلنا الإشكال بما عرفت من تعاصر العلمين، لأنّ العلم الأوّل إنـّما يؤثّر بقاءً بوجوده البقائي المعاصر للعلم الثاني.

والآن نريد أنْ نبرز الخطأ في مبنى التفكير الذي وقع في المقام، فنقول: إنّ فرض عدم ابتلاء الأصل الثالث بالمعارض بمجرّد أنّ ما كان يعارضه قد سقط في زمان سابق بمعارض آخر له، إنـّما يعقل على أحد تصوّرين: ـ

الأوّل: أنْ يجرّد من كلّ واحد من الاُصول الثلاثة كلام خاصّ، فيتصوّر أنـّها تكون من قبيل ما إذا صدر من المولى في أوّل الصباح كلامان متعارضان، وصدر بعد ذلك كلام آخر مستقلّ يطابق أحد الكلامين الأوّلين، ويخالف الآخر، فيؤخذ هنا طبعاً بالكلام الثالث، ولا يجعل طرفاً للمعارضة لما خالفه من الكلام المتّصل بالكلام الآخر، وأنت ترى أنّ هذا قياس مع الفارق، ففي مثال الكلمات الثلاث قد ابتلى الأوّلان بالإجمال على أساس الاتصال والتهافت، وبقى الثالث غير المجمل بلا معارض، أمـّا في المقام فهذه الاُصول الثلاثة نسبتها إلى كلام المولى من حيث الصدور على حدّ سواء، كما هو واضح.


(1) وكذلك الحال لو فرضنا أنّ العلم الإجمالي بوجوده الحدوثي يسقط الأصل بقاءً، بمعنى تأخّر التأثير عن المؤثر، فيصبح تأثير العلم الأوّل في عرض العلم الثاني، أمّا لو فرضنا أنّ العلم الإجمالي بوجوده الحدوثي أسقط في زمانه الأصل المتأخّر، فعندئذ يأتي مورد لتوهم بقاء الأصل الآخر بلا معارض على أساس الغفلة عن الجواب الثاني الذي سيبيّنه اُستاذنا (رحمه الله) .

263

الثاني: أنْ يتصوّر أنّ المعارضة بين الاُصول تكون بلحاظ زمان الفعلية، فالأصلان الأوّلان حينما أصبحا فعليّين تعارضا وتساقطا، والأصل الثالث أصبح فعليّاً في وقت لا يوجد أصل فعلي آخر يعارضه، والمخصّص لدليل الأصل في هذا الزمان المتأخّر لم يدلّ على أزيد من أنـّه لا يتمّ جريان الأصل الثالث مع الأصل في طرف الملاقى معاً، وهذا المخصّص لا أثر له في المقام بعد أن علمنا أنّ الأصل في طرف الملاقى غير جار من قبل .

وهذا ما نوضّح بطلانه بذكر أمرين:

الأمر الأوّل: أنّ الخطابات الشرعية المجعولة على نهج القضايا الحقيقيّة على الموضوعات المقدّرة الوجود إنـّما تتكفّل مرتبة الجعل، وأمـّا فعليّة الحكم ـ سواء آمـنّا بها بالمعنى المشهور، أو قصدنا بها طرفيّة الشيء للحكم ـ فهي تبع لفعليّة الموضوع، وحيث إنّ تلك الخطابات إنـّما تتكفّل مرحلة الجعل، وبقطع النظر عن فعليّة الموضوع خارجاً فهي تنظر إلى تلك الموضوعات في عرض واحد، وإنْ فُرض تدرّجها زماناً بحسب الوجود الخارجي.

الأمر الثاني: أنّ التعارض الواقع في مفاد دليل بلحاظ فردين منه إنـّما هو تعارض في نفس عالم الجعل ومنذ البدء، وليس يحدث بعد فعليّة فردين من موضوع بعد أنْ لم يكن هناك تعارض، فإنّ هذا غير معقول، لأنّ التعارض يكون في الدلالة، والدلالة إنـّما تتكفل ـ كما مضى في الأمر الأوّل ـ مرحلة الجعل والحكم على تقدير الموضوع لا مرحلة الفعلية.

وبكلمة اُخرى: أنّ المنافاة بين الحكمين إمـّا أنْ يفرض أنّ مصبّها هو الجعلان، إذن فالمعارضة تكون في نفس مرحلة الجعل، وقبل وجود الموضوعين، أو يفرض أنّ مصبّها هو الفعليّتان، وعندئذ تسري ـ لا محالة ـ المعارضة من مرحلة الفعليّة إلى مرحلة الجعل؛ إذ فرض جعل حكم على تقدير موضوع لا يصير فعلياً عند فعليّة موضوعه ممّا لا محصّل له.

وبكلمة ثالثة: أنّ دليل الأصل يدلّ على تمام الأفراد في عرض واحد، والدليل المخصّص الدالّ على عدم جريان الأصل في مجموع أطراف العلم الإجمالي ـ أيضاً ـ يقتطف كلّما يقتطف في عرض واحد.

إذا عرفت هذين الأمرين قلنا: إنّ فكرة تعارض الأصلين السابقين وتساقطهما، وبقاء الأصل المتأخّر بلا معارض ـ بعد فرض الاعتراف بأنّها ليست من قبيل كلامين

264

متعارضين متّصلين وكلام آخر منفصل ـ مبنيّةٌ على تخيّل أنّ المعارضة وإخراج أحد الفردين تكون من حين الفعليّة، مع أنّ الأمر ليس كذلك، بل المعارضة تكون في زمان الجعل، والجعل ينظر إلى الأفراد في زمان واحد، والمخصّص ـ أيضاً ـ يقتطف كما يقتطف في عرض واحد، ولا أثر لتقدّم بعضها على بعض زماناً بحسب الخارج أصلاً، فالوجود البقائي للأصل في طرف الملاقى يوجد له معارضان في عرض واحد في أصل مرحلة الجعل، أحدهما الأصل في الملاقى، والآخر الأصل في الملاقي فيتساقط الجميع.

إنْ قلت: بناءً على ذلك يلزم القول: بأنـّه لو علم إجمالاً بأنّه إمـّا تجب علينا الصلاة بالفعل، أو يجب علينا التصدّق لو نزل المطر، ولم يعلم أنـّه هل سينزل المطر او لا، لم تجر أصالة البراءة عن وجوب الصلاة، لأنـّها تعارض أصالة البراءة عن وجوب التصدّق على تقدير نزول المطر؛ لأنـّه لو وجد شرط فعليّة وجوب التصدّق، وهو نزول المطر فتمّ بذلك شرط فعليّة الترخيص الظاهري مع فرض بقاء العلم الإجمالي على حاله، يقع التعارض بين الأصلين لا محالة، وقد فرضتم أنـّه مهما كان تعارض بين الفردين في فرض الفعلية فحتماً يكون التعارض ثابتاً بدون الفعليّة ـ أيضاً ـ في نفس الجعل، فيقع التعارض بين أصالة البراءة عن وجوب التصدّق المشروطة بنزول المطر، وإنْ لم يوجد شرطها فعلاً، ولم تصبح فعلية، وأصالة البراءة عن وجوب الصلاة، وهذا ممّا لا يلتزم به، ويقال: بما أنّ أصالة البراءة عن وجوب التصدّق ترخيص مشروط غير فعلي في مخالفة التكليف فهي لا تعارض أصالة البراءة عن وجوب الصلاة.

قلت: إنّ مُجرّد وجود أصلين فعليين يلزم منهما الترخيص في المخالفة القطعيّة ليس فيه محذور، ولا يوجب التعارض بينهما، ويشترط في ثبوت محذور الارتكاز ووقوع التعارض بينهما أنْ يكون المكلف عالماً لدى إجراء الأصل بأنّ هنا أصلاً آخر بالفعل، أو في زمان مستقبل يلزم من إجرائه مع إجراء هذا الأصل الآن الترخيص في المخالفة القطعيّة لتكليف فعلي، فإنّ هذا هو الذي منع عنه الارتكاز العقلائي، والتعارض بين أصلين فعليين من هذا القبيل يلازم ثبوت التعارض بينهما في مرحلة الجعل كما قلنا، والمفروض في هذا المثال أنّ المكلف لم يعلم في زمان فعلية الأصل الأوّل بوجود أصل آخر فعلي في ذاك الزمان أو في زمان متأخّر يلزم من مجموعهما الترخيص في المخالفة القطعيّة.

265

هذا. ويرد على القائل بسلامة أصل الملاقي عن المعارض لمجرّد تعارض الأصلين الآخرين فيما سبق بعلم إجمالي سابق النقضُ بفرض تعارض خبرين صادرين في زمان الإمام الصادق (عليه السلام) مثلاً، وورود خبر آخر عن الإمام العسكري (عليه السلام)مثلاً يوافق أحد الخبرين الأوّلين، ويخالف الآخر، فالخبران الأوّلان بمنزلة الأصلين الأوّلين، والخبر الثالث بمنزلة الأصل الثالث، ويجب أنْ يقال بأنّ الخبرين الأوّلين تعارضا وتساقطا، وبقي الخبر الثالث بلا معارض وهذا ممّا لا يلتزم به.

 

بيان الشيخ الأعظم

الوجه الثاني: أنْ يقال ـ بعد تسليم أنّ العلم الإجمالي الثاني لم ينحلّ بالعلم الإجمالي الأوّل، ولا انحلّ حكمه العقلي من العلّيّة أو الاقتضاء للتنجيز ـ: إنّ أصالة الطهارة في الملاقي تكون في طول أصالة الطهارة في الملاقى، فأصالة الطهارة في الملاقي تتعارض في الرتبة السابقة مع أصالة الطهارة في طرفه، ويسقط الأصلان، وتصل النوبة إلى أصالة الطهارة في الملاقي، من دون معارض، وكأنّ هذا الوجه هو الوجه المشهور، وهو الموروث عن الشيخ الأعظم (قدس سره)(1) المتسلسل بعده في أبحاث المحقّقين.

وهذا الوجه مبتن: أوّلاً على القول بالاقتضاء؛ إذ بناءً على العلّية لا يفيدنا عدم ابتلاء الأصل في الملاقي بالمعارض؛ لأنّ المفروض أنّ الأثر العقلي للعلم الإجمالي من العلّيّة غير منحلّ، فلا يمكن الترخيص في المخالفة ولو في بعض أطرافه.

وثانياً على القول بأنّ الأصل الذي يكون في طول أحد الأصلين المتعارضين يبقى سليماً عن التعارض، رغم فرض مخالفته للأصل الآخر، ولا يسقط بالمعارضة مع الأصل الذي يكون في عرض الأصل الحاكم عليه.

وثالثاً على القول بأنّ أصالة الطهارة في الملاقي في طول أصالة الطهارة في الملاقى، حتّى تتحقق صغرى ما فرض في الأمر الثاني، من كون طوليّة الأصل موجبة لنجاته عن المعارضة.

رابعاً على القول بعدم وجود أصل آخر في طول أصالة الطهارة الجارية في


(1) راجع الرسائل: ص 253 ـ 254 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة رحمة الله.

266

طرف الملاقى، وإلّا لوقع التعارض بين ذاك الأصل وأصالة الطهارة في الملاقي، فهذا الوجه لا يتمّ إلّا بعد فرض تماميّة هذه الاُمور الأربعة.

أمـّا الأمر الأوّل ـ وهو القول بالاقتضاء دون العلّية ـ، فهو الأمر الوحيد من هذه الاُمور الأربعة في كونه تامّاً على ما عرفت فيما سبق من عدم كون العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة، وأنـّه لا يكون مقتضياً لذلك.

وأمـّا الأمر الثاني ـ وهو كون الأصل الطولي في منجىً عن المعارضة ـ، فقد أورد عليه السيّد الاُستاذ بإيرادين(1):

الأوّل: أنّ الأصل الطولي ليس في طول ما يعارضه، وإنـّما هو في طول الأصل الآخر، فلا ينجو عن المعارضة بتعدّد الرتبة؛ لأنّ معارضه في عرضه، فيتعارضان ويتساقطان.

والثاني: أنّ تعدّد الرتب لا أثر له في المقام؛ لأنّ الاُصول في المقام ليست من الأحكام العقليّة التي تحدّدها الرتب، ويكون ظرفها الرتب، وإنـّما هي أحكام شرعيّة ظرفها الزمان، فإنْ اجتمع أصلان في طرفي العلم الإجمالي في زمان واحد فلا محالة يتعارضان ويستاقطان، وكون أحدهما متأخّراً عن الآخر رتبةً لا يؤثّر شيئاً في المقام.

أقول: إنّ كلّ واحد من الإشكالين في المقام غير صحيح:

أمـّا الأوّل: فقد مضى في التنبيه الثاني من تنبيهات العلم الإجمالي ذكر وجوه لصيرورة الأصل الذي في طول أحد الأصلين ويخالفه الآخر في منجىً عن المعارضة، ومضى إبطال أكثرها، وأنّ بعضها صحيح فنّاً وأنـّه لا يرد عليه إشكالُ: أنّ الأصل الآخر في عرضه فيتعارضان ويتساقطان، فما رامه السيّد الاُستاذ هنا من إبطال القول بكونه في منجىً عن المعارضة بالفنّ من ناحية كون الأصل الآخر في عرضه، غير صحيح.

نعم مضى منّا هناك: أنّ ذاك الوجه الصحيح فنّاً غير تامّ عرفاً، وأنّ العرف لا يتحصّل عنده من كلام المولى في مثل المقام شيء، فلا يمكن التمسّك في إجراء الأصل بظاهر كلام المولى، وعليه فنحن متّفقون مع السيّد الاُستاذ بحسب النتيجة في بطلان هذا الأمر الثاني، وإن خالفناه في وجه البطلان.

وأمـّا الثاني: فأصل ما ذكره السيّد الاُستاذ من أنّ الأحكام الشرعيّة زمانيّة،


(1) راجع الدراسات: ج 3، ص 267 ـ 268، والمصباح: ج 2، ص 417 ـ 418.

267

وليست كالأحكام العقليّة التي تحدّدها الرتب صحيح، لكن ذكره في محلّ الكلام وتطبيقه عليه ليس له محصّل، وإنـّما يكون هذا منطبقاً في بعض الأبحاث الذي اُجريت فيه آثار تحدّد الحكم بالرتب على الأحكام الشرعيّة، وذلك نظير البحث الواقع في مسألة: أنّ الانسان إذا اشترى أحد عموديه ـ الذي لا يمكنه أنْ يملكه ـ انعتق عليه، حيث يعترض في تلك المسألة إشكال في كيفية تطبيقها على القواعد، وهو أنّ هذا الابن هل يملك أحد عموديه آناً مّا ثم ينعتق عليه أو لا يملكه أصلاً وينعتق عليه؟ فإنْ قيل بالأوّل كان هذا خلاف قانون عدم مالكيّة الشخص لعموديه، ولا فرق بين الملك آناً مّا والملك ساعةً من الزمان، وإنْ قيل بالثاني ـ وكان معنى انعتاقه عليه أنّ درك انعتاقه يكون عليه، حيث إنّ الثمن يدخل في ملك البايع، والعبد لا يدخل في ملك المشتري بل ينعتق ـ، فهذا خلاف قانون البيع الذي هو مبادلة عين بمال، ولا بدّ فيه من دخول لكلّ من العوضين في ملك الآخر. ففي المقام لم تحصل مبادلة.

هذا هو الإشكال في كيفية تطبيق هذه المسألة على القواعد. وفي تحقيق المطلب اتجاهات أحدها ما قصدنا ذكره هنا من أنـّنا نلتزم بأنّ المشتري يملك ذلك العبد، ولكن لا في زمان ولو آناً مّا، بل رتبةً، وينعتق عليه في الرتبة الثانية، فهذا لا يخالف قانون عدم مالكيّة الشخص لعموديه، ولو آناً مّا، لأنـّه لم يملكه في زمان، وملكيته في الرتبة لا بأس بها، ولا يخالف قانون البيع والمبادلة لأنـّه دخل كلّ من العوضين في ملك الآخر.

وهنا يأتي إشكال وهو: أنـّه كيف يعقل دخول هذا في ملكه بالشراء، وخروجه عن ملكه بالانعتاق في آن واحد، والدخول والخروج متضادّان لا يجتمعان في آن واحد؟! فيجاب عن ذلك بأنـّهما وإنْ اتّحدا زماناً، لكنّهما متعددان رتبة، فقد دخل في ملكه في رتبة وخرج عن ملكه في رتبة اُخرى.

وهنا يأتي ما ذكره السيّد الاُستاذ في المقام: من أنّ الأحكام الشرعيّة زمانيّة وليست رتبيّة، فالدوخل والخروج في المقام ليسا من قبيل وجود المعلول وعدمه بالمعنى التحليلي العقلي، حيث يقال: إنّ المعلول غير موجود في مرتبة العلّة وموجود في نفس الوقت في المرتبة المتأخّرة عن العلّة، ولا تنافي بين وجوده وعدم وجوده؛ لأنـّهما في رتبتين، ودفع الإشكال بتعدّد الرتب في ذلك صحيح؛ لأنّ المقصود من الوجود وعدمه كان حكماً تحليليّاً عقليّاً ظرفه الرتبة، وتعدّد الرتب

268

أوجب تعدّد الظرف وارتفاع المنافاة، وهذا بخلاف الاُمور الخارجيّة الزمانيّة كالسواد والبياض اللذين هما متضادّان لا يجتمعان في زمان واحد ولو فرض أحدهما معلولاً للآخر ومتأخّراً عنه رتبة، والدخول في الملك والخروج عنه من هذا القبيل، فإنـّهما حكمان شرعيّان زمانيّان.

وأمـّا فيما نحن فيه فلا معنى لتطبيق قانون أنّ الأحكام الشرعيّة زمانيّة لا رتبيّة، فإنّ الكلام في قانون كلّي عامّ ثابت حتّى في الاُمور التكوينيّة الخارجيّة، وهو أنّ الشيء المتأخّر رتبة يستحيل عقلاً أنْ يزاحم الشيء السابق عليه، ولا معنى لوقوع التعارض والتزاحم بين شيئين أحدهما متفرّع على عدم الآخر، سواءً كانا عقليين أو شرعيين، اعتباريين أو خارجيين، زمانيين أو غير زمانيين، وهذا كما ترى لا علاقة له بفهم أنّ الأحكام الشرعيّة هل يكون ظرفها الزمان أو الرتبة، وليس من قبيل قانون استحالة اجتماع الضدّين، الذي لا بدّ في معرفة انطباقه على أمرين مختلفين رتبة أنْ نرى أنـّه هل يكون ظرفهما الزمان والخارج فيلزم اجتماع الضدّين، أو ظرفهما الرتبة، وقد فرض تعدّدها فلا يلزم اجتماع الضدين.

وعلى أيـّة حال، فقد عرفت عدم تماميّة الأمر الثاني.

وأمـّا الأمر الثالث: وهو كون أصالة الطهارة في الملاقي في طول أصالة الطهارة في الملاقى، فهو وإنْ كان صحيحاً عندهم إلّا أنـّه غير صحيح عندنا، وذلك لوجهين:ـ

أحدهما: ما يقتضي ـ بشكل عام ـ عدم الطوليّة بين كلّ أصلين متوافقين، ولو من قبيل الاستصحاب السببي والاستصحاب المسبّبي، وهذا ما يأتي تحقيقه ـ إن شاء الله ـ في آخر مبحث الاستصحاب في بيان علاقات الأمارات والاُصول بعضها مع بعض.

وثانيهما: إنـّه حتّى لو قلنا بحكومة الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي المتوافقين، لا نقول بحكومة أصالة الطهارة السببيّة على أصالة الطهارة المسبّبيّة؛ وذلك لأنّ الحكومة تكون بأحد ملاكين: إمـّا بملاك رفع الموضوع مثلاً تعبّداً، وإمـّا بملاك النظر، أمـّا الأوّل فلئن سلّم في الاستصحاب ـ باعتبار أنّ الشارع جعل في مورده اليقين تعبداً ورفع بذلك الشكّ، فيرتفع بذلك تعبداً موضوع الاستصحاب المسبّبي ـ لا نسلّمه هنا، إذ لا يتوهّم في أصالة الطهاة أنّ المجعول هو العلم وعدم الشكّ، وأمـّا الثاني فإنـّما يمكن دعوى إثبات الحكومة به لدليل أصالة الطهارة على أدلّة الأحكام الأوّليّة، كدليل وجوب الصلاة في الثوب الطاهر، أو حرمة

269

شرب النجس، فيقال: إنّ دليل أصالة الطهارة ناظر إلى هذه الأحكام والآثار، وأمـّا بالنسبة لنفس أفراد مفاد الدليل الواحد، وهو دليل أصالة الطهارة، فلا نظر لبعضها إلى بعض، وهذا الوجه ـ أيضاً ـ يأتي تحقيقه إن شاء الله في آخر الاستصحاب في بيان علاقات الأمارات والاُصول بعضها مع بعض.

وأمـّا الأمر الرابع: وهو عدم وجود أصل طولي في الطرف الآخر كي يعارض أصالة الطهارة في الملاقى فهذا ـ أيضاً ـ غير صحيح، وذلك لوجهين:

أحدهما: جريان أصالة الطهارة في الملاقي التقديري لطرف الملاقى، وإيجابها الترخيص فعلاً بلحاظ الحرمة الوضعيّة الثابتة للملاقي التقديري؛ لما عرفت من فعليّة تلك الحرمة قبل حصول الملاقاة.

والثاني: ما أسماه المحقّق العراقي (رحمه الله)(1)بالشبهة الحيدرية ـ نسبة إلى السيد الوالد (قدس سره) ـ وهو أنـّه توجد في طول أصالة الطهارة في طرف الملاقى أصالة إباحته، فتتعارض مع أصالة الطهارة في الملاقي، وتتساقطان، وهذا الوجه متين ووارد عليهم، بناءً على مبانيهم من تسليم الطولية في الاُصول المتوافقة إطلاقاً.

هذا. ولكن المحقّق النائيني (رحمه الله) يدفع هذا الإشكال(2)بأنّ أصالة الإباحة في طرف الملاقى وإنْ كانت في طول أصالة الطهارة، لكنّها تسقط معها بالمعارضة؛ لأصالة الطهارة في الملاقى، وهذا بخلاف أصالة الطهارة في الملاقي فهي تنجو عن المعارضة؛ لكونها في طول أصالة الطهارة في الملاقى. والفرق بينهما: أنّ هذا أصل طولي في موضوع آخر غير موضوع الأصل السابق عليها رتبة، ولكنّ أصالة الإباحة أصلٌ طولي في نفس موضوع الأصل الحاكم عليها، والوجه في تساقط الاُصول الطوليّة جميعاً عند المعارصة لأصل عرضي عند المحقّق النائيني (رحمه الله) هو ما مضى(3)من وحدة المجعول، وهذا لا يأتي في فرض كون الأصلين الطوليين في موضوعين، لكنّك عرفت فيما مضى بطلان هذا الوجه.


(1) لم ترد في نهاية الأفكار تسمية ذلك بالشبهة الحيدريّة، وإنـّما وردت نسبته إلى عنوان (بعض الأجلّة المعاصرين) ولكن في عنوان الصفحة كتب (بيان إشكال السيد حيدر الصدر(قدس سره) ) راجع القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 362.

(2) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 246، وراجع ـ أيضاً ـ ص 260 ـ 261.

(3) في التنبيه الثاني.

270

 

بيان المحقق العراقي

الوجه الثالث: للمحقّق العراقي (رحمه الله)(1)، وهو دعوى انحلال أثر أحد العلمين الإجماليّين العقلي من العلّية أو الاقتضاء بالعلم الإجمالي الآخر إذا كان في طوله. توضيح ذلك: أنـّه تارةً يفرض أنّ العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو طرف الملاقى معلول للعلم بنجاسة الملاقى أو طرفه، كما لو علمنا بنجاسة أحد شيئين ثم رأينا ملاقاة شيء لأحد الطرفين، فتكوّن العلم بنجاسة الملاقي أو طرف الملاقى ببرهان نجاسة أحد الأوّلين، واُخرى بفرض العكس: كما لو علم إجمالاً بنجاسة الملاقي أو طرف الملاقى، ثمّ علم أنـّه لا منشأ لنجاسة الملاقي إلّا نجاسة ذلك الملاقى، فتكوّن بذلك العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو طرفه، وثالثة يفرض أنّ العلمين في عرض واحد، كما لو أخبره المعصوم ابتداءً بأنـّه إمـّا هذان الشيئان ـ الملاقي والملاقى ـ نجسان أو ذاك الشيء الآخر نجس، ففي الفرض الثالث ينجّز العلمان في عرض واحد، وفي الفرضين الأوّلين ينحلّ العلم المتأخّر رتبة بالعلم الآخر حكماً.

وقد مضى في التنبيه الخامس أنّ الانحلال الحكمي له مسلكان عامّان: أحدهما: ما ذهب إليه المحقق العراقي (رحمه الله): من أنـّه إذا تنجّز أحد الطرفين بمنجّز آخر سقط العلم الإجمالي عن التأثير؛ لأنّ معلومه غير قابل للتنجّز به على كلّ تقدير؛ لأنـّه منجّز بمنجِّز آخر(2). والثاني: الانحلال بملاك كون الأصل في أحد الطرفين غير مبتلىً بالمعارض.


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 357 ـ 359، والمقالات: ج2، ص 93 ـ 94.

(2) على فرق بينما إذا فرض أحد التنجيزين أو العلمين في طول الآخر، وما إذا فرضا عرضيين مع كون النسبة بين ما ينجّزه المنجز الآخر، لو كان علماً إجماليّاً، مع أطراف العلم الإجمالي الذي يفترض انحلاله عموماً مطلقاً، لا عموماً من وجه، وهو أنـّه في الفرض الأوّل يسقط العلم الإجمالي عن العلّيّة للتنجيز نهائياً؛ لأنّ المنجّز بما هو منجّز لا يقبل التنجيز، وفي الفرض الثاني يتحوّل العلم الإجمالي إلى جزء علّة، فيسقط عن التأثير بالنسبة للفرد الآخر الخارج عن تحت المنجّز الآخر. راجع بصدد استيعاب البحث ما مضى من التنبيه الخامس هنا، مع ما مضى من بحث الانحلال الحكمي لدى مناقشة الأخباريين في الدليل العقلي على الاحتياط.

271

وهذان المسلكان يختلفان أوّلاً: في أنّ الثاني يختصّ بمبنى الاقتضاء؛ إذ على مبنى العلّية لا أثر لوجود المعارض وعدمه، بخلاف الأوّل فهو يناسب مبنى العلّية أيضاً، ولهذا تبنّاه المحقق العراقي (رحمه الله)القائل بالعلّية.

وثانياً: في أنـّه على الأوّل تجري البراءة العقليّة أيضاً؛ لأنّ العلم الإجمالي قد سقط أثره العقلي من العلّية أو الاقتضاء، وأمـّا على الثاني فلا تجري البراءة العقليّة؛ لأنّ اقتضاء العلم الإجمالي ثابت على حاله، وإنـّما لا تجب الموافقة القطعيّة للأصل الشرعي الخالي عن المعارض. وقد عرفت فيما سبق أنّ المختار هو المسلك الثاني دون الأوّل.

إذا عرفت ذلك، قلنا: إنّ المقصود هنا تطبيق المسلك الأوّل للانحلال على ما نحن فيه، وهنا قد يبدو تهافت في كلمات المحقق العراقي (رحمه الله)؛ إذ هو يقول في الانحلال الحكمي بتنجّز بعض الأطراف، بأنـّه إنـّما ينحلّ بذلك لو لم يكن ذاك المنجّز علماً إجماليّاً آخر، نسبته إلى هذا العلم من حيث الأطراف عموم من وجه، فإنْ كان كذلك، فهو لا يقول بانحلال أحد العلمين بالآخر ـ ولو فرض أحدهما مقدّماً زماناً ـ، في حين أنـّه يقول في فرض التقدّم الرتبي بانحلال العلم المتأخّر رتبة، فيقال: أي فرق بين التقدّم الرتبي والتقدم الزماني، حيث صار الأوّل موجباً لانحلال المتأخّر دون الثاني، وهو (قدس سره) لم يذكر في صريح كلامه وجهاً للفرق بينهما، إلّا أنـّه يمكن استخلاص فرق بينهما بالتدقيق في عبائره، وهو أنّ التقدّم الزماني لا يفيد شيئاً؛ لأنّ تنجّز العلم بقاءً فرع الوجود البقائي للعلم المعاصر لحدوث العلم الثاني، فانحلال الثاني بالأوّل ليس بأولى من العكس، وهما يؤثّران في عرض واحد(1)، وهذا بخلاف العلم المتقدّم رتبة، فإنـّه يؤثّر في رتبته، ولا يمتدّ إلى رتبة العلم الثاني فيؤثّر، وعندئذ كيف يؤثر العلم الثاني؟ هل يؤثّر في الرتبة السابقة على نفسه أو يؤثّر في رتبته؟ والأوّل غير معقول؛ إذ لا يعقل تأثير شيء في الرتبة السابقة على نفس المؤثّر، والثاني أيضاً غير معقول؛ لأنّ أحد طرفي العلم الإجمالي قد أصبح منجّزاً في الرتبة السابقة فلا يقبل في هذه المرتبة تنجيزاً، والمعلوم بالإجمال إنْ لم يكن قابلاً للتنجيز على كلّ تقدير، لم يؤثّر فيه العلم.

ولكن الواقع أنّ كلامه (رحمه الله) لا يتمّ حتى بعد هذا التوجيه، وذلك:

إمـّا أوّلاً؛ فلأنّ العلم الإجمالي الثاني وإنْ كان في طول العلم الإجمالي الأوّل


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 337.

272

لكنّه في عرض أثره، فإنّ العلم الأوّل علّة لأمرين: أحدهما: التنجيز، والثاني: العلم الثاني، فهما معلولان في عرض واحد، وتنجيز العلم الثاني يكون متأخّراً رتبة عن العلم الثاني، لكنّه ليس متأخّراً رتبة عن تنجيز العلم الأوّل، لأنّ المتأخّر عن أحد العرضيّين ليس متأخّراً عن الآخر، فتنجّز كلّ من العلمين يكون في عرض تنجيز الآخر، فيصبح كلّ واحد منهما جزء العلّة للتنجيز مثلاً.

نعم لو كان العلم الثاني في طول تنجيز العلم الأوّل كان هنا مجال لدعوى عدم تأثير العلم الثاني، كما لو نذر شخص أنـّه إذا تنجّز عليه شيء تصدق على فلان، ونسي أنّ من نذر التصدّق عليه هل هو زيد أو بكر؟ ثم علم إجمالاً بوجوب التصدّق إمـّا على زيد أو على عمرو، فتولّد من هذا العلم العلم إجمالاً بوجوب التصدق إمـّا على زيد أو بكر، وهذا العلم الإجمالي في طول تنجيز العلم الأوّل، لأنـّه علم بملاك تحقّق نذره الذي هو عبارة عن التنجّز الناشىء من العلم الأوّل، ولكن ما نحن فيه ليس من هذا القبيل.

وأمـّا ثانياً؛ فلأنّ الطوليّة ممنوعة حتى بلحاظ نفس العلمين المنجّزين؛ لأنّ المنجّز في الحقيقة ليس عبارة عن العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو طرفه، وكذلك العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو طرف الملاقى، وإنـّما المنجِّز هو العلم بالتكليف الناشىء من العلم بالنجاسة، والعلمان بالتكليف في عرض واحد، فإنّ العلم الثاني بالنجاسة في عرض العلم بالتكليف؛ لأنـّه ليس معلولاً له، بل هما معلولان للعلم الأوّل، والعلم الثاني بالتكليف وإنْ كان في طول العلم الثاني بالنجاسة لكنّه ليس في طول ما كان في عرضه من العلم الأوّل بالتكليف؛ لما قلناه من أنّ المتأخّر من أحد العرضيّين ليس في طول الآخر، وما مع المتقدّم ليس متقدّماً.

هذا. والمحقق العراقي (رحمه الله) لا يستفاد من كتابه نفي قانون: أنّ ما مع المتقدّم متقدّم، لكنّه يستفاد ذلك من تقرير بحثه .

وعلى أيـّة حال، فالصحيح هو ذلك. نعم، لو آمنّا بأنّ ما مع المتقدّم متقدّم لا يرد شيء من هذين الإشكالين.

وأمـّا ثالثاً؛ فلما مضى في الإيراد على أصل هذا المسلك للانحلال حيث قلنا: إنّ هذا يتمّ لو كانت نسبة التنجّز إلى العلم نسبة المعلول التكويني إلى علّته التكوينيّة، وليس الأمر كذلك على ما تقدّم بيانه(1).


(1) تقدّم ذلك لدى مناقشة الأخباريين في الدليل العقليّ للاحتياط.

273

 

بيان المحقّق النائيني

الوجه الرابع: ما ذكره المحقّق النائينيّ (رحمه الله) في المقام(1)تطبيقاً لمبناه في الانحلال على ما نحن فيه، فهو يقول بانحلال العلم الإجمالي بقيام منجِّز في أحد طرفيه، لا بمعنى مجرّد أنّ الأصل الشرعي في الطرف الآخر بقي بلا معارض، بل بمعنى انتفاء أصل الاقتضاء العقلي للتنجيز، فمسلكه في الانحلال بقيام المنجّز في أحد الطرفين يشارك مسلك الشيخ آقا ضياء العراقي (رحمه الله) في ذلك في دعوى أنّ أصل الاقتضاء العقلي ـ وهو العلّية للتنجيز لدى آقا ضياء واقتضاء التنجيز لدى الميرزا ـ قد انتفى، على فرق بينهما في صياغة البرهان على ذلك.

فالصياغة الضيائية: عبارة عن أنّ المنجّز لا يتنجز مرّة اُخرى، والمعلوم بالإجمال يجب أنْ يكون قابلاً للتنجيز بالعلم الإجمالي على كلّ تقدير، وبهذا يتمّ الانحلال الحكمي.

والصياغة الميرزائية: عبارة عن أنـّه مع تنجّز تكليف في أحد الطرفين لا يكون العلم الإجمالي علماً بحدوث تكليف، فلو علم مثلاً بوقوع قطرة دم في الإناء الأسود أو الأبيض، ثم علم بوقوع قطرة اُخرى في الإناء الأبيض أو الأصفر، فالعلم الثاني ليس علماً بحدوث تكليف، لاحتمال كون كلا الدمين واقعين في الإناء الأبيض، فالدم الثاني لم يحدث تكليفاً جديداً، ويسمي الميرزا ذلك بالانحلال الحقيقي.

وعليه، فهذا الوجه كالوجه السابق في امتيازه عن الوجهين الأوّلين في أنـّه يثبت جريان البراءة العقليّة أيضاً، وليس التأمين الشرعي فحسب، بينما الوجهان الأوّلان لا يثبتان ذلك، وفي ملائمة هذا الانحلال حتى لمسلك العلّية بخلاف الوجهين الأوّلين فإنـّهما يختصان بمسلك الاقتضاء.

والسرّ في كلتا هاتين الميزتين هو الاختلاف الجوهري الثابت بين الوجهين الأخيرين والوجهين الأوّلين، وهو أنّ الوجهين الأوّلين لم يركّزا على نفي الاقتضاء


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 26 ـ 28، وأجود التقريرات: ج 2، ص 259 ـ 260 و ص 263 ـ 264.

274

العقلي للعلم الإجمالي، وإنـّما ركّزا على انجاء الأصل الملاقي عن المعارض، وصيرورته مانعاً عن وجوب الموافقة القطعيّة، ومن الطبيعي ـ عندئذ ـ عدم جريان البراءة العقليّة؛ لأنّ الاقتضاء العقلي ثابت على حاله، كما أنـّه من الطبيعي ـ عندئذ ـ اختصاص تمامية التقريبين بفرض اقتضاء التنجيز لوجوب الموافقة القطعيّة؛ إذ بناءً على العلّيّة بعد فرض ثبوت الاقتضاء العقلي على حاله لا يبقى مجال لجريان الأصل ـ ولو كان واحداً ـ ولا معنى لمنعه عن وجوب الموافقة القطعيّة.

وأمـّا الوجهان الأخيران فيبطلان أصل الاقتضاء العقلي، فلا يبقى مانع عن جريان البراءة العقليّة، ولا يفترق الحال في بطلان أصل الاقتضاء العقلي للعلم الإجمالي بين كون ذلك عبارة عن تأثيره بنحو العلّية أو تأثيره بنحو الاقتضاء.

أمـّا بيان أصل هذا التطبيق ـ الذي اختاره المحقّق النائينيّ (رحمه الله) في المقام لمبناه في الانحلال على مورد ملاقاة بعض أطراف العلم الإجمالي ـ فهو أنـّه (رحمه الله) يقول بانحلال العلم الإجمالي المتأخّر بالعلم الإجمالي المتقدّم، ويرى أنّ الميزان هو التقدّم والتأخّر بحسب المعلومين، فالمتأخّر معلوماً ينحلّ بالمتقدّم معلوماً، وإنْ فرض تقارنهما من حيث العلم أو تعاكس العلمين للمعلومين في التقدّم والتأخّر، ولا يفرّق (رحمه الله) في ذلك بين التقدّم الزماني والتقدّم الرتبي، وعلى هذا يقول فيما نحن فيه: إنّ العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو طرفه يوجب دائماً انحلال العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو طرف الملاقى؛ لأنّ المعلوم الثاني وإنْ لم يكن دائماً متأخّراً عن المعلوم الأوّل زماناً لإمكان معاصرة زمان انفعال الملاقى أو طرفه لزمان الملاقاة، ولكنّ التأخّر الرتبي ثابت دائماً، ولم يأت في تقرير بحثه بيان لإثبات هذا التأخّر الرتبي، عدا أنّ نجاسة الملاقي ـ لو كان نجساً ـ مسببة عن نجاسة الملاقى ومتأخّرة عنها، ففي هذه المرتبة المتأخّرة لا علم بحدوث التكليف، إذ لعلّ النجس هو طرف الملاقى، وعليه لا يكون هنا تكليف حادث.

وتقريب الانحلال بهذا النحو في المقام في الحقيقة عبارة عن التطبيق لمباني المحقق النائيني (رحمه الله) في الانحلال على المقام التي هي أربعة:

الأوّل: دعوى انحلال العلم الإجمالي بقيام منجّز في أحد طرفيه.

والثاني: تعميم هذه الدعوى لفرض كون ذاك المنجّز علماً إجمالياً آخر نسبته إلى ذاك العلم الإجمالي عموم من وجه.

والثالث: كون العبرة بالتقدّم المعلومي.

275

وهذه المباني الثلاثة تقدّمت في الأبحاث السابقة.

والرابع: تعميم التقدّم للتقدّم الرتبي، وعدم تخصيصه بالتقدّم الزماني، فكما يقال في فرض التقدّم الزماني: إنـّه لا علم بحدوث التكليف في هذا الزمان، كذلك يقال في فرض التقدّم الرتبي: إنـّه لا علم بحدوث التكليف في هذه الرتبة.

أقول: يرد على هذا الطرز من التفكير نقض واضحٌ، وهو النقض بما لو كان العلم الإجمالي مسبوقاً بالشكّ البدوي في أحد الطرفين، فإنْ كنّا نشترط في منجّزية العلم الإجمالي كونه علماً بحدوث التكليف ففي مورد النقض لا علم لنا بحدوث التكليف، لاحتمال كون التكليف الذي علمناه هو بقاءً لنفس التكليف الذي احتملناه سابقاً. وإنْ قلنا: إنـّه لا يشترط في تنجيز العلم الإجمالي ذلك، فيكفينا العلم باصل التكليف، وإن كان بقائياً على بعض التقادير، فلماذا يفترض في المقام أنّ العلم الإجمالي السابق يحلّ العلم الإجمالي اللاحق؟!

إلّا أن يوجّه كلام الميرزا بافتراض أنـّه بروحه يرجع إلى الصياغة الضيائيّة وإنْ اختلف عنها في التعبير، وسمّاه بالانحلال الحقيقي، فواقع مرامه هو أنّ المنجّز لا يقبل التنجيز مرّة اُخرى، فإذا مزجنا بين الصياغة الضيائية ـ في باب الانحلال من ناحية ـ ودعوى المحقق النائيني (رحمه الله) لكون العبرة بالتقدّم المعلومي لا العلمي، استنتجنا في المقام: إنّ العلم الإجمالي في الملاقى أو طرفه يحلّ دائماً العلم الإجمالي في الملاقي أو طرف الملاقى.

وبعد هذا نقول: إنّ المباني الأربعة التي شرحناها لإثبات الانحلال في المقام كلّها قابلة للنقاش، إلّا أنّ بعضها يناقش لو أردنا أن نأخذ في المقام بالمزج بين الصياغة الضيائيّة ودعوى كون العبرة بالتقدّم المعلومي لا العلمي، وبعضها يناقش مطلقاً ـ أي سواءً أخذنا بالصياغة الضيائيّة أو بالصياغة الميرزائيّة ـ وتوضيح ذلك بما يلي:

أولاً: أنّ المبنى الأوّل ـ وهو انحلال العلم الإجمالي بمجرّد قيام منجّز في أحد طرفيه ـ غير صحيح، لا بصياغته الميرزائيّة ـ وهي عدم كون العلم علماً بحدوث التكليف ـ ولا بصياغته الضيائيّة ـ وهي أنّ المنجّز لا يتنجّز على ما مضى بيان ذلك في الأبحاث السابقة ـ .

وثانياً: لو سلّمنا انحلال العلم الإجمالي بقيام منجّز في أحد طرفيه، وذلك بصياغته الضيائيّة ـ التي هي أوجه ـ لا نسلّم المبنى الثالث ـ أعني كون العبرة بالتقدّم

276

المعلومي ـ؛ لأنـّه على هذه الصياغة لا أثر للتقدّم المعلومي، فإنّ التقريب هو أنّ المنجّز لا ينجّز، ومن الملعوم أنّ التنجيز يترتّب على العلم والانكشاف، لا على مجرّد ثبوت المعلوم في الواقع، ولا معنى لتقدّم تنجيز العلم على نفس العلم.

وثالثاً: لو سلّمنا مع التحفظ على نفس الصياغة الضيائيّة أنّ العبرة بتقدّم المعلوم، وذلك بأن يقال مثلاً: إنّ التنجّز يترتّب على العلم بما له من جهة الانكشاف، ومع تقدّم المعلوم يكشف العلم عن التكليف في الزمان السابق، فالتنجّز أيضاً يتحقّق من ذلك الزمان.

أقول: لو سلّمنا كلاماً من هذا القبيل، وغضضنا النظر عن وضوح بطلانه لا نسلّم المبنى الثاني، وهو تعميم الانحلال بالمنجّز لفرض كون المنجّز علماً إجماليّاً آخر، نسبته إلى ذاك العلم الإجمالي من حيث الأطراف عموماً من وجه؛ إذ هما منجّزان متماثلان ليس انحلال أحدهما بالآخر بأولى من العكس، ولا أثر لتقدّم أحد المعلومين زماناً أو رتبة.

أمـّا الأوّل؛ فلأنّ تنجّز المعلوم في الزمان المتأخّر يكون بوجوده المتأخّر، لا بوجوده المتقدّم، فلا معنى لأنْ يقال: إنّ المعلوم لا يتنجّز في الزمان المتأخّر بالعلم الثاني؛ لأنـّه تنجّز في الزمان السابق بالعلم الأوّل.

وأمـّا الثاني؛ فلأنـّه ـ أيضاً ـ لا معنى لأنْ يقال: إنّ المعلوم لا يتنجّز في الرتبة المتأخّرة بالعلم الثاني؛ لأنـّه تنجّز في الرتبة السابقة بالعلم الأوّل؛ إذ مع الالتفات إلى أنّ التنجّز أمر زمانيّ لا رتبيّ يبطل المبنى الرابع، كما سيأتي إن شاء الله، فنلفرض هنا أنـّه أمر رتبي، كي يتعقّل إلى حدّ ما دعوى كون تقدّم المعلوم رتبة موجباً لانحلال العلم الثاني، وعندئذ نقول: يرد على ذلك أنـّه لو فرض التنجّز أمراً رتبياً، لا مانع من تنجّز المعلوم في الرتبة السابقة، ثم تنجّزه في الرتبة المتأخّرة، فإنّ تنجّزه في كلّ رتبة بوجوده في تلك الرتبة ـ كما قلنا في التقدّم الزماني: إنّ تنجّزه في كلّ زمان بوجوده في ذاك الزمان ـ ففي الرتبة الثانية يتلقّى التنجيز من كلا العلمين قهراً، ويصبح كلّ واحد من العلمين جزءاً لعلّة التنجيز مثلاً.

ورابعاً: لو سلّمنا في الجملة انحلال المتأخّر بالعلم المتقدّم معلوماً بصياغته الضيائيّة، وهي أنّ المنجّز لا ينجّز، أو بصياغته الميرزائيّة، و هي عدم العلم بحدوث التكليف متأخّراً، لا نسلّم المبنى الرابع، وهو كون التقدّم الرتبي كالتقدّم الزماني موجباً للانحلال.

277

أمـّا بلحاظ الصياغة الميرزائية، فلأنّ التكليف أمر واقعي زماني لا حكم تحليلي عقلي رتبي، فيكـفي في كون العلم علماً بحدوث التكليف عدم تقدّم التكليف زماناً، إذ هو أمر في عمود الزمان لا في عمود الرتب، والحدوث في كلّ عمود يحصل عند عدم الثبوت متقدّماً في ذلك العمود.

وأمـّا بلحاظ الصياغة الضيائية فلوجهين:

الأوّل: أنّ طولية المعلومين لا توجب طولية ما يعرض عليهما، فلا طولية بين التنجيزين.

والثاني: أنـّنا لو سلّمنا أنّ طولية المعروضين توجب طولية ما يعرض عليهما فإنـّما نسلّم ذلك في العوارض التي يكون ظرفها نفس ذلك الظرف، فلو كان التنجّز أمراً تحليلياً رتبياً، وكان ظرفه الرتبة، لكنّا نُسلّم مثلاً أنّ تعدّد المعلومين رتبة يوجب طولية ما يعرض عليهما من التنجّز؛ إذ كلّ من العرضين يتحدّد ظرف عروضه بلحاظ معروضه مثلاً، ولكنّ التنجّز أمر واقعي زماني وظرفه الزمان، وليس أمراً تحليليّاً، فتعدّد المعلومين رتبة لا يوجب طولية التنجيزين. وما مضى من السيّد الاُستاذ من الفرق بين الأحكام الزمانيّة والأحكام الرتبيّة العقليّة مناسب لهذا المورد، لا لذاك المورد.

وما ذكرناه إلى هنا كلّه إشكالات على هذا التقريب بلحاظ مبانيه الأربعة، وما يتحتّم وروده منها على المحقق النائيني (رحمه الله) إنـّما هو الإشكال على المبنى الأوّل والمبنى الرابع، وأمـّا المبنى الثاني والثالث فإنـّما إشكالنا عليهما بعد فرض الأخذ بالصياغة الضيائية.

وبعد، لو سلّمنا كبروياً جميع هذه المباني لا نسلّم تطبيق الكبرى بصيغتها الميرزائية على ما نحن فيه، أي: القول بأنّ التقدّم الرتبي لأحد المعلومين أوجب سقوط العلم الآخر عن كونه علماً بحدوث التكليف بلحاظ عالم الرتب، وهذا يعني الانحلال كما كنّا نقول بذلك بلحاظ عالم الزمان لدى التقدّم الزماني.

وتوضيح الإشكال المقصود في المقام: أنـّه في التقدّم الزماني كان التقدّم المؤثّر في الانحلال هو التقدّم في الجانب المشترك، فالمعلوم كان من المحتمل كونه بقائياً لا حدوثياً في الجانب المشترك، فبالتالي لم يكن لدينا علم بحدوث التكليف، فكان يخرج الجانب غير المشترك عن التنجيز، فلو علمنا مثلاً بوقوع قطرة دم في أوّل الصباح في أحد الإناءين الأسود أو الأبيض، ثم وقعت قطرة اُخرى عصراً إمـّا في

278

ذلك الإناء الأبيض أو في الإناء الأصفر، فالموجب للانحلال ليس هو تقدّم المعلوم في العلم الأوّل زماناً في جانب الإناء الأسود والأصفر، وإنـّما الموجب للانحلال هو التقدّم في الجانب المشترك، وهو الإناء الأبيض حيث أوجب ذلك احتمال أنْ لا تكون القطرة على تقدير وقوعها في الإناء الأبيض موجبة لحدوث تكليف.

ولهذا يتمّ الانحلال بالنظرية التي طرحها المحقق النائيني (رحمه الله) حتى فيما لو فرض التقدّم والتأخّر في الجانب المشترك فحسب دون الجانب الآخر، كما لو فرض أنـّنا علمنا بوقوع قطرة دم في أوّل الصباح في الإناء الأسود أو الأبيض، ثم علمنا عصراً إنـّه إمـّا وقعت قطرة اُخرى الآن في الإناء الأبيض أو وقعت قطرة اُخرى في أوّل الصباح في الإناء الأصفر، فهنا يتمّ ملاك الانحلال الذي يقول به المحقق النائيني(رحمه الله) بلا إشكال؛ لأنّ العلم الثاني ليس علماً بحدوث التكليف؛ إذ على تقدير وقوع القطرة الثانية الآن في الإناء الأبيض مع فرض كونه هو النجس من أوّل الصباح لم يحدث تكليف جديد، إذن فالعلم الثاني ليس علماً بحدوث تكليف.

ولا يتمّ الانحلال أيضاً بتلك النظرية لو فرض التقدّم والتأخّر في جانبي الافتراق فحسب دون الجانب المشترك، كما لو علمنا بوقوع قطرة دم في أوّل الصباح في الإناء الأسود أو الأبيض، ثم علمنا عصراً بأنـّه إمـّا وقعت قطرة الآن في الإناء الأصفر أو وقعت قطرة في أوّل الصباح في الإناء الأبيض، فهنا لا تأتي نكتة الانحلال؛ لأنّ المعلوم بالعلم الإجمالي على كلا تقديريه يكون حدوثاً للتكليف، ففي جانب الإناء الأصفر يكون حدوثاً للتكليف لدى العصر، وفي جانب الإناء الأبيض يكون حدوثاً للتكليف لدى الصباح.

إذا عرفت ذلك قلنا فيما نحن فيه ـ وهو فرض الملاقاة لاحد الإناءين ـ: إنّ التقدّم والتأخّر الرتبي ليس في الجانب المشترك، وهو طرف الملاقى، وإنـّما التقدّم والتأخّر الرتبي في جانبي الافتراق، وهما الملاقى والملاقي، وقد عرفت أنّ التقدّم والتأخّر في جانبي الافتراق ولو كان زمانياً لا يؤثّر في تحقيق نكتة الانحلال، فإلحاق التقدّم والتأخّر الرتبي بالتقدّم والتأخّر الزماني لا يصنع شيئأً في المقام.

ومن الطريف: أنـّه جاء في تقرير بحث المحقّق النائيني (رحمه الله)(1)في تقريب


(1) هذا إشارة إلى ما جاء في أجود التقريرات: ج 2، ص 263 ونصّه ما يلي: ..... أنّ

279

الانحلال في المقام: أنّ نجاسة الملاقي معلولة لنجاسة الملاقى ومتأخّر رتبة عنه، فلا نعلم في المرتبة المتأخّرة بحدوث تكليف، لاحتمال كون النجس هو الإناء الآخر الذي كان نجساً من أوّل الأمر.

فتراه قد ذكر في المقدّمة التقدّم والتأخّر بلحاظ جانبي الافتراق، وفي مقام الاستنتاج صوّر كون التكليف بقائياً لا حدوثياً في الجانب المشترك، ففي المقدّمة نظر بإحدى العينين، وفي الاستنتاج نظر بالعين الاُخرى، ولا أدري ماذا كان المقرّر يتصور من معنى لهذا الكلام؟! أو كان كلام الاُستاذ مشوّشاً، فانعكس التشويش على كلام المقرّر .

ولعلّ مقصود المحقّق النائيني (رحمه الله) في المقام كان تقريباً له صورة، وإنْ كان بحسب التحقيق ـ أيضاً ـ غير صحيح. وتوضيحه: أنّ المعلوم بالعلم الأوّل على كلا تقديريه ثابت بقطع النظر عن الملاقاة، فهو على تردّده وإجماله ثابت في المرتبة السابقة على الملاقاة، وأمـّا المعلوم بالعلم الثاني فهو وإنْ كان على أحد تقريريه ثابتاً ـ أيضاً ـ بقطع النظر عن الملاقاة، وهو تقدير كون النجس طرف الملاقى، لكنّه على أحد التقديرين ـ وهو تقدير نجاسة الملاقي ـ مقيّد بالملاقاة، فالمعلوم الثاني بما هو معلوم وعلى تردّده وإجماله يكون في المرتبة المتأخّرة عن الملاقاة، فإنّ النتيجة هنا تتبع أخسّ المقدّمات، إذن فالمعلوم الأوّل على تردّده مقدّم رتبة، والمعلوم الثاني بما هو معلوم على تردّده مؤخّر رتبة، ثم المعلوم الثاني لا يصعد إلى درجة المعلوم الأوّل لتقيّده بالملاقاة، لكن المعلوم الأوّل ينزل إلى درجة المعلوم الثاني بالإطلاق، وذلك سنخ ما يقال في إبطال الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري بتعدّد الرتبة، من أنّ الحكم الظاهري وإن كان لا يصعد إلى مرتبة الحكم الواقعي لتقيّده بالشكّ، لكنّ الحكم الواقعي ينزل إلى مرتبته بالإطلاق، وعليه نقول: إنّ المعلوم الثاني الذي هو على تردّده متأخّر رتبة عن المعلوم الأوّل ليس عبارة عن حدوث التكليف، لأنـّه على أحد التقديرين ـ وهو تقدير كون النجس طرف الملاقى ـ يكون هو المعلوم في


الشكّ في نجاسة الملاقي حيث كان ناشئاً عن الشكّ في نجاسة ما لاقاه، ففي مرتبة سابقة على الملاقاة يعلم بنجاسة متنجّزه في الطرفين، فالتكليف في أحد طرفي العلم الثاني، يعني طرف الملاقى وهو الجانب المشترك، يكون منجّزاً في مرتبة سابقة على العلم، فلا يكون علماً بتكليف مطلقاً.

280

المرتبة السابقة نزل إلى هذه المرتبة، فهو بحسب عالم الرتب تكليف بقائي لا حدوثي، فقد تمّ التقدّم والتأخّر الرتبي بلحاظ الجانب المشترك، وبه تمّ الانحلال.

ويرد عليه: أوّلاً: أنّ المعلوم الأوّل وإنْ لم يكن مقيّداً بالملاقاة وكان مطلقاً من هذه الناحية بخلاف المعلوم الثاني، لكنّ هذا لا يجعله في رتبة أسبق من المعلوم الثاني، فمثلاً زيد هو بن عمرو مؤخّر من عمرو، لأنـّه ابنه لكنّ بكراً الذي ليس هو ابن عمرو لا يكون أسبق رتبة من زيد، باعتبار تقيّد زيد بالمرتبة المتأخّرة من عمرو وعدم تقيّد بكر بذلك.

وثانياً: لو فرض المعلوم الأوّل في المرتبة السابقة فلا معنى لمجيئه بالإطلاق إلى المرتبة اللاحقة، كما لا معنى لذلك بالنسبة لمسألة الحكم الواقعي والظاهري، فهذا الذي يذكر في تلك المسألة لا يصحّ من دون تأويل، فإنـّه إن كان المراد بذلك وجود الشيء في مرتبتين بمعنى أن تكون لوجوده مرتبتان، فهذا محال، وإن كان المراد إطلاقه للمرتبتين بحيث يتصوّر هذا شيئاً في قبال أنْ تكون للشيء مرتبتان، فهذا أمر لا يتعقّل(1).

 


(1) لم يكن كلام اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) ظاهراً في انحصار الإشكال على التقريب الذي مضى كتوجيه لكلام المحقق النائيني بهذين الإيرادين.

ويمكن أنْ يرد عليه مضافاً إلى ما ذكر: ـ

أوّلاً ـ أنّ ما ذكر من أنّ المعلوم الثاني بعد ما كان بأحد تقديريه مقيّداً بالملاقاة، إذن بما هو وبما هو عليه من التردّد مؤخّر رتبة؛ لأنّ النتيجة تتبع أخس المقدّمات، إما غير صحيح وإما غير مفيد، فأنـّه لو اُريد بالمعلوم الجامع بين المقيّد وغير المقيّد، أو قل: الجامع بين المقدّم والمؤخّر، فهو وإنْ كان بما هو معلوم مجمل مؤخراً رتبة، لكن هذا لا يفيد في المقام؛ إذ الذي يقتضي الانحلال هو تصوير التقدّم والتأخّر في الجانب المشترك، لا في الجامع، فإنّ المهمّ إثبات أنّ التكليف في الجانب المشترك قد لا يكون حدوثياً، فليس المعلوم بالإجمال حدوثياً على كلّ تقدير، وأمـّا لو فرض كون التكليف في الجانب المشترك حدوثياً مع أنـّه في الجانب الآخر ـ أيضاً ـ حدوثي بلا إشكال، فمن الواضح: أنّ الجامع بين الحدوثي والحدوثي الذي هو المعلوم بالعلم الثاني حدوثي، ولا يوجد أثر فيما هو المقصود؛ لفرض تأخّر هذا الجامع رتبة بما هو معلوم. ولو اُريد بالمعلوم الواقع فمن الواضح أنّ الواقع المردّد بين المقدّم والمؤخّر ليس مؤخراً، بل هو مردّد بين المقدّم والمؤخّر، وتابع لواقعه، فهو مقدّم على أحد التقديرين، ومؤخّر على التقدير الآخر.

281

هذه هي عمدة ما ذكره الأصحاب من وجوه القول بالانحلال، وقد عرفت عدم تماميّة شيء منها.

هذا تمام الكلام في أصل مسألة ملاقي بعض الأطراف.

وبقي في المقام ذكر اُمور:

 

التبادل في الحكم بين الملاقي والملاقى

الأمر الأوّل: أنـّه حاول بعض من قال بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقي أنْ يوقع التبادل بين حكم الملاقي والملاقى في بعض الصور، كما إذا حصلت الملاقاة قبل العلم بالنجاسة، ثم خرج الملاقى عن محلّ الابتلاء، ثم علم إجمالاً بالنجاسة،


وثانياً ـ لو سلّمنا رتبتين للطرف المشترك فالمفروض أنّ التكليف لو كان في الطرف المشترك فهو في كلتا الرتبتين، إذن فالعلم الإجمالي المردّد بينه وبين الطرف المختصّ ـ وهو الملاقي ـ علم إجمالي بالحدوث، فإنّ التكليف لو كان في الملاقي فهو حدوثي، ولو كان في طرف الملاقى فهو أيضاً حدوثي في عالم الرتب، أي: أنـّه حدث في الرتبة الاُولى واستمر إلى الرتبة الثانية، فلو أردنا قياس الرتبة بالزمان كان هذا من قبيل ما لو علمنا إجمالاً: إمـّا بنجاسة هذا الإناء في هذا اليوم، أو بنجاسة الإناء الآخر من الأمس إلى اليوم، ولا شكّ في تنجيز ذلك.

ويمكن بيان الانحلال بالتقدّم الرتبي للمعلوم بتقريب آخر قد يكون أقلّ تعقيداً من التقريب الماضي، وذلك بأن يقال: إنّ نجاسة الملاقي في طول نجاسة الملاقى؛ لأنـّها مسبّبة عنها، وأمـّا نجاسة طرف الملاقى فهي في عرض كلتا النجاستين، فلها إطلاق لكلتا المرتبتين، فمن المحتمل أن يكون المعلوم الثاني بقائياً بحسب عالم الرتب، وذلك بلحاظ طرف الملاقى الذي هو الطرف المشترك، وهذا التقريب مشترك مع التقريب السابق في الروح والجوهر.

ويرد عليه: أوّلاً ـ أنّ كون نجاسة طرف الملاقى في عرض نجاسة الملاقى، وفي عرض نجاسة الملاقي لا يعني ثبوتها في مرتبتين؛ لأنّ عرضيّتها لهما ليست بمعنى تقيّدها بالمرتبتين بأنْ تكون مثلاً معلولة مع نجاسة الملاقى لعلّة واحدة، وفي نفس الوقت معلولة مع نجاسة الملاقي لعلّة واحدة، فإنّ هذا مستحيل، وإنـّما تكون عرضيّتها لهما معنى تحرّرها من قيد كلّ من المرتبتين.

وثانياً ـ الإشكال الأخير الذي أوردناه على التقريب السابق ـ وهو أنـّه بعد فرض كون الطرف المشترك في مرتبتين ـ يكون علمنا الإجمالي مردّداً بين الطرف المختصّ في مرتبته، وهي المرتبة الثانية فحسب، والطرف المشترك في كلتا مرتبتيه فهو على كلا تقديريه علم بتكليف حدوثي.

282

وبعد ذلك رجع الملاقى إلى محلّ الابتلاء، فهنا يقال بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقى، ووجوبه عن الملاقي(1).

وهذا البحث لا موضوع له بناءً على مبنانا من عدم الفرق بين الملاقي والملاقى في وجوب الاجتناب، وعدم تماميّة شيء من وجوه الانحلال، إلّا أنـّنا نتكلّم في هذا الفرع مبنيّاً على مبنى القوم.

والكلام في ذلك يقع في جهات ثلاث: الاُولى: في حكم الملاقي عند حصول العلم الإجمالي بالنجاسة، وقبل رجوع الملاقى إلى محلّ الابتلاء. والثانية: في حكم الملاقى بعد رجوعه إلى محلّ الابتلاء. والثالثة: في حكم الملاقي بعد رجوع الملاقى إلى محلّ الابتلاء.

أمـّا الجهة الاُولى: فالحكم فيها يختلف باختلاف المباني، وقد ذكرنا فيما سبق مباني أربعة للانحلال، وعدم وجوب الاجتناب عن الملاقي، وتلك المباني تختلف في جريانها وإثبات عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي هنا وعدمه.

فالمبنى الأوّل: كان عبارة عن الانحلال بملاك تعارض الأصل في طرف الملاقى في زمان سابق مع الأصل في الملاقى وتساقطهما، فيبقى الأصل في الملاقي سليماً عن المعارض، ويجري وإن لم ينحل بذلك الأثر العقلي للعلم الإجمالي، وهو اقتضاء التنجيز لا العلّيّة، فإنّ مجرّد الاقتضاء لا يمنع عن جريان أصل واحد في أحد الطرفين، وهذا المبنى ـ كما ترى ـ لا يثبت هنا عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي؛ لأنّ الأصل في طرف الملاقى لم يكن في زمان سابق مبتلىً بالمعارض، فالآن يعارض الأصل في الملاقي.

والمبنى الثاني: كان عبارة عن الانحلال ـ بناءً على الاقتضاء أيضاً ـ بملاك تعارض الأصل في طرف الملاقى مع الأصل في الملاقى في رتبة سابقة، فيبقى الأصل في الملاقي سليماً عن المعارض، وهذا المبنى يجري في المقام ويثبت عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي، لأنّ الأصل في طرف الملاقى قد ابتلى من الآن بالتعارض مع الأصل في الملاقى، لأنـّه أصبح الآن مجرىً للأصل بالرغم من خروجه عن محلّ الابتلاء، وذلك بلحاظ أثر النجاسة للملاقي، فالملاقى يكون مجرى لأصالة


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 227 حسب الطبعة المشتملة على تعليق المشكيني، ونهاية الدراية: ج 2، ص 260 ـ 261.

283

الطهارة النافية لنجاسة ملاقيه، فيقع التعارض بين الأصلين في الرتبة السابقة، ويتساقطان وتصل النوبة إلى أصالة الطهارة في الملاقي.

والمبنى الثالث: كان عبارة عن انحلال أصل الأثر العقلي للعلم الإجمالي من العلّية أو الاقتضاء بثبوت علم إجمالي منجّز في المرتبة السابقة لطرف الملاقى، وهو العلم الإجمالي الأوّل السابق رتبة على العلم الإجمالي الثاني، وهذا المبنى لا ينفع هنا للترخيص في الملاقي، لعدم وجود علم منجّز في المرتبة السابقة لطرف الملاقى، فيتنجّز طرف الملاقى مع الملاقي بالعلم الإجمالي بنجاسة أحدهما.

والمبنى الرابع: كان عبارة عن انحلال الأثر العقلي للعلم الإجمالي من العلّية أو الاقتضاء بثبوت معلوم منجَّز يكون مقدّماً رتبة على هذا المعلوم، وهذا المبنى أيضاً لا يأتي في المقام، إذ ليس هنا معلوم آخر في الرتبة السابقة على النجاسة المعلومة بين الملاقي وطرف الملاقى منجَّز، حتى يمنع عن تأثير العلم الثاني بالصياغة الضيائية أو الميرزائية، ومجرّد ثبوت نجاسة اُخرى معلومة في المرتبة السابقة على هذه النجاسة المعلومة لا أثر له، فإنّ تلك النجاسة المعلومة بعد فرض عدم تنجّزها حالها حال النجاسة المشكوكة، وإسقاطها للعلم الثاني عن كونه علماً بتكليف جديد يكون على حدّ إسقاط النجاسة المشكوكة للعلم الثاني عن كونه علماً بتكليف جديد، وفي نهاية الأمر لابدَّ لصاحب هذا المبنى دفعاً لهذا النقض الذي هو من الواضحات أنْ يأخذ في المعلوم الأوّل قيد التنجّز.

وأمـّا الجهة الثانية: فيختلف الحكم فيها ـ أيضاً ـ باختلاف المباني:

فعلى المبنى الأوّل لا يجب الاجتناب عن الملاقى بعد دخوله في محلّ الابتلاء، لأنّ الأصل في طرفه قد سقط في الزمان السابق بالتعارض مع الأصل في الملاقي.

وعلى المبنى الثاني قد ظهر أنّ أصالة الطهارة في الملاقى قد سقطت قبل رجوعه إلى محلّ الابتلاء بالتعارض مع أصالة الطهارة في طرفه، إلّا أنـّه يمكن أنْ يقال: إنّ أصالة الطهارة إنـّما سقطت في ذاك الوقت بلحاظ الأثر الثابت بالنسبة للملاقي، وأمـّا بلحاظ باقي الآثار فلم تكن جارية في نفسها، فالآن تجري بلا معارض؛ لأنّ أصالة الطهارة تنحلّ بعدد آثار الطهارة.

إلّا أنّ التحقيق هو التفصيل بين ما لو قلنا فقط بالمبنى الثاني ـ وهو الانحلال بملاك تقدّم الأصل رتبة ـ أو قلنا بالمبنى الأوّل أيضاً ـ وهو الانحلال بملاك تقدّم

284

الأصل زماناً؛ لعدم تناف بين المبنيين ـ فعلى الأوّل يسقط الأصل في الملاقى الآن حتّى بلحاظ باقي الآثار بالتعارض مع الأصل في طرفه؛ لأنّ الأصل في طرفه ليس مبتلىً بالتعارض مع أصل آخر في المرتبة السابقة على الأصل في الملاقى، وعلى الثاني يجري الآن الأصل في الملاقى بلحاظ باقي الآثار؛ لأنّ الأصل في طرفه قد سقط في زمان سابق بالتعارض مع الأصل في الملاقى بلحاظ أثره في الملاقي، فالأصل في الملاقى بلحاظ باقي الآثار يجري فعلاً بلا معارض.

وعلى المبنى الثالث والرابع لا يمكن إثبات عدم وجوب الاجتناب عن الملاقى بأحد المبنيين؛ لأنـّه لا يوجد علم منجِّز سابق رتبة على ما ينجّز الملاقى الآن قد نجّز في الرتبة السابقة طرف الملاقى، فإنّ ما نجّز طرف الملاقى كان هو العلم الإجمالي بنجاسته أو نجاسة الملاقي، وهو ليس سابقاً رتبة على ما يقتضي الآن تنجيز الملاقى، وكذلك لا يوجد معلوم منجَّز سابق رتبة، فإنّ المعلوم المنجّز كان عبارة عن نجاسة الملاقي أو طرف الملاقى، وليس هذا سابقاً رتبة على المعلوم المنجّز الآن، والتقدّم الزماني في المقام لا يفيد، لأنـّه ليس في الطرف المشترك حتّى يمنع عن كون العلم الثاني علماً بحدوث التكليف مثلاً.

وأمـّا الجهة الثالثة: فيختلف الحكم فيها ـ أيضاً ـ باختلاف المباني:

فبناءً على أنّ العبرة في الانحلال بالتقدّم الزماني للأصل، وبقاء المتأخّر فارغاً عن المعارض في زمانه لا بدّ هنا من الاجتناب عن الملاقي بعد رجوع الملاقى إلى محلّ الابتلاء؛ لأنّ أصله قد سقط في زمان سابق، وهو زمان خروج الملاقى عن محلّ الابتلاء بالتعارض مع الأصل في طرف الملاقى.

وبناءً على أنّ ميزان الانحلال هو التقدّم الرتبي للأصل، وبقاء الأصل المتأخّر فارغاً عن المعارض في رتبته لا يجب الاجتناب الآن عن الملاقي، كما لا يجب الاجتناب عنه قبل رجوع الملاقى إلى محلّ الابتلاء؛ لأنّ الأصل في طرف الملاقى مبتلىً بالتعارض مع أصل الملاقى في المرتبة السابقة(1).

 


(1) ولو بنينا على أنّ ميزان الانحلال هو كلّ من التقدّم الرتبي والزماني، بمعنى كفاية كلّ واحد منهما، فالنتيجة في المقام هي: أنّ أصل الطهارة في طرف الملاقى قد تعارض مع أصل الطهارة في الملاقى من قبل رجوعه إلى محلّ الابتلاء ـوذلك بلحاظ ما لها من أثر إثبات طهارة