457

العقل العملىّ لايخضع للبرهان

والواقع: أنّ أصل الحسن والقبح لا يمكن البرهنة عليه: لا بعقل التجربة، ولا بعقل البرهان، ولا بالبداهة.

أمّا الأوّل: فلوضوح عدم ارتباط قضايا العقل العملىّ بباب التجربة.

وأمّا الثاني: فلأنّ البرهنة على شيء عبارة عن تشكيل القياس، وإثبات الحدّ الأكبر للحدّ الأصغر بواسطة ثبوته للحدّ الأوسط. وذلك موقوف على درك ثبوته للحدّ الأوسط في المرتبة المتقدّمة على هذا القياس. فنحتاج فيما نحن فيه إلى حكم العقل العملىّ بالنسبة إلى الحدّ الأوسط، فننقل الكلام إليه إلى أن ينتهي الكلام إلى ما لا يكون انطباق الحكم عليه بواسطة حدّ آخر، وإلّا لتسلسل.

فنقول: إنّ تلك القضيّة الرئيسة غير ثابتة بالبرهان.

وأمّا الثالث: فلوضوح أنّه لا يمكن البرهنة على أىّ بديهىّ ببداهته.

نعم، يبقى في المقام شيء: وهو أنّ من يدرك حسن شيء أو قبحه هل يمكنه البرهنة على أنّ هذا الإدراك هل هو نابع من حاقّ النفس، أو أنّه ناشئ من تأديب المؤدّبين، وتعليم المعلّمين، وإيحاء المجتمع والقوانين، أو لا؟

والتحقيق: أنّ هذا ـ أيضاً ـ لا يمكن البرهنة عليه، وإنّما الشيء الممكن في المقام هو: أن يعرض هذا الشخص على نفسه في أىّ قضيّة من قضايا العقل العملىّ هذين الاحتمالين، أعني: كون هذا الإدراك ناشئاً عن حاقّ النفس، أو من التأديب والتلقين، فإن احتمل الثاني، أصبح هذا سبباً في الإنسان السوىّ؛ لزوال إدراكه وقطعه بتلك القضيّة. وإذا زال قطعه بذلك، لم يمكن إرجاع القطع؛ إذ احتمال كون هذا الإدراك معلولاً للتأديب والتلقين حاله حال سائر احتمالات معلوليّة شيء لشيء ممّا لايزول إلّا بأحد طريقين: إمّا التجربة، بإبعاد ما يحتمل علّيّته؛ كي يرى هل يبقى ما احتمل معلوليّته، أو لا؟ وإمّا بمخالفته لقوانين العلّيّة، كرفض معلوليّة شيء لشيء أخسّ منه وأسفل في سلّم الوجود.

458

وفيما نحن فيه لا يوجد شيء من الطريقين: أما التجربة فلأنّنا لم نجرّب أحداً بعزله عن المجتمع والتأديبات؛ كي نرى هل يدرك قضايا العقل العملىّ، أو لا؟ وأمّا قوانين العلّيّة فلأنّ معلوليّة ذلك للتلقين والتأديب ليست على خلاف قوانين العلّيّة.

أمّا إذا لم يزل إدراكه وقطعه بذلك مع كونه إنساناً سويّاً، فعدم زواله مع استعراض هذين الاحتمالين على النفس إمّا يكون ناشئاً عن عدم معلوليّته للتأديب أو التلقين، وإمّا عن اعتقاده بعدم معلوليّته لذلك. ومن يعتقد بذلك، يكفيه اعتقاده، ولا يحتاج إلى دليل.

والواقع: أنّ العقل العملىّ على قسمين: عقل أوّل مضمون الحقّانية، يدرك أصل الحسن والقبح، فنحكم به بحسن الصدق، وقبح الكذب، وحسن العفو، وقبح الإيذاء بلاتقصير(1)، إلى غير ذلك من القضايا التفصيليّة للعقل العملىّ. وعقل ثان يكثر فيه الخطأ يكون حاكماً في باب التزاحم وتغليب جانب الحسن أو القبح.


(1) لابأس هنا بالإشارة إلى أنّ الحسن والقبح المدركين بالعقل العملىّ أمران متباينان هويّة، وليس حسن الفعل أو الترك يعني قبح نقيضه، وقبح الفعل أو الترك يعني حسن نقيضه، وإن صحّ التعبير عرفاً عن نقيض الحسن بالقبيح، أو عن نقيض القبيح بالحسن.

وبتعبير أدقّ نقول: نحن لا نبحث عن المعنى اللغوىّ لكلمة الحسن والقبح، كي يعود البحث لفظيّاً، وإنّما نقصد في المقام: أنّ لدينا هويّتين متباينتين: إحداهما ما يمدح الإنسان على فعله أو تركه من دون أن يكون نقيضه محظوراً عقلاً وثانيتهما ما هو المحظور عقلاً فعلاً أو تركاً. وليسمّ الأوّل بالحسن، والثاني بالقبيح. وهذا هو الذي يفسّر لنا عنصر الإلزام تارة وعدم الإلزام اُخرى في منطق العقل العملىّ.

فمثلاً: نرى أنّ العقل يلزمنا بترك الكذب أو بكتمان السرّ أو طاعة المولى، في حين نرى أنّ العقل لا يلزمنا بالعفو عمّن ظلمنا، وإن كان يستحسن ذلك. والسرّ في هذا: أنّ الكذب أو إفشاء السرّ أو عصيان المولى قبيح، في حين أنّ القصاص ليس قبيحاً، وإن كان العفو حسناً. وليس الفرق بين ما يشتمل على عنصر الإلزام وما لا يشتمل عليه فرق درجة؛ ولذا ترى أنّ من يترك العفو، ويأخذ بحقّه من الظالم لا يذمّ أصلاً، لا أنّه يذمّ ذمّاً خفيفاً مثلاً؛ ولذا ترى ـ أيضاً ـ أنّه عند تزاحم الحسن والقبيح ـ دائماً ـ يغلب جانب القبح مهما كان قبحه ضئيلاً وحسن الحسن بالغاً ذروة الحسن ما لم يكن بمعنى قبح تركه.

فمثلاً: كشف سرّ للأخ تكون درجة سرّيّته ضئيلة جدّاً يكون قبيحاً، ولو ترتّب على ذلك نفع كبير للمجتمع، على رغم حكم العقل بحسن نفع المجتمع. فترى أنّ القبح هنا غلب الحسن مهما فرض القبح ضئيلاً والحسن بليغاً.

459

 

قاعدة الملازمة

 

وأمّا الجهة الثانية: وهي البحث عن قاعدة الملازمة، فنتكلّم في ذلك على مبان ثلاثة في العقل العملىّ:

المبنى الأوّل: افتراض أنّ الحسن والقبح عبارة عن قانون الشرع، وعلى هذا لا معنىً لافتراض الملازمة بين الحسن والقبح وحكم الشرع؛ إذ ليسا هما إلّا الحكم الشرعىّ، لا ملاكاً للحكم الشرعىّ.

والمبنى الثاني: افتراض رجوعهما إلى قانون العقلاء وتطابقهم على حكم مجعول لهم، كما نسبه المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله) إلى الفلاسفة، وذكر المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله)(1):أنّ حكم العقلاء بما هم عقلاء بشيء وجعلهم له لايستلزم حكم الشارع بما هو شارع به، ولكنّه يستلزم حكمه به بما هو عاقل، بمعنى: أنّه يتضمّن حكمه به؛ إذ هو ـ أيضاً ـ أحد العقلاء، وقد فرض تطابق العقلاء عليه. وحكم الشارع بما هو عاقل ينتج نفس نتيجة حكمه بما هو شارع: من ترتّب الثواب والعقاب؛ فإنّ المدح والذمّ المترتّبين على فعل الحسن والقبيح يختلفان باختلاف فاعل المدح والذمّ، فمدح العبد الذليل العاجز وذمّه شيء، ومدح المولى العزيز القادر وذمّه شيء آخر. ومدح المولى عبارة عن ثوابه، وذمّه عبارة عن عقابه.

أقول: إنّ المفروض أنّ العقلاء إنّما تطابقوا على الحكم لا بمجرّد أنّهم عقلاء، وإلّا لرجع ذلك إلى حكم العقل لا إلى حكم العقلاء وجعلهم، بل إنّما تطابقوا على الحكم، وتوافقوا عليه لاشتراكهم في شيء آخر أيضاً، وهو: الميل النفسانىّ لهم إلى جلب المصلحة ودفع


(1) المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله) تكلّم عن الحسن والقبح العقليّين في كتابه نهاية الدراية في عدّة مواضع بالمناسبة، ولكن عمدة كلامه في ذلك في موضعين، كلاهما في المجلّد الثاني من المجلّدات الثلاث لكتابه: أحدهما في بحث التجرّي ص 8، والثاني في بحث الانسداد ص 124 فصاعداً.

460

المفسدة. فلمّا رأوا ثبوت مصالح عامّة ونوعيّة في بعض الاُمور، ومفاسد كذلك في بعضها، تطابقوا على مدح مرتكب الأوّل، وذمّ مرتكب الثاني؛ كي يسعد بذلك المجتمع، وسعادة المجتمع ترجع إلى سعادة الأفراد، والشارع ليس شريكاً مع العقلاء في مصالحهم ومفاسدهم، ولا ينتفع بما ينتفعون به، ولا يتضرّر بما يتضرّرون به، وهو غنىّ عن العباد، غير محتاج إلى طاعتهم، ولا متضرّر بمعصيتهم. فدلالة تطابق العقلاء بالتضمّن على تطابق الشارع معهم غير صحيحة؛ لأنّ نكتة التطابق إنّما توجب تطابق العباد فيما بينهم، ولاترتبط بالمولى العزيز(1).

نعم، هنا كلام، وهو: أنّ هذا المولى صحيح أنّه لم يكن شريكاً معنا في المصالح والمفاسد، لكنّه يتحفّظ بأحكامه على مصالحنا، ودفع المفاسد عنّا، لكن هذا غير مرتبط بما هو محلّ الكلام فعلاً، وإنّما يرتبط باستكشاف الحكم الشرعىّ عن طريق العقل النظرىّ، باعتبار كشف العلّة عن المعلول، من باب تبعيّة الأحكام الشرعيّة للمصالح والمفاسد في نظر العدليّة.

المبنى الثالث: هو المبنى الصحيح: من أنّ الحسن والقبح العقليّين أمران واقعيّان يدركهما العقل.


(1) وبتعبير آخر: هل يفترض أنّ تطابق العقلاء على المدح والذمّ نشأ عن حرصهم على المصالح الشخصيّة، ودفعهم للمفاسد الشخصيّة، وإنّما جعلوا أحكام العقل العملىّ بنحو يحفظ المصالح النوعيّة، ويدفع المفاسد النوعيّة؛ لرجوع المصالح والمفاسد النوعيّة بوجه وآخر إلى المصالح والمفاسد الشخصيّة، ولو بمعنى رجوعها أحياناً إلى ذلك، فجعلوا أحكام الحسن والقبح عامّة بنكتة الاحتياط والتحرّز عمّا قد يترتّب من مفسدة شخصيّة، أو فوات مصلحة شخصيّة؟

أو يفترض أنّ العقلاء جعلوا أحكام العقل العملىّ بنكتة حبّهم العاطفىّ والغريزىّ لحفظ المصالح النوعيّة، ودفع المفاسد النوعيّة، ولو لم ترجع إلى الشخصيّة؟

أو يفترض أنّهم جعلوا هذه الأحكام لما أدركوا من حسن حفظ المصالح النوعيّة، ودفع المفاسد النوعيّة؟

والثالث لا يمكن المصير إليه؛ إذ ينقل الكلام إلى نفس حسن حفظ المصالح النوعيّة، ودفع المفاسد النوعيّة، فمن الذي جعل ذلك؟ ولماذا جعل؟!

والأوّل والثاني لا يدلّان بالتضمّن على موافقة المولى سبحانه؛ إذ هو غنىّ عن المصالح، ومنزّه عن العواطف. نعم، يبقى علمنا الخاصّ صدفة بأنّه تعالى يهتمّ بمصالح العباد، وهذا أمر آخر كما جاء بيانه في المتن.

461

والواقع: أنّ حكم العقل بالحسن والقبح بهذا المعنى لا يستلزم حكم الشرع على طبقه، ولا ينافي الحكم على طبقه، بتخيّل أنّه مع حكم العقل يكون حكم الشرع لغواً وبلا فائدة.

وتوضيح ذلك: أنّ نفس إدراك الحسن والقبح له اقتضاء للتحرّك نحو الفعل والترك، ولابدّ من ملاحظة النسبة بين هذا الاقتضاء ومدى اهتمام المولى بالفعل أو الترك، فإن كان الثاني أكثر من الأوّل، أبرز المولى ما في نفسه من شدّة الاهتمام عن طريق الحكم والجعل؛ إذ إنّ عدم الإبراز كاشف عن عدم الاهتمام. وليس حكم العقل في المقام موجباً للغويّة هذا الحكم؛ إذ بحكم المولى وإبرازه لشدّة الاهتمام يشتدّ الحسن أو القبح، ويضاف إلى الحسن والقبح الثابتين أوّلاً حسن طاعة المولى وقبح معصيته.

وإن لم يكن الثاني أكثر من الأوّل، لم يكن داع للمولى إلى جعل الحكم على وفق ما حكم به العقل العملىّ. إذن فحكم العقل العملىّ لا هو مناف لحكم الشارع، ولا هو مستلزم له، وإنّما يكون حكم الشارع وعدمه تابعاً لمدى اهتمام المولى بالفعل أو الترك. هذا.

وعدم جعل الحكم من قبل المولى بناءً على نفي الملازمة ـ فيما لو كان الحسن والقبح حكمين عقلائيّين ـ يؤمّن من عقاب المولى، لكنّه لا يؤمّن على هذا المبنى ـ وهو واقعيّة الحسن والقبح ـ من عقابه؛ فإنّ نفس الحسن والقبح الواقعيّين عند إدراكهما يكفيان للاستحقاق الواقعىّ للمدح والذمّ، ومدح المولى ثوابه، وذمّه عقابه. فالعقل العملىّ لم يكن مثبتاً للحكم الشرعىّ، لكنّه مثبت لنتيجته: من استحقاق الثواب والعقاب(1).

 


(1) لايخفى أنّ الحسن والقبح يستتبعان أمرين مختلفين في الهويّة: أحدهما ما قد نسمّيه بالمدح والذمّ بالمعنى الذي يكون عبارة عن مجرّد التحسين والتقبيح للفاعل وسريرته، والثاني المجازاة والمكافأة التي يستحقّها الشخص بحكم العقل العملىّ، وهو الثواب والعقاب. هذا بناءً على واقعيّة الحسن والقبح. أمّا بناءًعلى عقلائيّتها، فالتحسين والتقبيح ـ أيضاً ـ نوع مكافأة عقلائيّة تأديباً ومنعاً عن المفاسد. ويشهد لتعدّد الأمرين وعدم رجوع أحدهما إلى الآخر: أنّ المدح والذمّ يعدّان من حقّ كلّ أحد يطّلع على صدور الحسن أو القبيح عن هذا الإنسان، في حين أنّ الثواب والعقاب يثبتان ـ بناءً على واقعيّة الحسن والقبح ـ على من اُحسن بشأنه، ولمن هضم حقّه، ويثبتان ـ أيضاً ـ لوليّ المجتمع كتأديب، ودفع للمفاسد، وجلب للمصالح.

ورأيت المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله) في بحثه عن الانسداد في نهاية الدراية ملتفتاً إلى تعدّد الأمرين، إلّا أنّه يقول: إنّ المدح والذمّ قد يقصد بهما معنىً أعمّ بحيث يشمل الثواب والعقاب، وبهذا المعنى يؤمن بأنّ مدح

462


المولى ثوابه، وذمّه عقابه. فإن كان اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)يقصد هذا المعنى، فلابأس بذلك، وأمّا إن كان المقصود إنكار وجود أمرين متباينين هويّة، يستتبعهما الحسن والقبح، وكأنّهما لايستتبعان إلّا شيئاً واحداً، وهو المدح والذمّ، ومدح المولى ثوابه، وذمّه عقابه، فهو غير صحيح.

ثُمّ إنّ استتباع الحسن والقبح العقليّين للثواب والعقاب من قبل المولى من دون استلزامهما لحكم المولى قد يورد عليه ـ بعد ما اتّضح من الفرق بين المدح والذمّ والثواب والعقاب، وأنّ العقاب إنّما هو شأن المظلوم، أو شأن وليّ المجتمع للتأديب ودفع المفاسد ـ: أنّه لامسوّغ للعقاب في عالم الآخرة من قبل المولى، لا بملاك التأديب ودفع المفسدة؛ لأنّ المفروض أنّه قد انتهت حياة الدنيا، ولا فائدة في التأديب، ولا بملاك المظلوميّة؛ لأنّه لم يظلم المولى؛ إذ لم يكن المولى قد حكم بشيء حتّى تكون مخالفته ظلماً له، فيستحقّ العقاب من قبله بحكم العقل العملىّ.

والواقع: أنّ حكم العقل العملىّ يكشف عن عدم رضا المولى بمخالفته؛ للقطع بأنّ المولى لا يرضى بالقبيح. فروح الحكم ثابت، وقاعدة الملازمة بهذا المعنى تامّة، ومخالفة العقل العملىّ مخالفة للمولى بهذا المعنى، فيكون قد ظلم المولى، ويستحقّ العقاب. نعم، الحكم بملاك اهتمام إضافيّ وزيادة على المقدار الذي أدركه العقل بحاجة إلى إبراز من قبل المولى، ولا يستلزمه حكم العقل. فإن كان مقصود اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) هو هذا المعنى الذي شرحناه، فهو تامّ.

وفي ختام الكلام لا بأس بأن نتعرّض بالمناسبة لما هو المحرّك الحقيقىّ للإنسان نحو الأعمال الحسنة وترك الأعمال القبيحة، فنقول: قد أفاد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في مقدّمة كتاب فلسفتنا ما حاصله: أنّ حبّ الذات يكمن وراء الحياة الإنسانيّة كلّها، ويوجّهها بأصابعه، فحبّ الذات ـ بمعنى حبّ اللذّة وبغض الألم ـ هو الذي يفسّر سلوك الإنسان في مجالات الأنانيّة والإيثار على السواء، ولايمكن تكليف الإنسان أن يتحمّل مختاراً مرارة الألم دون شيء من اللذّة في سبيل أن يلتذّ الآخرون ويتنعّموا، إلّا إذا انتزعت منه إنسانيّته، واُعطي طبيعة جديدة لا تتعشّق اللذّة، ولا تكره الألم. ولدى الإنسان استعدادات كثيرة للالتذاذ بأشياء متنوّعة: مادّية، كالطعام والشراب والمتع الجنسيّة وما إليها، أو معنوية، كالالتذاذ الخلقىّ والعاطفىّ بقيم خلقيّة، أو أليف روحىّ أو عقيدة معيّنة وما إليها. وهذه الاستعدادات تنضج بعضها عند الإنسان بصورة طبيعيّة كاستعداده للالتذاذ الجنسىّ مثلاً، في حين نجد أنّ ألواناً اُخرى منها ربّما لا تظهر في حياة الإنسان، وتظلّ تنتظر عوامل التربية التي تساعدها على نضجها وتفتّحها. وغريزة حبّ الذات من وراء هذه الاستعدادات جميعاً تحدّد سلوك الإنسان وفقاً لمدى نضج تلك الاستعدادات. فطريق تربية الإنسان وجعله على مستوى التضحية والإيثار وما إلى ذلك هو: إدخال هذه الاُمور في دائرة التذاذاته، وإدراجها في حيطة حبّ الذات. وذلك يتمّ باُسلوبين قد سلكهما الأنبياء العظام صلوات الله عليهم أجمعين:

أحدهما: أن يفهم هذا الإنسان أنّ الحياة ليست عبارة عن هذه الحياة الدنيويّة القصيرة، بل وراءها حياة دائمة. وما يتراءى من التزاحم بين المصالح الشخصيّة الضيّقة ومصالح الإيثار والتضحية إنّما هو بلحاظ هذه الحياة القصيرة المدى، وما يرى بالنظرة القصيرة خلاف المصلحة الشخصيّة قد يرى بالنظرة الواسعة على وفق المصلحة الشخصيّة.

والثاني: إنضاج وتنمية تلك الاستعدادات الخلقيّة الخيّرة؛ كي يلتذّ الإنسان بالأعمال الخيّرة، وبذلك

463


تدخل تلك التضحيات والإيثارات في دائرة اللذّات الشخصيّة وحبّ الذات.

أقول: إن كان المقصود بهذا الكلام كون العلّة الغائيّة لأفعال الإنسان ـ حتّى التضحيات والإيثارات ـ هي اللذّة الشخصيّة، والتخلّص الشخصىّ من الألم، فهذا خلاف الواقع؛ فإنّ اللذّة والألم الروحيّين إنّما ينشآن عن الوصول إلى المحبوب أو فقده، أو لقاء المبغوض أو فقده، فهناك حبّ وبغض متعلّق بشيء في المرتبة المتقدّمة على اللذّة والألم، أي: إنّ هناك ما يكون مطلوباً للإنسان، ويكون غاية يصبو إليها في المرتبة المتقدّمة على اللذّة والألم، والحبّ والبغض غير اللذّة والألم؛ ولذا يكونان فعليّين قبل اعتقاد فعليّة المحبوب والمبغوض، في حين أنّ اللذّة والألم يصبحان فعليّين باعتقاد فعليّة المحبوب والمبغوض.

والحاصل: أنّ العلّة الغائيّة لمن يحبّ الإحسان إلى اليتيم هي ارتياح اليتيم، لا ارتياحه هو فحسب، وان كان يترتّب على ذلك ارتياحه هو. وهذا هو السرّ فيما يحكم به العقل العملىّ: من أنّ من يحسن إلى شخص حبّاً له يكون مديناً له بدرجة غير ثابتة فيما لو أحبّ إحسانه، ولكنّه لم يقدر خارجاً على إحسانه، فلو كان صدور الإحسان عنه لأجل التذاذه هو فحسب دون التذاذ محبوبة، كان حاله حال من أحبّ ذاك المحبوب والإحسان إليه، ولكنّه لم يتمكّن من ذلك؛ فإنّ من تمكّن من ذلك وفعل إنّما فعل لأجل نفسه، فلا موجب للامتنان منه إلّا بنكتة أنّه سنخ إنسان يلتذّ براحة ذاك الشخص، وهذا أمر مشترك على حدّ سواء بين من قدر على الإحسان ومن عجز عنه.

وإن كان المقصود بهذا الكلام حصر العلّة الفاعليّة لتحريك الإنسان في اللذّة والألم دون العلّة الغائيّة، كما فسّر هو (رضوان الله عليه) كلامه بذلك حينما أشكلت عليه بما سبق أو ببعض ما سبق، فذكر: أنّه ليس المقصود أنّ الإنسان حينما يقوم بمثل عمليّات الإيثار يقوم بها لغاية التذاذه هو، بل غايته نفس النتائج التي يلتذّ بها، وإنّما المقصود: أنّ التذاذه بتلك النتائج هو العلّة الفاعليّة المؤثّرة في اندفاعه نحوها، ولولا التذاذه بها أو تألّمه من فقدها، لما تحرّك نحوها.

أقول: إن كان المقصود بهذا الكلام حصر العلّة الفاعليّة لتحريك الإنسان في اللذّة والألم، قلنا: إنّ كون اللذّة والألم علّة فاعليّة يجب أن يرجع إلى أحد معان ثلاثة:

1 ـ كون اللذّة والألم هما الدافعان القهريّان للإنسان بلااختيار.

2 ـ كونهما دخيلين في القدرة.

3 ـ كونهما دخيلين في تحقّق الإرادة مع فرض انحفاظ القدرة والاختيار بغضّ النظر عنهما.

والأوّل: يعني الجبر وعدم الاختيار، وينهي موضوع قيم العقل العملىّ والمعنويّات.

والثاني: ـ أيضاً ـ يعني الجبر؛ إذ لو كان الالتذاذ بالشيء أو التألّم من نقيضه هو الذي يحدث القدرة على الشيء، فهذا يعني عدم القدرة على النقيض؛ إذ لايلتذّ به، بل يتألّم منه، في حين أنّ القدرة يجب أن تكون متساوية النسبة بين الطرفين، وإلّا لخرجت عن كونها قدرة.

والثالث: يرجع إلى كون اللذّة والألم دخيلين في العلّة الغائيّة؛ إذ مع تماميّة الالتفات إلى العلّة الغائيّة ومع تماميّة القدرة على الشيء لامعنىً لتوقّف انقداح الإرادة على شيء آخر، كاللذّة والألم، فتوقّف ذلك عليه إمّا يعني دخله في القدرة، أو يعني دخله في الغاية المطلوبة.

وقد يقال: إنّ العلّة الغائيّة التي هي متأخّرة في الوجود عن المعلول تكون بوجودها العلمىّ هي العلّة

464


الفاعليّة لتحريك الإنسان، وهي المقترنة بالمعلول زماناً والمتقدّمة عليه رتبة. وللإنسان في عمله للخير علّتان غائيّتان: إحداهما النتيجة المطلوبة التي يلتذّ بها أو يتألّم بفقدها، والثانية نفس ذاك الالتذاذ أو التخلّص من الألم. والاُولى وحدها لا تصبح بوجودها العلمىّ علّة فاعليّة، ولا تحرّك الإنسان؛ وذلك لأنّها مزاحمة بعلّة غائيّة اُخرى، وهي: راحة الفاعل؛ فإنّ الفاعل كما يحبّ راحة اليتيم كذلك يحبّ راحة نفسه، والمفروض أنّ ذاك العمل يتعبه، ويأخذ شيئاً من نشاطه، والإنسان يحبّ راحة ومصلحة نفسه ـ مهما كانت صغيرة وضئيلة ـ أكثر من حبّه لراحة ومصلحة الآخرين مهما كانت كبيرة. أمّا الثانية: فهي التي تعوّض ما فقده من الراحة الشخصيّة براحة شخصيّة اُخرى، وقد تكون أكبر بكثير من الراحة المفقودة، وبذلك تتمّ العلّة الفاعليّة، أي: يصبح العلم بها علّة فاعليّة. ولعلّ هذا هو مقصوده ـ رضوان اللَّه تعالى عليه ـ من كون اللذّة والألم علّة فاعليّة.

إلّا أنّ هذا البيان ـ أيضاً ـ غير تامّ لأمرين:

الأوّل: أنّ من البديهىّ أنّ الراحة الشخصيّة الثانية أحياناً تفوق الراحة الشخصيّة الاُولى، ومن الواضح ـ أيضاً ـ أنّ الراحة الشخصيّة الثانية تساوي مدى حبّه ورغبته فيما اشتاق إليه من راحة الآخرين، وهذا يعني: أنّ ما اشتاق إليه من راحة الآخرين يفوق اشتياقه إلى راحة نفسه، إذن فلماذا يفترض أنّ هذا لا يحرّكه نحو المطلوب ما لم ينضمّ إلى الراحة الثانية؟

والثاني: أنّه ليس ـ دائماً ـ التحرّك والعمل متعباً وفاقداً للراحة، فحينما نفترض مستوىً من العمل لا ينافي الراحة ولا يوجب التعب، غاية ما هناك أنّ صدوره عن الإنسان بحاجة إلى داع له، وفرضنا أنّه اشتاق ولو بدرجة ضعيفة إلى نتيجة هذا العمل من راحة الآخرين، فلماذا لايحرّكه ذلك ما لم ينضمّ إلى الراحة الشخصيّة التي تتولّد من راحة الآخرين؟

وخلاصة الكلام: أنّه ليس المحرّك الأساس الذي يكمن وراء كلّ الأعمال البشريّة ـ دائماً ـ هو حبّ اللذّة وبغض الألم، بل نفس اشتياقه إلى أعمال الخير يكون دافعاً ومحرّكاً. نعم، لا نتحاشى من ثلاثة اُمور:

الأوّل: بداهة استحالة انفكاك حبّ الذات ـ بمعنى حبّ اللذّة وبغض الألم ـ من الإنسان ما لم يبدّل إلى طبيعة اُخرى.

الثاني: أنّ اللذّة والألم يرافقان دائماً الأعمال الخيريّة ـ فيمن يحبّ الخير ـ أو فقدانها، باعتبار أنّ الوصول إلى المحبوب يوجب اللذّة، وفقدانه يوجب الألم.

الثالث: أنّ هذين اللذّة والألم يساعدان على الأعمال الخيّرة، ويصبحان دافعاً آخر إلى صفّ دافعه الأوّل، فيؤكّد أو يكمّل أثره، ويتّفق في كثير من الأحيان أنّ الدافع الأوّل ـ لولا الدافع الثاني ـ ناقص وغير كاف لتحريك الإنسان في مقابل ما يملكه من حبّ الراحة مثلاً. فتلك الانفعالات العاطفيّة والتأثّرات النفسيّة والالتذاذات الروحيّة تكمّل الدافع وتحرّك الإنسان. ولعلّ هذا هو الذي أوحى إلى ذهن سيدنا الاُستاذ الشهيد (رضوان الله عليه) بما قاله في مقدّمة فلسفتنا، ونقلناه عنه.

465

الدليل العقليّ

4

 

 

 

القُصور في عالم الحجّيّة

 

 

 

 

 

467

 

 

 

 

المرحلة الثالثة: مرحلة الحجّيّة، فقد يدّعى القصور بحسب عالم الحجّيّة من ناحية ورود الردع من الشارع عن الأدلّة العقليّة.

ودعوى الردع عنها تتصوّر على نحوين:

الأوّل: دعوى الردع عن خوض الطريق العقلىّ والتفكير فيه لاستنباط الحكم الشرعىّ؛ باعتبار أنّ هذا الطريق سيوصلنا إلى القطع بخلاف الواقع، فصحيح أنّه بعد حصول القطع يكون القطع حجّة على رغم كونه خلاف الواقع، لكنّه مع ذلك سيعاقب هذا الإنسان على مخالفته للواقع؛ لأنّه فوّته باختياره؛ لسلوكه لذاك الطريق، والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

الثاني: دعوى الردع عن نفس العمل بالقطع الحاصل عن طريق العقل بعد فرض حصوله. ويفترق الوجه الثاني عن الوجه الأوّل في اُمور:

منها: أنّه لو حصل له القطع صدفة بخلاف الواقع عن طريق العقل بلا تفكير وتعمّد في سلوك الطريق العقلىّ، كان معذوراً في العمل بقطعه على الأوّل دون الثاني.

ومنها: أنّ البحث على الأوّل يتمحّض في مرحلة الإثبات؛ إذ لا إشكال في إمكانه ثبوتاً. وعلى الثاني يقع البحث في أصل إمكانه ثبوتاً.

وعلى أىّ حال، فلنذكر أوّلاً البحث الثبوتىّ على الوجه الثاني، ثُمّ نعقّب ذلك بالبحث الإثباتىّ.

أمّا البحث الثبوتىّ: فقد أفاد الاُصوليّون في المقام: أنّ حجّيّة القطع ذاتيّة، وكلّ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات، وحجّيّة كلّ شيء تكون بالقطع، وحجّيّة القطع تكون بذاته، فلا يمكن الردع عنها؛ فإنّ ذاتىّ الشيء لا يمكن انفكاكه منه. وفرّعوا على ذلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ومعذّريّة الشكّ عقلاً ما لم تقم حجّة شرعيّة؛ وذلك لعدم وجود ما هو حجّة بالذات، وعدم الانتهاء إليه. ومن هنا وقعوا في حيص وبيص في كيفيّة تصوير حجّيّة

468

الأمارات بالعرض ورجوعها إلى ما بالذات، حتّى أدّى ذلك عند بعضهم إلى القول بجعل العلم والطريقيّة، والالتزام بكفاية صرف اعتبار العلم والطريقيّة في الحجّيّة، وما إلى ذلك ممّا أدّى إليه هذا المبنى.

وقد أوضحنا في أوّل مباحث القطع: أنّ ذاتيّة حجّيّة القطع ـ بالمعنى الذي تتفرّع عليه هذه الاُمور ـ ممّا لا أساس له، ويجب البدء في الحساب من مولويّة المولى، فلو أنكر أحد ـ والعياذ بالله ـ مولويّته رأساً، لم يبق موضوع لبحث حجّيّة القطع بحكمه، ولو سلّمت له المولويّة بمعنى حقّ الطاعة والتعظيم الخاصّ على العباد، فلابدّ أن ينظر في مقدار سعة هذا الحقّ وضيقه. فإن حكم العقل العملىّ باختصاصه بالأحكام المقطوعة، تمّ قبح العقاب عند الشكّ، وإن حكم بسعة دائرة الحقّ لفرض الشكّ، لم يبق أساس لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وأمّا مسألة إمكان ردع الشارع عن حجّيّة القطع، فيمكن دفع هذه الدعوى بوجهين:

الوجه الأوّل: أن يقال: إنّ حقّ المولويّة تنجيزىّ، وليس معلّقاً على عدم إسقاط المولى له، وحينئذ لا معنىً للردع عن حجّيّة القطع؛ إذ مع فعليّة المولويّة لابدّ من الطاعة، ورفعها غير ممكن لتنجيزيّتها. فالترخيص في مخالفة القطع قبيح، وصدور القبيح عن المولى مستحيل.

إلّا أنّ كون حقّ المولويّة تنجيزيّاً أو تعليقيّاً لا يمكن البرهنة عليه.

فلو سلّم الأخبارىّ تنجيزيّة حقّ المولويّة، كان هذا جواباً كافياً في مقام الاحتجاج معه، أمّا لو ادّعى تعليقيّته، فهذا الجواب إنّما هو دعوى في مقابل دعوى، يدّعي صاحب كلّ من الدعويين وجدانيّتها.

الوجه الثاني: أنّ يقال: إنّ ترخيص الشارع ـ بعد تسليم كون حقّ المولويّة تعليقيّاً ـ إمّا أن يكون بحكم نفسىّ، أو يكون بحكم طريقىّ، وكلاهما مستحيل:

أمّا الأوّل: فلأنّ الحكم النفسىّ ينشأ عن مبادئ الحكم في نفس المتعلّق، والمفروض أنّ هذا الشخص يقطع بحكم آخر خلاف هذا الحكم، فيقطع بمبادئ اُخرى في المتعلّق، ولا يمكنه التصديق بكلا الحكمين؛ للتضادّ بين الأحكام في المبادئ، فيلزم اجتماع الضدّين في اعتقاد المكلّف فقط، أو فيه وفي الواقع.

469

وأمّا الثاني: فلأنّ الحكم الطريقىّ ينشأ ـ كما سيأتي بيانه إن شاء اللَّه تعالى في بحث الجمع بين الحكم الظاهرىّ والواقعىّ ـ بملاك التحفّظ على مبادئ حكم نفسىّ، وبعد فرض قطع العبد بحكم في المقام: من إباحة أو تحريم أو غير ذلك، فهو لا محالة قاطع بعدم وجود مبادئ حكم آخر في هذا الشيء، فلا يمكنه التصديق بالحكم الطريقىّ الذي يأتي لهدف التحفّظ على مبادئ الأحكام النفسيّة. وهذا بخلاف فرض الشكّ الذي نجمع فيه بين الحكم الواقعىّ والظاهرىّ؛ إذ هناك لا يعلم العبد بعدم ثبوت المبادئ في الشيء الفلاني، ويحتمل ثبوت المبادئ والحكم النفسىّ فيه، وعلى فرض ثبوته فيه يكون منجّزاً بالحكم الطريقىّ، واحتمال التكليف المنجّز منجّز. أمّا في المقام فلا يحتمل تكليفاً بالنسبة إلى هذا الشيء ينجّز على فرض ثبوته بالحكم الطريقىّ؛ كي يكون احتمال التكليف المنجّز منجّزاً له(1).

وهذا الجواب يمتاز من الجواب الأوّل بأنّه لا يختصّ بفرض تنجيزيّة حقّ المولويّة(2).

هذا. تبقى هنا صورة واحدة يمكن للمولى فيها الترخيص في مخالفة القطع بناءً على تعليقيّة الحقّ، وهي: فرض تعلّق غرض المولى بصدور الامتثال عن العبد بملاك حبّه للمولى ـ مثلاً ـ فحسب، لا بملاك التنجيز العقلىّ، فيرفع عنه المولويّة كي يكون عمل العبد لو عمله خالصاً لحبّه مثلاً، دون دخل التنجيز في الحساب. لكن هذا الفرض لا واقع له فيما نحن فيه.

وأمّا البحث الإثباتىّ: فنحن بحاجة إليه بالنسبة إلى فرض الردع عن الخوض في الأدلّة العقليّة. أمّا الردع عن حجّيّة القطع، فقد عرفت عدم إمكانه.

وما يمكن الاستدلال به على ذلك من الروايات طوائف خمس:


(1) يكفي لمعقوليّة وصول الحكم الطريقىّ برفع حقّ المولويّة: أن يحتمل هذا العبد خطأ بعض قطوعه في الواقع، ممّا أوجب اضطرار المولى إلى اتّخاذ احتياط في تمام قطوعه برفع حقّ المولويّة عنه. والقاطع كان لا يعقل أن يحتمل خطأ قطعه حين القطع، لكن احتماله لخطأ بعض قطوعه على الإجمال معقول. إذن فبناءً على تعليقيّة حقّ المولويّة لا يتمّ هذا الوجه، وإنّما يتمّ بناءً على تنجيزيّته، ويرجع بروحه إلى الوجه الأوّل.

(2) عرفت أنّه يختصّ بذلك، ويكون مرجع الوجهين بعد فرض الاختصاص بذلك إلى وجه واحد، وكلّ من البيانين مكمّل للبيان الآخر.

470

الاُولى: ما دلّ على تحريم الحكم بغير ما أنزل اللَّه(1).

ويرد على الاستدلال به: أنّ حكم العقل رافع لموضوع ذلك؛ لأنّ المفروض أنّنا قد أدركنا عن طريق العقل كون الحكم الفلاني ممّا أنزل اللَّه وحكم به.

الثانية: ما دلّ على تحريم الحكم والقول بغير علم، أو بلا هدى، أو بلا حجّة(2).

وهذه حالها حال الطائفة الاُولى، فبإدراك العقل يثبت العلم والبيّنة والهدى.

الثالثة: ما دلّ على النهي عن الاستقلال عنهم(عليهم السلام) في الأحكام(3).

والجواب: أنّ الرجوع إلى الأدلّة العقليّة لا يعني الاستقلال عنهم؛ فإنّنا إنّما نخوض فيها بعد مراجعة الأخبار الواردة عنهم؛ كي نعرف هل ورد عنهم نهي عن ذلك، أو لا؟ وهذا ليس استقلالاً عنهم.

الرابعة: ما دلّ على عدم قبول الأعمال من دون ولاية ولىّ اللَّه(4).

ويرد على الاستدلال بذلك:

أوّلاً: أنّ المقصود بتلك الروايات ليس هو البطلان، بل نفي مرتبة القبول والثواب.

وثانياً: أنّ الرجوع إلى الدليل العقلىّ لا ينافي التديّن بولاية ولىّ اللَّه.

الخامسة: الأخبار الرادعة عن الرأي الناهية عنه، أو المبيّنة لعدم معذوريّة المعتمد عليه، بدعوى: شمول إطلاقها للرأي العقلىّ القطعىّ(5).

وهذه الطائفة هي العمدة في الاستدلال.

ولكن يرد على الاستدلال بها:

أوّلاً: أنّ دعوى القطع بكون المراد من الرأي فيها ما كان متعارفاً في ذاك الزمان من الأدلّة العقليّة الظنّيّة ـ من القياس والاستحسانات ـ ليست مجازفة؛ وذلك لشهادة اُمور كثيرة على ذلك، يحصل من مجموعها القطع بذلك بحساب الاحتمالات:

فمنها: الشواهد التأريخيّة الدالّة على إطلاق الرأي في ذلك الزمان على الظنون العقليّة،


(1) راجع الوسائل ج 27 بحسب طبعة آل البيت، الباب 5 من صفات القاضي، مضافاً إلى الآيات القرآنيّة:«ومن لم يحكم بما أنزل الله فاُولئك هم الكافرون ـ الظالمون ـ الفاسقون». سورة المائدة، الآية: 44 و45 و47.

(2) المصدر السابق، الباب 4 من صفات القاضي، مضافاً إلى القرآن: ﴿َلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾. سورة الإسراء، الآية: 36. ﴿إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾. سورة يونس، الآية: 36.

(3) المصدر السابق، الباب 7 من صفات القاضي.

(4) الوسائل ج 1، الباب 29 من مقدّمة العبادات، ص 118 فصاعداً بحسب طبعة آل البيت.

(5) الوسائل، الباب 6 من صفات القاضي.

471

ممّا يشهد على أنّه كان مصطلحاً خاصّاً بينهم.

ومنها: ورود كثير من تلك الأخبار في مقام الردّ على أصحاب الرأي بذاك المعنى، كأبي حنيفة وابن شبرمة وغيرهما.

ومنها: ما فيها من التعبير تارة بالرأي، واُخرى بالقول بغير علم، ممّا يوحي إلى كون المراد منهما شيئاً واحداً.

وثانياً: أنّ هذه الأخبار لو تمّت دلالتها، فهي معارضة لطائفتين:

الطائفة الاُولى: ما دلّت على حجّيّة العقل، والحثّ على اتّباعه، ومع تعارضهما لابدّ من أحد اُمور ثلاثة:

الأوّل: أن يجمع بينهما بانقلاب النسبة، بأن يقال: إنّ العقل والرأي متساويان، ويشملان العقل والرأي الظنّيّين والقطعيّين، ولكن العقل الظنّىّ من القياس والاستحسان قد ثبت عدم حجّيّته بأخبار كثيرة، ممّا تقيّد روايات حجّيّة العقل واتّباعه، فتصبح روايات حجّيّة العقل واتّباعه بعد التقييد أخصّ من روايات الردع عن العمل بالرأي.

ويرد عليه بعد منع كبرى الجمع بانقلاب النسبة ـ كما يأتي بيانه في محلّه إن شاء الله ـ: منع ثبوت صغراها فيما نحن فيه كما سيظهر لك قريباً.

الثاني: أن يقال: إنّ النسبة بينهما ابتداءً عموم مطلق؛ لأنّ روايات حجّيّة العقل لم ترد لتشريع حكم زائد على أحكام العقل، والعقل بنفسه مستقلّ بالحكم بأصالة عدم حجّيّة العقل الظنّىّ ما لم يشرّع الشارع الحكم بحجّيّته، وأنّ الشكّ في الحجّيّة مساوق للقطع بعدمها(1). فإذا كانت روايات حجّيّة العقل لا تدلّ على تشريع ذلك، فلا محالة لا تدلّ على حجّيّة العقل الظنّىّ.

وبتعبير آخر: أنّ هذه الروايات لم تدلّ إلّا على إمضاء العقل، ولا معنىً لإمضائه إلّا الاعتراف بمنجزيّة ما يراه منجّزاً ومعذّريّة ما يراه معذّراً، والمفروض أنّه لا يرى الظنّ في ذاته منجّزاً أو معذّراً. فإذا كانت روايات حجّيّة العقل بهذا البيان مختصّة بالأحكام القطعيّة للعقل، فهي أخصّ من روايات الردع عن الرأي، فتقدّم عليها بالأخصّيّة.

ويرد عليه: ما سيظهر لك من كون النسبة بينهما عموماً من وجه لا مطلقاً.


(1) قد يقال: إنّه بناءً على إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان تكون الحجّيّة بمعنى التنجيز ثابتة؛ لكن هذا لا يضرّ بأخصّيّة روايات حجّيّة العقل؛ إذ يكفي في ذلك عدم حجّيّة الظنّ في التعذير، سنخ أنّ الحجّيّة بمعنى التعذير ثابتة للشكّ والظنّ بناءً على القول بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، ولكن الحجّيّة بمعنى التنجيز غير ثابتة.

472

الثالث: أن يقال: إنّهما متعارضان بالعموم من وجه، ومتساقطان في مادّة التعارض، وهذا هو الحقّ في مقام العلاج(1)؛ وذلك لأنّه كما أنّ أخبار حجّيّة العقل أخصّ من أخبار الردع عن الرأي؛ لعدم شمولها للحكم العقليّ الظنّىّ، كذلك أخبار الردع عن الرأي أخصّ من ناحية اُخرى من أخبار حجّيّة العقل؛ لأنّها لا تشمل الأحكام البديهيّة للعقل، ولا القريبة من الموادّ البديهيّة التي لا تحتاج إلى مزيد تروّ وتأمّل؛ وذلك لعدم صدق عنوان الرأي الموجود في الأخبار عليها قطعاً؛ لأنّه ظاهر فيما يحتاج إلى مزيد تروّ وتفكّر(2).

وقد ظهر بما ذكرناه: أنّ النسبة بين الطائفتين عموم من وجه، سواء سلّمنا أنّ الأخبار الرادعة عن الرأي لا تشمل الأحكام العقليّة التي هي في المرتبة المتقدّمة على الأحكام الشرعيّة، بخلاف أخبار حجّيّة العقل، أو قلنا بعكس ذلك، أو قلنا بشمولهما معاً لذلك، أو قلنا بعدم شمولهما معاً لذلك؛ فإنّه يكفي في إثبات كون النسبة بينهما عموماً من وجه ما ذكرناه: من عدم شمول أخبار الردع عن الرأي للعقل البديهىّ وما يشبهه. وإذا كانت النسبة بينهما عموماً من وجه سقطتا في مادّة الاجتماع، وبالتالي لا يبقى دليل على الردع عن الأدلّة العقليّة.

هذا كلّه بعد تسليم صحّة سند الطائفتين، إلّا أنّ ما رأيناه من أخبار حجّيّة العقل هو الأخبار التي جمعها المحدّث الكلينىّ(رحمه الله) في الكافي، في باب العقل والجهل، وهي بين ما لا يدلّ على مطلوبنا، وما لا يكون صحيحاً سنداً.

فالأولى في مقام دفع الأخبار الرادعة عن الرأي ـ بعد فرض تسليم شمولها للرأي القطعىّ ـ هو إيقاع المعارضة بينها وبين الطائفة الآتية:

الطائفة الثانية: ما دلّت على الحثّ على اتّباع العلم، وبيانه للناس(3)، بنحو يدلّ على أصل الترخيص في تحصيله، لا على خصوص حجّيّته بعد حصوله. والنسبة بينها وبين ما دلّت على الردع عن الرأي ـ بعد تسليم شمولها للرأي القطعىّ ـ هي العموم من وجه؛ إذ


(1) يعني بعد ما سلّم افتراضاً من التعارض، وشمول الرأي للرأي القطعىّ.

(2) كأنّ هذا الكلام مأخوذ من اشتقاق الرأي من مادّة التروّي، ولا يبعد انصراف مثل قوله «دين اللَّه لا يصاب بالعقول» أيضاً إلى ما يحتاج إلى تعقّل وتروّ، على أنّ ذلك ليس ردعاً عن سلوك طريق العقل، وإنّما هو ردع عمّا يصيبه العقل. وقد عرفت عدم إمكانيّة الردع عن القطع العقلىّ، فلابدّ من حمله على مثل القياس والاستحسان.

(3) راجع اُصول الكافي ج 1، كتاب فضل العلم، الباب 1 ـ 4.

473

الأخبار الدالّة على وجوب اتّباع العلم تشمل العلم الحاصل من العقل والعلم الحاصل منالأخبار، وأمّا الأخبار الرادعة عن الرأي فتختصّ بما يكون حاصلاً من العقل، ولكنّها تعمّ الرأي العلمىّ والرأي الظنّىّ، ومادّة الاجتماع هي الرأي العلمىّ العقلىّ، وتتساقطان فيها بالتعارض، فلا يبقى ما يدلّ على الردع عنها.

 

قطع القطّاع

 

قد عرفت عدم إمكان الردع عن حجّيّة القطع، إمّا بالبيان المشهور، أو بأحد البيانين اللذين اخترناهما. وهذا الكلام يرد ـ تماماً ـ في قطع القطّاع، فلايمكن الردع عنه.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ الإنسان لو التفت إلى كونه قطّاعاً، وأنّ هذه الحالة تورّطه كثيراً في تفويت الأغراض اللزوميّة للمولى، يجب عليه بقدر الإمكان علاج نفسه، والابتعاد عن العوامل غير المتعارفة التي تؤدّي به إلى تلك القطوع.

وهذه الدعوى تكون نظير دعوى الأخباريّ: عدم جواز الخوض في الأدلّة العقليّة المورثة للقطع.

وهذه مسألة جديدة يوجد ما يشبهها في الاُصول.

توضيح ذلك: أنّ الخطاب تصحّحه القدرة، وينجّزه العلم، وكما وقع البحث ـ بالنسبة إلى القدرة المؤثّرة في تصحيح الخطاب ـ عن أنّه هل يجوز للعبد تفويت القدرة؛ كي يقبح خطابه، ويستريح من حكم المولى، وذلك إمّا في زمان الواجب (وهذا ما بحث في علم الاُصول، وعبّر عنه بعنوان: الامتناع بالاختيار لاينافي الاختيار)، أو قبل وقت الواجب (وهذا ما بحث في علم الاُصول تحت عنوان: المقدّمات المفوّتة) كذلك نبحث هنا ـ بالنسبة إلى العلم المنجّز للخطاب ـ عن أنّه هل يجوز للعبد تفويت العلم بالأحكام الإلزاميّة للمولى، بجعل نفسه قطّاعاً بالخلاف، أو عدم علاجه لهذا المرض مع الإمكان؛ كي يستريح من تنجّز ذلك الحكم عليه، أو لا؟ وهذا لم يحرّر حتّى الآن في علم الاُصول.

وتحقيق الكلام في ذلك: أنّ هذا مربوط بمدى سعة دائرة مولويّة المولى وضيقها، الذي

474

لايمكن إدراكه إلّا بالوجدان والعقل العملىّ، فإن قلنا: إنّ حقّ المولى إنّما هو إطاعة الأحكام الواصلة مثلاً، وليس من حقوقه عدم إخراج العبد نفسه عن دائرة التنجيز بالشكل الذي يؤدّي إلى تفويت أغراضه اللزوميّة، إذن فلايجب عليه التحرّز من قطوع من هذا القبيل.

وإن قلنا: إنّ دائرة حقّ المولى قد اتّسعت لتحرّز من هذا القبيل، كما هو الصحيح، إذن وجب عليه ذلك، ولو خالف، استحقّ العقاب، لاعلى مخالفة الواقع؛ إذ الواقع المقطوع بخلافه خارج عن دائرة حقّ الامتثال، بل على تعريض نفسه لمثل هذه القطوع، أو تركه للعلاج؛ إذ أصبح هذا بنفسه مخالفة لحق المولى(1).

 

 


(1) الظاهر: أنّ مخالفة ذلك لحقّ المولى هي سنخ التجرّي، وقد خالف حقّ المولويّة في أصل مخالفته للحكم الواقعىّ، وهذا سنخ المعصية.

ولا يقال: إنّ هذا الحكم لم يكن منجّزاً عليه؛ لأنّه كان قاطعاً بالخلاف.

فإنّه يقال: إنّ هذا الحكم قد تنجّز بعلمه الإجمالىّ بأنّ كثيراً من قطوعه خلاف الواقع، وتنجّز ذلك لاينافي تنجّز العمل بالقطع عليه؛ فإنّ التنجّز الثاني الذي هو سنخ تنجّز حرمة التجرّي ليس تنجّزاً لخصوص العمل بالقطع، بل هو تنجّز لجامع ترك مخالفة القطع الذي يمكن أن يتجسّد بفراره من ذاك القطع. فالأمران المتنجّزان عليه كان الجمع بينهما ممكناً بشأنه، وإنّما فوّت على نفسه القدرة على الجمع بسوء الاختيار، والامتناع بالاختيار لاينافي الاختيار.

475

الدليل العقليّ

7

 

 

 

العلمُ الإجمالىّ

 

 

 

○ العلم الإجمالىّ في مرحلة التكليف.

○ العلم الإجمالىّ في مرحلة الامتثال.

○ تنبيهات.

 

 

 

477

 

 

 

 

الكلام في العلم الإجمالىّ يقع تارة في تنجيز التكليف به، وعدم جريان الاُصول في أطرافه، واُخرى في الاكتفاء به في مقام الامتثال.

وبتعبير آخر: تارة يتكلّم في العلم الإجمالىّ في مرحلة التكليف، واُخرى يتكلّم في العلم الإجمالىّ في مرحلة الامتثال.

 

العلم الإجمالىّ في مرحلة التكليف

 

أمّا العلم الإجمالىّ في مرحلة التكليف، فقد تعارف في علم الاُصول عملاً بحثه مرّتين: مرّة هنا، ومرة اُخرى في باب البراءة والاشتغال، والمناسب فنّاً ـ كما ذكره المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) ـ هو التبعيض: بأن يتكلّم هنا عن مدى تنجيز العلم الإجمالىّ بنحو العلّيّة أو الاقتضاء، وبمستوى مرتبة حرمة المخالفة القطعيّة، أو وجوب الموافقة القطعيّة؛ فإنّ هذا بحث عن أحكام العلم، وبعد فرض الفراغ من عدم علّيّته للتنجّز بمستوى وجوب الموافقة القطعيّة تصل النوبة إلى البحث في باب البراءة والاشتغال عن مدى جريان الاُصول وعدمه في الأطراف.

ولكن بما أنّ الجهتين من البحث مترابطتان غاية الترابط، وتقع الحاجة لدى بيان الجهة الثانية إلى تكرار الكلام في الجهة الاُولى لمدى تأثيره في توضيح الأمر في الجهة الثانية، فالأولى ذكر الجهتين في مورد واحد فراراً من التكرار.

وبما أنّ بعض المباحث والمباني في العلم الإجمالىّ في مرحلة التكليف يتوقّف تنقيحه على تنقيح المباني في الجمع بين الحكم الظاهرىّ والواقعىّ، فالأولى تأخير بحث العلم الإجمالىّ في مرحلة التكليف عن مبحث الجمع بين الحكم الظاهرىّ والواقعىّ.

فمن تلك المباني ما أفاده المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله): من أنّه ما دامت رتبة الحكم

478

الظاهرىّ محفوظة مع العلم الإجمالىّ إذن لا مانع من قبل العلم من جريان الاُصول، فلا يصل تأثير العلم الإجمالىّ في التنجيز إلى مستوى العلّيّة؛ فإنّ تنقيح ذلك يبتني على معرفة نكتة الجمع بين الحكم الظاهرىّ والواقعىّ ؛ كي يرى مدى انحفاظ تلك النكتة مع العلم الإجمالىّ.

وعليه فنحن نؤجّل البحث استدلاليّاً عن العلم الإجمالىّ في مرحلة التكليف إلى باب البراءة والاشتغال.

لكنّنا نذكر هنا ما هو المختار في ذلك بنحو الفتوى محوّلين إثباته إلى مبحث البراءة والاشتغال. فنقول: المختار في باب العلم الإجمالىّ في مرحلة التكليف ـ بناءً على ما ذهبنا إليه من إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ هو: أنّ العلم الإجمالىّ ليس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة، ولا لحرمة المخالفة القطعيّة، ولكنّه مقتض للتنجّز بكلا المستويين، ومعنى الاقتضاء للتنجّز هو: كون منجّزيّته معلّقة على عدم مجيء الترخيص من قبل الشارع، كما أنّ معنى العلّيّة هو: كون منجّزيّته غير معلّقة.

أمّا بناءً على المبنى المتعارف من قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فالمختار هو: التفصيل بين قسمين من العلم الإجماليّ.

توضيح ذلك: أنّ المعلوم بالعلم الإجمالىّ إذا لاحظناه في اُفق العلم فتارة يكون المقدار المعلوم من الواجب هو القدر القابل للانطباق على كلّ واحد من طرفي العلم الإجمالىّ، كما لو علمنا إجمالاً بوجوب الظهر أو الجمعة، فالمقدار الداخل في اُفق العلم من الواجب الذي يشار إليه بمثل عنوان أحدهما نسبته إلى الظهر والجمعة على حدّ سواء، واُخرى يكون المقدار المعلوم من الواجب مشتملاً على قيد لا ينطبق إلّا على الواجب الواقعىّ، وإن تردّدنا نحن في التطبيق.

مثاله: ما لو علمنا بوجوب إكرام العالم بما هو عالم، واشتبه عالم بجاهل، فعلمنا إجمالاً بأنّ أحدهما واجب الإكرام بما هو عالم، فالمقدار الثابت في اُفق العلم الإجمالىّ من الواجب مقيّد بقيد لا ينطبق إلّا على الواجب الواقعىّ، وهو قيد العالميّة، ولكنّنا شككنا في التطبيق.

وفي القسم الأوّل لو علم المكلّف بأحد طرفي العلم الإجمالىّ، وكان في الواقع هو

479

الواجب، فقد حصل له العلم بالإتيان بذات الواجب، وإن لم يحصل له العلم بالإتيان بالواجب بما هو واجب.

وهذا بخلاف القسم الثاني؛ إذ لو أكرم أحدهما، وكان هو العالم واقعاً، لم يحصل له العلم بالإتيان بذات الواجب؛ فإنّ ذات الواجب عبارة عن إضافة الإكرام إلى العالم، وهو لا يعلم بالإتيان بها.

والمختار في القسم الأوّل هو: أنّ العلم الإجمالىّ مقتض للتنجّز على مستوى حرمة المخالفة القطعيّة، وليس علّة لذلك، وليس علّة ولا مقتضيّاً لوجوب الموافقة القطعيّة. وفي القسم الثاني هو أنّ العلم الإجمالىّ مقتض لحرمة المخالفة القطعيّة ولوجوب الموافقة القطعيّة، وليس علّة لشيء منهما.

وينبغي هنا المنع عن عدّة توهّمات:

الأوّل: أن يتوهّم أنّ مقصودنا ممّا مضى هو التفصيل بين الشبهة الحكميّة والشبهة الموضوعيّة. فالشبهة في القسم الأوّل حكميّة، والعلم الإجمالىّ يقتضي فيها حرمة المخالفة القطعية، وليس علّة لذلك، ولا مقتضيّاً لوجوب الموافقة القطعيّة. وفي القسم الثاني موضوعيّة، والعلم الإجمالىّ يقتضي فيها حرمة المخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة من دون أن يكون علّة لأحدهما.

ولكنّ الواقع: أنّ الشبهة الحكميّة داخلة تحت القسم الأوّل دائماً، لكن الشبهة الموضوعيّة قد تدخل تحت القسم الأوّل، وقد تدخل تحت القسم الثاني.

وتوضيح ذلك: أنّ الشبهة الموضوعيّة في الحكم تارة تنشأ عن الشبهة في جهة تقييديّة في متعلّق الحكم (والمقصود بالمتعلّق: ما يعمّ المتعلّق مباشرة، ومتعلّق المتعلّق)

ومثاله: ما مضى من فرض العلم بوجوب إكرام العالم، والشكّ في أنّ العلم الذي هو جهة تقييديّة في المتعلّق هل هو موجود في زيد، أو في عمرو؟ وهذا هو الذي جعلناه قسماً ثانياً من قسمي العلم الإجمالىّ.

واُخرى تنشأ عن الشبهة في جهة تعليليّة للحكم، كما لو قال المولى: إن نزل المطر، فأكرم زيداً، وقال: إن جاء العجاج، فأكرم عمراً، وعلمنا إجمالاً بنزول المطر أو مجيء العجاج، فنعلم إجمالاً بوجوب إكرام أحد الشخصين. فهذه شبهة موضوعيّة، ولكنّ العلم

480

الإجمالىّ فيها من القسم الأوّل؛ لأنّ الواجب إنّما هو إضافة الإكرام إلى ذات أحدهما لا إلى عنوان لا ينطبق إلّا على الواجب الواقعىّ.

وثالثة تنشأ عن التردّد في القيد المأخوذ في جانب المكلّف، كما لو قال المولى: يجب على الناذر الحانث لنذره الصوم، وقال: يجب على الحاجّ المرتكب لبعض محرّمات الإحرام التصدّق، وعلم شخص إجمالاً بكونه مصداقاً لأحد هذين العنوانين، فيعلم إجمالاً بوجوب التصدّق أو الصوم عليه. وهذه ـ أيضاً ـ شبهة موضوعيّة داخلة في القسم الأوّل دون الثاني؛ لعدم تعلّق التكليف بعنوان خاصّ لا ينطبق إلّا على الواجب الواقعىّ.

الثاني: أن يتوهّم أنّ العلوم الإجماليّة التي يتّفق وجودها خارجاً كلّها من القسم الثاني حتّى مثل العلم بوجوب الظهر أو الجمعة؛ إذ يوجد ـ دائماً ـ عنوان معلوم لاينطبق إلّا على الواجب الواقعىّ، ففي هذا المثال نعلم ـ مثلاً ـ بوجوب ما كان يعلم رسول الله(صلى الله عليه وآله) بوجوبه، وهذا العنوان لا ينطبق إلّا على الواجب الواقعىّ.

والجواب: أنّ هذا العنوان ليس داخلاً تحت الوجوب كي يتنجّز بتعلّق العلم به، وإضافة الوجوب إليه إضافة تبرّعيّة.

الثالث: الخلط الواقع في كلمات الأصحاب بين باب العلم الإجمالىّ بالتكليف وباب العلم التفصيليّ به مع الشكّ في المحصّل، كما وقع في كلام السيّد الاُستاذ: من جعل العلم بوجوب الصلاة مع الشكّ في جهة القبلة من باب الشكّ في المحصّل مع العلم التفصيلىّ بالحكم.

وكأنّ منشأ الاشتباه ما رآه من إباء الوجدان والارتكاز من القول بعدم اقتضاء العلم في هذا المثال للامتثال القطعىّ، في حين أنّه هو يرى عدم اقتضاء العلم الإجمالىّ للامتثال القطعىّ، فأدخل هذا المثال في باب الشكّ في المحصّل مع العلم التفصيلىّ بأصل الحكم.

والواقع: أنّ الشكّ تارة يكون في عنوان المكلّف به، كما في مثال العلم بوجوب الظهر أو الجمعة.

واُخرى في مصداق المكلّف به، كما في مثال تردّد جهة القبلة، أو مثال وجوب إكرام العالم مع تردّد العالم بين زيد وعمرو.

وثالثة في مقدّمة حصول المكلّف به، كما لو علم بوجوب قتل الكافر، وشكّ في حصول القتل بالرصاص الأوّل.

481

فالثالث هو الشكّ في المحصّل، والأوّل والثاني كلاهما من العلم الإجمالىّ بالتكليف، إلّا أنّ الأوّل ضابط للعلم الإجمالىّ الذي لا يقتضي الامتثال القطعىّ، والثاني ضابط للعلم الإجمالىّ الذي يقتضي الامتثال القطعىّ، كما شرحناه. وبهذا يتحفّظ على إباء الوجدان والارتكاز عن عدم اقتضاء العلم في هذا المثال للامتثال القطعىّ(1).

 

العلم الإجمالىّ في مرحلة الامتثال

 

وأمّا العلم الإجمالىّ في مرحلة الامتثال، فالبحث عنه راجع إلى المقام، ولا علاقة له ببحث البراءة والاشتغال؛ فإنّ البحث عن كفاية الامتثال بالعلم الإجمالىّ في الحكم بفراغ الذمّة وعدمها بحث عن حكم العلم يناسب ذكره هنا.

وقد وقع الخلاف بين الأعلام في كفاية الامتثال الإجمالىّ مع التمكّن من الامتثال التفصيلىّ في العبادات بعد الاتّفاق على كفايته في التوصلّيّات.

ودعوى لزوم الامتثال التفصيلىّ في العبادات يمكن تفسيرها بأحد وجوه ثلاثة:

الأوّل: دعوى لزوم ذلك لا لوجوبه في نفسه، بل لتحقيق عنوان آخر يجب تحقيقه في العبادات، كقصد الطاعة مثلاً.

الثاني: دعوى وجوبه بنفسه وجوباً شرعيّاً خطابيّاً بناءً على إمكان أخذه في الخطاب، أو غرضيّاً بناءً على عدم إمكان أخذه في الخطاب.

الثالث: دعوى وجوبه عقلاً: إمّا باقتضاء التكليف ذلك وداعويّته له كما يقتضي العمل


(1) ما جاء في كتاب مصباح الاُصول للسيّد محمّد سرور تقريراً لبحث السيّد الخوئىّ الجزء الثاني صفحة (351) صريح في اقتضاء العلم الإجمالىّ بالتكليف مطلقاً لوجوب الموافقة القطعيّة؛ إذ ذكر عدم شمول البراءة العقليّة لشيء من الأطراف بنكتة تماميّة البيان. فلعلّ ما نقله اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) هنا عن السيّد الخوئىّ: من عدم اقتضاء العلم الإجمالىّ لوجوب الموافقة القطعيّة راجع إلى تأريخ سابق. هذا، والقول بعدم اقتضاءالعلم الإجمالىّ بالتكليف لوجوب الموافقة القطعيّة منقول في أجود التقريرات (ج 2 ص 245) عن المحقّق النائينىّ، فيرى(رحمه الله) أنّ التنجيز للموافقة القطعيّة إنّما هو بنكتة تساقط الاُصول، ولا علّيّة أو اقتضاء للعلم الإجمالىّ لوجوب الموافقة القطعيّة،إلّا بمعنى دخله في تساقط الاُصول. ولكن المنقول عنه في تقرير الكاظمي (ج 4 ص 9) هو اقتضاؤه لوجوب الموافقة القطعيّة. فيحمل هذا الاختلاف على اختلاف الزمان باعتبار ما قاله اُستاذنا الشهيد من كون تقرير الكاظمىّ تقريراً لدورة سابقة، وسيأتي ذلك في بحث البراءة والاشتغال إن شاء الله تعالى.