437

وهذا المعنى ـ الذي يظهر من بعض كلماتهم كما عرفت ـ راجع في الحقيقة إلى ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ من بحثنا الثالث، وهو البحث عن حقّانيّة مدركات العقل العملىّ.

الثاني: أن يكون مرادهم ما يظهر من كلام المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله) اختياراً أو إسناداً إلى الفلاسفة: من إنكار ما بإزاء له في الواقع للمدركات بالعقل العملىّ، وأنّ مرجع العقل العملىّ إلى تطابق آراء العقلاء، ولا واقع له وراء ذلك. وهو(قدس سره) بالرغم من إصراره على ذلك لم يذكر في كلامه عدا ما إذا تمّ لا يدلّ على أزيد من الأمر الأوّل، أعني: عدم ضمان الحقّانيّة؛ إذ إنّه ذكر(رحمه الله) في بحث التجرّيّ دليلاً على عدم كون قضايا العقل العملىّ من موادّ البرهان، وهذا المقدار ـ كما ترى ـ ينفع في سلب صفة ضمان الحقّانيّة عنها فحسب؛ لأنّ العقل البرهانىّ هو المضمون حقّانيّته دون غيره. ولا يثبت بذلك كذب هذا الإدراك وعدم وجود ما بإزاء له في الواقع حتماً.

وعلى أىّ حال، فإن كان هذا الوجه هو المقصود، فسيرجع محصلّه إلى إنكار العقل العملىّ رأساً، وإرجاعه إلى العقل النظرىّ، وجعل هذا العنوان مجرّد اصطلاح بحت بلا مائز فنّيّ. توضيح ذلك: أنّ المدرك بالعقل العملىّ على هذا: إمّا هو نفس تطابق العقلاء على صحّة المدح والذمّ، أو متعلّق هذا التطابق. فإن فرض الأوّل، فهذا التطابق إنّما هو مدرك بالعقل النظرىّ، كتطابقهم على حبّ الأولاد، وبغض الأعداء، وغير ذلك.

وإن فرض الثاني، فإن قيل: إنّ متعلّق هذا التطابق أمر واقعىّ وثابت بغضّ النظر عن تطابق العقلاء، فهذا خلاف فرض إنكار ما بإزاء له في الواقع للمدركات بالعقل العملىّ وإرجاعه إلى تطابق العقلاء، وإن قيل: إنّ متعلّق هذا التطابق هو فعل العقلاء من جعل قانون المدح والذمّ، أو تنفيذه عملاً، فهذا حاله حال سائر أفعال العقلاء المدركة بالعقل النظرىّ. وأيّ فرق بين فرض كون جاعل القانون هو العقلاء أو الشارع، حتّى يفترض أنّ القائل بالأوّل معترف بالعقل العملىّ، والقائل بالثاني غير معترف به؟ وهل هذا ـ كما قلنا ـ عدا اصطلاح بحت، خال من الملاك والمائز الفنّيّ؟

 

3 ـ حقّانيّة العقل العملىّ

البحث الثالث: في حقّانيّة إدراك الحسن والقبح الذاتيّين وعدمها، ونستقصي الكلام في ذلك بذكر اُمور ثلاثة:

الأوّل: في تصوير ما هو المعنى المبحوث عن حقّانيّة إدراكه.

438

الثاني: فيما يمكن الاستدلال به على عدم حقّانيّة ذلك.

الثالث: في أنّه ـ بعد الفراغ من عدم قيام برهان ناف لحقّانيّة العقل العملىّ ـ ما هو التحقيق في مدى حقّانيّة هذا الإدراك.

 

حقيقة الحسن والقبح العقليّين

أمّا الأمر الأوّل: وهو بيان ما هو المعنى المبحوث عن حقّانيّة إدراكه، وهو الحسن والقبح، فنقول: إنّهما عبارة عن الضرورة الخلُقيّة الثابتة في لوح الواقع بقطع النظر عن اعتبار أىّ معتبر. وهي مباينة للضرورة التكوينيّة ماهيّة ومرتبة؛ إذ إنّ الضرورة التكوينيّة عبارة عن الوجوب، وهذه الضرورة عبارة عن الانبغاء والأحرائيّة، والضرورة التكوينيّة في عرض السلطنة، وهذه الضرورة في طولها.

وتوضيح هذه المصطلحات يتوقّف على ذكر إجمالىّ لما هو المختار في باب الجبر والاختيار، وموضع تفصيله هو مبحث الطلب والإرادة، فنقول: ذكر الفلاسفة: أنّ نسبة شيء إلى شيء ـ بعد فرض إخراج الامتناع عن المقسم ـ إمّا هي الوجوب، أو الإمكان. فنسبة الشيء إلى قابله هي الإمكان، ونسبته إلى فاعله هي الوجوب. وقد قالوا بذلك في تمام عوالم الإمكان، بلا فرق بين الأفعال الاختياريّة وغيرها، فحركة يد المشلول وتحريك اليد اختياراً سيّان في هذا الأمر. ومن هنا وقعوا في إشكال في تصوير معنى الاختيار في الأفعال الاختياريّة. وحاصل ما يتلخّص من كلماتهم في تصوير ذلك أمران:

الأوّل: أنّه تفترق الأفعال الاختياريّة عن غيرها من ناحية الإمكان وقابليّة القابل، فانفتاح باب الإمكان على وجه الشيء الموجود يكون بمقدار رفعته وخسّته في سلّم الوجود، فالجماد ـ مثلاً ـ الذي هو أخسّ الموجودات ليست له إمكانيّة قبول العوارض والطوارئ إلّا في مجال ضيّق؛ ولذا ترى أنّ العالم الطبيعىّ بإمكانه أن يتنبّأ كيفيّة تحرّكالحجر ـ مثلاً ـ المرمىّ إلى فوق، في سير نزوله ومحلّ سقوطه.

وأمّا النبات الذي يتنعّم بنعمة الحياة بمقدار ما، فهو أرقى في سلّم الوجود، فقابليّته وإمكاناته تكون في دائرة أوسع، فهناك مجال للتشكيك فيما سوف يصنعه النبات؛ ولذا ترى بعض النباتات إذا اقترب في نموّه من جدار يمنع عن نموّه لو التصق به، يغيّر من

439

شكل حركته، ويتحرّك في نموّه من جهة اُخرى، فهو أوسع إمكاناً من الجماد.

وأمّا الحيوان فهو أرقى من النبات في سلّم الوجود، فتتّسع دائرة إمكاناته وحرّيّته في مجال أوسع. فإذا ضرب حيوان مثلاً، وصمّم على الفرار، وكانت لفراره عدّة طرق متساوية، لا يمكن للعالم الطبيعىّ أن يتنبّأ ما سوف يختاره هذا الحيوان من طريق الفرار.

وأمّا الإنسان فهو أرقى مرتبة من الحيوان في سلّم الوجود، ويعيش في دائرة أوسع من الإمكانيّات والحرّيّات. فبينما ترى الحيوان أسير غرائزه وميوله النفسانيّة لا يتخلّف عنها قدر المستطاع، ترى الإنسان له عقل باستطاعته أن يحكّمه على الغرائز والميول النفسانيّة، فيغيّر مجرى عمله من مسير الغرائز وتلك الميول، أو أن لا يحكّمه.

والخلاصة: أنّه كلّما كان الموجود في درجة أرقى من سلّم الوجود، فهو أكثر إمكاناً وحرّيّة في التصرّف. وبهذا يتّضح جوهر الاختيار في الأفعال الاختياريّة.

الثاني: أنّه تفترق الأفعال الاختياريّة عن غيرها من ناحية الوجوب؛ إذ إنّ الثاني واجب بوجوب غير مسبوق بالاختيار، والأوّل يكون وجوبه في طول الاختيار والإرادة. وما هو في طول الاختيار لا يعقل أن ينافي الاختيار، وإلّا لزم من وجوده عدمه.

والواقع: أنّ شيئاً من هذين الوجهين لا يفيدان الاختيار بالمعنى الذي هو موضوع لحكم العقل بالحسن والقبح، وصحّة المدح والذمّ.

ولعلّهم إنّما اصطلحوا على ما ذكروه باسم الاختيار، وتكلّموا بتلك الكلمات خجلاً من التصريح بالجبر.

توضيح ذلك: أنّ الوجه الأوّل إنّما يبيّن تفاوت الموجودات في المقدار الممكن من طروّ العوارض والخصوصيّات عليها، واختلاف درجات قابليّة القابل، وتسمية بعض الدرجات باسم الاختيار. وهذا لا يختلف في الروح والجوهر عن مثل أن يقال:

إنّ الجسم الفلانىّ لا تكون له قابليّة التلوّن بلون عدا لون السواد مثلاً، والجسم الآخر يقبل التلوّن بعدّة ألوان. فيسمّى الثاني بالاختيار، ويقال إنّ هذا الجسم مختار في اتّخاذ أىّ لون من هذه الألوان. أ فليس هذا عدا اصطلاح اعتباطىّ خال من النكتة الفنّيّة الموجودة في الاختيار المصحّح للمدح والذمّ والموضوع للحسن والقبح؟!

وأمّا الوجه الثاني: فما ذكر فيه: من أنّ ما هو في طول الاختيار لا ينافي الاختيار، وإن

440

كان صحيحاً، إلّا أنّ الكلام في الصغرى، وهو كون هذا الوجوب في طول الاختيار؛ فإنّهم يقصدون بذلك: أنّ الفعل في طول الإرادة، وسمّوا الإرادة بالاختيار. وهذه التسمية ـ أيضاً ـ ليست عدا اصطلاح اعتباطىّ فارغ من النكتة المطلوبة في تصحيح استحقاق المدح والذمّ، وحكم العقل العملىّ بالحسن والقبح؛ فإنّ الإرادة ليست عدا حالة نفسانيّة تعرض على الإنسان، كعروض سائر العوارض عليه، ونسبتها إلى الإنسان بعنوان الفاعل هي نسبة الوجوب ـ بحسب ما هو مفروض في كلامهم ـ وبعنوان القابل هي نسبة الإمكان، كما قالوا بذلك في جميع العوارض لعوالم الإمكان. فهل ترى لو أوجد شخص تكويناً إرادة الفعل في نفس شخص آخر، وترتّب عليها تكويناً صدور الفعل عنه، استحقّ ذاك الفاعل المدح أو الذمّ؟!

وحاصل الكلام: أنّ ما هو ثابت في الواقع، ومركوز في الأذهان، ومدرك بالعقل الفطرىّ، هو اختياريّة أفعال الإنسان بالمعنى المترتّب عليه الحسن والقبح والمدح والذمّ. فالمحدّد للاختياريّة عندنا إنّما هو العقل العملىّ. وأمّا هؤلاء الفلاسفة فلم يحدّدوا الاختياريّة بالعقل العملىّ، وإنّما حدّدوها باصطلاح خاصّ، ولا نزاع لنا معهم في اصطلاحهم.

ولكنّا نقول: إنّ هذه المصطلحات والنزاع فيها لا تعدوأن تكون نزاعاً لفظيّاً فارغاً لا محصّل لها ما لم يرجع الكلام إلى البحث عن اختيار مصحّح لما هو المدرك لدى الناس من الحسن والقبح بناءً على حقّانيّتهما.

نعم، إن صحّت نسبة المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله) إلى الفلاسفة القول بما يرجع إلى إنكار العقل العملىّ رأساً، ورجوع التحسين والتقبيح والمدح والذمّ إلى تباني العقلاء وتواطئهم على ذلك، لم يبق لهم أثر عملىّ للبحث عن الاختيار بهذا المعنى. هذا.

وذكر المحقّق النائينىّ(رحمه الله) والسيّد الاُستاذ ومن حذا حذوهما في تصوير الاختيار أنّ قاعدة: أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد مختصّة بغير الأفعال الإراديّة، أمّا الأفعال الإراديّة فالنسبة فيها هي الإمكان بلحاظ الفاعل، كما كانت هي الإمكان بلحاظ القابل؛ وذلك لأنّ الأفعال الإراديّة تكون في طول الاختيار، بمعنى: أنّه يصدر عن الإنسان حين العمل أمران:

1 ـ إعمال القدرة، وهو فعل من أفعال النفس، لا حالة خاصّة عارضة عليها كالإرادة.

2 ـ العمل الخارجىّ. والثاني اختيارىّ بالأوّل، والأوّل اختيارىّ بنفسه. وترتّب الفعل

441

الخارجىّ على ذاك الفعل النفسىّ واجب، لكنّ هذا الوجوب لا ينافي الاختيار؛ لكونه في طول الاختيار، لا بمعنى كونه في طول الإرادة: بأن تسمّى الإرادة اختياراً، بل بمعنى كونه في طول إعمال النفس للقدرة. وخصوص هذا الفعل النفسانىّ خارج عن تحت قاعدة: أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد، ويكفي فيه نفس الإمكان.

أقول: لا أدري لماذا لم يدّعوا ـ بعد فرض تطرّق الاستثناء إلى قاعدة: أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ـ كفاية الإمكان ابتداءً بالنسبة إلى الأفعال الخارجيّة. ثُمّ لا أدري ماذا يقصد بإعمال القدرة؟ فهل الإعمال غير العمل؟

وبتعبير آخر: هل المقصود بإعمال القدرة إيجاد نفس القدرة، أو إيجاد المقدور ـ وهو الفعل الخارجىّ ـ أو ماذا؟ فإن كان المقصود هو إيجاد نفس القدرة ـ والظاهر أنّه ليس هو المقصود ـ فمن الواضح: أنّ إيجاد القدرة عمل للواهب تعالى لا لهذا الشخص، وإن كان المقصود هو الثاني، ورد عليه أنّ الإيجاد عين الوجود، وإنّما يختلفان بالاعتبار، وليس كلّ من الإيجاد والوجود فعلاً مستقلّاً للفاعل في قبال الآخر.

وأظنّ أنّهم تفطّنوا إلى أنّه لو بني على استثناء الأفعال الإراديّة مباشرة من قاعدة: أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد، وقيل بكفاية الإمكان فيها، لأمكن دعوى كفاية الإمكان في الاُمور التكوينيّة أيضاً، وبهذه الدعوى ينسدّ باب إثبات الصانع، فالتزموا بحالة متوسّطة بين الوجوب والإمكان في الأفعال الإراديّة بتوسيط أمر لا يتصوّر القول به في الاُمور التكوينيّة، وهو إعمال القدرة، غفلة منهم عن أنّ الكلام ينقل إلى هذا الأمر المتوسّط، وهو إعمال القدرة؛ إذ هذا اعتراف بكفاية الإمكان بالمباشرة وبلا توسيط أمر في تحقّق إعمال القدرة. ولو أمكن دعوى كفاية الإمكان في هذا الأمر، أمكن دعواها في الاُمور التكوينيّة؛ لعدم وجود نكتة فنّيّة للفرق.

وأساس كلّ هذه الاشتباهات هو تخيّل انحصار النسبة في الوجوب والإمكان.

ونحن نقول: إنّ نسبة الفعل الاختيارىّ إلى فاعله هي بالتعبير الاسمىّ نسبة السلطنة، وبالتعبير الحرفىّ نسبة (له أن يفعل، وله أن لا يفعل). فنحن ننكر انحصار النسبة في الوجوب والإمكان، ونؤمن بأنّ النسب ثلاثة: نسبة الوجوب، ونسبة الإمكان، ونسبة السلطنة، أو (له أن يفعل، وأن لا يفعل). ونؤمن بأنّ موضوع القاعدة العقليّة الصادقة في كلّ

442

العالم بالدقّة: هو الجامع بين الوجوب والسلطنة، لانفس الوجوب فقط. فالقاعدة التي تصحّ في كلّ المواضع هي: (أنّ الشيء لايوجد إلّا بالوجوب أو السلطنة)، لا (أنّ الشيء بشكل عامّ ما لم يجب لم يوجد) نعم، بما أنّ السلطنة غير موجودة في العلل التكوينيّة فوجود معلولاتها لا يكون إلّا بالوجوب. هذا.

وما ادّعيناه من وجود نسبة اُخرى إلى صفّ نسبة الوجوب والإمكان، يكون بحسب عالم التصوّر بديهيّاً، كبداهة الوجوب والإمكان والوجود والعدم، فلا غبار بحسب عالم التصوّر على وجود نسبة ثالثة في قبال نسبة الوجوب والإمكان، فهذه غير الوجوب وغير الإمكان: أمّا أنّها غير الوجوب؛ فللتضاد الواضح بين عنوان (له أن يفعل) وعنوان (لابدّ له أن يفعل).

وأمّا أنّها غير الإمكان؛ فلأنّ الإمكان عبارة عن القابليّة، وهي التأهّل للقبول، وهذا مفهوم لا يتصوّر إلّا بين الشيء وقابله، دون الشيء وفاعله، بخلاف مفهوم (له). هذا.

وبالإمكان أن نقيم برهاناً على وجود نسبة السلطنة واقعاً في الجملة، ويكون هذا أوّل مرّة في تأريخ هذه المسألة؛ لعدم الاقتصار في مقام إثبات هذه السلطنة على الوجدان، وإثباتها بالبرهان.

وبيان ذلك إجمالاً: أنّ هناك قاعدتين عقليّتين ثابتتين في محلّهما:

1 ـ إنّ الممكن بالذات يستحيل أن يصبح علّة للمحال بالذات ولو فرض أنّ المحال بالذات قد يكون معلولاً لمحال آخر.

2 ـ إنّ المحال بالذات يستحيل أن يكون معلولاً ولو لمحال ذاتىّ آخر.

وبعد هذا نقول: إنّ ارتفاع ضدّين وجوديّين لا ثالث لهما كالحركة والسكون ـ بعد فرض وجود جسم مثلاً كي يتّصف بالحركة والسكون ـ محال بالذات، كارتفاع النقيضين. وحينئذ نلفت النظر إلى ضدّين لا ثالث لهما، ونقول:

إنّ من الممكن أن لا يوجد في سلسلة العلل لهذين الضدّين مرجّح لأحدهما على الآخر. فلو ثبت هذا الإمكان (من دون حاجة إلى دعوى الفعليّة كما قيل في رغيفي الجائع وطريقي الهارب كي يقال لا برهان على عدم المرجّح)، قلنا: إنّه لو بني على انحصار النسبة خارجاً في الوجوب والإمكان، للزم كون الممكن بالذات ـ وهو عدم المرجّح لكلّ

443

من الضدّين ـ علّة لارتفاع الضدّين اللذين لا ثالث لهما، الذي هو محال بالذات. وهذا انخرام لكلتا القاعدتين العقليّتين اللتين أشرنا إليهما. ولو قلنا باستحالة انتفاء المرجّح في سلسلة العلل، لزم انخرام القاعدة الثانية فحسب، في حين لو سلّمنا وجود النسبة الثالثة في الخارج، فلا يبقى هناك إشكال؛ إذ يوجد أحد الضدّين ـ حينئذ ـ بالسلطنة بلا حاجة إلى مرجّح(1).

إذا عرفت هذا قلنا في المقام: إنّ الضرورة التكوينيّة ـ التي هي النسبة بين الفعل وفاعله، من دون فرق بين الأفعال، على مذهب الفلاسفة ـ تكون في عرض السلطنة التي هي النسبة عندنا بين الفعل وفاعله المختار، في حين أنّ الحسن والقبح عبارة عن ضرورة خلقيّة، وهي في طول السلطنة؛ إذ لا تتّصف الاُمور غير الاختياريّة بالحسن والقبح، وتباين ماهيّة الضرورة التكوينيّة، وإلّا لكانت خلف فرض السلطنة المفروضة في الرتبة السابقة عليها.

فالضرورة الخلقيّة عبارة عن كون الأولى أن يقع هذا الفعل أو أن لا يقع، والضرورة التكوينيّة عبارة عن أنّه لا يمكن أن لا يقع أو أن يقع. وليس المقصود بيان التعريف المنطقىّ؛ فإنّ الأولويّة وكذا الضرورة التكوينيّة وما أشبه ذلك كالإمكان والامتناع والوجود والعدم مفاهيم واضحة، ومن أوضح المفاهيم، ولا يمكن توضيحها بمفاهيم اُخرى، وإنّما المقصود إلفات النظر وتوجيهه نحو المعنى الخاصّ، وهو ـ كما اتّضح ـ الضرورة الخلقيّة: وهي نسبة واقعيّة بين السلطنة والفعل.

بقي هنا شيء، وهو: أنّ المشهور جعلوا الحسن والقبح عبارة عن صحّة المدح والذمّ عليه.


(1) قد يقال: إنّ هذا ليس دليلاً على وجود السلطنة خارجاً؛ إذ فرض وجود السلطنة خارجاً لايرفع الإشكال؛ ذلك لأنّه حتّى لو كانت السلطنة موجودة خارجاً بإمكاننا أن نقول: إنّ عدم المرجّح منضمّاً إلى عدم السلطنة ـ ولو محالاً ـ علّة لارتفاع الضدّين اللذين لاثالث لهما، في حين أنّ ارتفاعهما مستحيل بالذات، وقد قلنا: إنّ المستحيل بالذات لا يكون معلولاً ولو لأمر محال، فقد عاد الإشكال.

والجواب عن ذلك: أنّ السلطنة نسبتها إلى الوجود والعدم سيّان، فليست هي علّة للوجود كي يدخل عدمها في علّة العدم، فعلّة عدم الضدّين إنّما هي عدم المرجّح في ظرف عدم السلطنة، أي: إنّ عدم السلطنة قيد للعلّيّة لا للعلّة. فإن كان هذا القيد ثابتاً، إذن العلّيّة ثابتة، وبالتالي قد ثبت الإشكال؛ لأنّ عدم المرجّح أصبح علّة لمستحيل بالذات، وهو انتفاء ضدّين لا ثالث لهما، وإن كان هذا القيد غير ثابت: بأن كانت السلطنة موجودة خارجاً إذن فالعلّيّة غير ثابتة، فيرتفع الإشكال من أساسه.

444

ولكن التحقيق: أنّ هذا يستلزم المحال بعد الالتفات إلى وضوح عدم صحّة المدح والذمّ لمن فعل الحسن أو القبيح مع جهله بحسنه أو قبحه.

فمثلاً: من ارتكب القتل والغارة مع جهله بقبحه؛ لكونه قد عاش في مجتمع يفتخرون بذلك، ويرونه شجاعة، ويمارسونه باعتقاد كونه فضيلة وامتيازاً للإنسان، فتغطّى عقله العملىّ بعيشه في بيئة من هذا القبيل، فلم ير هذا الفعل قبيحاً، فارتكب القتل والغارة، لم يصحّ ذمّه ذمّاً عقابيّاً، وإن صحّ تنقيصه من سنخ تنقيص الشخص الغبىّ الذي لا يدرك ما هو من واضحات العقل النظرىّ. فلو كان الحسن والقبح يعني صحّة المدح والذمّ ـ في حين نرى أنّ صحّتهما تتوقّف على علم الفاعل بهما ـ لزم كون حسن فعله وقبحه متوقّفاً على علمه بذلك، وتوقّف الشيء على العلم به مستحيل.

والجواب بأخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول أو ما يشابه ذلك لا يأتي هنا؛ لاختصاصه بباب الجعل والتشريع، ومفروض الكلام هو كون الحسن والقبح أمرين واقعيّين وثابتين بغضّ النظر عن جعل أىّ جاعل واعتبار أىّ معتبر.

والتفكيك بين الجعل والمجعول ـ بمعنى من المعاني ـ إنّما يمكن في الاعتباريّات، دون ما هو من الموجودات الخارجيّة، ولا ما هو من موجودات لوح الواقع ـ بحسب مصطلحنا ـ الذي هو أوسع من لوح الخارج.

والتحقيق: أنّ صحّة المدح والذمّ أو عدم صحّتهما ليسا إلّا عبارة عن حسن المدح والذمّ أو قبحهما. وليس المدح والذمّ إلّا فعلاً من أفعال الإنسان، يتّصف ـ كسائر أفعاله ـ بالحسن والقبح، فالقتل والغارة ـ مثلاً ـ محكومان بالقبح، وذمّ صدورهما عن الشخص محكوم بالحسن، والحكم الثاني اُخذ في موضوعه علم الفاعل بالحكم الأوّل، ولا إشكال في ذلك(1).

 


(1) لا يخفى أنّ تعريف الحسن والقبح بالمدح والذمّ إن كان بمعنى التعريف المنطقىّ، فهذا غير معقول؛ فإنّهما مفهومان أوّليّان واضحان لا يعرّفان بشيء آخر. على أنّ صحّة المدح أو الذمّ لا تعني إلّا حسنهما أو عدم قبحهما، فهذا تفسير للشيء بنفسه، ولكنّ الواقع: أنّ المدح والذمّ هما عين قولنا: إنّ هذا حسن وهذا قبيح، فقولنا: (هذا حسن) هو مدح، وقولنا: (هذا قبيح) هو ذمّ. فصحّ أن يقال كإلفات للنظر ـ لا كتعريف ـ: إنّ الحسن والقبيح عبارة عمّا يستحقّ عليه المدح والذمّ، بمعنى: أنّ الحكم بالحسن والقبح هو عين المدح والذّم. وأمّا لزوم أخذ العلم بالشيء في موضوع نفسه؛ لأنّ صحّة المدح والذمّ تتوقّف على علم الفاعل بالحسن والقبح،


445

ما يستدلّ به على عدم الحقّانيّة

وأمّا الأمر الثاني: وهو الكلام فيما يمكن الاستدلال به على عدم حقّانيّة ما يدركه الناس من الحسن والقبح، فنذكر هنا براهين ثلاثة على ذلك:

البرهان الأوّل: برهان أشعرىّ، وهو مركّب من صغرى وكبرى استفادوهما من العقل النظرىّ: أمّا الصغرى فهي مجبوريّة الناس على أعمالهم. وهذه ممنوعة عندنا، وأمّا الكبرى فهي عدم اتّصاف الفعل الخارج عن القدرة بالحسن والقبح. وهذه صحيحة. ويستنتج من هاتين المقدّمتين عدم اتّصاف أفعال الناس بالحسن والقبح. وهذا هو الوجه الوحيد الموجود في كلمات الأشعريّين الذي يمكن أن يجعل دليلاً على بطلان العقل العملىّ. وأمّا ما عدا ذلك من الوجوه المذكورة في كلماتهم، فلا ينبغي الشكّ في أنّها لا تفيد أكثر من عدم ضمان حقّانيّة العقل العملىّ.

والتحقيق: أنّ هذا الوجه ـ أيضاً ـ لا يفيد إنكار صحّة العقل العملىّ؛ فإنّ العقل العملىّ لا يحكم إلّا بقضيّة شرطيّة، وهي: إنّ الفعل إن كان اختياريّاً، اتّصف بالحسن والقبح. وإنكار الشرط لا يؤدّي بنا إلى إنكار القضيّة الشرطيّة، بل ظاهر سوق الدليل بهذا الشكل هو التسليم بحسن الأفعال وقبحها على تقدير اختياريّتها.

نعم، يمكن أن يتخيّل أنّ العقل العملىّ يحكم ابتداءً بحسن بعض أفعال الناس وقبح بعضها، فيجعل ما مضى من البرهان الأشعرىّ برهاناً على بطلان العقل العملىّ، ولكن لدى التحليل يظهر أنّ حكم العقل بالبداهة بحسن بعض أفعال الناس وقبح بعضها مرجعه إلى حكم العقل النظرىّ بصغرى بديهيّة، وهي: الاختيار. وحكم العقل العملىّ بكبرى بديهيّة، وهي: اتّصاف الفعل الاختيارىّ بالحسن والقبح، فتنتقل النفس ـ التي هي مركز واحد


فجوابه: أنّ المدح والذمّ تارة يرجعان إلى صدور الفعل عن الفاعل، أو قل: إلى ذات الفعل، واُخرى يرجعان إلى السريرة، وكون هذا الشخص في سريرته خبيثاً أو طيّباً. فإن قصد أنّ رجوعهما إلى الفعل مشروط بالعلم، فهو ممنوع، وإن قصد أنّ دلالة العمل على خبث السريرة وطيبها مشروطة بالعلم بحسن الفعل وقبحه، فهذا صحيح، ولا يلزم من ذلك أخذ العلم بالشي ء في موضوع نفسه. هذا.

والظاهر: أنّ المشهور عرّفوا الحسن والقبح بمدح الفاعل وذمّه، وكأنّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) كان بصدد ردّ ذلك، وعليه كلامه (رضوان الله عليه) صحيح.

446

لكلا الإدراكين ـ إلى النتيجة بكمال الوضوح؛ إذ كانت المقدّمتان مع التطبيق بديهيّة، فصارت النتيجة في قوّة البديهىّ.

البرهان الثاني: برهان فلسفىّ، وأقصد بذلك برهاناً قد نصوغه على وفق مباني الفلاسفة، وإن كانوا هم لم يذكروا هذا البرهان، وهو: أنّ الحسن والقبح لو كانا واقعيّين: فإمّا أن يكونا انتزاعيّين، أو من الأعراض المتأصّلة في المحلّ.

وبتعبير آخر: إمّا أن يكونا من المعقول الثانوىّ بحسب مصطلح الفلاسفة، أو من المتأصّلة العارضة على المحلّ.

وتوضيح هذه الاصطلاحات: أنّ الشيء تارة يتصوّر بعناوينه الذاتيّة من الجنس، والفصل، والنوع، وهذه معقولات أوّليّة، واُخرى يتصوّر بعناوين غير ذاتيّة، كوجوبه، وإمكانه، وسواده، وبياضه، وغير ذلك، وهذه عناوين متأخّرة عن العناوين الأوّليّة. وهي على قسمين:

الأوّل: ما يكون انتزاعيّاً، وهو ما يكون ظرف عروضه هو الذهن، وظرف اتّصافه هو الخارج، كالوجوب والإمكان ونحوهما. وهذا هو المعقول الثانوىّ في المصطلح الفلسفىّ.

الثاني: ما يكون أصيلاً، وهو ما يكون ظرف عروضه واتّصافه هو الخارج، كالسواد والبياض ونحوهما.

فهل الضرورة الخلقيّة أو الحسن والقبح أمر انتزاعىّ ينتزع من الاُمور الحسنة والقبيحة، أو أنّ ظرف عروضها واتّصافها معاً هو الخارج؟ فإن قيل بالأوّل، لزم انتزاع شيء واحد من اُمور متباينة بما هي متباينة؛ إذ الأفعال المتّصفة بالحسن أو القبح قد تكون متباينة بحسب المقولة والماهيّة ولا جامع بينها، بل ربّما ينتزع هذا الشيء الواحد من الوجود والعدم، فوجود الإكرام ـ مثلاً ـ حسن، وعدم الانتقام ـ أيضاً ـ حسن، في حين أنّه لاجامع بين الوجود والعدم.

وإن قيل بالثاني، لزم عدم اتّصاف الأفعال قبل وجودها بالحسن والقبح؛ إذ لا يعقل وجود العرض قبل وجود المعروض، فقبل أن يضرب هذا الشخص اليتيم لا يقبح ضربه، وقبل أن يكرمه لا يحسن إكرامه.

وهذا ـ كما ترى ـ مناف لماهيّة الحسن والقبح والضرورة الخلقيّة، وخلف للعقل العملىّ.

447

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ هذا البرهان ـ كما ذكرنا ـ مصوغ على وفق مباني الفلاسفة، ولكن الإشكال في المبنى؛ فإنّ لوح الواقع عندهم عبارة عن لوح الخارج، فكلّما يدركه العقل إدراكاً صحيحاً، وليس ظرف عروضه هو الخارج، قالوا عنه: إنّه أمر انتزاعىّ انتزعه العقل، وليس أصيلاً.

ولكنّا نرى أن لوح الواقع أوسع من لوح الخارج؛ ولذا نقول: إنّ الإنسان ممكن سواء وجد شخص ينتزع الإمكان من الإنسان، أو لا، والخالق سبحانه واجب سواء تصوّر أحد وجوبه، أو لا، وكذلك نقول فيما نحن فيه: إنّ الحسن والقبح ليسا انتزاعيّين ـ بمعنى يقابل الوجود في لوح الواقع الذي هو أوسع من لوح الخارج ـ حتّى يرد الإشكال الأوّل، ولا خارجيّين حتّى يرد الإشكال الثاني، بل هما من موجودات لوح الواقع.

وثانياً: لو سلّمنا المبنى، اخترنا في المقام الشقّ الأوّل، وهو كون ظرف العروض هو الذهن، وظرف الاتّصاف هو الخارج، وننكر عدم وجود الجامع الذي يكون منشأً للانتزاع؛ إذ الجامع بين الأفعال المختلفة ماهيّة والأعدام المتّصفة بالحسن والقبح هو دخولها تحت السلطنة وكونها في طول السلطنة. وقد مضى أنّ اتّصاف الأشياء بالضرورة الخلقيّة إنّما هو بهذا الاعتبار. فأصل الضرورة الخلقيّة تابع لأصل السلطنة، وهي الجامع، وتحصّصات هذه الضرورة ـ بكونها ضرورة الصدق، أو الوفاء، أو ترك الانتقام، وما إلى ذلك ـ تابعة لتحصّصات نفس السلطنة، بكونها سلطنة على الصدق، أو الوفاء، أو ترك الانتقام، وما إلى ذلك(1).


(1) قد يقال: لو كانت الضرورة الخلقيّة منتزعة من جامع كون الشيء داخلاً تحت السلطنة، للزم ثبوتها في كلّ الأفعال والتروك التي هي تحت السلطنة، في حين أنّه يوجد كثير من الاُمور تحت السلطنة التي لا تتّصف بالضرورة، ولزم كون فعل واحد وجوده وعدمه في آن واحد ضروريّاً بالضرورة الخلقيّة؛ لأن نسبة السلطنة إليها على حدّ سواء.

إلّا أنّ هذا الإشكال قد يجاب عنه بافتراض موانع عن هذا الانتزاع في كلّ ما لا يتّصف بصفة الضرورة الخلقيّة، بنوع من المانعيّة ملائمة مع عالم الانتزاع. هذا.

ولكنّ العقل المدرك للحسن والقبح لدى من يعترف به حاكم بأنّه ليس مجرّد كون الشيء تحت السلطنة تمام المقتضي للحسن والقبح، بل لمتعلّق السلطنة دخل اقتضائىّ في ذلك، فيلزم انتزاع الشيء من اُمور متباينة بما هي متباينة. فالجواب الصحيح هو الجواب الأوّل في المقام.

448

البرهان الثالث: ما ذكره بعض الكلاميّين، وهو مبتن على مقدّمة فرضت مفروغاً منها، وهي: إنّ ما يعرض على الأشياء حقيقة وواقعاً ـ لا جعلاً واعتباراً ـ يجب أن يكون ذاتيّاً لكلّ ما يعرض عليها أو لبعضها؛ إذ كلّ ما بالعرض يجب أن ينتهي إلى ما بالذات.

ونحن لا نتكلّم هنا عن مدى صحّة هذه المقدّمة وعدمها؛ لاستلزامه الخروج عمّا يقتضيه المقام، ونبحث الأمر بناءً على صحّة هذه المقدّمة، فنقول:

إنّ البرهان الذي ذكر في المقام على عدم واقعيّة الحسن والقبح، هو أنّهما لو كانا واقعيّين لكانا ذاتيّين، مع أنّهما ليسا ذاتيّين؛ لما نرى من اختلافهما بالوجوه والاعتبارات.

وأجيب عن ذلك بأنّ الحسن ذاتىّ للعدل، والقبح ذاتىّ للظلم، ولا يختلف العدل والظلم في الحسن والقبح باختلاف الوجوه والاعتبارات. وأمّا ما نراه من كون الصدق ـ مثلاً ـ تارة حسناً، واُخرى قبيحاً، أو ضرب اليتيم كذلك، وما إلى ذلك من الاُمور، فهذا ينشأ عن اختلاف الحالات في الدخول تحت هذه الكبرى أو تلك. فمتّى ما كان الصدق أو ضرب اليتيم أو غير ذلك عدلاً، كان حسناً، ومتّى ما كان ظلماً، كان قبيحاً. فصحّ هنا ـ أيضاً ـ أنّ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات.

ويرد عليه: ما سيأتي إن شاء الله في الأمر الثالث: من أن قولنا: العدل حسن والظلم قبيح ليس إلّا قضيّة بشرط المحمول.

والصحيح في الجواب: أوّلاً: ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ في الأمر الثالث: من أنّ الحسن والقبح لا يختلفان باختلاف الوجوه والاعتبارات. فالصدق في ذاته ـ دائماً ـ حسن، والكذب في ذاته ـ دائماً ـ قبيح، وهكذا غيرهما من العناوين التفصيليّة للفضائل والرذائل. ولكن ما يتراءى من الاختلاف ينشأ عن مسألة التزاحم، كما سنبيّن ذلك إن شاء الله.

وثانياً: لو سلّمنا وقوع الاختلاف في الحسن والقبح بالوجوه والاعتبارات، فتلك الوجوه والاعتبارات مأخوذة كقيد فيما هو حسن أو قبيح، لا كمجرّد حيثيّات تعليليّة. وهذا لا ينافي الذاتيّة بالمعنى الذي ينبغي أن يكون مقصوداً من قولهم: «إنّ الأمر الواقعىّ يجب أن يكون ذاتيّاً»؛ إذ لو أرادوا من هذه الجملة: أنّ الأمر الواقعىّ يجب أن لايؤخذ في متعلقه قيد، فهذا كلام غير قابل للتعقّل، ولو أرادوا منها ذاتيّة الأمر الواقعىّ للحصص، أو لبعضها ممّا ترجع إليها باقي الحصص، فهذا ثابت في المقام؛ لأنّنا افترضنا تلك الوجوه والاعتبارات كقيود محصّصه، لا كحيثيّات تعليليّة.

449

مدى حقّانيّة العقل العملىّ

وأمّا الأمر الثالث: وهو الكلام في مدى حقّانيّة العقل العملىّ، فهنا موقفان:

موقف المثبتين، وموقف المشكّكين.

أمّا الموقف الأوّل: فقد ذكروا لبيان حقّانيّة العقل العملىّ وجهين:

الوجه الأوّل: أنّ قضايا العقل العملىّ اتّفاقيّة بين تمام العقلاء، اذن فهي حقّة.

ومن الواضح: أنّ مجرّد اتّفاق العقلاء ليس بالمباشرة دليلاً على الصحّة والحقّانيّة. فكأنّ المقصود من الاستدلال به ما يكون من سنخ الاستدلال بالتجربة، بأن يقال: إنّ المعارف البشريّة النابعة من حاقّ النفس تكون مضمونة الصحّة، ويستحيل فيها الخطأ، بخلاف المعارف التي يتدخّل فيها الاُمور الخارجة عن النفس، ومعرفة الضرورة الخلقيّة هي من المعارف النابعة من حاقّ النفس؛ بدليل اتّفاق العقلاء عليها؛ إذ إنّ اتّفاقهم عليها شاهد على كون المنشأ لهذه المعرفة أمراً مشتركاً بين الجميع؛ إذ لو كان المنشأ لها أمراً غير مشترك بين الجميع، لما حصل اتّفاق الجميع عليها، وليس هناك شيء مشترك بين الجميع عدا النفس البشريّة، فتثبت أنّ هذه المعرفة نابعة من النفس وفطريّة للإنسان.

ويرد عليه: أنّ من عاشرناهم ورأيناهم من الناس لم يكن الأمر المشترك بينهم منحصراً في النفس البشريّة، بل هم مشتركون ـ أيضاً ـ في تعايشهم في مجتمع إنسانىّ، ومشاهدتهم لقوانين مقنّنة في المجتمع، وتربيتهم في حجر الأب والاُمّ أو المعلّم ونحو ذلك(1). فمن احتمل كون هذه المعرفة مستوحاة من تلك القوانين والمجتمعات والتربية والتعليمات، لم يمكن إثبات عدمه له بهذا الوجه، ومن لايحتمل ذلك لايحتاج إلى هذا الوجه.

الوجه الثاني: ما ذكره بعض: من أنّه لو خلق إنسان منفرداً، وعاش منفرداً، ولم يشاهد أىّ مجتمع أو تعليم وتربية ونحو ذلك، ثُمّ حمل على الإخبار بشيء ما، ولم توجد له أىّ فائدة صدفة في الكذب، فهذا الإنسان سيصدق في إخباره، وهذا شاهد على أنّه يدرك


(1) والمجتمعات والتعاليم المختلفة مشتركة في كثير من المناشئ، كالمصالح والغرائز، فمن لا يدرك بوجدانه حقّانيّة الحسن والقبح، يحتمل أنّ المقدار المشترك بين الناس من الحسن والقبح المعترف بهما عند جميع المجتمعات ناشئ من التعاليم الاجتماعيّة المستوحاة من تلك المصالح والغرائز. وطبعاً أنّ تعاليم من هذا القبيل لا يشترط فيها التطابق الكامل والشامل لتمام الموارد مع المصالح والغرائز حتّى ينقض ببعض الموارد التي نرى الحسن والقبح المعترف بهما اجتماعيّاً يتخلّفان عن المصالح والغرائز.

450

حسن الصدق وقبح الكذب.

وهنا ـ أيضاً ـ من الواضح: أنّ مجرّد إدراك هذا الشخص ليس دليلاً مباشراً على المطلوب. وكأنّه ذكر ذلك لجبر النقص الذي أحسّ به ـ ولو ارتكازاً ـ في الوجه الأوّل من ثبوت جامع آخر من التعايش في المجتمع وملاحظة القوانين وما شابه ذلك، ففرض شخص فاقد لذلك كي يكون توافقه لباقي العقلاء في درك الحسن والقبح دليلاً على كون هذا الدرك نابعاً من حاقّ الفطرة والنفس البشريّة.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ هذا صرف فرض وخيال، ولم نجرّبه خارجاً كي نرى هل يدرك هذا الإنسان الضرورة الخلقيّة، أو لا؟ وهذا الفرض يقابله فرض الشيخ الرئيس ابن سينا حيث ذكر بصدد الاستشهاد على عدم ثبوت واقعيّة العقل العملىّ: أنّنا لو فرضنا شخصاً وجد وعاش منفرداً، لا يكون مدركاً بعقله ولا بوهمه ولا بحسّه الحسن والقبح.

والواقع: أنّ كلا الفرضين لا يفيدنا بحسب الفنّ شيئاً.

وثانياً: أنّه لو سلّمنا في الجملة العلم بأنّ هذا الشخص سيختار الصدق، فإنّ هذا العلم لو تحقّق، فإنّما يتحقّق لمن يدرك سابقاً واقعيّة الحسن والقبح، فإدراكه السابق لذلك يجرّه إلى الاعتقاد بأنّ الإنسان الذي وجد وعاش منفرداً سيختار الصدق. أمّا من لا يدرك واقعيّة الحسن والقبح، فلا مسوّغ له لدعوى العلم بأنّ هذا الشخص سيختار الصدق؛ كي يجعل هذا دليلاً على واقعيّة الحسن والقبح.

وثالثاً: لو سلّم ـ على رغم فرض عدم إدراكنا السابق لواقعيّة الحسن والقبح ـ أنّ هذا الإنسان سيختار الصدق، تطرّق احتمال أن يكون اختياره للصدق لميل وغريزة نفسانيّة في الطبع البشرىّ يدفعه نحو الصدق متى ما لم تكن له مصلحة في الكذب، أو أن يكون اختياره للصدق لإدراكه بالعقل النظرىّ مصلحة الصدق ومفسدة الكذب على ما قاله الفلاسفة من كون إدراك مصالح الاُمور الحسنة ومفاسد الاُمور القبيحة واضحة لدى كلّ عاقل، وقد مضى أنّ إدراك الحسن والقبح غير مرتبط بباب الميل والغريزة، وبباب المصلحة والمفسدة.

وأمّا الموقف الثاني: وهو موقف التشكيك في العقل العملىّ: فتارة يكون بالمنطق الأخبارىّ، واُخرى بالمنطق التجريبىّ، وثالثة بالمنطق العقلىّ.

أمّا المنطق الأخبارىّ: فهو دعوى كثرة الأخطاء في العقل العملىّ ببرهان وقوع

451

الاختلاف الكثير فيه بين الناس؛ إذ لا يمكن حقّانيّة الآراء المتضادّة جميعاً، فلا يبقى اعتماد على العقل العملىّ.

وهذا الكلام يمكن أن يكون المراد منه منع حصول الإدراك العقلىّ للحسن والقبح، وقد مضى الكلام فيه، ويمكن أن يكون المراد منه منع ضمان الحقّانيّة، وهذا هو الذي نتكلّم عنه الآن.

وقد اُورد على ذلك تارة بالنقض بمسألة قبح إجراء المعجز على يد الكاذب، وقبح المعصية، وحسن الطاعة والمعرفة. وقد مضى الجواب عن ذلك.

واُخرى بالحلّ: بأنّ العقل العملىّ قد أدرك حسن العدل وقبح الظلم، ولم يقع خلاف في ذلك، وإنّما الخلاف في تطبيق هاتين الكبريين العقليّتين.

والجواب: أنّ قولنا: العدل حسن والظلم قبيح ضروريّتان بشرط المحمول، ونحن نشرح الكلام في ذلك بالنسبة إلى قولنا: (الظلم قبيح)، ومنه يظهر الكلام في قولنا: (العدل حسن)، فنقول: لايتحصّل معنىً معقول للظلم عدا سلب ذي الحقّ حقّه. فقد فرض في الرتبة المتقدّمة على هذا الكلام حقّ للمظلوم، سواء كان هو غير الظالم، أو كان هو نفس الظالم، كما في ظلم الشخص نفسه(1) ؛ إذ يكفي التغاير بين الظالم والمظلوم بالاعتبار، ونحن نتكلّم فيما يجب أن يكون مفروضاً في الرتبة المتقدّمة على الظلم، وهو الحقّ، فنقول:

إنّ هذا الحقّ تارة يفترض أنّه ليس مدركاً بالعقل، وإنّما هو حقّ قانونىّ واعتبارىّ بحت، واُخرى يفترض كونه مدركاً بالعقل:

فإن فرض الأوّل: فمن الواضح: أنّ العقل العملىّ لا يدرك قبح مخالفته؛ لعدم اعترافه به، وإنّما الحاكم بقبحها هو القانون والمجتمع أو الفرد الذي اعتبر هذا الاعتبار؛ ولذا ترى أنّ ما يقبح في مجتمع رأس مالي من تصرّفات في أموال لايقبح في مجتمع شيوعىّ مثلاً، باعتبار أنّ ملكيّة الفرد وسلطنته أمر اعتبارىّ اعتبره المجتمع الأوّل، ولم يعتبره المجتمع الثاني.

وإن فرض الثاني: أي: إنّ العقل العملىّ أدرك الحقّ، فهذا بنفسه هو الإدراك للقبح. فمعنى قولنا مثلاً: (إنّ من حقّ اليتيم أن لايضرب) هو أنّه يقبح ضرب اليتيم. فقولنا: (الظلم


(1) ظلم الشخص نفسه بمنطق العقل العملىّ غير معقول، إلّا بمعنى: أن يرتكب في حقّ نفسه ما حرّمه عليه المولى، كقتل نفسه؛ إذ هو مملوك للمولى لا لنفسه، وهذا راجع إلى ظلم المولى. ولا نتعقّل أىّ تغاير اعتبارىّ في الرتبة المتقدّمة على الظلم بين الشخص ونفسه بنحو يوجب تعقّل ظلم الشخص نفسه.

452

قبيح) يرجع بالأخرة إلى قولنا: (القبيح قبيح)، وهذه قضيّة بشرط المحمول.

وبتعبير آخر: أنّ قولنا: الظلم قبيح لا يصلح إلّا أن يكون منبّهاً ومشيراً إلى عدّة قضايا مفروضة في الرتبة السابقة، فقد جعل الظلم اسماً لكلّ ما فرض في المرتبة السابقة قبحه، وهذا هو السرّ في عدم الخلاف في قبح الظلم.

والحاصل: أنّ إدخال قولنا: (الظلم قبيح والعدل حسن) في البراهين والأبحاث الفنّيّة ليس إلّا عبارة عن لعب الألفاظ بالاُمور العقليّة والمطالب الفنّيّة، نظير لعب كلمة (بيان) في قولهم: «يقبح العقاب بلابيان» بها، إذ إنّه جاء صدفة التعبير بكلمة (البيان) في لسان أوّل من عبّر عن هذا القانون «بقبح العقاب بلابيان»، ثُمّ اُسّس من زمان المحقّق النائينىّ(رحمه الله)إلى زماننا هذا ثلث الاُصول على هذا اللفظ، كما يتّضح ذلك بمراجعة ما مضى من بحث قيام الأمارات مقام القطع الطريقىّ، وما يأتي ـ إن شاء الله ـ من بحث الجمع بين الحكم الظاهرىّ والواقعىّ.

والصحيح في دفع منشأ التشكيك للأخبارىّ أن يقال: إنّ العقل العملىّ ينقسم إلى قسمين: عقل أوّل، وعقل ثان. كما قسّموا العقل النظريّ إلى قسمين: بديهىّ أوّلىّ، وبرهانىّ ثانوىّ (ونحن أضفنا إليهما الإدراك بحساب الاحتمالات). والعقل الأوّل يدرك حسن الأشياء وقبحها بقطع النظر عن مسألة التزاحم، والعقل الثاني يميّز الأهمّ من المهمّ عند التزاحم. وكثرة الاختلاف إنّما هي في الثاني، حتّى أنّ ما يحكى: من أنّ بعض المجتمعات تكون الرئاسة فيها مختصّة بقاتل الرئيس السابق، وليس قتل الرئيس قبيحاً عندهم، بل من يقتله ويقوم مقامه يرونه مستحقّاً للمدح، يرجع في الحقيقة إلى ما ذكرناه: من الاختلاف بينهم وبين المجتمعات التي شاهدناها في تمييز الأهمّ من المهمّ لدى التزاحم. فكلّ إنسان يدرك أنّ الطموح وطلب العزّ والرفعة في نفسه حسن(1)؛ ولذا ترى المجتمعات الاُخرى يحسّنون ذلك في غير موارد التزاحم بقبيح كالقتل. كما أنّ كلّ إنسان يدرك قبح قتل الإنسان في نفسه؛ ولذا ترى ذاك المجتمع الذي كان يحسّن قتل الرئيس


(1) الحسن والقبح العقليّان بالمعنى المدرك للعقل العملىّ لا يتصوّران بنحو تكون لهما واقعيّة حقيقيّة في فعل بشأن نفس الفاعل. نعم، يتصوّر بشأنه المصلحة والمفسدة والكمال والنقص. وحينما يؤمر من قبل المولى الحقيقىّ بعمل بشأن نفسه يصبح هذا العمل باعتباره امتثالاً لأمر المولى حسناً، لكن هذا بلحاظه امتثالاً لأمر المولى لا بشأن نفس الفاعل.

453

بهدف الوصول إلى العزّ يقبّح قتله بغير هذا الهدف، أو قتله قبل رئاسته، أو بعد سقوطه من الرئاسة. فالاختلاف بينهم وبين سائر المجتمعات في تشخيص ما هو الأهمّ من هذين الأمرين. أمّا عدم درك أصل الحسن والقبح، فلايوجد لدى إنسان إلّا ذاك الأبله الذي لا يدرك بديهيّات العقل النظرىّ أيضاً.

والحاصل: أنّ التشكيك الأخبارىّ هنا بلحاظ كثرة الخطأ في العقل العملىّ؛ لما نراه من الاختلافات الكثيرة، وكذا البرهان الثالث من براهين عدم حقّانيّة العقل العملىّ، وهو عدم ذاتيّة الحسن والقبح؛ لاختلافهما باختلاف الوجوه والاعتبارات، ناشئان عن الغفلة عن مسألة التزاحم في باب العقل العملىّ، وتخيّل أنّ العقل العملىّ يدرك حسن عدّة اُمور وقبح عدّة اُمور اُخرى مباينة للاُولى، فيتراءى ـ حينئذ ـ الاختلاف بين العقلاء(1)، كما يتراءى ـ أيضاً ـ الاختلاف في ذلك باختلاف الوجوه والاعتبارات. وبالالتفات إلى هذه النكتة يرتفع كلا الاشتباهين. وكأنّ الغفلة نشأت عن تخيّل أنّ الحسن والقبح المدركين للعقل العملىّ عبارة عن صحّة المدح والذمّ على الحسن والقبيح، وعدم الالتفات إلى أنّ الحسن والقبح المدركين للعقل العملىّ ثابتان في الرتبة المتقدّمة على المدح والذمّ؛ إذ إنّه على هذا لا يبقى مجال لتصوّر اجتماع حسن وقبح على شيء واحد بعنوانين، وترجيح أحدهما على الآخر؛ إذ حسن الشيء ليس إلّا عبارة عن صحّة المدح عليه، وقبحه ليس إلّا عبارة عن صحّة الذمّ عليه. فاختلاف الناس في صحّة المدح والذمّ ليس إلّا اختلافاً في أصل الحسن والقبح، في حين أنّ الواقع: أنّ صحّة المدح والذمّ تكون في المرتبة المتأخّرة عن اعتقاد الفاعل بحسن فعله أو قبحه(2).


(1) ولا يخفى أنّ الاختلاف بين العقلاء ينشأ كثيراً في الأخلاقيّات التي لا واقعيّة لها، وتكون وليدة للقانون والبيئة والعادات وما شابه ذلك، كما في كشف العورة وحجاب المرأة وغير ذلك ممّا لا حسن وقبح واقعىّ فيه ما لم يفرض أمر من قبل المولى الحقيقىّ، فيرجع إلى حسن الامتثال وقبح المعصية. وينبغي الفصل بين الأخلاقيّات التي لها واقع مستقلّ والأخلاقيّات التي لا واقع لها عدا القوانين والعادات، والخلط بينهما قد يؤدّي إلى التشكيك الأخبارىّ الذي عرفت باعتبار مشاهدة الاختلافات بين العقلاء.

(2) لايخفى أنّ القبح وكذا الحسن الثابتين بنحو المطلق الشمولىّ يسريان إلى الحصص، فالحصّة التي يتصادق عليها العنوانان يتكاسر فيها الحسن والقبح، ويثبت فيها الأقوى فقط. وهذا كاف في غفلة صاحب الشبهة عن مسألة التزاحم، حيث لايرى في الحصص الّا حسناً فقط أو قبحاً فقط، من دون حاجة إلى الرجوع إلى افتراض أنّ الحسن والقبح يعني صحّة مدح أو ذمّ الفاعل على الفعل. ولو كان مقصوده (رضوان الله عليه) من اجتماع الحسن والقبح عدم التكاسر في الحصّة لعدم سريانها إليها، فهذا غير صحيح.

454

وأمّا المنطق التجريبىّ: فهو دعوى أنّ المصدر الأساس للمعارف البشريّة المضمونة الصحّة هي التجربة، وكلّ علم لم ينشأ عن التجربة يمكن أن يكون مطابقاً للواقع، ويمكن أن يكون مخالفاً له، ومن هذا القبيل العلم بالحسن والقبح الذاتيّين.

وإشكالنا على هذا المنطق مبنائىّ؛ إذ حقّق في محلّه عدم كون التجربة المصدر الأساس للمعرفة، واحتياجها إلى الرصيد العقلىّ الثابت في الرتبة المتقدّمة عليها، وليس هنا مجال تفصيل الكلام في ذلك.

وأمّا المنطق العقلىّ: فهو دعوى عدم ارتباط العقل العملىّ بالبرهان بموادّها وفروعها.

وهذا الوجه قائم على أساس القول بانحصار ضمان حقّانيّة أىّ قضيّة في كونها برهانيّة، أي: من موادّ البرهان، وهي البديهيّات الستّ، أو من الفروع المترتّبة على ذلك بالحدّ الأوسط.

أمّا كيف يقرّب عدم ثبوت هذا الضمان بالنسبة إلى العقل العملىّ؟ فهذا ما يتحدّث عنه المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله) بالشكل التالي:

ذكر(رحمه الله) أنّ البديهيّات منحصرة في ستّة أقسام: الأوّليّات، والفطريّات، والحسّيّات، والتجريبيّات، والحدسيّات، والمتواترات.

وقضايا العقل العملىّ لا تدخل في شيء من هذه الأقسام الستّة:

أمّا عدم دخولها في الأربعة الأخيرة، فواضح.

وأمّا الفطريّات فلا علاقة لقضايا العقل العملىّ بها؛ إذ القضايا الفطريّة ـ دائماً ـ تكون منطوية على قياس، كما في قولنا: الأربعة زوج، الذي قياسه معه، ولاينفكّ منه لغاية ظهوره، وهو انقسامها إلى المتساويين، أمّا في قبح الظلم ـ مثلاً ـ فلا نرى أىّ قياس مستبطن فيه.

وأمّا الأوّليّات فهي التي يكفي تصوّر طرفيها للجزم بالحكم، وليس الأمر في باب العقل العملىّ كذلك، وإلّا لما وقع الخلاف فيه.

أقول: أمّا ما أفاده تبعاً للمنطق القديم: من كون موادّ البرهان ـ وهي البديهيّات ـ ستّ، فقد مضى الكلام فيه، وعرفت أنّ الصحيح انحصارها في ثلاثة؛ لأنّ التجريبيّات والحدسيّات والمتواترات غير مضمونة الصحّة، والمضمون صحّته هو: الأوّليّات،

455

والفطريّات، وكذا الحسّيّات بالنسبة إلى وجود واقع في الجملة(1) دون مطابقة الواقع في الخصوصيّات. وعلى أىّ حال، فهذه النكتة لا تكون دخيلة فيما هو المقصود؛ إذ لا نزاع في عدم كون العقل العملىّ دخيلاً في الأربعة الأخيرة. وأمّا كيفيّة استنتاجه لعدم ضمان حقّانيّة العقل العملىّ، فكان الأفضل أن يغيّر نهج البيان لذلك؛ إذ ليس ضمان حقّانيّة كلّ واحد من القضايا الستّ أو الثلاث بملاك يخصّه، بل بنكتة مشتركة فيما بينها، وهي: إدراكها من حاقّ النفس ـ بلا دخل شيء آخر خارج عن النفس وقواها ـ أوحى إلى النفس بذلك الحكم، كقانون أو تأديب أو غير ذلك(2).

فينبغي أن يقال ابتداءً في مقام بيان عدم ضمان حقّانيّة العقل العملىّ: إنّ قضايا العقل العملىّ لا تنبع من حاقّ النفس؛ بدليل وقوع الخلاف فيها بين النفوس. وعلى أيّ حال، فهذا ليس إشكالاً على جوهر كلامه (رضوان الله عليه) بقدر ما هو تحسين لصياغة المنهج. هذا.

والذي ينبغي أن يكون مراده(قدس سره) من هذا الوجه هو التشكيك المنطقىّ في العقل العملىّ، لا التشكيك الاُصولىّ؛ فإنّ هذا الوجه لايفيد أزيد من ذلك.

وعلى أىّ حال، فالاستدلال على عدم ضمان حقّانيّة قضايا العقل العملىّ باختلاف العقلاء فيها باعتباره ـ على حدّ تعبيره ـ شاهداً على عدم كونها من الأوّليّات، أو ـ على حدّ تعبيرنا ـ شاهداً على عدم دخولها في جامع الضرورىّ، وعدم نبعها من النفس وقواها، غير صحيح؛ وذلك لأمرين:

الأوّل: منع ثبوت اختلاف العقلاء في ذلك؛ إذ لو كان المراد بالاختلاف الاختلاف في تمييز الحسن من القبيح بعد تسليم أصل الحسن والقبح، فقد مضى أنّ الاختلاف إنّما هو في باب الترجيح، لا في أصل كون هذا حسناً وذلك قبيحاً(3).


(1) قد مضى عدوله (رضوان الله عليه) عن ذلك. نعم، المحسوسات بالحسّ الباطنىّ مضمونة الصحّة.

(2) في المحسوسات بالحسّ الباطنىّ نكتة الضمان أقوى من ذلك، وهي: كونها معلومة بالعلم الحضورىّ لدى النفس.

(3)وهناك اختلاف ـ أيضاً ـ في أصل كون هذا حسناً وذاك قبيحاً في الاُمور التي يكون حسنها وقبحها راجعاً إلى القانون أو العادة، ولا واقعيّة في المرتبة المتقدّمة على القانون والعادة، كما في موضوع الحجاب والسفور.

456

ولو كان المراد مخالفة الأشعرىّ في أصل الحسن والقبح، قلنا: إنّ الأشعرىّ لم يخالف في الحسن والقبح، وإنّما خالفنا بفرض إسنادهما إلى الشارع. وهذا من باب الخلط بين الحمل الأوّلىّ والثانوىّ وعدم التمييز بينهما، وهو غير الاختلاف في أصل الحسنوالقبح. وهذا نظير الاختلاف في أنّ الوجوب والإمكان ـ مثلاً ـ هل هما انتزاعيّان،كما هو المشهور، أو من لوح الواقع، كما هو المختار، مع الاشتراك في الإيمان بأصل الوجوب والإمكان. إذن فالاختلاف الذي يشير إليه المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله) غير ثابت، إلّا إذا قصد بذلك أنّه هو(رحمه الله) يخالفنا في ذلك، ويفرض عدم إدراكه(رحمه الله) لحسن الطاعة وقبح المعصية.

الثاني: أنّه لا مسوّغ لدعوى: أنّ كلّ ما هو مضمون الصحّة لكونه نابعاً من النفس بما لها من القوى فهو متّفق عليه بين العقلاء؛ وذلك لأنّه على رغم اشتراك الناس في قوى النفس قد يقع الخلاف بينهم في بعض ما هو مضمون الصحّة؛ لأحد أمرين:

الأوّل: أنّ الأشخاص مختلفون في تصاعدهم على وفق الحركة الجوهريّة في مراتب النفس وقواها؛ ولهذا تختلف دائرة البديهيّات سعة وضيقاً باختلاف الأشخاص إلى أن نصل إلى الأبله الذي لا يدرك كثيراً من بديهيّات العقل النظرىّ ـ مثلاً ـ التي يدركها متعارف الناس. ومن الممكن أن يوجد شخص في أعلى مراتب علوّ النفس ورقيّها، ويدرك بالبداهة كلّ ما هو نظرىّ عندنا.

الثاني: أنّ فهم النفس قد يغطّى بتأثير من الشبهات العلميّة، أو الشهوات النفسيّة، فلا يدرك ما كان يدركه لولا الشبهات أو الشهوات.

ولذا ترى أنّه في كلّ زمان من الأزمنة وإلى يومنا هذا كان يوجد في العقلاء المفكّرين والفلاسفة الفنّيّين من ينكر استحالة اجتماع النقيضين. هذا.

وقد اتّضح بما ذكرناه: أنّ كلّ ما أفاده القوم في المقام لإثبات مدركات العقل العملىّ أو نفيها أو التشكيك فيها غير صحيح.

457

العقل العملىّ لايخضع للبرهان

والواقع: أنّ أصل الحسن والقبح لا يمكن البرهنة عليه: لا بعقل التجربة، ولا بعقل البرهان، ولا بالبداهة.

أمّا الأوّل: فلوضوح عدم ارتباط قضايا العقل العملىّ بباب التجربة.

وأمّا الثاني: فلأنّ البرهنة على شيء عبارة عن تشكيل القياس، وإثبات الحدّ الأكبر للحدّ الأصغر بواسطة ثبوته للحدّ الأوسط. وذلك موقوف على درك ثبوته للحدّ الأوسط في المرتبة المتقدّمة على هذا القياس. فنحتاج فيما نحن فيه إلى حكم العقل العملىّ بالنسبة إلى الحدّ الأوسط، فننقل الكلام إليه إلى أن ينتهي الكلام إلى ما لا يكون انطباق الحكم عليه بواسطة حدّ آخر، وإلّا لتسلسل.

فنقول: إنّ تلك القضيّة الرئيسة غير ثابتة بالبرهان.

وأمّا الثالث: فلوضوح أنّه لا يمكن البرهنة على أىّ بديهىّ ببداهته.

نعم، يبقى في المقام شيء: وهو أنّ من يدرك حسن شيء أو قبحه هل يمكنه البرهنة على أنّ هذا الإدراك هل هو نابع من حاقّ النفس، أو أنّه ناشئ من تأديب المؤدّبين، وتعليم المعلّمين، وإيحاء المجتمع والقوانين، أو لا؟

والتحقيق: أنّ هذا ـ أيضاً ـ لا يمكن البرهنة عليه، وإنّما الشيء الممكن في المقام هو: أن يعرض هذا الشخص على نفسه في أىّ قضيّة من قضايا العقل العملىّ هذين الاحتمالين، أعني: كون هذا الإدراك ناشئاً عن حاقّ النفس، أو من التأديب والتلقين، فإن احتمل الثاني، أصبح هذا سبباً في الإنسان السوىّ؛ لزوال إدراكه وقطعه بتلك القضيّة. وإذا زال قطعه بذلك، لم يمكن إرجاع القطع؛ إذ احتمال كون هذا الإدراك معلولاً للتأديب والتلقين حاله حال سائر احتمالات معلوليّة شيء لشيء ممّا لايزول إلّا بأحد طريقين: إمّا التجربة، بإبعاد ما يحتمل علّيّته؛ كي يرى هل يبقى ما احتمل معلوليّته، أو لا؟ وإمّا بمخالفته لقوانين العلّيّة، كرفض معلوليّة شيء لشيء أخسّ منه وأسفل في سلّم الوجود.

458

وفيما نحن فيه لا يوجد شيء من الطريقين: أما التجربة فلأنّنا لم نجرّب أحداً بعزله عن المجتمع والتأديبات؛ كي نرى هل يدرك قضايا العقل العملىّ، أو لا؟ وأمّا قوانين العلّيّة فلأنّ معلوليّة ذلك للتلقين والتأديب ليست على خلاف قوانين العلّيّة.

أمّا إذا لم يزل إدراكه وقطعه بذلك مع كونه إنساناً سويّاً، فعدم زواله مع استعراض هذين الاحتمالين على النفس إمّا يكون ناشئاً عن عدم معلوليّته للتأديب أو التلقين، وإمّا عن اعتقاده بعدم معلوليّته لذلك. ومن يعتقد بذلك، يكفيه اعتقاده، ولا يحتاج إلى دليل.

والواقع: أنّ العقل العملىّ على قسمين: عقل أوّل مضمون الحقّانية، يدرك أصل الحسن والقبح، فنحكم به بحسن الصدق، وقبح الكذب، وحسن العفو، وقبح الإيذاء بلاتقصير(1)، إلى غير ذلك من القضايا التفصيليّة للعقل العملىّ. وعقل ثان يكثر فيه الخطأ يكون حاكماً في باب التزاحم وتغليب جانب الحسن أو القبح.


(1) لابأس هنا بالإشارة إلى أنّ الحسن والقبح المدركين بالعقل العملىّ أمران متباينان هويّة، وليس حسن الفعل أو الترك يعني قبح نقيضه، وقبح الفعل أو الترك يعني حسن نقيضه، وإن صحّ التعبير عرفاً عن نقيض الحسن بالقبيح، أو عن نقيض القبيح بالحسن.

وبتعبير أدقّ نقول: نحن لا نبحث عن المعنى اللغوىّ لكلمة الحسن والقبح، كي يعود البحث لفظيّاً، وإنّما نقصد في المقام: أنّ لدينا هويّتين متباينتين: إحداهما ما يمدح الإنسان على فعله أو تركه من دون أن يكون نقيضه محظوراً عقلاً وثانيتهما ما هو المحظور عقلاً فعلاً أو تركاً. وليسمّ الأوّل بالحسن، والثاني بالقبيح. وهذا هو الذي يفسّر لنا عنصر الإلزام تارة وعدم الإلزام اُخرى في منطق العقل العملىّ.

فمثلاً: نرى أنّ العقل يلزمنا بترك الكذب أو بكتمان السرّ أو طاعة المولى، في حين نرى أنّ العقل لا يلزمنا بالعفو عمّن ظلمنا، وإن كان يستحسن ذلك. والسرّ في هذا: أنّ الكذب أو إفشاء السرّ أو عصيان المولى قبيح، في حين أنّ القصاص ليس قبيحاً، وإن كان العفو حسناً. وليس الفرق بين ما يشتمل على عنصر الإلزام وما لا يشتمل عليه فرق درجة؛ ولذا ترى أنّ من يترك العفو، ويأخذ بحقّه من الظالم لا يذمّ أصلاً، لا أنّه يذمّ ذمّاً خفيفاً مثلاً؛ ولذا ترى ـ أيضاً ـ أنّه عند تزاحم الحسن والقبيح ـ دائماً ـ يغلب جانب القبح مهما كان قبحه ضئيلاً وحسن الحسن بالغاً ذروة الحسن ما لم يكن بمعنى قبح تركه.

فمثلاً: كشف سرّ للأخ تكون درجة سرّيّته ضئيلة جدّاً يكون قبيحاً، ولو ترتّب على ذلك نفع كبير للمجتمع، على رغم حكم العقل بحسن نفع المجتمع. فترى أنّ القبح هنا غلب الحسن مهما فرض القبح ضئيلاً والحسن بليغاً.

459

 

قاعدة الملازمة

 

وأمّا الجهة الثانية: وهي البحث عن قاعدة الملازمة، فنتكلّم في ذلك على مبان ثلاثة في العقل العملىّ:

المبنى الأوّل: افتراض أنّ الحسن والقبح عبارة عن قانون الشرع، وعلى هذا لا معنىً لافتراض الملازمة بين الحسن والقبح وحكم الشرع؛ إذ ليسا هما إلّا الحكم الشرعىّ، لا ملاكاً للحكم الشرعىّ.

والمبنى الثاني: افتراض رجوعهما إلى قانون العقلاء وتطابقهم على حكم مجعول لهم، كما نسبه المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله) إلى الفلاسفة، وذكر المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله)(1):أنّ حكم العقلاء بما هم عقلاء بشيء وجعلهم له لايستلزم حكم الشارع بما هو شارع به، ولكنّه يستلزم حكمه به بما هو عاقل، بمعنى: أنّه يتضمّن حكمه به؛ إذ هو ـ أيضاً ـ أحد العقلاء، وقد فرض تطابق العقلاء عليه. وحكم الشارع بما هو عاقل ينتج نفس نتيجة حكمه بما هو شارع: من ترتّب الثواب والعقاب؛ فإنّ المدح والذمّ المترتّبين على فعل الحسن والقبيح يختلفان باختلاف فاعل المدح والذمّ، فمدح العبد الذليل العاجز وذمّه شيء، ومدح المولى العزيز القادر وذمّه شيء آخر. ومدح المولى عبارة عن ثوابه، وذمّه عبارة عن عقابه.

أقول: إنّ المفروض أنّ العقلاء إنّما تطابقوا على الحكم لا بمجرّد أنّهم عقلاء، وإلّا لرجع ذلك إلى حكم العقل لا إلى حكم العقلاء وجعلهم، بل إنّما تطابقوا على الحكم، وتوافقوا عليه لاشتراكهم في شيء آخر أيضاً، وهو: الميل النفسانىّ لهم إلى جلب المصلحة ودفع


(1) المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله) تكلّم عن الحسن والقبح العقليّين في كتابه نهاية الدراية في عدّة مواضع بالمناسبة، ولكن عمدة كلامه في ذلك في موضعين، كلاهما في المجلّد الثاني من المجلّدات الثلاث لكتابه: أحدهما في بحث التجرّي ص 8، والثاني في بحث الانسداد ص 124 فصاعداً.

460

المفسدة. فلمّا رأوا ثبوت مصالح عامّة ونوعيّة في بعض الاُمور، ومفاسد كذلك في بعضها، تطابقوا على مدح مرتكب الأوّل، وذمّ مرتكب الثاني؛ كي يسعد بذلك المجتمع، وسعادة المجتمع ترجع إلى سعادة الأفراد، والشارع ليس شريكاً مع العقلاء في مصالحهم ومفاسدهم، ولا ينتفع بما ينتفعون به، ولا يتضرّر بما يتضرّرون به، وهو غنىّ عن العباد، غير محتاج إلى طاعتهم، ولا متضرّر بمعصيتهم. فدلالة تطابق العقلاء بالتضمّن على تطابق الشارع معهم غير صحيحة؛ لأنّ نكتة التطابق إنّما توجب تطابق العباد فيما بينهم، ولاترتبط بالمولى العزيز(1).

نعم، هنا كلام، وهو: أنّ هذا المولى صحيح أنّه لم يكن شريكاً معنا في المصالح والمفاسد، لكنّه يتحفّظ بأحكامه على مصالحنا، ودفع المفاسد عنّا، لكن هذا غير مرتبط بما هو محلّ الكلام فعلاً، وإنّما يرتبط باستكشاف الحكم الشرعىّ عن طريق العقل النظرىّ، باعتبار كشف العلّة عن المعلول، من باب تبعيّة الأحكام الشرعيّة للمصالح والمفاسد في نظر العدليّة.

المبنى الثالث: هو المبنى الصحيح: من أنّ الحسن والقبح العقليّين أمران واقعيّان يدركهما العقل.


(1) وبتعبير آخر: هل يفترض أنّ تطابق العقلاء على المدح والذمّ نشأ عن حرصهم على المصالح الشخصيّة، ودفعهم للمفاسد الشخصيّة، وإنّما جعلوا أحكام العقل العملىّ بنحو يحفظ المصالح النوعيّة، ويدفع المفاسد النوعيّة؛ لرجوع المصالح والمفاسد النوعيّة بوجه وآخر إلى المصالح والمفاسد الشخصيّة، ولو بمعنى رجوعها أحياناً إلى ذلك، فجعلوا أحكام الحسن والقبح عامّة بنكتة الاحتياط والتحرّز عمّا قد يترتّب من مفسدة شخصيّة، أو فوات مصلحة شخصيّة؟

أو يفترض أنّ العقلاء جعلوا أحكام العقل العملىّ بنكتة حبّهم العاطفىّ والغريزىّ لحفظ المصالح النوعيّة، ودفع المفاسد النوعيّة، ولو لم ترجع إلى الشخصيّة؟

أو يفترض أنّهم جعلوا هذه الأحكام لما أدركوا من حسن حفظ المصالح النوعيّة، ودفع المفاسد النوعيّة؟

والثالث لا يمكن المصير إليه؛ إذ ينقل الكلام إلى نفس حسن حفظ المصالح النوعيّة، ودفع المفاسد النوعيّة، فمن الذي جعل ذلك؟ ولماذا جعل؟!

والأوّل والثاني لا يدلّان بالتضمّن على موافقة المولى سبحانه؛ إذ هو غنىّ عن المصالح، ومنزّه عن العواطف. نعم، يبقى علمنا الخاصّ صدفة بأنّه تعالى يهتمّ بمصالح العباد، وهذا أمر آخر كما جاء بيانه في المتن.

461

والواقع: أنّ حكم العقل بالحسن والقبح بهذا المعنى لا يستلزم حكم الشرع على طبقه، ولا ينافي الحكم على طبقه، بتخيّل أنّه مع حكم العقل يكون حكم الشرع لغواً وبلا فائدة.

وتوضيح ذلك: أنّ نفس إدراك الحسن والقبح له اقتضاء للتحرّك نحو الفعل والترك، ولابدّ من ملاحظة النسبة بين هذا الاقتضاء ومدى اهتمام المولى بالفعل أو الترك، فإن كان الثاني أكثر من الأوّل، أبرز المولى ما في نفسه من شدّة الاهتمام عن طريق الحكم والجعل؛ إذ إنّ عدم الإبراز كاشف عن عدم الاهتمام. وليس حكم العقل في المقام موجباً للغويّة هذا الحكم؛ إذ بحكم المولى وإبرازه لشدّة الاهتمام يشتدّ الحسن أو القبح، ويضاف إلى الحسن والقبح الثابتين أوّلاً حسن طاعة المولى وقبح معصيته.

وإن لم يكن الثاني أكثر من الأوّل، لم يكن داع للمولى إلى جعل الحكم على وفق ما حكم به العقل العملىّ. إذن فحكم العقل العملىّ لا هو مناف لحكم الشارع، ولا هو مستلزم له، وإنّما يكون حكم الشارع وعدمه تابعاً لمدى اهتمام المولى بالفعل أو الترك. هذا.

وعدم جعل الحكم من قبل المولى بناءً على نفي الملازمة ـ فيما لو كان الحسن والقبح حكمين عقلائيّين ـ يؤمّن من عقاب المولى، لكنّه لا يؤمّن على هذا المبنى ـ وهو واقعيّة الحسن والقبح ـ من عقابه؛ فإنّ نفس الحسن والقبح الواقعيّين عند إدراكهما يكفيان للاستحقاق الواقعىّ للمدح والذمّ، ومدح المولى ثوابه، وذمّه عقابه. فالعقل العملىّ لم يكن مثبتاً للحكم الشرعىّ، لكنّه مثبت لنتيجته: من استحقاق الثواب والعقاب(1).

 


(1) لايخفى أنّ الحسن والقبح يستتبعان أمرين مختلفين في الهويّة: أحدهما ما قد نسمّيه بالمدح والذمّ بالمعنى الذي يكون عبارة عن مجرّد التحسين والتقبيح للفاعل وسريرته، والثاني المجازاة والمكافأة التي يستحقّها الشخص بحكم العقل العملىّ، وهو الثواب والعقاب. هذا بناءً على واقعيّة الحسن والقبح. أمّا بناءًعلى عقلائيّتها، فالتحسين والتقبيح ـ أيضاً ـ نوع مكافأة عقلائيّة تأديباً ومنعاً عن المفاسد. ويشهد لتعدّد الأمرين وعدم رجوع أحدهما إلى الآخر: أنّ المدح والذمّ يعدّان من حقّ كلّ أحد يطّلع على صدور الحسن أو القبيح عن هذا الإنسان، في حين أنّ الثواب والعقاب يثبتان ـ بناءً على واقعيّة الحسن والقبح ـ على من اُحسن بشأنه، ولمن هضم حقّه، ويثبتان ـ أيضاً ـ لوليّ المجتمع كتأديب، ودفع للمفاسد، وجلب للمصالح.

ورأيت المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله) في بحثه عن الانسداد في نهاية الدراية ملتفتاً إلى تعدّد الأمرين، إلّا أنّه يقول: إنّ المدح والذمّ قد يقصد بهما معنىً أعمّ بحيث يشمل الثواب والعقاب، وبهذا المعنى يؤمن بأنّ مدح