478

إشكال الطهارات الثلاث

الجهة الرابعة: في إشكال الطهارات الثلاث، حيث يقال: إنّها واجبات غيريّة، مع أنّها لا تتمتّع بصفات الواجبات الغيريّة.

والإشكال يمكن أن يقرّب بتقريبات:

التقريب الأوّل: أنّه لو توضّأ لا على وجه التقرّب، لم يخرج عن عهدة المقدّميّة، وبطل وضوؤه، فيقال: إنّ التقرّب غير مقدور للمكلّف؛ لأنّ الأمر المقدّميّ لا يمكن أن يكون امتثاله مقرّباً وموجباً لاستحقاق الثواب، ولا تركه مبعّداً وموجباً لاستحقاق العقاب، فكيف يتأتّى له الوضوء القربيّ مع أنّ التقرّب يتوقّف على تعلّق أمر بالفعل صالح للمقرّبيّة نحو المولى، والأمر بالوضوء ليس كذلك، فالإتيان به على وجه عباديّ غير مقدور له.

هذه هي الصياغة الساذجة للإشكال.

ويكفي في مقام الجواب عليه أن يقال: إنّ التقرّب بالوضوء من ناحية الأمر الغيريّ وإن كان غير ممكن، لكن التقرّب به من ناحية الأمر النفسيّ بذي المقدّمة أمر ممكن، وهو الذي نسمّيه بقصد التوصّل باعتبار أنّ الأمر بذي المقدّمة يحرّك نحو سدّ تمام أبواب عدمه، ومنها عدمه بعدم الوضوء، فالمقدّمة بهذا القصد محسوبة على المولى، وتدخل في حصول الغرض.

التقريب الثاني: كأنّه تعميق للتقريب الأوّل، فيسلّم: أنّ الإتيان بالوضوء قربيّاً ممكن، ولكن يقال: إنّ الأمر الغيريّ لا يمكن أن يكون سقوطه متوقّفاً على قصد القربة، فإنّ الغرض من الأمر الغيريّ إنّما هو التوصّل إلى الواجب لا التعبّد، وذلك يتحقّق بمجرّد الإتيان بذات المقدّمة، كما أنّ الكون على السطح يتوقّف على نصب السلّم، فنصب السلّم يكفي للتوصّل إلى المطلوب بلا حاجة إلى قصد القربة.

479

والجواب: أنّه صحيح: أنّ الأمر الغيريّ الغرض منه هو التوصّل إلى الواجب النفسيّ، وذلك يتحقّق بمجرّد الإتيان بالمقدّمة، لكن نفترض: أنّ عباديّة الوضوء دخيلة في وقوعه مقدّمة، أي: أنّ الصلاة تتوقّف على الوضوء العباديّ، ولكن الكون على السطح لم يكن متوقّفاً على نصب السلم عباديّاً.

وكون العباديّة دخيلة في مقدّميّة المقدّمة له بيانان:

البيان الأوّل: هو البيان الواضح والعرفيّ الذي يتبادر إلى الذهن، وهو كون العباديّة بنفسها ممّا تتوقّف عليه الصلاة، فالصلاة تتوقّف على مجموع العمل الخارجيّ وكون الإتيان به عباديّاً.

والبيان الثاني: بيان ملتو نقله في الكفاية عن تقريرات الشيخ الأعظم (رحمه الله)، حيث افترض: أنّ العباديّة بعنوانها ليست دخيلة في المقدّمة كما كنّا نفترض في البيان الواضح، وإنّما النكتة في الحاجة إلى قصد القربة أنّه مقدّمة للمقدّمة، بتقريب: أنّ المقدّمة ـ في الحقيقة ـ ليست هي الوضوء بما هو غسل ومسح، بل هي الوضوء المعنون بعنوان لاهوتيّ لا نعرفه، وهو عنوان قصديّ، من قبيل عنوان التعظيم الذي لا ينطبق على مصداقه إلّا إذا قصد ذلك العنوان، واُشير إليه في عالم النفس(1)، وحيث إنّ ذلك العنوان لا نعرفه حتّى نقصده، إذن نقصده بالمعرّف والمشير، وهو الأمر، فنأتي بذلك الوضوء بالعنوان الذي تعلّق به الأمر، فلو لم يأتِ به بقصد الامتثال، فهو لم يقصد ذلك العنوان، لا تفصيلا ولا إجمالا(2).

وهذا البيان من كيفيّة عمل الاُصوليّين في تبعيد المسافات للوصول إلى النتائج، فيعدل عن ذلك البيان الأوّل العرفيّ الواضح إلى هذا البيان، على أنّ هذا



(1) مع فارق بين ما نحن فيه والتعظيم، وهو: أنّ التعظيم لا يتحقّق إلّا بقصد عنوانه، والمفروض في المقام أن يكفي قصد العنوان إجمالا.

(2) راجع الكفاية، الطبعة المشتملة في الحواشي على تعليقات المشكينيّ، ص 178.

480

البيان غير صحيح في نفسه كما نبّه عليه في الكفاية(1)؛ إذ هذا البيان ينتج كفاية قصد الأمر الغيريّ وصفاً لا غاية وإن كان قصده غايةً كافياً في المقام من باب أنّه يشتمل ـ لا محالة ـ على قصده وصفاً؛ إذ هو ـ لا محالة ـ قصد العنوان المأمور به، ولو فرض خطأه في التطبيق، وتخيّله: أنّ ذلك العنوان ليس إلّا عبارة عن عنوان الوضوء، فإنّ هذا الخطأ في التطبيق لا ينافي قصد عنوان المأمور به على إجماله، إلّا على فرض التقييد في القصد.

وعلى أيّ حال، فمفاد هذا البيان إنّما هو ضرورة كون المتوضّي قاصداً إجمالا ذلك العنوان الذي اُمر به، بأن يكون عنوان الأمر مشيراً إلى ذلك، أمّا أنّ محرّكه نحو هذا الوضوء هل هو ذلك الأمر، أو شيء آخر غيره، فهذا شيء لا يعيّنه هذا البيان، فالصحيح هو البيان الأوّل.

التقريب الثالث: تعميق أكثر للإشكال، وهو: أنّنا بعد أن فرضنا: أنّ العباديّة داخلة في حاقّ المقدّمة، فالمقدّمة ليست هي ذات الوضوء، بل الوضوء العباديّ، فالأمر الغيريّ يتعلّق بالوضوء العباديّ، نقول: إنّ العباديّة: إن فرضت بلحاظ قصد امتثال الأمر الغيريّ، لزم الدور(2) الذي تقدّم في بحث التعبّديّ والتوصّليّ؛ لأنّ



(1) نفس المصدر.

(2) إشكال الدور في هذا الشقّ قد يأتي عليه بعض التخلّصات عن الدور في تصوّر عباديّة العبادة لو تمّ هناك، وبالإمكان تبديل إشكال الدور في هذا الشقّ بإشكال آخر، وهو: أنّ قصد الأمر الغيريّ لا يكون مقرّباً إلى المولى أو مؤثّراً في ازدياد مقرّبيّة قصد الأمر النفسيّ مثلا؛ لما مضى: من أنّ العبد يجب أن يكون بمنزلة أعضاء المولى، والمولى لو كان هو المباشر لكانت إرادته للمقدّمة غيريّة لا نفسيّة، وما ثبت في الفقه: من عباديّة الطهارات الثلاث ليس فقط بمعنى لزوم قصد الأمر فيها ولو بنحو لا يصلح للمقرّبيّة، وإنّما الثابت طبعاً هو عباديّتها بالمعنى الذي يصلح للمقرّبيّة.

481

هذه العباديّة اُخذت في متعلّق الأمر، فكيف يفرض نظرها إلى نفس هذا الأمر؟ وإن فرضت بلحاظ قصد التوصّل إلى ذي المقدّمة، فهذا أيضاً دور؛ لأنّ قصد التوصّل بالوضوء إلى الصلاة فرع كونه مقدّمة؛ إذ لا يعقل قصد التوصّل بشيء إلى شيء لا يكون مقدّمة له، وكونه مقدّمة له فرع قصد التوصّل؛ لأنّنا فرضنا: أنّ العباديّة دخيلة في مقدّميّة المقدّمة، وهو معنى الدور.

وهذا التقريب جوابه الواضح الساذج: أنّه لو سلّم بطلان الشقّ الأوّل بالدور، لا نسلّم بطلان الشقّ الثاني؛ إذ لا دور فيه؛ فإنّنا لا نفترض كون المقدّمة مجرّد انقداح حالة التقرّب في النفس، وإنّما المفروض: أنّ المقدّمة عبارة عن مجموع الأمرين: من الفعل الخارجيّ والتقرّب، ومعه يكون الفعل الخارجيّ مقدّمة أيضاً؛ لأنّ جزء المقدّمة مقدّمة، فيعقل قصد التوصّل به إلى ذيه؛ إذ لا يتوقّف ذلك إلّا على دخله ضمناً في تحقّق ذي المقدّمة، وهو حاصل. ومن حسن الصدفة: أنّ نفس قصد التوصّل هو الجزء الآخر، وبذلك تتحقّق المقدّمة كاملة، بلا لزوم دور.

إلّا أنّ صاحب الكفاية ذكر في مقام الجواب على هذا الإشكال: أنّنا نختار شقّاً ثالثاً، وهو كون العباديّة من ناحية الاستحباب النفسيّ، فإنّ الطهارات الثلاث مضافاً إلى مقدّميّتها للصلاة الواجبة تتّصف بالأمر النفسيّ الاستحبابيّ، فيؤتى بالوضوء بقصد امتثال هذا الأمر الاستحبابيّ، ولا يلزم دور.

وهذا الجواب يوجد هناك اعتراضان واردان عليه، وبعض الاعتراضات غير الواردة عليه.

أمّا الاعتراضان الواردان:

فأحدهما: ما أشار إليه نفسه، وصار بصدد الجواب عنه، وهو: أنّه إذا كان المصحّح لعباديّة الوضوء هو قصد الأمر النفسيّ الاستحبابيّ المتعلّق بالوضوء، لزم أنّه في حالة الاعتقاد بعدم الاستحباب النفسيّ، أو حالة عدم الالتفات إليه، وتوجّه

482

المكلّف بتمام نظره نحو الأمر الغيريّ، وقصد التوصّل غافلا عن أمر نفسيّ استحبابيّ متعلّق بالوضوء، يقع الوضوء باطلا، مع أنّ الضرورة قاضية بأنّ الوضوء يصحّ من المتشرّع حتّى لو كان غافلا عن الاستحباب النفسيّ.

وقد حاول صاحب الكفاية الجواب على هذا الاعتراض بتصوير الداعي، على الداعي، بدعوى: أنّ من توضّأ بداعي الأمر الغيريّ وداعي التوصّل إلى الصلاة، فهو قاصد للإتيان بمتعلّق الأمر الغيريّ، ومتعلّق الأمر الغيريّ هو الإتيان بالفعل على الوجه العباديّ، وهو إنّما يكون عباديّاً بقصد الأمر النفسيّ، إذن فهو قاصد لبّاً وإجمالا الأمر النفسيّ، فيكون عنده داعيان طوليّان، أحدهما الأمر الغيريّ، وهو يبعث نحو داعويّة الداعي الآخر، وهو الأمر النفسيّ.

ومن الواضح: أنّ هذا الجواب لا محصّل له؛ لأنّ تعدّد الداعي بنحو يكون أحدهما مولّداً للآخر وإن كان معقولا، ولكنّه إنّما يكون معقولا مع الالتفات إلى الداعي الطوليّ الثاني؛ إذ الانبعاث عن جهة وغاية يتوقّف على الالتفات إلى تلك الجهة، فالأمر الغيريّ إنّما يبعث إلى داعويّة الأمر النفسيّ لمن يكون ملتفتاً إلى كلّ منهما في مرتبته، وإلّا فالداعي الأوّل يكون عاجزاً عن إيجاد الداعي الثاني؛ إذ فرض داعويّة الداعي الثاني فرض محرّكيّته له، وفرض محرّكيّته له هو فرض التفاته إليه، وإلّا فكيف يحرّكه؟!

وثانيهما: أنّه قد ينطبق عنوان استحبابيّ راجح على ترك الوضوء، بحيث لولا وجوب الصلاة لكان فعل الوضوء وتركه سيّان، كما لو كان مؤمن تستحبّ إطاعته يحبّ ترك هذا الوضوء ويتأذّى منه حرصاً على وجود هذا الماء لغرض أهمّ، فالترك يشتمل على قضاء حاجة المؤمن، فالاستحباب النفسيّ للوضوء مزاحم باستحباب نقيضه على حدّ استحباب الفعل، فيكون الاستحبابان اقتضائيّين، وإذا صار الفعل والترك عند المولى على حدّ سواء لتزاحم الملاكين، لا يعقل التقرّب به

483

إلى المولى، وإنّما التقرّب يعقل إذا كان الفعل أرجح عند المولى من الترك، وإنّما يكون أرجح بضمّ ملاك مقدّميّته للصلاة، والمفروض: أنّ قصد التوصّل إلى الصلاة ليس مصحّحاً للعباديّة، بل يمكن أن يفرض وجوب الترك لولا مقدّميّته للصلاة الواجبة، كما لو أمر الوالد بترك الوضوء وكانت إطاعته واجبة، ولكن وجوب الصلاة أهمّ من إطاعة الوالد(1)، فلابدّ أن يعترف صاحب الكفاية بأنّ قربيّة الوضوء وعباديّته غير منحصرة بقصد الأمر النفسيّ.



(1) فإن قلت: إنّ استحباب ترك الوضوء لأجل قضاء حاجة المؤمن، أو وجوبه لأجل إطاعة الوالد قد سقط بالمزاحم الأهمّ، وهو الوجوب المقدّميّ للصلاة، أو قل: وجوب الصلاة، ومع سقوط الأمر لا كاشف عن الملاك، فيبقى الأمر الاستحبابيّ بالوضوء بلا مزاحم، ويتمسّك بإطلاقه.

قلت: أوّلا: إنّ صاحب الكفاية لا يقول بتبعيّة الدلالة الالتزاميّة للمطابقيّة في السقوط، وعدم إمكانيّة كشف الملاك، فالإشكال مسجّل على صاحب الكفاية.

وثانياً: إنّه بالإمكان أن يقال: إنّ المتفاهم عرفاً ـ بمناسبات الحكم والموضوع من مثل دليل قضاء حاجة المؤمن، أو وجوب إطاعة الوالد، أو نحو ذلك ممّا له نكات عرفيّة وليس تعبّديّاً صرفاً ـ أنّ قضاء حاجة المؤمن، أو طاعة الوالد، أو نحوهما في ذاته أمر حسن ومطلوب وإن فرضت مزاحمته أحياناً بما هو أهمّ منه، فعند المزاحمة بالأهمّ إنّما يرفع اليد عنه لتقدّم الأهمّ، لا لعدم المقتضي.

وثالثاً: إنّه بالإمكان أن يفرض ـ تسجيلا للنقض ـ وجود فردين للمقدّمة، أصبح ترك أحدهما مطلوباً استحبابيّاً، كما لو كان ماءان: أحدهما عذب حلو، والآخر مجّ مالح، وكان طلب المؤمن منصبّاً على عدم الوضوء بالماء الأوّل، فتوضّأ به برغم فرض أهمّيّة استجابة طلب المؤمن من استحباب الوضوء، أو تساويها معه، فهنا استحباب الترك غير ساقط بالتزاحم مع الوجوب المقدّميّ؛ لأنّ الوجوب المقدّميّ ثابت على الجامع، فلا تزاحم بينهما.

484

وأمّا الاعتراضات غير الواردة:

فأهمّها ما اُورد عليه: من أنّ الاستحباب النفسيّ الذي نريد تصحيح العباديّة به يرتفع عند تحقّق الوجوب؛ لاستحالة اجتماعه معه، ومع زواله وارتفاعه لا معنى لمحرّكيّته.

وقد يجاب عن ذلك بأنّ الاستحباب لا يزول بذاته، بل يزول بحدّه، ويندمج مع الوجوب، وتتحصّل منهما إرادة شديدة ممثّلة للوجوب والاستحباب معاً، فيمكن التقرّب بهذا الاستحباب.

ولكن يمكن للمعترض التخلّص عن ذلك بأن يقول: لو فرضنا اندماجهما في إرادة واحدة قويّة شديدة، لم يتمّ الجواب؛ لأنّ هذه الإرادة الشديدة قد اُخذ في موضوعها العباديّة، والمفروض: أنّ العباديّة تكون نتاجاً لبعض مراتب هذه الإرادة الشديدة، فلزم أخذ قصد الأمر في متعلّق ذلك الأمر.

وعليه؛ فينبغي أن يجاب بأنّ الوجوب والاستحباب محفوظان بحدّهما؛ لتعدّد متعلّقهما؛ لأنّ الاستحباب متعلّق بذات الوضوء، والوجوب متعلّق بالوضوء العباديّ، أي: الوضوء بقصد الاستحباب النفسيّ، فيمكنه التقرّب بلحاظ الأمر النفسيّ.

وملاك دعوى الانحفاظ بحدّه تغاير موضوعهما لا طوليّتهما كما ذكر المحقّق النائينيّ (رحمه الله)، حيث ذكر: أنّ الأمر الغيريّ تعلّق بالوضوء المقيّد بقصد الأمر النفسيّ، فهو في طوله، فينحفظان بحدّهما(1).

ويرد عليه: أن لو اتّحد موضوعهما، استحال اجتماعهما بناءً على تضادّهما،



(1) هذا ما يستفاد من فوائد الاُصول، ج 1، ص 230 ـ 231 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، ولكن ما في أجود التقريرات، ج 1، ص 178 ـ 179 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله) أظهر في إرادة تعدّد المتعلّق بالنحو الذي اختاره اُستاذنا (رحمه الله) منه في إرادة الطوليّة برغم أنّ التعبير بالطوليّة موجود في عبارته.

485

ومجرّد فرض الطوليّة بين المتضادّين لا يرفع التضادّ والتنافي كما هو واضح.

ومن الاعتراضات على كلام صاحب الكفاية أن يفرض: أنّ المستحبّ النفسيّ ليس هو عنواناً منطبقاً على نفس الغسلات والمسحات، بل المستحبّ أمر معنويّ مسبّب عن الوضوء، سمّي بالطهارة، فبالأخرة أصبح الوضوء مطلوباً مقدّميّاً لا نفسيّاً، فيعود الإشكال في قصد القربة في المقدّمة.

إلّا أنّ صاحب الكفاية لا يقول بهذا المبنى، فهذا الاعتراض غير وارد عليه بناءً على مسلكه، بل حتّى لو بنينا على هذا المبنى، لا يرد عليه هذا الإشكال؛ إذ بالإمكان أن يقال ـ بناءً على أنّ المستحبّ النفسيّ هو الطهارة التي هي أمر مسبّب عن هذه الأفعال، لا نفس هذه الأفعال ـ: إنّ مقدّمة الصلاة وشرطها أيضاً هي هذه الطهارة، لا تلك الأفعال، وإنّ هذه الطهارة لابدّ فيها من قصد أمرها من أوّل الشروع في هذه الأفعال.

ومنها: أنّ التيمّم ليس مستحبّاً.

ويمكن الجواب على ذلك باستفادة استحبابه بضمّ ما ورد: من أنّ التراب أحد الطهورين(1)، إلى ما دلّ على أنّ الله يحبّ المتطهّرين(2).



(1) يحضرني فعلا نقل الصدوق (رحمه الله) بإسناده عن محمّد بن حمران، وجميل بن درّاج، أنّهما سألا أبا عبدالله(عليه السلام)عن إمام قوم أصابته جنابة في السفر وليس معه من الماء ما يكفيه للغسل: أيتوضّأ بعضهم ويصلّي بهم؟ فقال: «لا، ولكن يتيمّم الجنب ويصلّي بهم، فإنّ الله عزّوجلّ جعل التراب طهوراً كما جعل الماء طهوراً» وسائل الشيعة، ج. بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ب 24، من التيمّم، ح 2، ص 387.

(2) قال الله تعالى: (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)، السورة 2، البقرة، الآية: 222، وقال الله عزّوجلّ: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)، السورة 9، التوبة، الآية: 108.

486

كيفيّة صياغة الوجوب الغيريّ إطلاقاً وتقييداً

الجهة الخامسة: في كيفيّة صياغة الوجوب الغيريّ إطلاقاً وتقييداً على القول به، فإنّ هناك احتمالات عديدة:

إطلاق الوجوب والواجب

الاحتمال الأوّل: ما هو المشهور بينهم: من القول بالإطلاق في الوجوب والواجب، وعدم تقييدهما بقيد زائداً على شرائط الوجوب النفسيّ السارية إلى الوجوب المقدّميّ بالتبع.

اشتراط وجوب المقدّمة بإرادة ذيها

الاحتمال الثاني: ما يظهر من عبائر المعالم(1): من تقييد وجوب المقدّمة بشرط إرادة ذيها، فلا تجب بدون ذلك.

وقد أشكل المحقّقون المتأخّرون في معقوليّة هذا الاحتمال، وادّعوا استحالته. وما يستخلص من كلماتهم في وجه الاستحالة أحد وجهين:

الأوّل: ما يظهر من المحقّق العراقيّ (رحمه الله): من أنّه شبيه بطلب الحاصل، وهو مستحيل؛ إذ إرادة ذي المقدّمة مستلزمة ومستبطنة لإرادة المقدّمة لا محالة، فاشتراط وجوب المقدّمة بإرادة ذيها يساوق اشتراط وجوبها بإرادتها، وهو شبيه بطلب الحاصل، ويكون مستحيلا(2).



(1) في آخر بحث الضدّ.

(2) راجع نهاية الأفكار، ج 1، ص 333 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، ولكن كلامه في فرض شرط إرادة التوصّل بالمقدّمة إلى ذيها.

487

وهذا الوجه غير تامّ؛ ذلك أنّ اشتراط الوجوب الغيريّ بإرادة الواجب النفسيّ يتصوّر بأحد أنحاء:

الأوّل: أن يكون الشرط إرادة الواجب النفسيّ، وسدّ أبواب عدمه من غير جهة هذه المقدّمة.

ومن الواضح: أنّه على هذا يرتفع المحذور موضوعاً.

الثاني: أن يكون الشرط صدق القضيّة الشرطيّة القائلة: إنّه لو أوجد هذه المقدّمة لأراد ذا المقدّمة، فكلّ من يريد الصلاة على تقدير الوضوء يجب عليه الوضوء.

وهذا في الروح وإن كان راجعاً إلى الأوّل، غير أنّه يختلف عنه صياغة، فالشرط هنا صدق القضيّة الشرطيّة نفسها، والذي لا يستلزم صدق طرفيها، فلا يكون الاشتراط به في قوّة الاشتراط بإرادة المقدّمة.

الثالث: أن يكون الشرط هو إرادة ذي المقدّمة من كلّ الجهات.

وهذا هو الذي يستلزم المحذور الذي أفاده المحقّق العراقيّ (رحمه الله)، غير أنّ الصحيح: عدم المحذور في هذا الفرض أيضاً؛ لأنّ محذور تحصيل الحاصل: إمّا أن يكون بنكتة التهافت، باعتبار كون طلب الشيء مساوقاً لفقده، فكونه حاصلا تهافت وتناقض، وإمّا بنكتة اللغويّة؛ إذ الأمر من أجل قدح الداعي نحو المطلوب لتحصيله، فلو فرض حصوله، كان من اللغو طلبه.

وكلتا النكتتين غير موجودة في المقام: أمّا التهافت، فلأنّ الشرط إنّما هو إرادة الواجب لا حصوله، والتهافت إنّما يكون في فرض شرط حصوله، وأمّا اللغويّة بملاك عدم الداعويّة، فلأنّ الوجوب الغيريّ ـ عند القائلين به ـ لا يكون استقلاليّاً في الجعل، وإنّما هو وجوب تبعيّ قهريّ، فلا تكون اللغويّة محذوراً مانعاً عن وجوده، بل قد تقدّم: أنّ الوجوب الغيريّ لا داعويّة مستقلّة له، وإنّما الداعويّة للواجب النفسيّ دائماً، فإشكال اللغويّة لا موضوع له في الواجبات الغيريّة.

488

وهكذا يتّضح عدم تماميّة الوجه المذكور في البرهنة على الاستحالة.

الثاني: ما أفاده المحقّق النائينيّ (رحمه الله)(1)، وهو ـ بتنقيح منّا ـ: أنّ الوجوب الغيريّ لو كان مشروطاً بإرادة ذي المقدّمة، فمع عدمها لا يكون ثابتاً لا محالة، وحينئذ لو كان الوجوب النفسيّ ثابتاً، لزم من ذلك التفكيك بين الوجوبين: النفسيّ والغيريّ، مع أنّ قانون الملازمة ـ على القول به ـ لا يفرّق فيه بين مورد ومورد، ولو كان الوجوب النفسيّ مرتفعاً أيضاً، كان معنى ذلك اشتراطه بالإرادة أيضاً، والاشتراط المذكور إن كان بالصياغة الثالثة من الصياغات المتقدّمة، ففيه المحذور الثبوتيّ المتقدّم: من طلب الحاصل واللغويّة، حيث إنّه تامّ في التكاليف النفسيّة، وإن كان بالصياغة الاُولى أو الثانية، فهو وإن لم يكن ذا محذور ثبوتيّ، ولكنّه باطل إثباتاً؛ لوضوح عدم كون سدّ بعض أبواب عدم الواجب شرطاً في وجوب الباقي، بل الوجوب الثابت للواجب من أوّل الأمر يتطلّب سدّ كلّ أبواب عدمه.

وهذا الوجه في إبطال هذا الاحتمال صحيح لا غبار عليه.

اشتراط وجوب المقدّمة بقصد التوصّل بها إلى ذيها

الاحتمال الثالث: ما ينسب إلى الشيخ الأعظم(قدس سره) على ما في تقرير بحثه: من أنّ الواجب الغيريّ هو المقدّمة مع قصد التوصّل بها إلى ذيها على نحو يكون قصد التوصّل من قيود الواجب(2).



(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 286 ـ 287 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ج 1، ص 232 ـ 233 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله).

(2) مطارح الأنظار، ص 70.

489

وقد أفاد السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ: أنّ هذا التقييد هو نفس التقييد السابق الذي اختاره صاحب المعالم (رحمه الله)، غير أنّه جعله من قيود الوجوب، والشيخ(قدس سره) جعله من قيود الواجب(1)، ولكن الصحيح هو الفرق بينهما من ناحية القيد أيضاً، فإنّه عند صاحب المعالم هو إرادة ذي المقدّمة، وهي غير قصد التوصّل، ولذلك ربما يكون الإنسان مريداً تحقيق ذي المقدّمة، ولكنّه مع ذلك يأتي بالمقدّمة بغير قصد التوصّل بها فعلا إلى ذي المقدّمة، فإرادة ذي المقدّمة بمعناها الحقيقيّ لا تساوق قصد التوصّل بالمقدّمة.

وأيّاً ما كان، فهذا الاحتمال وإن نسب إلى الشيخ(قدس سره)، إلّا أنّ عبارة التقرير مشوّشة، ولذلك يحتمل فيه عدّة تفسيرات:

الأوّل: ما ذكر من أخذ قصد التوصّل قيداً في الواجب الغيريّ.

الثاني: أن يكون المقصود: أنّ وقوع المقدّمة امتثالا وعبادة موقوف على قصد التوصّل بها إلى امتثال ذي المقدّمة.

وهذا المعنى لو كان هو المقصود، فهو معنىً صحيح؛ لما تقدّم: من أنّ الوجوب الغيريّ بنفسه لا يكون قربيّاً، وإنّما قربيّة المقدّمة تكون بقصد التوصّل إلى امتثال ذيها.

الثالث: أن يكون المقصود: أخذ قصد التوصّل في الواجب نفسه كما في الاحتمال الأوّل، غير أنّه في خصوص المقدّمات المحرّمة التي يتوقّف عليها الواجب الأهمّ فهي تقع محرّمة، إلّا إذا جيء بها بقصد التوصّل، فتكون واجبة، وأمّا المقدّمة المباحة، فهي مصداق للواجب مطلقاً.

وهذا المعنى سوف يقع الحديث عنه لدى التعرّض لثمرة البحث في وجوب المقدّمة على اختلاف صيغه.



(1) راجع المحاضرات للفيّاض، ج 2، ص 404 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

490

فموضوع البحث هنا هو المعنى الأوّل، وهو القول باختصاص الوجوب بالمقدّمة التي يقصد معها التوصّل.

وهذا الاحتمال يواجه بدواً استغراباً؛ إذ لا نكتة ولا ملاك في تقييد الواجب الغيريّ بقصد التوصّل؛ لأنّ ملاك الوجوب الغيريّ للمقدّمة: إمّا أن يكون حيثيّة توقّف الواجب النفسيّ عليها، وهو يقتضي وجوب مطلق المقدّمة، وإمّا أن يكون حيثيّة حصول الواجب النفسيّ به، وهو يقتضي وجوب المقدّمة الموصلة بالخصوص، فاعتبار قصد التوصّل لا موجب له.

وقد حاول المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) توجيه ذلك بتقريب مؤلّف من مقدّمتين:

الاُولى: أنّ الحيثيّات التعليليّة في الأحكام العقليّة العمليّة أو النظريّة كلّها تقييديّة، بحيث تكون هي موضوع ذلك الحكم العقليّ، فالحكم بجواز ضرب اليتيم للتأديب موضوعه الضرب التأديبي، والحكم باستحالة الدور للتناقض مثلا موضوعه استحالة التناقض، لا الدور بما هو دور، وعليه يكون وجوب المقدّمة الثابت بحكم العقل بالملازمة موضوعها الموصل؛ لأنّ الموصّليّة هي الحيثيّة التعليليّة للحكم المذكور.

الثانية: أنّ التكليف لا يتعلّق إلّا بالحصّة الاختياريّة من المتعلّق؛ إذ يستحيل البعث نحو غير الاختياريّ، فالحصّة غير الاختياريّة لا تقع مصداقاً للواجب وإن كانت محصّلة للغرض، والعنوان الواجب لا يقع اختياريّاً إلّا إذا صدر عن قصد وإرادة واختيار له، فإذا كان التوصّل بعنوانه هو الواجب الغيريّ فلا يقع مصداقاً للواجب ما لم يصدر هذا العنوان عن قصد(1).

وقد اعترف السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ بما ذكر في هذا التقريب: من كون



(1) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 133 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

491

الحيثيّات في الأحكام العقليّة تقييديّة دائماً حتّى في أحكام العقل النظريّ، ولكنّه اعترض بخروج المقام عن ذلك؛ لأنّ وجوب المقدّمة المبحوث عنه هو الوجوب الشرعيّ لا العقليّ، والعقل مجرّد كاشف عنه(1).

مع أنّ هذا تهافت؛ إذ بعد تسليم رجوع الحيثيّات إلى التقييديّة في الأحكام العقليّة العمليّة والنظريّة معاً لا وجه لدعوى خروج محلّ الكلام عن تلك القاعدة؛ إذ ليس دور العقل في الأحكام العقليّة سوى الكشف والإحراز، وهو واضح، خصوصاً في أحكام العقل النظريّ، فالتسليم بتلك المقدّمة مناقض للاعتراض المذكور.

والتحقيق في الجواب على هذا الكلام أن يقال:

أوّلا: إنّ رجوع الحيثيّات التعليليّة في الأحكام العقليّة إلى الحيثيّات التقييديّة كلام موروث يراد به الأحكام العقليّة العمليّة، دون النظريّة، والتي منها وجوب المقدّمة شرعاً(2).

توضيح ذلك: أنّ الأحكام العقليّة العمليّة إدراكات لاُمور واقعيّة نفس الأمريّة، هي الحسن والقبح في الأفعال، وكونها ممّا ينبغي أو لا ينبغي، وكلّ فعل عرض عليه عنوان حسن أو قبيح سرى إليه عقلا الحسن والقبح على أساس الواسطة في العروض لا غير، وليست كالأحكام الشرعيّة جعولا وانشاءات بيد الجاعل، فإذا كانت حيثيّة التأديب هي الواسطة في عروض الحسن للضرب، فلا معنى لافتراض: أنّ موضوع هذا الحكم النفس الأمريّ هو الضرب دون التأديب، وذلك



(1) راجع المحاضرات، ج 2، ص 407 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

(2) قد التفت الشيخ الإصفهانيّ (رحمه الله) إلى هذا الجواب في تعليقه على نهاية الدراية. راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 134، تحت الخطّ بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

492

ببرهان: أنّه إمّا أن يكون الموضوع هو الضرب فقط، أو هو مع التأديب، أو التأديب فقط. والأوّل غير معقول؛ إذ التأديب بعد أن كان هو ملاك الحسن كان أولى به من فاقده، فإنّ واجد الشيء يعطيه لا فاقده، والثاني خلف المفروض؛ إذ معناه: أنّ هناك حكمين عقليّين على موضوعين وحيثيّتين، تقييديّتين، فينحصر الأمر بالثالث، وهو أن تكون حيثيّة التأديب هي موضوع الحكم العقليّ.

وهذا بخلاف الأحكام الشرعيّة المجعولة؛ فإنّها ربما تجعل لا على حيثيّاتها التعليليّة، كجعل الوجوب على الصلاة؛ لكونها ناهية عن الفحشاء، باعتبار عدم كون تلك الحيثيّة عرفيّة، أو عدم كون مصداقها متعيّناً لدى العبد، أو غير ذلك من الموجبات التي تقدّمت الإشارة إليها في بحث الفرق بين الواجب النفسيّ والغيريّ.

وبخلاف القضايا العقليّة النظريّة في غير التشريعيّات؛ فإنّ الحيثيّات التعليليّة التي على أساسها أدرك العقل تلك القضايا ربما تكون واسطة في الثبوت فقط، وربما تكون واسطة في العروض وحيثيّة تقييديّة، ومن الواضح: أنّ وجوب المقدّمة شرعاً ـ على القول به ـ من مدركات العقل النظريّ دون العمليّ، فلا تشمله القاعدة الموروثة في حيثيّات أحكام العقل العمليّ.

وثانياً: قد تقدّم في أبحاث التعبّديّ والتوصّليّ: أنّه لا يشترط تعلّق الوجوب بالحصّة الاختياريّة من الفعل خاصّة، بل يمكن تعلّقه بالجامع بينها وبين الاختياريّة.

ثُمّ لو سلّم لزوم الاختصاص، وأنّ الباعثيّة لا تكون إلّا إلى الحصّة الاختياريّة من الفعل، فذلك إنّما يمكن تسليمه في الواجبات النفسيّة التي تجعل لغرض الداعويّة، لا الواجبات الغيريّة التي لا تجعل ـ على القول بها ـ من أجل الداعويّة، وإنّما هي واجبات قهريّة تبعيّة.

493

وثالثاً: لو سلّم ذلك أيضاً، وافترضنا الواجب الغيريّ كالواجب النفسيّ، مع ذلك نقول: يكفي في اختياريّة الفعل ـ بنحو يكون هو الشرط في التكليف والبعث إليه ـ أن يكون صادراً عن قدرة العبد والتفاته، بمعنى: عدم غفلته، ولا جهله المركّب، فلو ضرب المكلّف شخصاً وهو ملتفت إلى أنّه يؤدّي إلى قتله، كان القتل الصادر اختياريّاً ولو فرض عدم قصده له، بل كان قصده عنواناً آخر، فلا يشترط قصد المسبّب في اختياريّته.

ورابعاً: لو سلّم اشتراط قصد الفعل وإرادته في وقوعه اختياريّاً، قلنا: يكفي في انطباق التكليف وكون الفعل مصداقاً للواجب أن يكون المعنون صادراً عن اختيار المكلف وقصده وإن لم يقصد العنوان ولم يختره(1)، ما لم يكن العنوان الواجب من العناوين القصديّة كالاحترام والتعظيم، وكان عنواناً ينطبق على الفعل قهراً، فلو صدرت المقدّمة من المكلّف لا بقصد الإيصال، ولكنّها كانت موصلة واقعاً، كانت مصداقاً للواجب؛ لكونها مصداقاً للموصل ـ لا محالة ـ ولو لم يكن عنوان الموصل باختياره وقصده، ولذلك لا يستشكل أحد في وقوع الواجب التوصّليّ لو جيء به بغير العنوان الذي به وجب إذا لم يكن من العناوين القصديّة، كما إذا أزال النجاسة بعنوان التجميل لا التطهير.

وخامساً: لو سلّمنا جميع ما يتوقّف عليه التقريب المذكور، فمع ذلك لا تثبت مقالة الشيخ الأعظم (رحمه الله)، وإنّما تثبت مقالة اُخرى، هي القول باختصاص الوجوب الغيريّ بالمقدّمة الموصلة مع قصد التوصّل بها، وهذا جمع بين مقالتي الشيخ الأعظم وصاحب الفصول(قدس سرهما)، وليس هو مدّعى الشيخ من وجوب المقدّمة التي قصد بها التوصّل ولو لم تكن موصلة.



(1) التفت الشيخ الإصفهانيّ (رحمه الله) إلى هذا الجواب في تعليقه على نهاية الدراية. راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 134، تحت الخطّ بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

494

وهذا ظاهر فيما لو أراد بالموصليّة الموصليّة الفعليّة، وأمّا لو أراد الموصليّة الشأنيّة، فهي غير التوصّل الذي يدّعى اشتراط قصده في هذا الاحتمال.

اشتراط وجوب المقدّمة بكونها موصلة

الاحتمال الرابع: ما اختاره صاحب الفصول(قدس سره): من اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة إلى ذيها(1).

والكلام في ذلك يقع في مقامين:

الأوّل: في البراهين التي احتجّ بها على بطلان القول بالمقدّمة الموصلة.

والثاني: في البرهان على إثبات القول بالمقدّمة الموصلة.

وبمجموع البحثين يتّضح الموقف تجاه هذا الاحتمال:

أمّا المقام الأوّل: فبراهين بطلان المقدّمة الموصلة يرجع بعضها إلى بيان عدم المقتضي للتقييد بالموصلة، وبعضها إلى إبداء محذور ثبوتيّ في التقييد.

وهذه البراهين وجوه عديدة:

الوجه الأوّل: دعوى استلزام ذلك للتسلسل.

ويمكن تقريب ذلك بوجهين:

الأوّل: ما هو ظاهر كلام المحقّق النائينيّ(قدس سره)(2)، وحاصله: أنّ الوجوب إذا كان متعلّقاً بالموصلة، فالواجب هو ذات المقدّمة مع التقيّد بالإيصال، فذات المقدّمة مقدّمة للمقدّمة الموصلة؛ لمقوّميّتها لها، والوجوب كما يترشّح على مقدّمة الواجب



(1) الفصول، ص 87.

(2) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 290 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ج 1، ص 238 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله).

495

النفسيّ كذلك يترشّح على مقدّمات المقدّمة، فنقول: هل يترشّح الوجوب على ذات المقدّمة التي هي مقدّمة للمقدّمة الموصلة، أو يترشّح الوجوب عليها بقيد إيصالها إلى المقدّمة الموصلة؟

فإن قلنا بالثاني، حصّلنا أيضاً مركباً من الذات وقيد الإيصال، فيكون الذات مقدّمة للمقدّمة الموصلة، فننقل الكلام إليها، وهكذا إلى أن يتسلسل، وإن انتهينا أخيراً إلى وجوب متعلّق بالذات بلا قيد الإيصال، فلنقل بذلك من أوّل الأمر.

وهذا التقريب جوابه واضح؛ إذ لو سلّم كلّ الاُصول الموضوعيّة لهذا التقريب، قلنا: إنّ ذات الوضوء ليس مقدّمة للوضوء الموصل، فإنّ المقدّمات الداخليّة ليس فيها ملاك الوجوب؛ لعدم التوقّف والمقدّميّة في عالم الوجود، وذات الوضوء جزء ومقدّمة داخليّة للوضوء الموصل(1).

الثاني: أن يقال بأنّ وجوب الصلاة يترشّح منه وجوب غيريّ على الوضوء، وهو يتعلّق ـ على القول بالموصلة ـ بالوضوء، لا على الإطلاق، بل الوضوء المقيّد



(1) ولو سلّمنا: أنّ المقدّمة الداخليّة كالخارجيّة، قلنا: إنّ مقدّمة المقدّمة إنما يترشّح عليها الوجوب بقيد الإيصال إلى ذي المقدّمة، لا بقيد الإيصال إلى المقدّمة؛ إذ لو فرض محالا إيصالها إلى المقدّمة الموصلة من دون إيصالها إلى ذي المقدّمة، لم تكن فيها فائدة، ومن حسن الحظّ في المقام: أنّ المقدّمة الثانية بقيد الإيصال إلى ذي المقدّمة عين الواجب الغيريّ الأوّل، ووجوبها عين الوجوب الأوّل. على أنّ المقدّمات مهما تفترض كثرتها أو طوليّتها لا يتعلّق بها جميعاً إلّا وجوب واحد.

أمّا لو فرض: أنّ الإشكال في نفس تكثّر المقدّمات إلى ما لا نهاية له، وأنّ هذا بنفسه تسلسل محال، فهذا ليس إشكالاً على وجوب المقدّمة الموصلة، بل هو إشكال في نفسه كاشف عن خطأ مّا في الحساب، فإمّا أنّ تكثّر المقدّمات لم يكن إلّا وهماً لا واقع له (كما هو كذلك)، وإمّا أنّ هذا النمط من التسلسل لم يكن محالا.

496

بالإيصال إلى الصلاة، فالواجب الغيريّ مقيّد بالصلاة، فتكون الصلاة قيداً في الواجب الغيريّ، فصارت مقدّمة المقدّمة، فيتعلّق بها الوجوب الغيريّ، ويصبح الوضوء ذا المقدّمة بالنسبة للصلاة، ويكون قيداً في هذا الوجوب الغيريّ، فيترشّح إليه وجوب مقدّميّ جديد، وهو أيضاً متعلّق بالموصل منه، وهكذا إلى أن يتسلسل.

وهذا التقريب أيضاً غير صحيح لعدّة وجوه:

الأوّل: ما سوف يأتي ـ إن شاء الله ـ: من أنّ المقدّمة الموصلة ـ على القول بها ـ لا ينحصر معناها في أخذ التوصّل إلى ذي المقدّمة قيداً للمقدّمة، بل لذلك معنىً آخر لا يستبطن أخذ التوصّل قيداً.

وهذا يصلح أن يكون جواباً للوجه الأوّل أيضاً.

الثاني: أنّه لو سلّمنا: أنّ معنى المقدّمة الموصلة تعلّق الوجوب الغيريّ بالوضوء المقيّد بحيثيّة الإيصال، لم يلزم مع هذا ترشّح الوجوب الغيريّ على الصلاة نفسها.

وتوضيح النكتة في ذلك: أنّ مقدّمة المقدّمة كلّيّةً فيها توقّفان: أحدهما توقّف المقدّمة الاُولى على الثانية، والآخر توقّف ذي المقدّمة الأصليّ على المقدّمة الثانية بسبب توقّف المقدّمة الاُولى، والتوقّف الأوّل لو لوحظ وحده، وفرض محالا: أنّه لا توقّف ثان، لم يترشّح وجوب على المقدّمة الثانية؛ إذ من الواضح: أنّ الشوق الغيريّ لا يمكن أن يصنع شيئاً سوى تقريب الإنسان نحو المطلوب النفسيّ، فإذا لم يكن المطلوب النفسيّ متوقّفاً عليه، فأيّ شوق يترشّح عليه؟!

فالسبب في الوجوب إنّما هو التوقّف الثاني، فالملاك دائماً في الوجوب الغيريّ سواء كانت المقدّمة أوّليّة، أو ثانويّة، أو ثالثيّة، إنّما هو مقدّميّتها لأصل الواجب النفسيّ.

إذا عرفت ذلك، قلنا: إنّ المقدّمة الثانية إن كانت مغايرة للواجب النفسيّ، كما

497

في إخراج الماء من البئر مثلا الذي هو مقدّمة للوضوء الذي هو مقدّمة للصلاة، ترشّح عليه الوجوب الغيريّ؛ لأنّ ملاك ذلك هو المقدّميّة في عالم الوجود، وهو ثابت، أمّا إذا أصبحت المقدّمة الثانية ـ بسحر ساحر ـ نفس ذي المقدّمة، كما هو المفروض في المقام، فلا معنى لترشّح الوجوب الغيريّ عليها؛ إذ لو فرض ترشّحه من المقدّمة الاُولى، فهذا خلف ما وضّحناه: من أنّ المقدّمات الثانويّة إنّما تكسب وجوبها من ذي المقدّمة الأصليّ، لا من المقدّمة الأوّليّة، ولو فرض ترشّحه من ذي المقدّمة الأصليّ، فملاكه إنّما هو التوقّف والمقدّميّة، ومن المعلوم: أنّ التوقّف والمقدّميّة فرع الاثنينيّة المفقودة في المقام.

الثالث: أنّه لو غضّ النظر عن كلا الجوابين، وافترض التسلسل، فهذا التسلسل ليس أمراً مستحيلا؛ لأنّه ينقطع بانقطاع الاعتبار والملاحظة.

وتوضيح ذلك: أنّ التسلسل ـ على ما ذكر الحكماء ـ على قسمين:

1 ـ التسلسل الذي يمشي ويصعد بلا نهاية، بلا حاجة إلى ملاحظة الملاحظ، وتدخّل متدخّل فيه، كَأن يكونَ هذا له علّة، وعلّته لها علّة، وهكذا، وهذا هو المحال.

2. التسلسل بمعنى: أنّه لا يتوقّف كلّما مشى الإنسان والملاحظ في ملاحظته، ومتى توقّف عن الملاحظة توقّف التسلسل، وهذا ليس محالا.

والمقام من هذا القبيل، فإنّ هذه الوجوبات كلّها أشواق نفسيّة، تتوقّف على الالتفاتات، وليس معنى هذه الوجوبات وجود أشواق لا متناهية بالفعل.

وهذا الجواب الثالث يتمّ على كلا تقريبي التسلسل.

الوجه الثاني: لزوم اجتماع المثلين؛ إذ يلزم كون الصلاة قيداً للواجب الغيريّ ومقدّمة له؛ لأنّ الواجب هو الوضوء الموصل إلى الصلاة، فيتّصف نفس الواجب النفسيّ بالوجوب الغيريّ، ويكون محطّاً لوجوبين.

498

وهذا البيان يعترض عليه بوجوه:

الأوّل: ما أشرنا إليه في ردّ البرهان السابق: من أنّه مبنيّ على تخيّل أنّ المقدّمة الموصلة معناها تعلّق الوجوب بالحصّة المقيّدة بانضمام ذي المقدّمة إليها، وسوف يأتي ـ إن شاء الله ـ: أنّ لتصوير المقدّمة الموصلة صيغة اُخرى.

الثاني: ما بيّنّاه أيضاً في ردّ الوجه السابق. وحاصله: أنّ الصلاة وإن أصبحت مقدّمة المقدّمة، لكن لا يترشّح عليها الوجوب الغيريّ؛ لأنّ ترشّح الوجوب على مقدّمة المقدّمة إنّما يكون بلحاظ كونه مقدّمة لذي المقدّمة الأصليّ، وهنا لا تكون الصلاة مقدّمة لذي المقدّمة الأصليّ؛ فان المقدّميّة والتوقّف فرع الاثنينيّة، وأمّا وجوب المقدّمة فلا يترشّح إلى مقدّمتها.

هذان هما الوجهان الصحيحان في الردّ على هذا البرهان.

ولكن قد يظهر من كلمات السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ وجه آخر في مقام الجواب، وهو ما نذكره الآن بعنوان الثالث:

الثالث: الالتزام بالتأكّد والاشتداد المساوق للتوحّد، كما هو الحال في سائر الموارد، كمورد تعلّق النذر بالواجب(1).

وفيه: أنّ هذا إنّما يعقل في شوقين متولّدين من ملاكين لا من ملاك واحد. وتوضيحه: أنّ معنى تأكّد الشوقين ليس هو وجود شوقين في جانبي النفس، وأنّ النفس تضيق بهما، فيتّحدان، بل معناه وجود ملاكين يقتضيان الشوق، ولكن يستحيل تأثير كلّ منهما بحدّه؛ لاستحالة اجتماع شوقين، فيؤثّران تأثيراً واحداً.

أمّا في المقام، فمقتضي الشوقين واحد، وهو مصلحة الصلاة، وفي مثل ذلك



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 238، تحت الخطّ بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله).

499

لا معنى لتأكّد الشوق؛ لعدم ازدياد في الملاك.

وبكلمة اُخرى: إنّ اشتداد الشوق لا يكون جزافاً، بل يكون باعتبار اشتداد الملاك، كما أنّ الشوق لا يكون جزافاً، بل يكون باعتبار الملاك، والوجدان حاكم بأنّ الشوق إلى الصلاة لا يزيد نفسه ما لم تضمّ إليه نكتة من الخارج.

الوجه الثالث: دعوى استلزام ذلك للدور.

وهذا له تقريبان في كلماتهم:

الأوّل: أن يقال بلزوم الدور في عالم الوجود، فيقال: إنّ الصلاة متوقّفة على مقدّمتها وهو الوضوء، وقد أصبحت مقدّمة لمقدّمتها؛ لأنّنا قلنا بالمقدّمة الموصلة التي هي مقيّدة بلحوق ذي المقدّمة، وهي الصلاة مثلا، إذن، فمقدّمة الصلاة وهي الوضوء متوقّفة على الصلاة(1).

وهذا التقريب جوابه واضح، فإنّ المدّعى إنّما هو كون متعلّق الوجوب الغيريّ هو الحصّة الموصلة، لا كون الموقوف عليه الصلاة الحصّة الموصلة، بل الصلاة متوقّفة على ذات الوضوء، والموقوف على الصلاة هو الوضوء الموصل بما هو موصل، فلا دور.

الثاني: أن يقال بلزوم الدور في عالم الوجوب، حيث إنّه ينشأ من وجوب الوضوء وجوب غيريّ آخر على الصلاة، فيقال: إنّ وجوب الصلاة نشأ من وجوب الوضوء، ووجوب الوضوء نشأ من وجوب الصلاة، وهو الدور(2).

وقد أجاب السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ على هذا الإشكال بأنّ الوجوب



(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 290 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 238 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله).

500

الذي تولّد من وجوب الوضوء هو وجوب غيريّ(1).

وهذا الجواب في غاية الوضوح، ولكن لعلّ مقصود المستشكل في الدور النظر إلى ما قالوه من فرض التأكّد. وتوضيح ذلك: أنّنا لو التزمنا بشوقين: أحدهما نفسيّ والآخر غيريّ، فاندفاع الدور واضح، لكن لو فرضنا: أنّنا أردنا أن نتجاوز عن محذور اجتماع المثلين بالتأكّد، فعندئذ ليس إلّا وجود واحد للشوق، فيلزم الدور. وإن شئتم قلتم: إنّ التأكّد بين أمرين موجودين في مرتبتين أمر غير معقول.

وبكلمة اُخرى نقول: يوجد عندنا وجوب نفسيّ للصلاة واقع في المرتبة الاُولى، ووجوب غيريّ للوضوء واقع في المرتبة الثانية، ووجوب غيريّ للصلاة واقع في المرتبة الثالثة، فإن بقي الأوّل والثالث على حدّهما، لزم اجتماع المثلين، وإن اتّحدا لزم تقديم المتأخّر وتأخير المتقدّم.

إلّا أنّك عرفت: أنّ الاُصول الموضوعيّة لهذا الإشكال غير صحيحة؛ لما تقدّم من الجواب الأوّل والثاني عن الوجه الثاني.

الوجه الرابع: ما ذكره المحقّق العراقيّ (رحمه الله): من أنّ تقييد شيء بما هو أخصّ مطلقاً منه مساوق لتقييده بوجود نفسه؛ لأنّ وجود الأخصّ المطلق مساوق لوجود الأعمّ، فكما يستحيل تقييد الشيء بنفسه كذلك يستحيل تقييده بما هو أخصّ مطلقاً منه، والحصّة الموصلة أخصّ مطلقاً من ذات المقدّمة.

هذا بيان وقع في تقرير المحقّق العراقيّ (رحمه الله)(2)، ولعلّه وقع فيه نوع من الالتباس من المقرِّر؛ إذ من الواضح: أنّ الميزان في صحّة التقييد كون المقيَّد أعمّ ولو من



(1) راجع المصدر السابق، تحت الخطّ، والمحاضرات، ج 2، ص 414 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

(2) بدائع الأفكار، ج 1، ص 388 بحسب طبعة المطبعة العلميّة في النجف.

501

وجه من القيد، لا كون القيد أعمّ ولو من وجه من المقيَّد، فإكرام الفقيه مثلا لا يعقل تقييده بكونه عالماً؛ لأنّ العالم أعمّ من الفقيه، والتقييد تخصيص، فلابدّ أن يكون المقيّد واجداً لحصّتين: حصّة واجدة للقيد، وحصّة فاقدة له، فالتقييد يتوقّف على أن لا يكون القيد أعمّ مطلقاً من المقيّد، أو مساوياً له، أمّا لو كان أخصّ مطلقاً منه، فلا بأس بالتقييد، فيقيّد الإنسان بالعالم؛ لأنّه قابل للتحصيص إلى العالم وغيره.

الوجه الخامس: ما ذكره صاحب الكفاية (رحمه الله): من أنّه لو أتى بالمقدّمة، فهل يسقط الأمر الغيريّ قبل إتيانه بذي المقدّمة، أو لا؟ فإن فرض عدم السقوط، فهو تحصيل للحاصل، ولا شيء يحرّك نحوه؛ فإنّه لم يبقَ شيء يتحرّك نحوه غير ذي المقدّمة، وإن فرض السقوط، فسقوط الأمر لا يكون إلّا بالامتثال، أو العصيان، أو ارتفاع الموضوع، أو بحصول الغرض بفرد لا يعقل انبساط الأمر عليه؛ لخروجه عن القدرة، أو حرمته. أمّا فرض العصيان، فواضح البطلان؛ فإنّه في طريق الامتثال لا العصيان، ولو مات الآن لم يكن عاصياً، وأمّا ارتفاع الموضوع، فهو أيضاً باطل؛ إذ لا يزال لم يأتِ بذي المقدّمة، وأمّا عدم إمكان انبساط الأمر عليه، فأيضاً غير صحيح؛ إذ لا هو أمر غير مقدور، ولا هو فرد محرّم، فالمتعيّن هو فرض حصول الامتثال، وهو المطلوب(1).



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 186 بحسب الطبعة المشتملة في الحاشية على تعليقات المشكينيّ.

ويمكن الجواب على هذا الوجه بأنّنا نسأل: ما هو المقصود من سقوط الأمر بالمقدّمة بعد الإتيان بها، وقبل الإتيان بذي المقدّمة؟

إن كان المقصود سقوط فعليّة الأمر، فهذا ما لا نقول به حتّى بعد امتثال ذي المقدّمة؛ لأنّنا نرى: أنّ الامتثال يسقط فاعليّة الأمر لا فعليّته، وإن كان المقصود سقوط فاعليّة الأمر ومحرّكيّته، فقد مضى: أنّ الأمر الغيريّ لا محرّكيّة ولا فاعليّة له منذ البدء.

502

والجواب: أ نّا نختار عدم سقوط الأمر الغيريّ بالإتيان بالمقدّمة، ومحذور تحصيل الحاصل عليه نقض وحلّ:

أمّا النقض، فهناك نقض خاصّ على صاحب الكفاية بلحاظ مبانيه، ونقض عامّ بلحاظ المباني المشتركة بين صاحب الكفاية وغيره:

أمّا النقض الأوّل: فيمكن إيراده بلحاظ ما أفاده صاحب الكفاية في عدّة موارد: منها في بحث الإجزاء(1)، ومنها في بحث التعبّديّ والتوصّليّ(2).

ففي الأوّل ذكر في بحث تبديل الامتثال: أنّه يمكن بقاء الأمر حتّى بعد الامتثال إذا كان الواجب مقدّمة إعداديّة لغرض أقصى لم يستوفَ، فيبقى الأمر ببقاء الغرض الأقصى، ومن هنا يجوز تبديل الامتثال، فلو أمره المولى مثلا بالإتيان بماء، فأتى له بماء، جاز له قبل أن يشربه المولى ويرتفع العطش أن يبدّله بماء آخر، وكان هذا تبديلا في الامتثال، بينما هذا يرد عليه نفس إشكال المقام، فيقال: كيف يأمر بإتيان الماء وهو تحصيل للحاصل؟!

وفي بحث التعبّديّ والتوصّلي ذكر: أنّ الأمر تعلّق في التعبّديّ بذات الفعل، ومع ذلك لو أتى بذات الفعل بلا قصد القربة لم يسقط الأمر، مع أنّه يرد أيضاً نفس محذور تحصيل الحاصل، بل في هذين الموردين لا نملك جواباً على هذا المحذور، وفي موردنا نملك جواباً عليه.

وأمّا النقض الثاني: وهو النقض العامّ، فهو النقض بالأمر الضمنيّ، فالأمر الضمنيّ بتكبيرة الإحرام مثلا إن فرض عدم سقوطه بعد التكبير، فهو تحصيل للحاصل، وإن فرض السقوط، فله أحد مناشئ أربعة لا سبيل إلى الثلاثة الأخيرة



(1) المصدر السابق، ص 127.

(2) المصدر السابق، ص 107.