503

منها، فيتعيّن الامتثال، مع أنّه لا إشكال في أنّ الواجب الضمنيّ لا يمتثل إلّا في ضمن امتثال الواجب النفسيّ، وبالإتيان بالواجب النفسيّ.

وهذا نقض على مستوى محلّ الكلام، أي: أنّ الجواب الحلّيّ حلّ للإشكال في محلّ الكلام وفي مورد النقض معاً.

وأمّا الحلّ، فيكون بالجواب على إشكال تحصيل الحاصل، وقد يجاب عليه بصيغة بدويّة، وهي: أنّ الأمر لم يتعلّق بالتكبيرة ذاتها، بل بالتكبيرة المقيّدة بانضمام باقي الأجزاء، فمتعلّق الأمر لم يحصل، وما حصل إنّما هو ذات التكبير، وهو ليس متعلّقاً للأمر، وكذلك في المقدّمة إنّما تعلّق الأمر بالوضوء المقيّد بترتّب ذي المقدّمة عليه، أو بمجموع المقدّمات مثلا، فذات الوضوء ليس متعلّقاً للأمر، وما هو متعلّق الأمر لم يحصل بعدُ.

وهذا الجواب قد يُرى صحيحاً في بادئ الأمر، إلّا أنّه لا يثبت أمام التحليل، فإنّ الأمر الضمنيّ بالتكبير المقيّد بانضمام غيره ينحلّ إلى أمرين ضمنيّين: أمر ضمنيّ بذات التكبير، وأمر ضمنيّ بتقيّده بانضمام غيره، فينقل الكلام إلى الأمر بذات التكبير، وهو ليس متعلّقاً بالمقيّد، وإلّا جاء التحليل أيضاً، ولزم التسلسل، فلابدّ من الانتهاء إلى أمر بذات التكبير.

وروح المطلب، وحقّ المطلب أن يقال: إنّه لا يلزم تحصيل الحاصل؛ لأنّ الأمر إذا كان ضمنيّاً فتحصيله أيضاً ضمنيّ، أي: كما أنّ الأمر الضمنيّ يكون في ضمن الأمر النفسيّ الاستقلاليّ كذلك محصّليّته ومحرّكيّته في ضمن محصّليّة ومحرّكيّة الأمر الاستقلاليّ، فهناك أمر واحد له محصّليّة واحدة بالتحليل ينحلّ إلى أوامر عديدة، وتحصيلات عديدة، فبعد فرض: أنّ هذه المحصّليّة ضمنيّة، أي: أنّ هذا جزء التحصيل، وأمّا التحصيل الحقيقيّ، فهو تحصيل المركّب، يصبح من الواضح: أنّ هذا ليس تحصيلا للحاصل؛ لأنّ المركّب لم يحصل، فتحصيل الحاصل إنّما يطبّق على التحصيل المستقلّ، أمّا الأمر الضمنيّ، فلو طبّق عليه الإشكال مع فرزه

504

عن باقي الأوامر الضمنيّة، كان خلف كونه ضمنيّاً(1).



(1) السيّد الخوئيّ (رحمه الله) ذكر الجواب الحلّيّ بتقريب آخر، وهو الالتزام بسقوط التكليف عن الجزء مراعى بإتيان جميع الأجزاء، دون ما إذا استقلّ الجزء في الوجود؛ لأنّ الأمر بالمركّب أمر بكلّ جزء بشرط انضمام الباقي، والجزء المجرّد عن باقي الأجزاء لا أمر به من أوّل الأمر ليسأل عن سقوطه وعدم سقوطه(1).

وفيه: أنّ السقوط المراعى هنا لا معنى له؛ لما عرفت: من أنّ الوجوب الضمنيّ سقوطه أيضاً ضمنيّ كوجوده وكتحريكه، فلا معنى لسقوطه قبل سقوط باقي الأجزاء مراعى بإتيان باقي الأجزاء في المستقبل، على أنّنا لو فرضنا إمكان سقوط الأمر الضمنيّ مستقلاًّ، فأيضاً لا معنى للسقوط المراعى؛ إذ حينئذ يتعيّن سقوط الأمر بهذا الجزء؛ إذ لا مبرّر لتوقّف سقوطه على الإتيان بباقي الأجزاء بعد أن لم يكن مرتبطاً في سقوطه بسقوط باقي الأجزاء، والقول بأنّ الإتيان بباقي الأجزاء شرط في كون هذا الجزء هو الجزء المتّصف بالوجوب، والجزء المجرّد لا وجوب له حتّى يسقط، أو لا يسقط عبارة اُخرى عن أنّ هنا وجوباً واحداً تعلّق بالمجموع، والمفروض انحلال هذا الوجوب إلى وجوبات متعدّدة غير مترابطة في السقوط، وذات كلّ جزء متعلّق لأمر ضمنيّ، وليس متعلّق هذا الأمر الضمنيّ عبارة عن هذا الجزء مع الجزء الآخر، أو مع الاقتران بالجزء الآخر، وإلّا لانحلّ أيضاً، فالأمر بهذا الذات يجب أن يسقط، وافتراض كون اقتران هذا الجزء بباقي الأجزاء عنواناً مشيراً إلى تلك الحصّة من الجزء المقترن غير صحيح؛ لما حقّقناه في محلّه: من أنّ فرض مشيريّة العنوان بنحو لا يرجع إلى التقييد لا يصحّ في مفاهيم الألفاظ التي يطرأ عليها الحكم، وإنّما يعقل في الاُمور الخارجيّة، وعليه فلابدّ ـ بناءً على سقوط الأمر الضمنيّ ـ من سقوط الأمر بذات الجزء حتّى مع فرض: أنّه سوف لن يأتي بباقي الأجزاء، وهذا خلاف الوجدان، فالصحيح إذن هو عدم السقوط؛ لأنّ السقوط في الأمر الضمنيّ أيضاً يجب أن يكون ضمنيّاً.


(1) راجع المحاضرات، ج 2، ص 417 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

505

وهذا هو الفرق بين محلّ الكلام وموردي النقض على صاحب الكفاية، فإنّ الأمر في المقام ضمنيّ، وتحصيله ضمنيّ، أي: ليس تحصيلا، وإنّما هو جزء التحصيل، بخلاف الأمر في ذينك الموردين.

وهذا البيان يجري في الأوامر الغيريّة أيضاً بناءً على المقدّمة الموصلة، وأنّ الأمر بالمقدّمة أمر بها مع انضمام سائر المقدّمات أو القيود إليها.

الوجه السادس: ما ذكره صاحب الكفاية(1) أيضاً، وهو: أنّ دخل قيد في الواجب لا يكون جزافاً، بل يكون بلحاظ دخله في ملاك ذلك الوجوب، وقيد التوصّل ليس دخيلا في ملاك الوجوب.

وهذا البرهان يختلف عن البراهين السابقة بأنّ البراهين السابقة كانت تبيّن المانع عن أخذ قيد التوصّل، وهذا البرهان يقول: لا مقتضي لأخذه. وتوضيحه يكون بأن نعرف ما هو ملاك وجوب الواجب الغيريّ، ويستخلص من كلمات صاحب الكفاية عدّة صيغ لهذا الملاك:

1 ـ إنّ الملاك هو جعل ذي المقدّمة ممكناً لا وجوده مباشرة؛ لوضوح: أنّ وجوده ليس من الفوائد المترتّبة على وجود المقدّمة دائماً، إلّا في المقدّمات السببيّة التي لا تنفكّ عن ذيها، وأمّا في غير ذلك، فما يحصل ببركة المقدّمة إنّما هو إمكان ذي المقدّمة الذي قد يوجد وقد لا يوجد، ومن الواضح: أنّ التوصّل ليس له دخل في إمكان ذي المقدّمة(2).

وهذه الصيغة لها مناقشة عامّة تطّرد في كلّ الصيغ التي سوف نذكرها، نؤجّلها



(1) الكفاية، ج 1، ص 184 ـ 186 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقات الشيخ المشكينيّ.

(2) نفس المصدر، ص 184 ـ 185.

506

إلى آخر الصيغ، ولها مناقشة خاصّة، وهي: أنّه هل المراد بإمكان ذي المقدّمة ما يقابل الامتناع الذاتيّ، أو ما يقابل الامتناع الوقوعيّ، أو ما يقابل الامتناع بالغير؟

فإن اُريد به ما يقابل الامتناع الذاتيّ، يرد عليه: أنّ الإمكان في مقابل الامتناع الذاتيّ ثابت بذاته، فإنّ فرض كونه ممتنعاً ذاتيّاً يناقض فرض توقّفه على المقدّمة.

وإن اُريد به ما يقابل الامتناع الوقوعيّ، أي: ما يكون مستلزماً للمحال، لا هو محال، أي: ما تكون علّته محالا ذاتيّاً، لا هو محال ذاتيّ، يرد عليه: أنّه يكفي في دفع الامتناع الوقوعيّ إمكان المقدّمة، ولا أثر لوجودها في ذلك.

وإن اُريد به ما يقابل الامتناع بالغير، فالامتناع بالغير مقابله الوجوب بالغير، فإنّ كلّ ممكن إن كانت علّته موجودة، فهو واجب بالغير، وإن كانت غير موجودة، فهو ممتنع بالغير، فمقابل الامتناع بالغير هو الوجوب بالغير المساوق لوجود ذي المقدّمة، وهو خلف مقصوده.

2 ـ ما يقارب الصيغة الاُولى مع اختلاف في الصياغة، وهو: أنّ الملاك القدرة على ذي المقدّمة، وهي تحصل بذات المقدّمة بلا دخل قيد التوصّل(1).

وهذا أيضاً له جواب عامّ نذكره في آخر الصيغ، وجواب خاصّ، وهو: أنّ القدرة على ذي المقدّمة تتوقّف على القدرة على المقدّمة، لا على ذات المقدّمة، ولو كانت ذات المقدّمة دخيلة في القدرة، لأصبحت مقدّمة الوجوب، لا مقدّمة الواجب.

3 ـ إنّ الملاك حصول ما لولاه لم يحصل ذو المقدّمة.

وهذا المطلب يمكن أن يبيّن بعدّة تعبيرات:



(1) نفس المصدر، ص 191. والتعبير هكذا: الغاية إنّما هو حصول ما لولاه لما تمكّن من التوصّل إلى المطلوب النفسيّ.

507

أحدها: هذا التعبير الذي ذكرناه، وهو حصول ما لولاه لم يحصل ذو المقدّمة، وهذا تعبير جاء في بعض فقرات كلام صاحب الكفاية(1).

والثاني: تعبير المحقّق العراقيّ (رحمه الله)، وهو: أنّ الملاك في الواجب الغيريّ هو سدّ باب عدم ذي المقدّمة من هذه الجهة؛ فإنّ عدم كلّ مقدّمة من مقدّماته يصلح أن يكون علّة لعدم ذي المقدّمة، ويكون باباً من أبواب عدمه(2).

وهذا عبارة اُخرى عن المطلب الأوّل، وهو: أنّ الغرض من المقدّمة حصول ما لولاه لم يحصل ذو المقدّمة.

والثالث: أنّ الغرض من المقدّمة التهيّؤ والاقتراب نحو الإتيان بذي المقدّمة.

وهذا أيضاً تعبير آخر عن سابقه؛ فإنّه كلّما سدّ باب من أبواب عدمه قيل عنه: إنّه اقترب إليه، فهذه تعبيرات عن روح واحدة، ولا شكّ في أنّ هذه الروح مطلب يترتّب على المقدّمة، ولا يكون موجوداً قبلها، كما لا شكّ أنّه يحصل بذات المقدّمة بلا قيد الإيصال، فإن كان هذا هو الملاك في وجوب المقدّمة، فقيد التوصّل، أو ما يساوقه ليس دخيلا في الواجب الغيريّ.

ولكن الصحيح: أنّ هذا ليس هو الملاك الأساس في الواجب الغيريّ، بل لابدّ من الاعتراف بعبارة صريحة بأنّ الغرض الحقيقيّ من الواجب الغيريّ هو وجود الواجب النفسيّ، لا التهيّؤ، ولا الاقتراب، ولا سدّ باب من أبواب العدم، ولا تحصيل القدرة، ولا الإمكان، ولا حصول ما لولاه لم يحصل ذو المقدّمة، أو



(1) نفس المصدر، ص 184. إلّا أنّه ورد فيه التعبير بــ «لما أمكن حصول ذي المقدّمة».

(2) المقالات، ج 1، المقالة 19، ص 330 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم، ونهاية الأفكار، ج 1، ص 340 و 342 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

508

نحو ذلك، فإنّ أيّ غرض آخر نفترضه هو الملاك في الواجب الغيريّ غير نفس وجود ذي المقدّمة، فهذا الغرض لا يخلو حاله من أحد شقوق أربعة:

1 ـ كون هذا الغرض في نفسه محبوباً نفسيّاً، أي: أنّ المولى يحبّ نفس إيجاد القدرة، أو الإمكان، أو غير ذلك من تلك الاُمور بذاته.

وهذا خلف؛ لأنّ المفروض: أنّه لا يوجد مطلوب نفسيّ إلّا ذو المقدّمة، وهو الصلاة مثلا. أمّا لو كانت نفس القدرة مثلا مطلوبة نفساً، فالوضوء يصبح مقدّمة توليديّة وموصلة دائماً، وهذا كلّه خلف المفروض، إذن، فلابدّ أن يكون حبّ المولى لتحصيل القدرة، أو الإمكان، أو التهيّؤ، أو سدّ باب العدم، أو نحو ذلك حبّاً غيريّاً، فلابدّ أن يكون وراءه غرض أيضاً، فما هو الغرض الذي من ورائه؟

2 ـ أن يفرض: أنّ هذا الغرض محبوب غيريّ، وأنّ الغرض الذي يكون من وراء هذا الغرض عبارة عن نفس الواجب النفسيّ، فغرض الغرض هو الواجب النفسيّ.

وهذا حاله حال ما لو قيل ابتداءً: إنّ الغرض من المقدّمة هو الواجب النفسيّ، أي: أنّه في صالح القول بالمقدّمة الموصلة، فإنّ غرضاً من هذا القبيل لا يدعو إلى الشوق إلى المقدّمة في دائرة أوسع من دائرة المقدّمة الموصلة.

3 ـ أن يكون هذا الغرض الغيريّ ناشئاً من غرض غيريّ آخر، وهكذا حتّى يتسلسل بلا وصول إلى غرض نفسيّ.

وهذا واضح البطلان؛ لبطلان التسلسل.

4 ـ أن يكون منتهياً إلى غرض نفسيّ غير الصلاة.

وهذا باطل؛ لأنّ المفروض عدم وجود غرض نفسيّ آخر.

وخلاصة ما يتبرهن بهذا البيان: أنّ الغرض من الواجب الغيريّ يجب: إمّا أن يكون هو الواجب النفسيّ، أو أن ينتهي إليه؛ إذ لا يمكن أن يكون الغرض منه شيئاً

509

آخر بنحو المحبوبيّة النفسيّة، أو منتهياً إلى محبوب نفسيّ غير الصلاة، فإنّه خلف، ولا يمكن التسلسل، فالغرض الحقيقيّ من الواجب الغيريّ إنّما هو وجود الواجب النفسيّ.

وأمّا المقام الثاني: فالبرهان الصحيح على المقدّمة الموصلة هو ما اتّضح بما ذكرناه أخيراً في إبطال الوجه السادس من وجوه البرهنة على بطلان المقدّمة الموصلة القائل بأنّ ملاك الوجوب لا يختصّ بالمقدّمة الموصلة، فقد وضّحنا: أنّ الغرض الحقيقيّ من الواجب الغيريّ إنّما هو وجود الواجب النفسيّ، وإلّا لزم الخلف، أو التسلسل على ما مضى شرحه آنفاً.

فهذا ـ بحسب الحقيقة ـ ليس فقط دفعاً للبرهان المذكور على نفي المقدّمة الموصلة، بل برهان على المقدّمة الموصلة؛ لأنّ الغرض من الواجب الغيريّ إن كان هو وجود الواجب النفسيّ، أو منتهياً إليه، فهو ضيّق، لا يترتّب إلّا على المقدّمة الموصلة.

نعم، يبقى علينا أن نعرف الصيغة المعقولة للمقدّمة الموصلة، أي: ماذا يؤخذ في الواجب بحيث تصير مقدّمةً موصلة؟

وهذا بحث تصوّريّ لما تمّ عليه البرهان.

فنقول: هناك عدّة تصوّرات لاختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة:

التصوّر الأوّل: أن يتقيّد الواجب بما يترتّب عليه الصلاة.

وهذا هو الذي كان ملحوظاً في نظرهم حينما أشكلوا بلزوم الدور والتسلسل.

وهذا التصوير غير صحيح، لا للدور والتسلسل، فإنّه تقدّم الجواب عليهما، بل لنكتة اُخرى، وهي: أنّ ملاك الوجوب الغيريّ هو المقدّميّة لوجود الواجب النفسيّ، وما لا يقع في طريق الواجب النفسيّ ليس مقدّمة، ولا معنى لانبساط الوجوب الغيريّ عليه، وقيد الترتّب أمر منتزع عن وجود الواجب النفسيّ، فليس

510

واقعاً في طريق تحقّق الواجب النفسيّ، وأخذ هذا القيد في الواجب الغيريّ معناه انبساط الوجوب الغيريّ عليه، وهو غير معقول؛ فإنّ الوجوب الغيريّ يعني الوجوب لأجل الغير، فكيف ينبسط على ما لا يتوقّف عليه الغير؟!

التصوّر الثاني: أن يقال: إنّ المأخوذ في الواجب الغيريّ ليس هو عنوان ترتّب الواجب النفسيّ، بل عنوان التوصّل إلى الواجب النفسيّ.

وتوضيحه: أنّه حينما يتحقّق ذو المقدّمة فعندنا عنوانان منتزعان: أحدهما ترتّب الصلاة على الوضوء، وهذا في طول وجود ذي المقدّمة، والآخر عنوان التوصّل إلى الصلاة، وهو عنوان ينتزع من الوضوء في عرض ترتّب الصلاة، فكأنّ الوضوء له معلولان: معلول خارجيّ، وهو الصلاة، ومعلول انتزاعيّ، وهو التوصّل إلى الصلاة، والموصليّة والعلّيّة ونحو ذلك من العناوين التي تنتزع من الوضوء وتكون في عرض الصلاة، فالمقدّمة تقيّد في هذا التصوير بهذا العنوان الذي هو في عرض ترتّب الصلاة بدلا عن تقييدها بترتّب الصلاة، وهذا التبديل هو الذي صنعه المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) في تفسير المقدّمة الموصلة(1) لكي يدفع إشكالات الدور والتسلسل(2).

لكن هذا الكلام لو تمّ لا يدفع نكتة إشكالنا على التصوير السابق، فإنّ هذا العنوان، أو التقيّد به ليس واقعاً في طريق تحقّق الصلاة، وغاية ما يفرض: أنّه ملازم له وفي عرضه، فانبساط الوجوب الغيريّ على التوصّل بهذا المعنى ـ لو تعقّلناه ـ



(1) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 142 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

(2) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 142 ـ 143 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت. وقد ذكر تحت الخطّ بعنوان التعليق على نهاية الدراية بطلان إشكال الدور، بقطع النظر عن تفسيره للموصلة، وذكر أيضاً كون هذا الفهم للموصلة مبطلا آخر لإشكال الدور.

511

غير معقول أيضاً، كانبساطه على قيد ترتّب الصلاة، وإلّا لزم ترشّح الوجوب الغيريّ على كلّ ما يلازم الواجب النفسيّ، مع أنّه لا يترشّح إلّا على ما هو واقعفي طريقه.

التصوّر الثالث: فرض المقدّمة الموصلة بنحو الحصّة التوأم على النحو الذي ذكره المحقّق العراقيّ (رحمه الله)(1).

وتوضيحه ببيان أمرين:

الأوّل: أنّ الأمر بشيء تارةً يتعلّق بالمطلق، كالأمر بالصلاة المطلقة من ناحية إيقاعها في المسجد وعدمه، واُخرى يتعلّق بالمقيّد، بأن يدخل التقيّد تحت الأمر مع خروج القيد، فيقال مثلا: «صلِّ إلى القبلة»، فالأمر متعلّق بذات الفعل وبالتقيّد، مع خروج القيد، وثالثة يتعلّق الأمر بذات المقيّد على نحو يكون القيد والتقيّد معاً خارجين عن متعلّق الأمر، ويكون متعلّق الأمر ذات الحصّة، فلا هو مطلق بحيث يسري الأمر إلى تمام الحصص، ولا هو مقيّد بأن يكون التقيّد داخلا تحت الأمر، فمن ناحية يشبه المقيّد؛ لوقوف الأمر على الحصّة، ومن ناحية اُخرى يشبه المطلق؛ لعدم دخول التقيّد تحت الأمر، ويكون القيد مجرّد مشير إلى ذات الحصّة التوأم، كما في قولنا: «إمامي خاصف النعل»، فخاصف النعل مجرّد عنوان مشير من دون دخل للقيد، أو للتقيّد به في استحقاق الذات الشريفة للإمامة.

الثاني: أنّ الأمر المقدّميّ في المقام لا يمكن تعلّقه بالمطلق، ولا بالمقيّد، فيتعيّن الشقّ الثالث، وهو تعلّقه بالحصّة التوأم بالإيصال؛ لما عرفت: من أنّ الشقوق ثلاثة.

أمّا امتناع الإطلاق، فلأنّه خلف برهان المقدّمة الموصلة بحسب الفرض، وأمّا



(1) راجع المقالات، ج 1، ص 331، ونهاية الأفكار، ج 1، ص 340 ـ 343.

512

امتناع التقييد، فلأنّ القيد المتصوّر أحد قيدين، وكلاهما ممتنع:

أحدهما: التقيّد بترتّب الواجب وانضمامه، وهو غير معقول؛ لبعض البراهين الذي نسبناه(1) إلى المحقّق العراقيّ (رحمه الله) على ما تقدّم.

والثاني: تعلّق الأمر بالوضوء المقيّد بانضمام سائر المقدّمات إليه، كما أنّ الأمر بتطهير الثوب أيضاً كذلك، وهكذا الحال في الأمر بكلّ مقدّمة، سنخ ما يدّعى في باب الأجزاء في المركّب الارتباطيّ: من أنّ الأمر بكلّ جزء متعلّق بالجزء المقيّد بباقي الأجزاء.

وهذا أيضاً مستحيل؛ لأنّ كلّ واحد من المقدّمات أو الأجزاء إذا تقيّد بانضمام المقدّمات الاُخرى، أو الأجزاء الاُخرى، لزم الدور، فإذا كان الركوع قيداً في التكبير وبالعكس، أو كان الوضوء قيداً في تطهير الثوب وبالعكس، كان كلّ منهما مقيّداً بالآخر، وبالتالي كان كلّ منهما مقدّمة للآخر، وهذا دور باطل.

وكلّ من الأمرين اللذين حلّلنا إليهما كلام المحقّق العراقيّ (رحمه الله) غير صحيح:

أمّا الأمر الأوّل: فلأنّ فكرة الحصّة التوأم ـ وهي أن يكون القيد والتقيّد كلاهما خارجاً، ومع هذا يقف الوجوب على الحصّة ـ غير معقولة عندنا، وقد تقدّم في بحث التعبّديّ والتوصّليّ: أنّ هذا المطلب لا يعقل في باب المفاهيم، وإنّما يعقل في الأفراد الخارجيّة، أي: أنّ الحصّة الخاصّة تارةً يفرض: أنّ لها نحو تعيّن خارجيّ، وامتياز وجوديّ بقطع النظر عن القيد والتقيّد، كتعيّن ذات أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)بقطع النظر عن خصف النعل، فهنا يعقل كون موضوع الحكم ذات



(1) الدليل الموجود في المقالات، ص 330 بحسب الطبعة الماضية، وفي نهاية الأفكار، ص 340 ـ 341 بحسب الطبعة الماضية على عدم التقييد هو: أنّ الملاك والغرض المترتّب على كلّ مقدّمة إنّما هو سدّ باب عدم ذي المقدّمة من ناحية تلك المقدّمة.

513

الحصّة، وكون خصف النعل مجرّد عنوان مشير. واُخرى يفرض: أنّها حصّة مفهوميّة، فلا تعيّن لها في مقابل باقي الحصص بقطع النظر عن التقيّد، كالعالم العادل في مقابل العالم غير العادل، فإنّه لا تعيّن لهذه الحصّة بقطع النظر عن التقييد بالعدالة؛ لأنّنا نتكلّم في المفاهيم، فهذا التقييد: إن أخذناه في مصبّ الحكم، دخل التقيّد تحت الأمر، وإن أخرجناه، سرى الحكم ـ لا محالة ـ إلى باقي الحصص؛ إذ بعد إخراجه لم يبقَ تباين بين العالم العادل والعالم غير العادل.

وأمّا الأمر الثاني: وهو أنّه يلزم أن تكون كلّ مقدّمة قيداً في الاُخرى، أي: مقدّمةً للاُخرى ـ وطبّق ذلك على الأجزاء أيضاً ـ فهذا من غرائب(1) مدرسة المحقّق العراقيّ (رحمه الله)، فإنّه لم تصبح كلّ مقدّمة مقدّمة لذات الاُخرى، بل أصبحت مقدّمة للمقيّد من المقدّمة الاُخرى، وما هي مقدّمة لها ذات المقدّمة الاُخرى، فالموقوف عليه غير الموقوف عليه، فلا دور، وكأنّه قاس المقدّمة الشرعيّة بالمقدّمة العقليّة، فإنّ المقدّميّة هنا شرعيّة، نشأت من أخذ التقيّد في الواجب، والمقدّمة الشرعيّة مقدّمة للمقيّد، لا لذات الشيء، بخلاف المقدّمة العقليّة، فنصب السلّم مقدّمة لذات الكون على السطح، ولكن الوضوء مقدّمة للصلاة المقيّدة بالوضوء، والمقدّميّة المدّعاة في باب المقدّمات المتعدّدة، وكذلك الأجزاء شرعيّة، لا عقليّة.



(1) لم أجد هذا الشيء الغريب في المقالات، ولا في نهاية الأفكار، ولكن وجدته في بدائع الأفكار، ج 1، ص 392 بحسب طبعة المطبعة العلميّة في النجف، أمّا تطبيق ذلك على الأجزاء فلم أجده.

نعم، وردت في المقالات، ج 1، ص 330 بحسب الطبعة التي أشرنا إليها، وكذلك في نهاية الأفكار، ج 1، ص 340 ـ 341 البرهنة على عدم تقيّد كلّ مقدّمة بالانضمام إلى مقدّمة اُخرى بما مضى منه: من دعوى: أنّ الملاك والغرض من وجوب كلّ مقدّمة إنّما هو سدّ باب عدم ذي المقدّمة من زاوية تلك المقدّمة.

514

التصوّر الرابع: أنّ الأمر الغيريّ يتعلّق بمجموع المقدّمات التي لا تنفكّ عن ذي المقدّمة، لا بمعنى: أنّ عنوان (لا ينفكّ عن ذي المقدّمة) مأخوذ في متعلّق الأمر، بل الأمر تعلّق بواقع ما لا ينفكّ عن ذلك، فلنفرض: أنّ مجموع المقدّمات التي لو وجدت لوجد ذو المقدّمة اُمور عشرة، فالأمر متعلّق بمجموع تلك الاُمور، وعنوان (ما لا ينفكّ) عنوان مشير لا أكثر، والأمر بكلّ واحد من تلك الاُمور العشرة أمر ضمني.

وهذا هو التصوير الصحيح للقول بالمقدّمة الموصلة.

إلّا أنّه قد اعترض عليه، أو يمكن الاعتراض عليه بعدّة اعتراضات، وكلّها مدفوعة:

الأوّل: أن يقال: إنّ هذه المجموعة لا تتصوّر إلّا في المقدّمات السببيّة، كما في الإحراق الذي مقدّمته الإلقاء في النار، فيقال: إنّ الوجوب المقدّمي متعلّق بمجموع المقدّمات التي آخرها الإلقاء في النار، وهو لا ينفكّ عن الإحراق، ولكن في الواجبات التي ليست لها مقدّمة سببيّة من هذا القبيل كالصلاة التي يمكن تركها بعد الإتيان بكلّ المقدّمات لا يتمّ ذلك(1).

والجواب: أنّه في ذلك نُدخِل في مجموع المقدّمات الإرادة والجزم والعزم، فإذا دخلت الإرادة لم ينفكّ عن ذي المقدّمة، ومن هنا قد يصعّد الإشكال إلى الاعتراض الثاني:

الثاني: أنّه إذا اُدخلت الإرادة في المقدّمات، لزم التكليف بأمر غير اختياريّ؛ لأنّ الإرادة ليست إراديّة، وإلّا لتسلسل(2).



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 185 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقات المشكينيّ.

(2) نفس المصدر، ص 186.

515

وهذا الإشكال لا يرد على مسلك المحقّق النائينيّ (رحمه الله) القائل بأنّ الاختيار عبارة عن هجمة النفس، وإعمال القدرة الذي هو عمل نفسانيّ، فإنّه يقال: إنّ نفس هجمة النفس وإعمال القدرة عمل اختياريّ بذاته، واختياريّة باقي الأعمال به.

نعم، يوجد لهذا الإشكال مجال على مسلك صاحب الكفاية القائل بأنّ الاختيار عبارة عن الإرادة والشوق، فيقال: إنّ الإرادة ليست إراديّة، وإلّا لتسلسل(1).

وقد يجاب على هذا المسلك أيضاً بأنّ الإرادة يمكن نشوؤها من الإرادة بالتفكير في فوائد الشيء ونحو ذلك. نعم، لابدّ من الانتهاء إلى إرادة غير اختياريّة، لكن تكفي اختياريّة الإرادة الاُولى.

وهذا الجواب قد ذكره المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله)(2).

ولكنّه يرد عليه: أنّه في الحالات الاعتياديّة لا يعقل تعلّق الإرادة بأن يريد، والنكتة في ذلك: أنّ تعلّق الإرادة بشيء لا يكون جزافاً، بل يكون بلحاظ المصلحة في المتعلّق، فلو فرض: أنّ شخصاً يريد أن يريد الصلاة من دون أن يكون بالفعل مريداً للصلاة، فهذه الإرادة الفعليّة المتعلّقة بالإرادة لابدّ أن تكون ناشئة من مصلحة في المتعلّق، وهي إرادة الصلاة، وفي الحالات الاعتياديّة لا توجد مصلحة في إرادة الصلاة، أو إرادة أيّ فعل آخر، إلّا المصلحة الطريقيّة



(1) الفرق بين المسلكين الموجب لعدم ورود هذا الإشكال على مسلك المحقّق النائينيّ (رحمه الله)، واختصاصه بمسلك صاحب الكفاية هو: أنّ هجمة النفس لم تفترض في مسلك المحقّق النائينيّ (رحمه الله) مقهورة لشيء سابق، ولكنّ الإرادة بمعنى الشوق المؤكّد تفترض في مسلك صاحب الكفاية مقهورة لمقدّمات الشوق.

(2) نهاية الدراية، ج 2، ص 141 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

516

التي مرجعها إلى المصلحة النفسيّة القائمة بذات المراد، وإلّا فالإرادة بما هي إرادة، أيّ مصلحة فيها ما لم نفرض فروضاً استثنائيّة؟!

وعندئذ نقول: إنّ تلك المصلحة النفسيّة القائمة بذات الفعل: إمّا أن تكون كافية في محرّكيّة المكلّف نحو الفعل، وقدح شوقه نحوه، إذن توجد في نفسه إرادة الصلاة ابتداءً، وإن لم تكن كافية لذلك، فكيف يعقل أن تكون المصلحة الطريقيّة القائمة بإرادة الفعل محرّكة نحو إرادة الإرادة؟

إذن، ففرضيّة: أنّه يريد أن يريد الصلاة من دون أن يريد الصلاة بالفعل فرضيّة غير معقولة عادةً، فهذا الجواب غير صحيح.

والصحيح في الجواب: أنّ الوجوب الغيريّ لا محذور في تعلّقه بالإرادة وإن فرض كونها أمراً غير اختياريّ؛ وذلك؛ لأنّ التكليف بغير الاختياريّ إنّما نقول باستحالته لمحذورين:

1 ـ إنّ التكليف يكون بداعي الباعثيّة والمحرّكيّة التي هي غير معقولة في غير الاختياريّ.

2 ـ إنّ التكليف بغير المقدور إحراج للمكلّف، وإلجاء له إلى الوقوع في المعصيّة والعقاب، وهو قبيح.

وكلا هذين المحذورين غير موجود في المقام:

أمّا الأوّل، فلأنّ الوجوب الغيريّ وجوب تبعيّ قهريّ، وليس وجوباً مجعولا من قبل المولى بداعي البعث والتحريك.

وأمّا الثاني، فلأنّه لا يلزم في المقام إحراج: إمّا لأنّ الوجوب الغيريّ لا ثواب ولا عقاب عليه بما هو هو على ما مضى، وإمّا لأنّ الوجدان قاض بأنّ التكليف بإرادة الصلاة ليس فيه أيّ إحراج زائد على التكليف بالصلاة.

الثالث: أنّ مجموع المقدّمات حتّى مع ضمّ الإرادة ليس مقدّمة موصلة على

517

ما ذكرناه في بحث الجبر والاختيار: من أنّ الفعل الاختياريّ لا يخرج بالإرادة والشوق الأكيد من الإمكان إلى الوجوب، والوجدان قاض بأنّه برغم هذا الشوق يمكنه أن يعاكس شوقه، ولا يأتي بما اشتاق إليه، وقد مضى: أنّ قاعدة: (أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد) لا تنطبق على الأفعال الاختياريّة للإنسان.

والجواب: أنّه لو قصدنا بالمقدّمة الموصلة ما يستحيل انفكاك ذي المقدّمة عنه، جاء هذا الإشكال، لكن ليس هذا هو المقصود، فإنّ الاستحالة ليست دخيلة في برهان المقدّمة الموصلة، وإنّما المقصود: المقدّمة التي يضمن معها ترتّب الغرض ـ أعني: ذا المقدّمة ـ عليه، ولا يحتمل أحد من الموالي أنّ العبد إذا تمّت في حقّه كلّ المقدّمات مع الشوق الأكيد، والإرادة نحو شيء، وله قدرة تامّة عليه، ولا مزاحم له في إعمال قدرته، ولا يوجد أيّ محذور في إقدامه عليه، فمع ذلك لا يفعل ذلك الفعل.

الرابع: أن يقال: إنّ الإرادة لا يمكن أن يجعل عليها الوجوب الغيريّ وإن كانت مقدّمة؛ لأنّ فيها نكتة تميّزها عن باقي المقدّمات، وهي: أنّ الأمر بذي المقدّمة الذي معناه: إيجاد الباعث والمحرّك نحو الصلاة لو حلّلناه، لوجدنا أنّه بالمباشرة دعوة نحو إرادة الصلاة؛ لأنّ الأمر بالصلاة مرجعه إلى الباعثيّة والتحريك نحو الصلاة، ومعنى ذلك: إيجاد الداعي في نفس المكلّف، وهذا معناه: إيجاد الإرادة، فكلّ تكليف نفسيّ بشيء يحرّك في الواقع مباشرة نحو إرادة ذلك الفعل، ولكنّه لا يحرّك مباشرة نحو سائر المقدّمات، فمن هنا أمكن إيجاد محرّك آخر نحو سائر المقدّمات كالوضوء، بخلاف الإرادة.

وجواب ذلك اتّضح ممّا مضى، فإنّ الوجوب الغيريّ ليس وجوباً مجعولا بداعي المحرّكيّة والباعثيّة حتّى يقال: لم يبقَ مجال لذلك، بل لو كان مجعولاً

518

بداعي المحرّكيّة والباعثيّة، لأشكل الأمر في باقي المقدّمات أيضاً؛ لأنّ الأمر النفسيّ بالفعل وإن لم يكن محرّكاً نحوها بالمباشرة، لكنّه محرّك نحوها تسبيباً، والوجوب الغيريّ لا يوجد له أيّ تحريك جديد، وتأكيد للمحرّكيّة السابقة.

الخامس: أنّ إيجاب الإرادة معناه: إيجاد المحرّك نحو الإرادة، وإيجاد المحرّك نحو الإرادة معناه: إيجاد الإرادة للإرادة، فكما أنّ الوجوب النفسيّ المتعلّق بأصل الصلاة يقتضي إرادة الصلاة، كذلك الوجوب الغيريّ المتعلّق بإرادة الصلاة يقتضي إرادة إرادة الصلاة، مع أنّ إرادة إرادة الصلاة ليس لها أيّ مقدّميّة نحو الصلاة، فليس كلّ من يصلّي يريد أن يريد، ثمّ يريد، ثمّ يصلّي، بل أكثر المصلّين عادةً يريد الصلاة ابتداءً.

وهذا الكلام ـ بغضّ النظر عن المناقشة التي مضت: من أنّ الوجوب الغيريّ ليس للتحريك، وإنّما هو وجوب قهريّ ـ يرد عليه: أنّ هذا الكلام بنفسه يجري في سائر المقدّمات، فإنّ الأمر بنصب السلّم معناه: إيجاد إرادة نصب السلّم، مع أنّه كثيراً ما يتحقّق نصب السلّم من دون إرادة.

وحلّ المطلب: أنّ إرادة الإرادة مثلا، أو إرادة نصب السلّم مقدّمة للتحصيل لا للحصول، فقد يتّفق أنّ المقصود يوجد صدفة بلا إرادة، فحصول الواجب النفسيّ لا يتوقّف على إرادته فضلا عن إرادة إرادته، ولكن تحصيله من قبل المولى يكون طريقه منحصراً بقدح الإرادة في نفس العبد عن طريق الأمر، لا أن يجلس المولى في بيته ويقول: لعلّه يتحقّق نصب السلّم صدفة، فهذا كأنّه خلط بين التحصيل الذي يكون بالإرادة التشريعيّة للمولى والحصول الذي يكون بالإرادة التكوينيّة، وانتظار الصدفة خلف التحصيل، فلو لم يكلّف المولى العبد بإرادة شيء معناه: أنّه لم يحصّل ذلك الشيء.

وقد تحصّل من كلّ ما ذكرناه: أنّ الحقّ هو كون الوجوب مخصوصاً بالمقدّمة

519

الموصلة، حيث أقمنا البرهان على ذلك، وصوّرنا المقدّمة الموصلة بتصوير لا يردعليه إشكال.

وقد نقل عن صاحب الفصول (رحمه الله) وجوه لإثبات القول بالمقدّمة الموصلة:

الأوّل: دعوى الوجدان القاضي بأنّ من يريد شيئاً يريد مقدّمته الموصلة دون مطلق المقدّمة ولو كانت غير موصلة(1).

وهذا الوجدان وإن كان صحيحاً عندنا لكنّه لا يفيد في مقابل المنكرين للمقدّمة الموصلة الذين ادّعوا أيضاً شهادة الوجدان والبداهة على مختارهم، وهذه من المسائل التي تقابل فيها دعوى الوجدان من الخصمين ممّا ينبغي أن نعتبر به في عدم التسرّع في دعوى البداهة والوجدان.

الثاني: دعوى الوجدان على أنّ المولى لو صرّح بأ نّي لا اُريد المقدّمة التي لا توصل إلى مقصودي، وإنّما اُريد خصوص الحصّة التي يترتّب عليها المقصود، كان هذا الكلام مسموعاً منه، مقبولا عند العقلاء، وصحيحاً، ولا يعدّ مجازفاً(2).

وهذا ـ في الحقيقة ـ يرجع روحه إلى الوجه الأوّل، ولا فرق بينهما، عدا أنّه في الوجه الأوّل لوحظ في الوجدان المدّعى مقام الثبوت، وفي هذا الوجه لوحظ مقام الإثبات والإخبار، فهذان الوجهان لا يؤكّد أحدهما الآخر. نعم، قد يكون أحدهما منبّهاً للآخر.

الثالث: شهادة الوجدان بإمكان تحريم غير الموصل من المقدّمة، كما لو قال صاحب الأرض الواقعة على ساحل البحر الذي غرق فيه مؤمن: انقذوا الغريق، ولا تمرّوا على أرضي مروراً غير موصل إلى الإنقاذ.



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 188 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليقات المشكينيّ.

(2) راجع نفس المصدر، ص 187.

520

وهذا وجه نسبه المحقّق النائينيّ (رحمه الله) ـ على ما في تقرير بحثه(1) ـ إلى صاحب الفصول، لكنّه حُكي: أنّ هذا غير موجود في كلام صاحب الفصول، وقد نسبه في تقرير بحث السيّد الاُستاذ إلى صاحب العروة(2).

وعلى أيّ حال، فهذا الكلام: إن اُريد به البرهنة على اختصاص الوجوب بالحصّة الموصلة، فلا يكون برهاناً على ذلك؛ إذ لعلّ صحّة تحريم الحصّة غير الموصلة، واختصاص الوجوب بالموصلة عندئذ يكون لأجل أنّ الوجوب المقدّميّ لا يشمل الحصّة المحرّمة، ولذا ترى أنّ الوجوب المقدّميّ لا يشمل الفرد الحرام من الموصلة أيضاً، فلو وجب الحجّ، لم يشمل وجوب ركوب الدابّة الذي هو مقدّمة للحجّ ركوب دابّة مغصوبة ولو فرض موصلا إلى الحجّ، والمدّعى في المقام اختصاص الوجوب بالموصل، وعدم شموله لغير الموصل؛ لأنّه غير موصل، لا لأنّه حرام، وهذا لا يتبرهن بشهادة الوجدان بإمكان تحريم غير الموصل.

نعم، إن اُريد به الردّ على اُولئك الذين قالوا: إنّ اختصاص الوجوب بالموصل غير معقول للدور، أو التسلسل، أو نحو ذلك، كان لهذا الكلام وجاهة، حيث يقال: إذن، ماذا تصنعون في مورد تحريم الحصّة غير الموصلة مع شهادة الوجدان بصحّة ذلك؟ فإن قلتم: إنّ الوجوب شامل لها، فهو غير معقول؛ لأنّ المفروض حرمتها، والوجوب المقدّميّ لا يمتدّ إلى الحصّة المحرّمة، وإن قلتم: إنّ الوجوب غير شامل لها، وإنّه مختصّ بالموصل، وقعتم فيما تزعمونه: من لزوم الدور، أو التسلسل، أو نحو ذلك.



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 238 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 292 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) ورد في المحاضرات للشيخ الفيّاض، ج 2، ص 420 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف قوله: وهذا الاستدلال منسوب إلى السيّد الطباطبائيّ صاحب العروة(قدس سره).

521

إلّا أنّ صاحب الكفاية (رحمه الله) علّق على هذا الوجه بإنكار شهادة الوجدان على صحّة تحريم الحصّة غير الموصلة، بل ادّعى البرهان على امتناع ذلك، بتقريب: أنّ هذا يستلزم تحصيل الحاصل في طرف الأمر بذي المقدّمة؛ لأنّ الأمر بإنقاذ الغريق مثلا مشروط بالقدرة عقلا وشرعاً. ويقصد بالقدرة العقليّة فاعليّة العضلات، وبالقدرة الشرعيّة عدم حرمة الشيء، أو مقدّمته، وإذا كان المولى قد حرّم غير الموصل، إذن فإباحة المقدّمة مشروطة بالإيصال، وعليه فوجوب ذي المقدّمة مشروط بالقدرة الشرعيّة المتوقّفة على إباحة المقدّمة المتوقّفة على الإيصال الذي معناه: الإتيان بذي المقدّمة، وهذا معناه: كون وجوب ذي المقدّمة موقوفاً على الإتيان به، وهذا ما قلناه من لزوم تحصيل الحاصل(1).

وقد أبرز المحقّق النائينيّ (رحمه الله) نقطة الاشتباه في ذلك، ببيان: أنّ قيد التوصّل ليس قيداً للإباحة، بأن يفرض: أنّه مع عدم التوصّل لا إباحة للمقدّمة، وإنّما هو قيد للمباح، فحتّى مع عدم التوصّل تكون الإباحة ثابتة على الحصّة الموصلة، أي: أنّ قيد الإيصال من قبيل قيد الواجب، لا من قبيل قيد الوجوب، إذن فوجوب ذي المقدّمة وإن كان موقوفاً على القدرة الشرعيّة الموقوفة على إباحة المقدّمة، لكن إباحة المقدّمة ليست موقوفة على الإيصال، فلا يلزم تحصيل الحاصل(2).

وهذا الكلام في غاية المتانة، إلّا أنّنا نضيف إليه: أنّه لو كان التوصّل قيداً للإباحة، لم يلزم المحذور أيضاً، فإنّ وجوب الإنقاذ لا يتوقّف على إباحة الاجتياز، وإنّما يتوقّف على أن لا تكون مقدّمته محرّمة بحرمة مطلقة؛ إذ لو كانت



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 189 ـ 190 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليقات المشكينيّ.

(2) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 240 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ (رحمه الله).

522

محرّمة بحرمة مقيّدة بعدم الإنقاذ، كان الإنقاذ رافعاً لموضوعها، فيعقل اجتماعوجوب الإنقاذ مع حرمة الاجتياز المقيّدة بعدم الإنقاذ، ولا يقع تعارض أو تزاحم بينهما، بينما لا يعقل اجتماع وجوب الإنقاذ مع الحرمة المطلقة للاجتياز.

وبتعبير آخر: أنّ وجوب الإنقاذ موقوف على القدرة الشرعيّة على المقدّمة، والقدرة الشرعيّة عليها ليست موقوفة على إباحة المقدّمة بالفعل، بل يكفي فيها القدرة على الإتيان بذي المقدّمة من دون أن يقع في حرام من ناحيتها، أو من ناحية مقدّمتها، وهو قادر على ذلك؛ إذ بإمكانه أن يأتي بالمقدّمة مع ذيها، وعندئذ لم يقع في محرّم؛ لتحقّق شرط إباحة المقدّمة.

الرابع: أنّ الغرض من الواجب الغيريّ إنّما هو التوصّل إلى الواجب النفسيّ، فلا محالة يختصّ الوجوب بالموصل؛ لأنّ الغرض بهذا المقدار(1).

وهذا برهان متين بعد إدخال التشقيقات السابقة؛ لأجل إبطال سائر الشقوق المتصوّرة في المقام، وبذلك يرجع إلى البرهان الذي اخترناه.

تنبيهان:

بقي في المقام تنبيهان:

حرمة المقدّمة وفرض تقديم وجوب ذيها:

التنبيه الأوّل: لو كانت المقدّمة محرّمة، ولكن فرض تقديم جانب وجوب ذي المقدّمة، فطبعاً لابدّ من ارتفاع الحرمة عن المقدّمة في الجملة؛ إذ لا يمكن امتثال



(1) ورد نقل ذلك عن الفصول في الكفاية، ج 1، ص 187 ـ 188 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليقات الشيخ المشكينيّ (رحمه الله).

523

أمر ذي المقدّمة مع فرض ترك المقدّمة لحرمتها، وهذا واضح، إلّا أنّه يقع الكلام في مقامين:

أحدهما: أنّه هل الحرمة ترتفع عن خصوص الحصّة الموصلة، أو عن كلتا الحصّتين: الموصلة وغيرها؟

والثاني: أنّه على تقدير اختصاص ارتفاع الحرمة بالموصلة، فهل يختصّ بالموصلة التي أتى بها بقصد التوصّل إلى ذي المقدّمة، أو لا؟

أمّا المقام الأوّل: فتحقيق الكلام في ذلك: أنّ حرمة المقدّمة يوجد في مقابلها أمران متنافيان لها:

أحدهما: وجوب ذي المقدّمة.

وهذه المنافاة ـ بغضّ النظر عن المنافاة الثانية ـ بابها باب التزاحم؛ لأنّهما حكمان على موضوعين تعذّر على العبد امتثالهما معاً.

والآخر: وجوب المقدّمة بناءً على الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته:

وهذه المنافاة بابها باب التعارض؛ لأنّهما حكمان على موضوع واحد.

فلو بقينا نحن والمنافاة الاُولى، فهي لا تقتضي إلّا ارتفاع الحرمة من الحصّة الموصلة؛ إذ بذلك يرتفع التزاحم؛ لأنّ العبد يصبح قادراً على امتثال حرمة المقدّمة ووجوب ذي المقدّمة معاً؛ إذ حرمة المقدّمة اختصّت بغير الموصلة، وبإمكانه أن يأتي بالموصلة، فيكون قد اجتنب بذلك عن الحصّة المحرّمة وأتى بذي المقدّمة الواجب، إذن، فالحصّة غير الموصلة تبقى على حرمتها؛ لوجود المقتضي، وهو إطلاق دليل حرمة المقدّمة، وعدم المانع؛ لارتفاع التزاحم بإمكان امتثال كلا الحكمين.

وأمّا المنافاة الثانية، فلو اخترنا اختصاص وجوب المقدّمة بالحصّة الموصلة،

524

فمن الواضح: أنّ هذه المنافاة أيضاً لا توجب ارتفاع الحرمة إلّا من المقدّمة الموصلة(1).

أمّا لو اخترنا كون وجوب المقدّمة ثابتاً على الجامع بين الحصّتين، فإن كان اختيار ذلك لمجرّد أنّه لا مقتضي لاختصاص الوجوب بإحدى الحصّتين، فقد وجد المقتضي لذلك في المقام، وهو التحفّظ على حرمة المقدّمة بقدر الإمكان، فيقتصر في مقام رفع اليد عن حرمة المقدّمة على رفع اليد عنها في المقدّمة الموصلة(2) التي تكون حرمتها مزاحمةً بوجوب ذي المقدّمة، وأمّا إن ادّعي: أنّه مضافاً إلى ذلك يكون اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة مستحيلا؛ للزوم الدور، أو التسلسل، أو نحو ذلك، فيكون الوجوب ثابتاً على الجامع، فالنتيجة: أنّه يكون وجوب الجامع طرفاً للمعارضة مع حرمة المقدّمة، ولا يمكن حلّ المعارضة بتخصيص الوجوب بخصوص الحصّة الموصلة، والالتزام بالحرمة في خصوص غير الموصلة؛ لأنّ اختصاص الوجوب بالموصلة مستحيل بحسب الفرض، فإذا استحكم التعارض بهذا الترتيب بين وجوب المقدّمة وحرمتها، سرى هذا التعارض ـ لا محالة ـ إلى وجوب ذي المقدّمة؛ لأنّ المفروض كونه مستلزماً لوجوب جامع المقدّمة المتعارض مع حرمتها، ووجوب المقدّمة ـ على تقدير وجوب ذيها ـ دليله قطعيّ لا يمكن أن يعارض بدليل حرمة المقدّمة، فما يقع طرفاً



(1) ويرجع ذلك ـ في الحقيقة ـ إلى التزاحم، لا التعارض بلحاظ عالم الجعل؛ وذلك لأنّه كما يقال في المتزاحمين بتقيّد المهمّ ارتكازاً بعدم صرف القدرة في الأهمّ، وبهذا يخرج عن التعارض، كذلك يقال في المقام: إنّ حرمة المقدّمة منصرفة عن فرض صرف قدرته في الحصّة الموصلة إلى الأهمّ.

(2) وأيضاً رجع الأمر إلى التزاحم، لا التعارض.

525

للمعارضة مع دليل حرمة المقدّمة إنّما هو دليل وجوب ذي المقدّمة، ولو قدّم وجوب ذي المقدّمة، ارتفعت حرمة المقدّمة حتّى عن الحصّة غير الموصلة، وهذه نتيجة غريبة تثبت على القول بعدم اختصاص الوجوب بالموصلة من باب استحالة اختصاصه بها؛ إذ من الواضح: أنّ العقلاء يستنكرون على من يجتاز مثلا الأرض المغصوبة من دون أن يأتي بذي المقدّمة، وهو إنقاذ الغريق، ويرونه قد ارتكب محرّمين: ترك الإنقاذ، واجتياز الأرض المغصوبة، ويرون أنّ حاله أشدّ ممّن لا يجتازها، ولا ينقذه.

وأمّا المقام الثاني: فبعد فرض اختصاص ارتفاع الحرمة بالحصّة الموصلة يقع الكلام في أنّه: هل يختصّ بالموصلة التي قصد بها التوصّل، أو لا؟

والكلام في ذلك بلحاظ المنافاة الاُولى يكون كما يلي:

قد يقال: إنّ نفس البيان السابق في تخصيص ارتفاع الحرمة بالموصلة يجري في هذا المقام أيضاً؛ إذ المزاحمة توجب رفع اليد عن الحرمة بمقدار ترتفع به المزاحمة، والحرمة إذا ثبتت على ما قصد به التوصّل، بقي التزاحم؛ إذ خطاب (انقذ الغريق) مثلا لا يمكنه حينئذ أن يحرّك نحو المقدّمة؛ إذ لو حرّك نحوها لزم الإتيان بالمقدّمة بقصد التوصّل، وأمّا غير ما يقصد به التوصّل، فالمقتضي لحرمته موجود، وهو إطلاق دليل حرمة الغصب، والمانع مفقود لارتفاع المزاحمة؛ لأنّ مقصودنا بارتفاع المزاحمة قدرة المكلّف على امتثالهما معاً، والمكلّف قادر على امتثالهما بأن يأتي بالمقدّمة الموصلة بقصد التوصّل.

إلّا أنّ هذا البيان هنا غير خال من الإشكال، وذلك؛ لأنّ تحريم الحصّة الموصلة التي لا يقصد بها التوصّل ليس له أيّ دخل في تقريب المولى نحو أغراضه المولويّة؛ إذ لو كان المقصود بذلك هو الجمع بين الغرضين، أعني: اجتناب مفسدة الغصب، وتحقيق مصلحة الإنقاذ، فالمفروض: أنّه غير معقول؛ إذ الإنقاذ

526

موقوف على الاجتياز من هذا المكان المغصوب، ولو كان المقصود: أن لا يفوتكلا الغرضين معاً، فهذا حاصل من دون حاجة إلى تحريم الحصّة التي لا يقصد بها التوصّل، فإنّ فرض الحصّة الموصلة دائماً هو فرض حصول أحد الغرضين، بل أقواهما؛ إذ معنى كونها موصلة: أنّه يحصل الإنقاذ، فلا يبقى لتحريم تلك الحصّة أثر إلّا إلزام المكلّف بقصد التوصّل، مع أنّ من الواضح: أنّ هذا ليس واجباً شرعاً، وليس فيه غرض لزوميّ، ولذا لم يلتزم بوجوبه في غير المقام، وإنّما الغرض هو إيجاد مصلحة الإنقاذ، واجتناب مفسدة الغصب، وبلحاظهما لا أثر لهذا التحريم، وهذا بخلاف تحريم الحصّة غير الموصولة في المقام الأوّل، فإنّ ذاك التحريم كان يصون المولى من أن يخسر كلا الغرضين في بعض الأوقات، وذلك كما لو كان العبد بانياً على عدم إنقاذ الغريق، فإنّه حينئذ لولا تحريم الحصّة غير الموصلة قد يتمشّى في الأرض بلا إنقاذ.

وقد ظهر من خلال كلامنا اندفاع توهّم آخر في المقام؛ إذ قد يخطر بالبال لتوجيه حرمة ما لا يقصد به التوصّل: أنّ هذا له دخل في أغراض المولى، فإنّ الغصب الموصل إذا أتى به لا بقصد التوصّل خسر أحد الغرضين بتمامه وإن تمّ الإنقاذ، ولكن حصل الغصب، وأمّا إذا أتى به بقصد التوصّل، فحيث إنّ قصد التوصّل حسن، فبهذا الحسن تتدارك مفسدة الغصب، أو شيء منها، فكأنّ غرض عدم الغصب لم يفت، أو فات بعضه، لا تمامه.

والجواب: أنّ هذا البيان إنّما يكون صحيحاً لو كان حسن قصد التوصّل وملاكه بمرتبة لزوميّة في نفسه، فيقع الكسر والانكسار بينه وبين مفسده الغصب، فمثلا لا يبقى حسن ولا مفسدة، ولكن بعد فرض عدم حسن لزوميّ في نفسه ـ وإلّا لوجب في سائر الموارد ـ لا يتمّ هذا البيان؛ إذ ليس تدارك مفسدة الغصب بقصد

527

التوصّل بمقدار لزوميّ(1)، حتّى يجب قصد التوصّل، ويحرم ـ بكلمة اُخرى ـ الإتيان بالمقدّمة بلا قصد التوصّل.

فإن قلت: إنّ تحريم ما لا يقصد به التوصّل بعد فرض اختصاص ارتفاع الحرمة بالحصّة الموصلة وإن كان لا معنى له؛ إذ لا يقرّب المولى إلى مقاصده المولويّة، ولكن يبقى احتمال أن يخصّص ارتفاع الحرمة بما يقصد به التوصّل بدلا عن تخصيصه بالموصلة.

وتوضيح ذلك: أنّ المولى لو لم يحرّم المقدّمة التي توقّف عليها الواجب أصلا، كان ذلك إخلالا بغرضه؛ إذ بإمكان المولى التحفّظ على غرض ترك الغصب بمقدار لا يضرّ بغرض إنقاذ الغريق، وذلك عن طريق تحريم المقدّمة في الجملة، وعليه فلابدّ من تحريم المقدّمة تحريماً مقيّداً طبعاً؛ إذ التحريم المطلق لا ينسجم مع وجوب الواجب المتوقّف عليها، وهذا التحريم المقيّد يتصوّر بشكلين:

أحدهما: تحريم الحصّة غير الموصلة، وفائدة ذلك: أنّ من لا يريد الإتيان بذي المقدّمة، قد يمتثل هذا التحريم، فيترك المقدّمة المحرّمة.

والآخر: تحريم الحصّة التي لم يرد بها التوصّل إلى ذي المقدّمة، وهذا أيضاً يفيد نفس الفائدة.

نعم، لو فرغنا عن تحريم الحصّة غير الموصلة، يبقى تحريم ما لم يرد بها التوصّل غير مؤثّر في تقريب المولى نحو المقصود، وكذلك العكس، إذن فما هو المعيّن لكون التحريم بالنحو الأوّل، لا بالنحو الثاني؟!



(1) أو قل: لا يوجد غرض لزوميّ آخر إلّا مسألة قبح التجرّي وحسن الانقياد، والمفروض: أنّ نفس النهي عن الغصب والأمر بالانقياد يدعوان إلى الانقياد وعدم التجرّي، ولم يكن أمر إلزاميّ آخر بالانقياد أو نهي عن التجرّي.