73

والاختيار، حيث إنّ مجرّد اختيار المذهب الشيعيّ في المسألة الاُولى القائل بأنّ للإنسان دخلاً في الفاعليّة كما أنّ لله تعالى دخلاً فيها، أو اختيار المذهب المعتزليّ القائل بأنّ الإنسان هو الفاعل محضاً لا يُحتّم كون الإنسان مختاراً غير مجبور في فعل، فلعلّ صدور الفعل من الإنسان كصدور الإحراق من النار بناءً على فاعليّة النار للإحراق. نعم، لو اختير في المسألة الاُولى المذهب الأشعريّ القائل بكون الفاعل هو الله محضاً، لثبت كون الإنسان غير مختار، فهذا المسلك وإن كان يكفي لإثبات الجبر لكن المسلكين الآخرين لا يكفيان لإثبات الاختيار، فلابدّ من المسألة الثانية لحسم مسألة الجبر والاختيار فنقول:

المسألة الفلسفيّة:

وأمّا المسألة الثانية: فهي ـ في الحقيقة ـ نشأت لدفع شبهة فلسفيّة تنفي الاختيار حتّى بعد الاعتراف بأنّ الفعل فعل الإنسان، وهذه الشبهة مركّبة من مقدّمتين:

الاُولى: أنّ الاختيار ينافي الضرورة؛ فإنّ الضرورة تساوق الاضطرار المقابل للاختيار من قبيل حركة يد المرتعش التي هي ضروريّة.

الثانية: أنّ صدور الفعل من الإنسان يكون بالضرورة؛ لأنّ الفعل الصادر منه ممكن من الممكنات، فتسوده القوانين السائدة في كلّ عالم الإمكان القائلة بأنّ الممكن ما لم يجب بالغير لم يوجد، فبالجمع بين هاتين المقدّمتين يثبت أنّ الإنسان غير مختار في أفعاله؛ إذ لا يصدر منه فعل إلّا بالضرورة، والضرورة تنافي الاختيار.

وهذه الشبهة اختلفت المسالك والمباني في كيفيّة التخلّص عنها، فبعضها يرجع إلى المناقشة في المقدّمة الاُولى، وبعضها يرجع إلى المناقشة في المقدّمة الثانية، فنقول:

74

المسلك الأوّل: ما ذهب إليه المشهور من الفلاسفة، فهم اعترفوا بالمقدّمة الثانية، وهي: أنّ فعل الإنسان مسبوق بالضرورة، ولكنّهم ناقشوا المقدّمة الاُولى، وهي: أنّ الضرورة تنافي الاختيار؛ وذلك أنّهم فسّروا الأختيار بأنّ مرجعه إلى القضيّة الشرطيّة القائلة: إن شاء وأراد فعل وإلّا لم يفعل، والقضيّة الشرطيّة لا تتكفّل حال شرطها، وأنّه: هل هو موجود بالضرورة، أو معدوم بالضرورة، أو لا، فمتى ما صدقت هذه القضيّة الشرطيّة فقد صدق الاختيار حتّى إذا فرض أنّ الشرط ـ وهو الإرادة مثلاً ـ كان ضروريّاً، فكان الجزاء ضروريّاً بالغير، أو كان ممتنعاً، فكان الجزاء ممتنعاً بالغير من دون فرق بين أن يكون وجوب الشرط وامتناعه بالغير كما في الإنسان، أو بالذات كما يفترضونه في حقّ الباري تعالى؛ لأنّ صفاته واجبة بالذات؛ لأنّها عين ذاته، وضرورة الفعل الناشئة من الإرادة لا تنافي الاختيار، بل تؤكّده؛ لأنّ الاختياريّة تكون بصدق القضيّة الشرطيّة القائلة: لو أراد لصلّى مثلاً، فإذا ثبت أنّ الصلاة تصبح ضروريّة عند الإرادة، فهذا تأكيد للملازمة، وتحقيق بتّيّ لصدق القضيّة الشرطيّة، وبدون هذه الضرورة تكذب القضيّة الشرطيّة، وليست مضمونة الصدق.

والحاصل: أنّ الاختيار صادق متى ما صدقت هذه القضيّة الشرطيّة كما في حركة يد السليم، وغير صادق متى ما لم تصدق القضيّة الشرطيّة كما في حركة يد المرتعش، وهذا لا ينافي ضرورة الفعل بالإرادة، ولا ضرورة الإرادة نفسها، وهذا مرجع ما قاله صاحب الكفاية: من أنّ الفعل الاختياريّ ما يكون صادراً عن الإرادة بمبادئها، لا ما يكون صادراً عن إرادة صادرة عن الاختيار، وهكذا.

وهذا الكلام الذي قاله هؤلاء الفلاسفة والحكماء ـ بحسب الحقيقة ـ مبنيّ على ما ذكرناه من التفسير للاختيار، وهو: أنّه عبارة عن صدق تلك القضيّة الشرطيّة، وبعد فرض التسليم بهذا التفسير يتمّ استدلالهم في المقام، وهو: أنّ هذه القضيّة

75

الشرطيّة صادقة في جميع موارد الاختيار، ولا يضرّ به الوجوب بالذات أو بالغير.

إلّا أنّ الشأن في صحّة هذا التفسير؛ فإنّه إن كان مجرّد اصطلاح للفلاسفة لأجل تغطية المسألة، فلا مشاحّة معهم في الاصطلاح، وإن كان مرجعه إلى تشخيص معنى الاختيار لغة، وأنّ واضع اللغة هكذا وضع لفظة الاختيار، فأيضاً لا كلام لنا معهم؛ إذ ليس بحثنا لغويّاً لنرى أنّ الواضع لأيّ معنىً وضع لفظ الاختيار، وأمّا إن كان المنظور الاستطراق إلى التكليف والحساب، وتوضيح الفارق بين حركة أمعاء الإنسان وحركة أصابعه الذي جعل الإنسان يحاسب على الثانية دون الاُولى (سواء فرضنا أنّ لكلمة الاختيار معنىً في اللغة أو لا)، فحينئذ نقول: تارةً نتكلّم على ما هو الحقّ من التسليم بالحسن والقبح العقليّين، واُخرى نتكلّم بناءً على إنكار ذلك كما أنكره الأشاعرة صريحاً، وأنكره الفلاسفة بشكل مستور، حيث أرجعوا الحسن والقبح إلى الاُمور العقلائيّة والمشهورة:

أمّا بناءً على ما هو الحقّ من التسليم بالحسن والقبح العقليّين، فلا محصّل لكلّ هذه الكلمات في تخلّصهم من المشكلة، فإنّ حركة الأصابع إذا كانت ناشئة بالضرورة من الإرادة، والإرادة ناشئة بالضرورة من مبادئها، وهي ناشئة بالضرورة من عللها، وهكذا إلى أن ينتهي الأمر إلى الواجب بالذات، فحالها تماماً حال حركة الأمعاء عند الخوف مثلاً الناشئة بالضرورة من عامل الخوف الناشيء بالضرورة من عوامل مؤثّرة في النفس الناشئة من عللها، وهكذا إلى أن ينتهي الأمر إلى الواجب بالذات، وكما تقبح المحاسبة والعقاب على الثاني كذلك تقبح على الأوّل بلا أيّ فرق بينهما، سوى أنّ واضع اللغة سمّى الأوّل اختياريّاً دون الثاني.

وأمّا بناءً على إنكار الحسن والقبح العقليّين، فلا تبقى مشكلة من ناحية قبح المحاسبة والعقاب حتّى نحتاج إلى حلها. نعم، تبقى فقط مشكلة لَغْويّة التكليف،

76

وأنّه لا فائدة فيه بناءً على عدم الاختيار، فما الذي يدعُو المولى إلى التكليف والخطاب؟ وعندئذ يكفي ما ذكروه لحلّ هذه المشكلة؛ فإنّ الحركة الناشئة من الإرادة وإن كانت ضروريّة كحركة الأمعاء لكنّها سنخ فعل يمكن التدخّل التشريعيّ فيه (على خلاف سائر الاُمور الضروريّة) بالتكليف والتخويف بالعقاب، فمن يشتهي الأكل من الطعام الحرام لو علم بأنّه يضرب ضرباً أشدّ من لذّة الطعام، لأحجم عن ذلك ولو بلا اختيار، بخلاف حركة الأمعاء مثلاً؛ فإنّه حتّى لو عرف الضرب على تقدير الحركة تبقى الأمعاء تتحرّك.

هذا صفوة ما يمكن أن يقال في التعليق على هذا المسلك.

المسلك الثاني: يعاكس المسلك الأوّل، فيسلّم بالمقدّمة الاُولى، وأنّ الضرورة تساوق الاضطرار المنافي للاختيار، ويناقش في المقدّمة الثانية، فينكر قوانين العلّيّة، ويفرض أنّ الشيء ينتقل رأساً من عالم الإمكان إلى عالم الوجود بلا حاجة إلى توسيط الضرورة. ومال إلى هذا المسلك بعض الفلاسفة المتأخّرين من غير المسلمين، وتخيّلوا: أنّ هذا يساوق الاختيار والحرّيّة؛ إذ يبقى الفعل ممكناً حتّى حين صدوره.

وهذا المسلك حاله حال أصل الشبهة في ارتكاب الخطأ، فإنّ أصل الشبهة جعلت الضرورة بقول مطلق منافية للاختيار، وهذا المسلك جعل الإمكان ونفي الضرورة ونفي مبادئ العلّيّة مساوقاً للاختيار، وكلاهما غير صحيح:

أمّا الأوّل: فلأنّ الضرورة إذا كانت في طول الاختيار فهي لا تنافي الاختيار، وإلّا فهي تنافيه، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ الكلام في ذلك.

وأمّا الثاني: فلأنّ مجرّد كون الفعل ليس ضروريّاً لا يكفي في كونه اختياريّاً للفاعل؛ فإنّ إنكار مبادئ العلّيّة معناه ـ بحسب الحقيقة ـ التسليم بالصدفة، ومن الواضح: أنّ الصدفة غير الاختيار، فلو فرض ـ محالاً ـ أنّ الماء غلا بلا علّة وبلا نار، فهذا معناه: تحقّق الغليان صدفة، وليس معناه: أنّ الغليان كان اختياريّاً للماء؛

77

لأنّه وجد بلا علّة؛ فإنّ هذا غير ما يراه العقل اختياراً.

المسلك الثالث: ما قد يتفصّى به أيضاً بعض المُحدثين، وحاصله: أنّ الكائنات التي تعيش في ظلّ هذه الطبيعة نرى أنّها مختلفة في مقدار تحديد الطبيعة لها في مجال سيرها، فمثلاً الحجر الذي قذف به إلى أعلى يكون مجال سيره محدّداً مِائة بالمِائة ومن جميع الجهات، فقد فرض عليه أن يسير إلى أعلى بنحو مخصوص وإلى حدّ معيّن إلى أن تنتهي قوّة الدفع، فيرجع إلى أسفل محدَّداً أيضاً سيره من جميع الجهات بحيث يمكن التنبّؤ بالدقّة عن حال صعوده ونزوله، وتعيين وضعه في السير صعوداً ونزولاً بالضبط، هذا حال الحجر. وأمّا الحيوان الذي يضرب بحجر فيفرّ، فالطبيعة لم تحدّد له سيره تحديداً كاملاً، بل له عدّة فرص، ولذا لا يتاح لنا بالدقّة التنبّؤ بأنّه من أيّ جهة سيهرب؟ وأكثر منه فرصةً الإنسان؛ وذلك لأمرين:

الأوّل: أنّ ميوله وغرائزه أكثر تعقيداً وأشدّ من الحيوان، فمثلاً بينما الحيوان يفرّ حينما يرى الحجر متوجّهاً إليه قد يميل الإنسان إلى أن يقف ويتلقّف الحجر.

والثاني: أنّه اُوتي عقلاً يحكّمه في أفعاله ويلحظ المصالح والمفاسد.

وهذه الفرص كلّها تصعّب التنبّؤ بما سوف يفعل، والاختيار ينتزع من هذه الفرصة التي تعطيه الطبيعة.

وهذا الكلام وإن صدر من جملة من الفلاسفة المحدثين إلّا أنّه لا يرجع إلى محصّل؛ إذ مرجعه إلى أنّ الاختيار أمر وهميّ؛ إذ كون الفرصة في الإنسان أكثر منها في الحيوان، وفيه أكثر منها في الحجر، فتمنع الفرصة عن التنبّؤ مرجعه إلى عدم الإطلاع للمتنبّئ على كلّ الخصوصيّات الدخيلة في تصرّف الإنسان أو الحيوان لشدّة تعقيدها، وهذه الفرصة انتزعت وهماً من هذه الخصوصيّات المجهولة عند المتنبّئ، ولو أنّه اطّلع على كلّ الخصوصيّات، لتنبّأ كما يتنبّأ حال الحجر، وهذا هو عين القول بالجبر.

78

المسلك الرابع: ما ذهب إليه المحقّق النائينيّ (رحمه الله)، حيث إنّه سلّم بالمقدّمة الاُولى والثانية معاً، إلّا أنّه لم يقبل إطلاق المقدّمة الثانية، وقال بأنّ قوانين العلّيّة لا تشمل الأفعال الاختياريّة للإنسان، فالإنسان حينما يلتفت إلى عمل ما كالصلاة، وتنقدح في نفسه الإرادة الجدّيّة الكاملة لا يحصل وجوب وضرورة للصلاة بمعنىً يخرجها عن قدرة الإنسان، فالنفس حتّى بعد الإرادة يبقى بإمكانها أن تتحرّك نحو الصلاة أو لا تتحرّك، وحينما تصدر منها الصلاة قد صدر ـ في الحقيقة ـ من النفس بعدما تمّت عندها الإرادة عملان طوليّان:

أحدهما: فعل خارجيّ وهو الصلاة، والآخر: فعل نفسانيّ قائم بصقع النفس، وهو أسبق رتبة من الفعل الخارجيّ، وهو تأثير النفس وحملتها وإعمالها للقدرة، فالفعل يوجد بإعمال القدرة والاختيار، وهذا الفعل النفسانيّ ـ وهو إعمال القدرة والتحرّك والتأثير ـ نسبته إلى النفس نسبة الفعل إلى الفاعل، لا نسبة العرض إلى محلّه كالإرادة، وهذه الحملة والتحرّك التي هي فعل نفسانيّ ليست معلولة للإرادة وفقاً لقوانين العلّيّة، بل النفس بعد الإرادة يبقى بإمكانها أن تتحرّك نحو الفعل وأن لا تتحرّك.

وإذا لاحظنا هذين الفعلين نرى أنّهما اختياريان: أمّا فعلها الأوّل وهو توجّه النفس وتأثيرها فهو أمر اختياريّ؛ إذ لم يتحتّم ولم يصبح وجوده ضروريّاً بالإرادة حتّى يلزم خروجه من الاختيار. وأمّا فعلها الثاني وهو الفعل الخارجيّ كالصلاة، فهو وإن أصبح ضروريّاً بعد الاختيار لكن هذه الضرورة لا تنافي الاختيار؛ لأنّها ضرورة نشأت من الاختيار؛ إذ نشأت من الفعل الأوّل الذي هو عين اختيار النفس وإعمالها لقدرتها، والضرورة في طول الاختيار لا تنافي الاختيار(1).



(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 131 ـ 133 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ج 1، ص 89 ـ 91 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ (رحمه الله).

79

أقول: إنّنا نقبل من المحقّق النائينيّ (رحمه الله) بنحو الإجمال ما ذكره: من أنّه لابدّ من رفع اليد في الأفعال الاختياريّة عن إطلاق قوانين العلّيّة وقاعدة (أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد) كما سيأتي توضيحه، ولكن ما ذكره في مقام تفصيل ذلك من افتراض فعلين للنفس، وشرحه بالنحو الذي عرفت توجد لنا حوله عدّة تعليقات:

الاُولى: أنّ ما جعله فعلاً نفسيّاً وراء الفعل الخارجيّ ـ وهو تأثير النفس واختيارها وإعمالها لإمكانيّاتها في إيجاد الصلاة ـ ليس بحسب الحقيقة أمراً وراء الفعل الخارجيّ؛ فإنّ الإعمال عين العمل، والتأثير عين الأثر، وهذه عناوين انتزاعيّة منتزعة من نفس العمل والأثر، فالإعمال والعمل، والإيجاد والوجود، والتأثير والأثر مفهومان مختلفان بالاعتبار، متّحدان خارجاً، فمثلاً الاحراق تارةً يلحظ منسوباً إلى الفاعل فيسمّى إحراقاً وإيجاداً للاحتراق، واُخرى يلحظ منسوباً إلى المحلّ فيسمّى وجوداً أو احتراقاً.

الثانية: أنّ إدخال فرضيّة وجود عمل نفسانيّ وراء العمل الخارجيّ، وتوسيطه بين الإرادة والفعل لا دخل له في حلّ الشبهة، فيمكننا أن نلتزم رأساً في الفعل الخارجيّ بما التزم به المحقّق النائينيّ (رحمه الله)في الفعل النفسيّ من خروجه عن قانون (أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد)، فإن كان هذا التخصيص لذاك القانون كافياً لرفع الشبهة، أمكن أن يطبّق ابتداءً على الفعل الخارجيّ، وإن لم يكن كافياً لذلك، فافتراض فعل آخر متوسّط بين الإرادة والفعل لا يؤثّر في رفع الشبهة.

الثالثة: أنّنا إذا لاحظنا الفعل الخارجيّ ونسبته إلى الفعل النفسانيّ، رأينا أنّ حاله حال سائر الحوادث في عالم الطبيعة، أي: ينطبق عليه قانون (أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد)؛ إذ هو وليد الفعل النفسانيّ. وأمّا إذا لاحظنا الفعل النفسانيّ، فقد افترض(قدس سره) أنّه خارج عن قانون (أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد)، وسواء فرضنا: أنّ هذا الفعل النفسانيّ هو الخارج عن هذا القانون أو فرضنا: أنّ الفعل الخارجيّ

80

ابتداءً هو الخارج عن هذا القانون، نقول: إنّه من الواضح: أنّ هذا القانون لم يكن قانوناً تعبّديّاً يقبل التخصيص تعبّداً، وإنّما هو قانون عقليّ، فيأتي السؤال عن أنّه، ما هو المصحّح لوجود هذا الفعل بعد فرض عدم وجوبه الذاتيّ، وكيف وجد؟

فنقول: إنّ الأمر في ذلك لا يخلو من أحد فروض:

1 ـ أن يكون المصحّح لوجوده هو الوجوب بالغير والضرورة المكتسبة من العلّة، وهذا خلف الخروج من قاعدة (أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد).

2 ـ أن يكون المصحّح له مجرّد الإمكان الذاتيّ، أي: أنّ مجرّد إمكان صدوره من الفاعل يكفي في صدوره، وهذا أيضاً غير صحيح؛ إذ من الواضح بالفطرة: أنّ الإمكان الذاتيّ الذي معناه: كون نسبة الشيء إلى الوجود والعدم على حدّ سواء لا يكفي مرجّحاً لجانب الوجود، ويأتي السؤال عن أنّه: ما هو الفرق بين الإمكان هنا والإمكان في سائر المجالات، حيث لم يكفِ الإمكان في سائر المجالات للوجود، وكفى له هنا؟

هذا، مضافاً إلى أنّ ذلك لا يصحّح الاختيار؛ إذ هذا معناه الصدفة لا الاختيار، والصدفة غير الاختيار.

3 ـ أن يفترض: أنّ الفعل الخارجيّ صادر بهجوم النفس على حدّ تعبير المحقّق النائينيّ(قدس سره)، وذاك الهجوم صادر بهجوم آخر وهكذا، وهذا أيضاً باطل للزوم التسلسل، فلم يبقَ إلّا الفرض الرابع الذي هو الفرض المعقول في المقام، والذي قصر عنه المنقول من كلمات المحقّق النائينيّ (رحمه الله)، فلعلّ هذا هو المقصود، ولكن قصرت العبارة عن أدائه.

4 ـ أن نطرح مفهوماً ثالثاً في مقابل مفهومي الوجوب والإمكان، وهو مفهوم السلطنة، وهذا الوجه هو الذي يبطل به البرهان على الجبر، كما نوضّح ذلك في خلال عدّة نقاط:

81

الاُولى: أنّ قاعدة (أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد) لو كانت قاعدة قام عليها البرهان، فلا معنى للالتزام بالتخصيص؛ إذ ما يقوم عليه البرهان العقليّ لا يقبل التخصيص والتقييد، ولكن الصحيح: أنّها ليست قاعدة مبرهنة، بل هي قاعدة وجدانيّة، من المدركات الأوّليّة للعقل وإن كان قد يبرهن على ذلك بأنّ الحادث لو وجد بلا علّة ووجُوب، للزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر بلا مرجّح، وهو محال، لكنّك ترى: أنّ استحالة الترجيح أو الترجّح بلا مرجّح هي عبارة اُخرى عن أنّ المعلول لا يوجد بلا علّة، إذن فلابدّ من الرجوع في هذه القاعدة إلى الفطرة السليمة مع التخلّص من تشويش الاصطلاحات والألفاظ، لنرى ما هو مدى حكم الفطرة والوجدان بهذه القاعدة، فننتقل إلى النقطة الثانية.

الثانية: أنّ الفطرة السليمة تحكم بأنّ مجرّد الإمكان الذاتيّ لا يكفي للوجود. وهنا أمران إذا وجد أحدهما رأى العقل أنّه يكفي لتصحيح الوجود:

أحدهما: الوجوب بالغير، فإنّه يكفي لخروجه عن تساوي الطرفين، ويصحّح الوجود.

والثاني: السلطنة، فلو وجد ذات في العالم يملك السلطنة، رأى العقل بفطرته السليمة أنّ هذه السلطنة تكفي للوجود.

وتوضيح ذلك: أنّ السلطنة تشترك مع الإمكان في شيء، ومع الوجوب في شيء، وتمتاز عن كلّ منهما في شيء:

فهي تشترك مع الإمكان في أنّ نسبتها إلى الوجود والعدم متساوية، لكن تختلف عن الإمكان في أنّ الإمكان لا يكفي لتحقّق أحد الطرفين، بل يحتاج تحقّقه إلى مؤونة زائدة، وأمّا السلطنة فيستحيل فرض الحاجة معها إلى ضمّ شيء آخر إليها لأجل تحقّق أحد الطرفين؛ إذ بذلك تخرج السلطنة عن كونها سلطنة، وهو خلف، بينما في الإمكان لا يلزم من فرض الحاجة إلى ضمّ ضميمة خلف

82

مفهوم الإمكان، إذن فالسلطنة لو وجدت، فلابدّ من الالتزام بكفايتها.

وهي تشترك مع الوجوب في الكفاية لوجود شيء بلا حاجة إلى ضمّ ضميمة، وتمتاز عنه بأنّ صدور الفعل من الوجوب ضروريّ، ولكن صدوره عن السلطنة ليس ضروريّاً؛ إذ لو كان ضروريّاً لكان خلف السلطنة، وفرق بين حالة (له أن يفعل) وحالة (عليه أن يفعل)، وقد فرضنا أنّنا وجدنا مصداقاً للسلطنة، وأنّ له أن يفعل، وينتزع العقل من السلطنة ـ باعتبار وجدانها لهذه النكات ـ مفهوم الاختيار، لا من الوجوب ولا من الصدفة.

وقد تحصّل: أنّ المطلوب في هذه النقطة الثانية أنّه لو كانت هناك سلطنة في العالم، لكانت مساوقة للاختيار، وكفت في صدور الفعل.

الثالثة: أنّ هذه السلطنة هل هي موجودة، أم لا؟

يمكن البرهان على إثباتها في الجملة، وتعيينها في الله(1). وهذا خارج عمّا نحن بصدده، ويرجع إلى بحث قدرة الله. وأمّا في الإنسان الذي هو الداخل في



(1) كأن يقال: لو لم يكن الله ـ سبحانه وتعالى ـ فاعلاً مختاراً، أو كان علّة تكوينيّة، لانتهت الحركة في العالم منذ زمان قديم؛ لأنّ الحركة الجوهريّة في الموادّ والأشياء تعني خروج ما بقوّتها إلى الفعل، وما بقوّتها محدودة، وخروجها إلى الفعل محدود ويحتاج إلى زمان محدود، وأيّ مقدار من الزمان نفترض الحاجة إليه لانتهاء ما بقوّة المخلوقات إلى الفعل فقد مضى على ذلك أكثر من ذلك الزمان؛ لأنّ الخالق قديم، وهو ـ بحسب الفرض ـ علّة لتلك المخلوقات، والمعلول لاينفكّ عن علّته، إذن فهو قديم، فكيف لم تنتهِ حركة تلك المخلوقات حتّى يومنا هذا؟! ولو فرضنا: أنّه انتهت الحركة في المخلوقات الاُولى، ثُمّ بدأ الخالق بخلق جديد، لكان هذا أيضاً دليلاً على الخلق بالسلطنة لا بالعلّيّة؛ لأنّه لو كان بالعلّيّة لكان هذا الخلق أيضاً قديماً بقدم علّته، وكان حاله حال الخلق الأوّل في انتهاء حركته.

83

محلّ البحث، فلا برهان عليها، بل ينحصر الأمر في إثبات ذلك بالشرع أو بالوجدان، بأن يقال مثلاً: إنّنا ندرك مباشرة بالوجدان ثبوت السلطنة فينا، وإنّنا حينما يتمّ الشوق الأكيد في أنفسنا نحو عمل لا نقدم عليه قهراً، ولا يدفعنا إليه أحد، بل نقدم عليه بالسلطنة بناءً على دعوى: أنّ حالة السلطنة من الاُمور الموجودة لدى النفس بالعلم الحضوريّ من قبيل حالة الجوع أو العطش، أو حالة الحبّ أو البغض، أو بأن يقال: إنّنا كثيراً ما نرى: أنّنا نرجّح بلا مرجّح كما يقال في (رغيفي الجائع) و(طريقي الهارب)، فلو كان الفعل لا يصدر إلّا بقانون الوجوب بالعلّة، إذن لبقي جائعاً إلى أن يموت؛ لعدم المرجّح لأحدهما، بينما بناءً على قاعدة السلطنة يرجّح أحدهما بلا مرجّح. وإن عرض هذا الكلام على الحكماء، لقالوا: إنّ المرجّح موجود في علم المولى، أو بعض الملائكة المدبّرين للاُمور، إلّا أن يقال في مقابل ذلك: إنّ الوجدان يحكم بعدم دخل المرجّح دائماً في تصميماتنا وما يصدر منّا من الأفعال في مقابل بدائله، فرجع الأمر أيضاً مرّة اُخرى إلى الوجدان(1).



(1) الواقع: أنّ الاستشهاد بــ (رغيفي الجائع) و(طريقي الهارب) لو قصدت به البرهنة على الاختيار، لأمكن ردّه باحتمال وجود المرجّح في علم المولى، أو بعض الملائكة المدبّرين للاُمور، أو قل: إنّ في الموارد المتعارفة التي اتّفقت في العالم حتّى يومنا هذا من أمثال (رغيفي الجائع) و(طريقي الهارب) إنّما لم نرَ شخصاً يقف حائراً أمام الأمرين، بل رأينا دائماً اختياره لأحد الأمرين؛ لأنّ المرجّح في الواقع كان موجوداً وإن خفي علينا. أمّا لو فرض عدم المرجّح صدفة، فمن الذي أخبرنا بأنّه سوف لن يقف حائراً بين الأمرين؟!

أمّا لو قصد به تنبيه الوجدان على الاختيار، فهذا الردّ غير وارد، فإنّ المقصود بمثل هذه الأمثلة عندئذ دعوى: أنّ الوجدان حاكم بأنّه حتّى لو لم يكن في الواقع، وفي علم الله، وفي علم الملائكة ترجيح لأحد الأمرين، سوف لن يقف الشخص حائراً بين الأمرين، ومتحمّلاً الجوع، أو افتراس الأسد، أو نحو ذلك.

84

وعلى أيّ حال، فيكفي لإبطال برهان الجبر ما عرفته من إبداء احتمال كون الإنسان مصداقاً لمفهوم السلطنة(1).



(1) فيبقى الوجدان الحاكم بالاختيار خالياً عن المزاحمة بالبرهان. وهذا الوجدان غير الوجدان الذي مضى ذكره الذي كان حاكماً بالفرق بين حركة يد المرتعش وحركة يد السليم؛ فإنّه كان يكفي إشباعاً لذاك الوجدان فرض: أنّ حركة يد السليم حركة بإرادته، وليست يد السليم كعصا بيد الخالق هو الذي يحرّكها، وإلّا لكانت مثل حركة يد المرتعش، أي: يكفي لإشباع ذاك الوجدان إنكار الجبر الأشعريّ، في حين أنّ هذا الوجدان عبارة عن وجدان نفس السلطنة؛ لأنّها معلومة بالعلم الحضوريّ لدى النفس، أي: هي موجودة بذاتها لدى النفس، فالوجدان يحكم بها، وهذا يبطل الجبر الأشعريّ والفلسفيّ في وقت واحد، وقد كان يقف أمام هذا الوجدان برهان القائل بالجبر الذي قد يغطّي على الوجدان، فيكفينا إبطال ذاك البرهان بلاحاجة إلى برهان على الاختيار، وقد أبطلناه.

إن قلت: لو كان يكفينا إبطال برهان الجبر بلا حاجة إلى برهان على الاختيار والسلطنة، فلماذا اعترض اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) على المسلك الثاني من مسالك إبطال الجبر، وهو المسلك المنكر لقانون (أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد) والمؤمن في مقابل ذلك بقانون الصدفة، حيث مضى في الإشكال على ذلك ـ بغضّ النظر عن بطلان المبنى ـ: أنّ هذا لا يثبت الاختيار؛ فإنّ الصدفة غير الاختيار، فلِمَ لمْ تقولوا هناك: إنّه لم يكن المقصود البرهنة على الاختيار حتّى يقال: إنّ الصدفة لا تثبت الاختيار، وإنّما المقصود كان ردّ برهان الجبر ونفي المقدّمة الثانية، أعني: قانون (أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد) كاف في إبطال برهان الجبر.

قلنا: أوّلاً: إنّ صاحب هذا المسلك كان يحاول تفسير الاختيار بنفي الوجوب، وإنكار: أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد، فيكفي اعتراضاً عليه: أنّ مجرّد نفي الوجوب لا يساوق الاختيار.

85

هذا تمام ما أردنا أن نبيّنه في المسألة الثانية.

بقي هنا شيئان:

الأوّل: أنّه مضى في المسألة الاُولى، أي: في أنّ الفاعل هل هو الله أو الإنسان ذكر وجوه خمسة، وقلنا: إنّه في حدود تلك المسألة يكون الوجه الثالث والرابع كلاهما معقولاً، إلّا أنّه إذا ثبتت السلطنة بالشرع أو الوجدان، بطل على ضوء هذه المسألة الوجه الرابع الذي هو مستلزم للجبر، حيث إنّه يجعل مبادئ الإرادة مجرّد مقدّمات إعداديّة وموجبة لقابليّة المحلّ، والله هو الفاعل، فإن فرضنا: أنّ الإرادة حالة نفسانيّة نسبتها إلى النفس نسبة العرض إلى المحلّ، لم يبقَ اختيار للإنسان؛ إذ الإرادة تحصل قهراً، وما يأتي بعدها من فعل يوجده الله. وإن فرضنا: أنّ الإرادة فعل من أفعال النفس يأتي بعدها الفعل الخارجيّ، فالوجه الرابع يقول: إنّ هذا الفعل أيضاً فعل الله، فإنّ الوجه الرابع لا يختصّ بفعل دون فعل، فلو أمكن لفعل أن يصدر من الإنسان، فليكن الفعل الآخر مثله بلا فرق بينهما، وإلّا فكلاهما لا يمكن صدوره منه، فأيضاً لا يبقى اختيار للإنسان، فكلّ ما يثبت السلطنة للإنسان يبطل هذا الوجه.



وثانياً: إنّ هذا المسلك، أي: مسلك تعميم الصدفة على الأفعال الاختياريّة كمسلك تعميم قاعدة (أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد) على الأفعال الاختياريّة ينتهي إلى الجبر؛ لأنّ صدور الفعل منّا كما أنّه لو كان واجباً لكان هذا غير الاختيار، فلزم الجبر، كذلك لو كان صدفةً لكان هذا غير الاختيار، ولزم الجبر، فمن يفترض: أنّ الصلاة تصدر منّا صدفة، وكذلك شرب الخمر، كيف يمكن أن يفترض: أنّنا صلّينا باختيارنا، أو شربنا باختيارنا؟!

والخلاصة: أنّ كون نسبة الفعل إلينا نسبة الاختيار شيء يقابل كون نسبته إلينا نسبة الوجوب، أو كون نسبته إلينا نسبة الصدفة.

86

الثاني: أنّ هذا الاختيار الذي ثبت للإنسان ليس اختياراً مطلقاً؛ إذ ما أكثر الأشياء التي تقع أو لا تقع برغم أنف الإنسان، فهو اختيار محدود لا محالة، وضابطه هو: أنّ الأفعال والتروك التي يكون للاعتقاد بالمصالح والمفاسد تأثير فيها وجوداً وعدماً فهي اُمور اختياريّة.

ويدخل تحت هذا الضابط أمران:

الأوّل: الأفعال الخارجيّة كالصلاة والصيام، أو المُنشَآت النفسيّة كعقد القلب، ونحو ذلك.

والثاني: نفس الحبّ والبغض والشوق المؤكّد.

أمّا الأوّل، فانطباق الضابط عليه واضح.

وأمّا الثاني، فتطبيق الضابط عليه قد يكون بأحد وجهين:

الأوّل ـ وهو الصحيح ـ: أنّ تأثّر الحبّ والبغض والشوق المؤكّد يكون بالاعتقاد بالمصلحة والمفسدة في المحبوب والمكروه، فمن يعتقد المصلحة في الأكل مثلاً يشتاق إلى الأكل، ومن يعتقد المفسدة فيه يكرهه، نظير: أنّ من يعرف بوجود صفات الكمال في عليّ(عليه السلام) يحبّه، ومن يعرف بوجود صفات اللؤم في إبليس يبغضه. وبهذا الاعتبار كانت هذا الصفات داخلة تحت الاختيار في كثير من الأوقات، وصحّ التكليف بها، فيصحّ أن يوجب المولى على العبد أن يحبّ أمير المؤمنين(عليه السلام)؛ إذ بالإمكان دخله تحت الاختيار عن طريق النظر في صفاته وكمالاته(عليه السلام)، أو أن يحبّ الصلاة؛ إذ بإمكانه ذلك عن طريق النظر إلى مصالحها وهكذا.

الثاني: أن تفرض المصلحة في نفس الشوق المؤكّد، فلو فرض أنّه لا يرى مثلاً أيّ مصلحة في نفس القيام، لكن قال له شخص: لو أردت القيام واشتقت إليه شوقاً مؤكّداً، أعطيتك ديناراً، سواء قمت بالفعل كما هو الواقع؛ لأنّ الشوق المؤكّد

87

لا ينفكّ عن الفعل لدى الإنسان المختار، أو لم تقم كما لو طرأ العجز لدى إرادة القيام، فهو ينقدح في نفسه الإرادة والشوق المؤكّد إلى القيام، فمن هنا وقع الكلام في أنّه: هل يمكن أن تنشأ الإرادة والشوق المؤكّد من مصلحة في نفسها، أو لا؟ قد يقال: إنّ هذا ممكن وواقع عرفاً في جملة من الموارد، ومنها ما لو أراد أن يصوم وهو مسافر، فقد قالوا: يقصد إقامة عشرة أيّام، فيصحّ منه الصوم، ولكن يتّفق كثيراً أنّه ليست لديه مصلحة تدعوه إلى إقامة عشرة أيّام إلّا نفس أن يصحّ صومه، وهذه المصلحة لا تترتّب على نفس الإقامة، بل تترتّب على قصد الإقامة وإرادتها، فلو قصد الإقامة وصام، صحّ صومه ولو لم يوفّق خارجاً للإقامة عشرة أيّام، ولو بقي خارجاً عشرة أيّام من دون قصد للإقامة لم يصحّ صومه، وكثيراً ما يتّفق أنّ الإنسان يقصد الإقامة لأجل هذه المصلحة.

والمحقّق العراقيّ (رحمه الله) قال: إنّ هذا لا يمكن؛ إذ حينما يكون الفعل والترك في نظر الإنسان على حدّ سواء تكون إرادته واشتياقه إلى الفعل ترجيحاً بلا مرجّح، فيستحيل اقتضاء الفعل للإرادة في حقّه دون الترك(1).

والكلام يقع أوّلاً في أصل معقوليّة ذلك وعدمه، وثانياً في هذا الفرع الفقهيّ، وأنّه إذا استحال ذلك، فكيف يصحّح صوم هذا الشخص الذي يريد أن يصوم في السفر ولا يرى مصلحة في نفس الإقامة؟

أمّا الأوّل: فالصحيح: أنّ الحبّ والبغض والشوق المؤكّد دائماً يحصل على أساس ما في المتعلّق، ويستحيل حصوله لمصلحة في نفسه. وليس الوجه في ذلك ما ذكره المحقّق العراقيّ (رحمه الله): من أنّه يلزم من تعلّق الإرادة بالفعل مع تساوي الفعل والترك الترجيح بلا مرجّح؛ فإنّ هذا جوابه واضح، وهو: أ نّا لو بقينا وهذا المقدار



(1) راجع نهاية الأفكار، ج 1، ص 173 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

88

من البيان، لقال الخصم: إنّ المرجّح هو المصلحة في نفس الإرادة، فلو قيل للمريد: لماذا أردت الفعل مع أنّ الفعل والترك متساويان؟ لقال: أردت؛ لأنّ الإرادة كانت أرجح من عدمها، فلابدّ أن ندّعي قبل هذا البرهان بنحو المصادرة: أنّ الشوق المؤكّد والحبّ والبغض لا يكفي في وجودها الترجيح في نفسها. وهذه دعوىً ندّعيها بالوجدان، وفي طولها يتمّ ذلك البرهان، فكان المهمّ(1) إبراز هذه المصادرة، فالعلّة تكويناً للشوق هي الاعتقاد بالكمال أو المصلحة في المشتاق إليه، ولا ينشأ في عالم التكوين المعلول إلّا من علّته، فالشوق لا يحصل بمجرّد الاعتقاد بمصلحة في نفس الشوق، إذن فلابدّ من قياسه إلى متعلّقه، فحينئذ يقال: إنّه لو اشتاق إلى متعلّقه مع افتراض: أنّ وجود متعلّقه وعدمه في نظره سيّان، للزم الترجيح بلا مرجّح، ووجود المعلول بلا علّة، وهو مستحيل.

وأمّا الثاني: وهو علاج الفرع الفقهيّ الذي يمكن أن يجعل نقضاً على القول باستحالة نشوء الشوق والإرادة من مصلحة في نفسه، فالمحقّق العراقيّ (رحمه الله) كأنّه حاول التخلّص من هذا الإشكال، فذكر شيئاً (2) لا يخلو مقصوده من ذلك من غموض، وحاصل ما ذكره: أنّ النكتة والمصلحة الداعية لهذا الشخص إلى قصد الإقامة قائمة بنفس الإقامة، لكن لا بمطلق الإقامة، بل بحصّة خاصّة من الإقامة،



(1) لا يخفى: أنّ دعوى حكم الوجدان بذلك موجودة في نهاية الأفكار، إلّا أنّها لم تفرض كمصادرة في أساس ذلك البرهان، بل جعل البرهان دليلاً داعماً للوجدان، في حين أنّه ينبغي أن يكون الدليل على عدم نشوء الشوق من المصلحة في الشوق هو الوجدان فحسب، ثُمّ يكون الدليل على عدم تعلّق الشوق بالفعل مع تساوي الفعل والترك برهان لزوم الترجيح بلا مرجّح آخذين في موضوع هذا البرهان حكم الوجدان بعدم نشوء الشوق من المصلحة فيه، فلا تصلح المصلحة فيه مرجّحة لوجوده.

(2) راجع نهاية الأفكار، ج 1، ص 174 ـ 175 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

89

وهي الإقامة القصديّة، فهذه الحصّة من الإقامة، أو هذا(1) الباب من أبواب وجود الإقامة هي التي تكون مصبّاً للنكتة الداعية له إلى قصد الإقامة، فلا نقض.

وهذا الكلام يحتاج إلى تمحيص؛ لأنّه يحتمل فيه أحد أمرين:

الأوّل: أنّ المصلحة التي يتوخّاها هذا المسافر متعلّقة بحصّة خاصّة من الإقامة، أي: الإقامة المقيّدة بالقصد، أي: أنّ موضوع الحكم بصحّة الصوم هو المقيّد بالقصد مع نفس القيد بنحو التركّب الضمنيّ. فإن كان المراد هو هذا؛ فهذا جوابه من الفقه واضح؛ فإنّ نفس الإقامة لا دخل لها ولو ضمناً في الحكم، فلو نوى الإقامة وصام ثُمّ عدل ولم يقم، لصحّ صومه بلا إشكال.

الثاني: أن يكون المقصود: أنّ المصلحة تعلّقت بسدّ باب عدم الإقامة من ناحية عدم إرادة الإقامة، ولو فرض انفتاح باب آخر لعدمها كإجبار شخص إيّاه على الخروج، فكأنّ هذا حفظ لمرتبة من مراتب وجود الإقامة وشأن من شؤونها، وتقريب نحو وجودها، وحفظ لوجودها بهذا المقدار الناقص. فإن أراد هذا فهذا صحيح، إلّا أنّ هذا عبارة اُخرى عن قيام المصلحة بنفس القصد، فإنّ سدّ باب عدم الإقامة الناشئ عن عدم القصد عبارة اُخرى عن القصد، وليس جزءاً من الإقامة إلّا بنحو من المسامحة في التعبير، وليس سدّ باب عدم شيء بعدم إحدى مقدّماته إلّا عبارة عن إيجاد تلك المقدّمة، فرجع الإشكال جَذعاً.

وتوضيح الكلام في هذا الفرع: أنّ ما هو الشرط في صحّة الصوم وهو إرادة الإقامة بعد وضوح: أنّ أصل الإقامة ليس هو الشرط قد يتصوّر بأحد تصوّرات ثلاثة:



(1) كأنّ هذا الترديد في التعبير يكون على أساس افتراض: أنّ عبارة المحقّق العراقيّ (رحمه الله) غائمة يمكن تطبيقها على العبارة الاُولى ويمكن تطبيقها على العبارة الثانية، ولكن الذي يظهر من مراجعة عبارة نهاية الأفكار هو الثاني، لا الأوّل.

90

التصوّر الأوّل: ما يناسب اُسلوب طرحهم لهذا الفرع ونقاشهم فيه بالنحو الذي عرفت، وهو أن يكون شرط الصوم عبارة عن إرادة الإقامة على أن يقصد بالإرادة الحبّ والشوق المؤكّد، وعندئذ لا محيص عن الإشكال في أكثر فروض المسألة.

وتوضيحه: أنّه تارةً يفترض تعلّق غرضه في هذا السفر بالصوم لأقلّ من عشرة أيّام، وعندئذ فصومه لا يتوقّف على وقوع الإقامة منه، ولا يستلزمها بوجه من الوجوه؛ إذ لو عدل بعد الصوم عن الإقامة وكسر الإقامة، لصحّ صومه بلا إشكال، فلو حصل له حبّ الإقامة لأجل الصوم، للزم نشوء الحبّ من المصلحة فيه، وهذا هو المحال.

واُخرى يفرض تعلّق غرضه في هذا السفر بالصوم لعشرة أيّام، وأنّه صلّى أو سيصلّي صلاة رباعيّة قبل كسر نيّة الإقامة، فهنا أيضاً يستفحل الإشكال؛ لأنّ صومه لعشرة أيّام لا يتوقّف على الإقامة في مكان واحد ولا تستلزمها، كما يشهد لذلك أنّه لو كسر الإقامة في مكان واحد بعد أن صلّى صلاة رباعيّة وانتقل إلى مكان آخر يبعد عن الأوّل بأقلّ من المسافة الشرعيّة، لصحّ له أن يكمل صوم بقيّة الأيّام في ذلك المكان، إذن فإن نشأ منذ البدء حبّه لإقامة عشرة أيّام في مكان واحد من مصلحة الصوم المترتّب على هذا الحبّ، لزم نشوء الحبّ من مصلحة فيه، وهو المحال.

وثالثة يفرض أيضاً تعلّق غرضه في هذا السفر بالصوم لعشرة أيّام، إلّا أنّه سنخ رجل يصوم ولا يصلّي، ولنفترض أنّنا قد أفتينا بأنّ صوم يوم واحد كصلاة رباعيّة واحدة يوجب تثبيت حكم الإقامة، وحملنا الصلاة الرباعيّة الواردة في النصّ على المثاليّة لكلّ ما يكون عملاً بوظيفة المقيم، فهنا أيضاً يستفحل الإشكال؛ لأنّ صومه لعشرة أيّام لا يتوقّف على الإقامة في مكان واحد ولا يستلزمها، كما يشهد لذلك أنّه لو كسر الإقامة بعد صوم يوم واحد وانتقل إلى مكان آخر يبعد عن الأوّل

91

بأقلّ من المسافة الشرعيّة، لصحّ له أن يكمل صوم بقيّة الأيّام؛ لأنّنا فرضنا أنّصومه لليوم الأوّل كالصلاة الرباعيّة في تثبيته لحكم الإقامة، فإذن لو نشأ حبّه للإقامة من مصلحة الصوم المترتّب على هذا الحبّ، لكان هذا يعني نشوء الحبّ من مصلحة في نفس الحبّ والذي قلنا: إنّه محال.

نعم، لو فرضنا أنّ هذا الإنسان كان سنخ رجل يصوم ولا يصلّي، وفرضنا أنّ المثبّت لحكم الإقامة بعد كسرها إنّما هي الصلاة الرباعيّة قبل الكسر دون الصوم، وذلك اقتصاراً على حاقّ النصّ، ومن دون حمله على المثاليّة، فعندئذ يكون صومه عشرة أيّام متوقّفاً على الإقامة عشرة أيّام في مكان واحد؛ إذ لو انتقل في الأثناء إلى منطقة اُخرى سيبقى فيها أقلّ من العشرة، لم يصحّ منه الصوم قطعاً، والمفروض: أنّ الصوم عشرة أيّام محبوب له في سفره هذا، فسينوي الإقامة من باب نيّة مقدّمة المحبوب، إلّا أنّ هذا فرض نادر.

التصوّر الثاني: أن يكون المقصود بإرادة الإقامة التي تفرض شرطاً لصحّة الصوم البناء النفسيّ والالتزام بالإقامة، وهذا غير الشوق إلى الإقامة، فقد يحصل هذا البناء من دون الشوق إليها حينما تصبح الإقامة ملازمة لمحبوب له من دون فرض المقدّميّة، بل قد يبني عليها برغم كرهه لها؛ وذلك لأهمّيّة الملازم المحبوب، وهذا البناء فعل نفسانيّ داخل تحت سلطة الإنسان، ولا فرق بين أفعال الجوارح وأفعال النفس في دخولها تحت القدرة، وليس هذا البناء صفة من صفات النفس من قبيل الحبّ والبغض، فإذا رأى مصلحة في هذا البناء وهي صحّة صومه، فقد يقال: إنّه يقدم عليه لتلك المصلحة برغم عدم المصلحة في نفس الإقامة، والإشكال الماضي في التصوّر الأوّل وهو استحالة نشوء الشوق من مصلحة في نفس الشوق منتف هنا أساساً.

92

إلّا أنّنا نقول: إنّ الإشكال السابق وإن كان غير وارد هنا ولكن يحلّ محلّه إشكال آخر، وهو: أنّ الذي يدعوه إلى هذا البناء إنّما هو تصحيح الصوم، وهويعلم أنّ هذا الداعي سوف ينتفي عند انتهاء الصوم(1)، فيستحيل أن يتمشّىمنه هذا البناء إلّا من باب لقلقة اللسان، فإنّ الإنسان إنّما يستطيع أن يبني علىشيء استقباليّ فيما إذا كان داعيه إلى البناء على ذلك موجوداً في اُفق تصوّرهالآن بلحاظ ظرف العمل ولو حصل له البداء بعد ذلك. وأمّا إذا كان يعلم أنّداعيه إلى البناء سوف يزول في ظرف العمل، فلا يعقل منه تمشّي البناء عليه الآن حقيقة.

التصوّر الثالث: أن يكون المقصود بإرادة الإقامة العلم أو الاطمئنان بالبقاء عشرة أيّام، وهذا هو الصحيح، فالشرط في التمام وصحّة الصوم ليس هو قصد الإقامة بمعنى الشوق إليه أو إنشاء البناء النفسيّ عليه، بل يكفي أن يكون مطمئنّاً بأنّه سوف يبقى عشرة أيّام ولو مجبوراً بلا شوق ولا بناء نفسيّ، وهنا أيضاً يكون الإشكال الأوّل غير وارد، ولكن يرد ما هو نظير الإشكال الثاني، فإنّه يقال: إنّ مصدر اطمئنانه بالبقاء لم يكن هنا جبر الظالم مثلاً، بل كان هو بناؤه النفسيّ على البقاء، وقد مضى: أنّ البناء النفسيّ على شيء في المستقبل مع افتراض علمه بأنّه سوف يزول داعيه إلى هذا البناء، ويرجع إلى أهله شوقاً إليهم بعدما انتهى صومه لا يمكن أن يتمشّى منه حقيقةً.



(1) أو عند انتهاء صلاة رباعيّة، أو عند انتهاء صوم يوم واحد بناءً على كفاية الصوم لاستقرار أثر الإقامة، وهنا أيضاً يأتي استثناء الفرض النادر الذي مضى استثناؤه على التصوّر الأوّل، وكذلك الحال على ما سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ من التصوّر الثالث.

93

و قد تحصّل: أنّه في غالب الفروض (عند عدم وجود رغبة مستقلّة في نفس الإقامة) لا يمكن قصد الإقامة: إمّا من باب: أنّه لا يتولّد الشوق إلى الشيء لمصلحة في الشوق كما هو الحال على التفسير الأوّل لقصد الإقامة، أو من باب: أنّه يعلم بأنّه سوف يعدل عن الإقامة كما هو الحال على التفسير الثاني والثالث، إذن فيحتاج إلى جعل الإقامة ذات مصلحة حتّى يتمشّى منه قصدها، وذلك يكون بأنحاء: كالنذر، أو كأن يعلن عن قصده للإقامة عموماً للناس حينما تكون له حزازة في الخُلف، فتتكوّن في طول الإعلان مصلحة له في الإقامة.

وهناك فروع اُخرى مشابهة لهذا الفرع(1) داخلة في محلّ الابتلاء:

منها: من يريد أن يتوضّأ قبل الوقت ليحفظ وضوءه لصلاة الظهر مثلاً، حيث قد يقال فيه ـ بناءً على ما اشتهر من عدم صحّة الوضوء للصلاة قبل الوقت ـ: ليتوضّأ بقصد قراءة القرآن بينما تكون المصلحة في نفس القصد؛ إذ هو لا يشتاق إلى قراءة القرآن إلّا لأجل الوضوء، فبعد تماميّة الوضوء لا داعي له إلى قراءة القرآن، فهو يحتاج إلى إيجاد مرغّب له في نفس القراءة كأن يفكّر في ثوابها وفضيلتها(2).

إلّا أنّنا لسنا بحاجة إلى هذا الكلام؛ لأنّنا نناقش في أصل مبنى عدم صحّة الوضوء للصلاة قبل الوقت، فإنّنا لو بقينا نحن ومقتضى القاعدة، لم نكن نحتاج في



(1) أي في الإشكال الثاني، أعني: عدم إمكانيّة نيّة ما يعلم بزوال الدافع إليه في ظرفه المستقبليّ، لا الإشكال الأوّل.

(2) يبدو أنّ هذا الإشكال مبنيّ على ما هو المعروف من عدم اختصاص الوجوب المقدّميّ بالمقدّمة الموصلة، أمّا على ما سيختاره اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في محلّه من اختصاصه بالمقدّمة الموصلة، فلا مجال لهذا الإشكال؛ لأنّه لو لم يقرأ القرآن انكشف أنّ الوضوء الذي صدر منه لم يكن مأموراً به؛ لأنّ المقدّمة لم تصبح موصلة.

94

مقام صحّة الوضوء إلى وجود أمر؛ فإنّ الدليل الأوّليّ إنّما دلّ على اشتراط أصل الوضوء في الصلاة، غاية ما هناك أن نقيّده بأن يكون الوضوء بداع من الدواعي الإخلاصيّة للمولى، ولا إشكال في أنّ داعي الصلاة به بعد دخول الوقت داع إخلاصيّ له سبحانه وإن كان الوضوء قبل الوقت، إلّا أنّه يفرض بحسب التسالم والإجماع اشتراط كون الوضوء عباديّاً، والعباديّة لا تتحقّق بمجرّد كونه بداع إخلاصيّ، بل لابدّ فيها من أمرين:

أحدهما: أن يكون مطلوباً للمولى خطاباً وملاكاً، أو ملاكاً على الأقلّ.

والثاني: أن يُؤتى به بداع من الدواعي الحسنة والإخلاصيّة.

وكلا الأمرين حاصل في المقام:

أمّا الأوّل، فلما هو الصحيح من الاستحباب النفسيّ للوضوء، ولا نحتاج إلى وجوبه المقدّميّ أو ملاكه الذي لا يتحقّق ـ على المشهور ـ قبل الوقت.

وأمّا الثاني، فلأنّ قصد الصلاة التي سوف يأتي وقتها داع إخلاصيّ لله بلا إشكال، فمن يعلم بأنّ المولى سوف يعطش فيهيّء الماء سابقاً، يعدّ فعله حسناً عقلاً، ومظهراً من مظاهر الإخلاص في العبوديّة.

نعم، لو قلنا: إنّه لابدّ أن يقصد أمراً فعليّاً، فلا يمكن أن يتأتّى منه قصد ذلك لأجل مصلحة تصحيح الوضوء، لكن لا دليل على ذلك.

ومنها: ما لو اُوقف حوض المسجد مثلاً للوضوء للصلاة في المسجد، فإذا كان المقصود بذلك: الوقف لمن يتوضّأ بقصد الصلاة فيه ولو حصل له البداء ولم يصلِّ بعد ذلك، فمن الواضح: أنّه كان من قبيل ما نحن فيه، فالملاك يكون في نفس القصد وهو يعلم أنّه بعد انتهاء الوضوء يرتفع الداعي، وإذا كان المقصود بذلك: الوقف لمن يصلّي بالفعل في هذا المسجد بهذا الوضوء، فإذا حصل له البداء ولم

95

يصلِّ، انكشف كون وضوئه بماء مغصوب، وبناءً على ما هو المشهور من صحّة الوضوء بالماء المغصوب إذا انكشف ذلك بعد انتهاء العمل يثبت نفس الإشكال، حيث إنّ نفس قصده للصلاة في المسجد وعلمه بأنّه سوف يصلّي فيه يكفي لصحّة وضوئه، وبعد الوضوء لو حصل له البداء، يكون وضوؤه صحيحاً، فهو يعلم سابقاً بأنّه سوف يزول من نفسه الداعي إلى الصلاة بعد الوضوء، فكيف يتمشّى منه القصد إلى الصلاة والعلم بها؟ إلّا بإيجاد داع له إليها من قبل كالنذر مثلاً.

97

الفصل الثاني. الأوامر

صيغة الأمر

ويقع الكلام هنا أيضاً في جهات:

* دلالة صيغة الأمر على الطلب.

* كيفيّة دلالة صيغة الأمر على الوجوب.

* دلالة الجملة الخبريّة.

* الأصل في الواجب التعبّديّة أو التوصّليّة؟

* ظهور صيغة الأمر في النفسيّة والتعيينيّة والعينيّة.

* ورود الأمر عقيب الحظر أو في مورد توهّمه.

* دلالة الأمر على المرّة أو التكرار.

* الفور والتراخي.