المولفات

المؤلفات > مباحث الاُصول القسم الأوّل - الجزء الثاني

77

لأنّه وجد بلا علّة؛ فإنّ هذا غير ما يراه العقل اختياراً.

المسلك الثالث: ما قد يتفصّى به أيضاً بعض المُحدثين، وحاصله: أنّ الكائنات التي تعيش في ظلّ هذه الطبيعة نرى أنّها مختلفة في مقدار تحديد الطبيعة لها في مجال سيرها، فمثلاً الحجر الذي قذف به إلى أعلى يكون مجال سيره محدّداً مِائة بالمِائة ومن جميع الجهات، فقد فرض عليه أن يسير إلى أعلى بنحو مخصوص وإلى حدّ معيّن إلى أن تنتهي قوّة الدفع، فيرجع إلى أسفل محدَّداً أيضاً سيره من جميع الجهات بحيث يمكن التنبّؤ بالدقّة عن حال صعوده ونزوله، وتعيين وضعه في السير صعوداً ونزولاً بالضبط، هذا حال الحجر. وأمّا الحيوان الذي يضرب بحجر فيفرّ، فالطبيعة لم تحدّد له سيره تحديداً كاملاً، بل له عدّة فرص، ولذا لا يتاح لنا بالدقّة التنبّؤ بأنّه من أيّ جهة سيهرب؟ وأكثر منه فرصةً الإنسان؛ وذلك لأمرين:

الأوّل: أنّ ميوله وغرائزه أكثر تعقيداً وأشدّ من الحيوان، فمثلاً بينما الحيوان يفرّ حينما يرى الحجر متوجّهاً إليه قد يميل الإنسان إلى أن يقف ويتلقّف الحجر.

والثاني: أنّه اُوتي عقلاً يحكّمه في أفعاله ويلحظ المصالح والمفاسد.

وهذه الفرص كلّها تصعّب التنبّؤ بما سوف يفعل، والاختيار ينتزع من هذه الفرصة التي تعطيه الطبيعة.

وهذا الكلام وإن صدر من جملة من الفلاسفة المحدثين إلّا أنّه لا يرجع إلى محصّل؛ إذ مرجعه إلى أنّ الاختيار أمر وهميّ؛ إذ كون الفرصة في الإنسان أكثر منها في الحيوان، وفيه أكثر منها في الحجر، فتمنع الفرصة عن التنبّؤ مرجعه إلى عدم الإطلاع للمتنبّئ على كلّ الخصوصيّات الدخيلة في تصرّف الإنسان أو الحيوان لشدّة تعقيدها، وهذه الفرصة انتزعت وهماً من هذه الخصوصيّات المجهولة عند المتنبّئ، ولو أنّه اطّلع على كلّ الخصوصيّات، لتنبّأ كما يتنبّأ حال الحجر، وهذا هو عين القول بالجبر.