58

الطلب والإرادة

الجهة الرابعة: قد مضى أنّ كلمة الأمر موضوعة للطلب، وقد وقع الكلام في أنّه: هل هو عين الإرادة أو غيرها؟ وأنّه: هل هو أمر نفسانيّ كالقدرة، أو فعل نفسانيّ، أو فعل خارجيّ؟

والأشاعرة ادّعوا المغايرة بين الطلب والإرادة، والمعتزلة ادّعوا العينيّة بينهما.

والأشاعرة استدلّوا على المغايرة بوجوه، أحدها مبتن على مسألة الجبر، وهو: أنّ الإرادة التشريعيّة لا تتعلّق بشيء غير مقدور، والأفعال مخلوقة لله وغير مقدورة للعبد، مع أنّنا نرى أنّه في الشريعة تعلّق الطلب بها، إذن نعرف أنّ الطلب غير الإرادة.

وبهذه المناسبة وقع البحث في الجبر والتفويض والاختيار، إذن فهنا مسألتان:

1 ـ إنّ الطلب والإرادة هل هما أمران، أو أمر واحد؟

2 ـ ما انجرّ إليها البحث من المسألة الاُولى بالمناسبة التي عرفتها، وهي مسألة الجبر والتفويض والاختيار.

ونحن هنا نقصر الكلام على المسألة الثانية، وهي مسألة الجبر والاختيار.

ويكون كلامنا في ذلك بشيء من الاختصار، فنقول:

مسألة الجبر والاختيار

إنّ مسألة الجبر والاختيار تنحلّ إلى مسألتين:

الاُولى: هي المسألة الكلاميّة، حيث وقع الكلام فيها بين المعتزلة القائلين بالتفويض والأشاعرة القائلين بالجبر والشيعة القائلين بأمر بين الأمرين، وروح هذه المسألة يرجع إلى النزاع في تشخيص فاعل هذه الأفعال التي تتحقّق على

59

أيدي الناس، فمذهب التفويض يقول: إنّ الفاعل محضاً هو الإنسان وليس لله نصيب في هذه الفاعليّة، ومذهب الجبر يقول: إنّ الفاعل محضاً هو الله تعالى، ومذهب الشيعة يقول بأنّ لكلّ منهما نصيباً في الفاعليّة بالنحو المناسب له.

الثانية: هي المسألة الفلسفيّة، وروحها يرجع إلى أنّ فاعل هذه الأفعال ـ سواء فرضناه في المسألة الاُولى الإنسان أو ربّ الإنسان ـ هل يفعله اختياراً، أو بلا اختيار؟

ومن هنا يعرف أنّ المسألة الاُولى وهي الكلاميّة وحدها لا تكفي لحسم النزاع في بحث الجبر والاختيار، فلنفرض: أنّنا قلنا: إنّ الفاعل هو الإنسان وحده، لكن يبقى احتمال كونه فاعلاً بلا اختيار، من قبيل فاعليّة النار للإحراق التي قد يقال فيها أيضاً بأنّ الإحراق فعل للنار محضاً.

المسألة الكلاميّة:

أمّا المسألة الاُولى: فيوجد فيها بدواً خمسة احتمالات:

1 ـ أن يكون الفاعل محضاً هو الإنسان، ولا نصيب لربّ العباد في الفاعليّة، وهذا مذهب التفويض، وهو مذهب المعتزلة.

وهذا يرجع ـ بحسب الحقيقة ـ إلى دعوى: استغناء المعلول عن العلّة بقاءً؛ إذ لو فرضت حاجة الإنسان في وجوده البقائيّ إلى الله تعالى، ووجوده البقائيّ هو علّة أفعاله، إذن لم يعقل إنكار ثبوت نصيب لله في الفعل عرضيّاً وطوليّاً. وحيث إنّ هذا المبنى ساقط ـ كما حقّق في موضعه من الكلام والفلسفة؛ إذ برهن على أنّ المعلول بحاجة إلى العلّة بقاءً أيضاً ـ يثبت بطلان التفويض، وليس هنا موضع البحث عن تلك البراهين.

2 ـ أن يكون الفاعل محضاً هو الله تعالى، وإنّما الإنسان محلّ قابل لذلك الفعل من قبيل ما يفعله النجّار في الخشب، حيث إنّ الخشب ليس فاعلاً للفعل وإنّما هو

60

قابل له، وليس لمبادئ الإرادة في نفس الإنسان أيّ دخل في الفعل، واقتران الفعل بالإرادة دائماً إنّما هو صدفة متكررّة، فصدور الفعل من الله يقترن صدفةً دائماً بإرادة الإنسان، وهذا مذهب الأشعريّ.

وهذا الاحتمال هو الذي ينبغي أن يكون مقابلاً بالوجدان المدّعى في كلماتهم، حيث قالوا: إنّ هناك فرقاً بالضرورة بين حركة المرتعش وحركة غير المرتعش. وهذا البحث ـ بحسب الحقيقة ـ لا يختصّ بالأفعال الاختياريّة، بل يأتي في كلّ عالم الأسباب والمسبّبات، فقد يقال: الإحراق شغل الله مباشرة يقترن بنحو الصدفة الدائميّة بالنار، والوجدان المبطل لذلك أيضاً عامّ يشمل كلّ عالم الأسباب والمسبّبات، وهو وجدان سليم بالقدر المبيّن في الاُسس المنطقيّة.

3 ـ أن يكون لكلّ من الإنسان والله تعالى نصيب في الفاعليّة، بمعنى كونهما فاعلين طوليّين، أي: أنّ الإنسان هو الفاعل المباشر للفعل بما اُوتي من قدرة وسلطان وعضلات، وتمام القوى التي استطاع بها أن يحرّك لسانه ويديه ورجليه، والله هو الفاعل غير المباشر من باب أنّ هذه القوى مخلوقة حدوثاً وبقاءً له تعالى، ومُفاضةٌ آناً فآناً، ومعطاة من قبل الله.

وهذا أحد الوجوه التي فسّر بها الأمر بين الأمرين.

4 ـ أن يكون الفاعل المباشر هو الله، لكن الإرادة ومبادئها مقدّمات إعداديّة لصدور الفعل من الله تعالى، ومعنى استناده إلى الإنسان إرادته إيّاه.

ففرقه عن الثاني: أنّ اقتران الفعل بالإرادة على الثاني كان مجرّد صدفة، وعلى هذا الوجه يكون من باب كون الإرادة مقدّمة إعداديّة للفعل، وفرقه عن الثالث أيضاً واضح؛ إذ على الثالث يكون الفعل فعل الإنسان مباشرة والله فاعل الفاعل، وأمّا على هذا الوجه فالله هو الفاعل المباشر، والإرادة مقدّمة إعداديّة لقابليّة المحلّ لإفاضة الفعل.

61

وهذا أحد وجوه الأمر بين الأمرين.

5 ـ ما ذهب إليه عرفاء الفلاسفة ومتصوّفوهم، وهو: أنّ الفعل له فاعلان: الله والعبد، ولكنّهما لا طوليّان كما على الثالث، ولا عرضيّان كما على الرابع، بل هي ـ بحسب الحقيقة ـ فاعليّة واحدة تنسب بنظر إلى العبد، وبنظر آخر إلى الله تعالى مبنيّاً منهم على تصوّر عرفانيّ يقول: إنّ نسبة العبد إلى الله نسبة الربط والفناء، والمعنى الحرفيّ إلى المعنى الاسميّ، فبالنظر الاندكاكيّ تعتبر هذه الفاعليّة فعل الله، وبالنظر غير الاندكاكيّ تعتبر فعل العبد(1).



(1) لا بأس بشيء من بسط الكلام في هذا الوجه ولو مختصراً، فنقول ومن الله التوفيق:

تعارف القول بأنّ الماهيّة من حيث هي ليست إلّا هي، وأنّها في مرتبة ذاتها ليست وجوداً ولا عدماً وإن كان لابدّ أن يحمل عليها: إمّا الوجود، وإمّا العدم، فهي: إمّا موجودة، وإمّا معدومة.

ولكن لا يخفى: أنّ هذا النوع من التصوّر يشتمل على شائبة أصالة الماهيّة، وعروض الوجود على الماهيّة شاء صاحبه أم أبى، ويفترض: أنّ للماهيّة ثبوتاً في عالم التقرّر، وتتلبّس: إمّا بثوب الوجود، أو بثوب العدم، في حين أنّ من الواضح: أنّه لا يتصوّر قبل الوجود شيء يلبس ثوب الوجود.

وبهذا ينهار البيان الفلسفيّ القائل: إنّ العالم مركّب من وجود وماهيّة، وإنّ الماهيّة إن كان ينبع من ذاتها الوجود كانت واجبة الوجود، وإلّا كانت ممكنة الوجود، أو ممتنعة الوجود، وبما أنّ العالم لا ينبع من ذاته الوجود؛ لأنّه متغيّر، والمتغيّر حادث، إذن فلابدّ له من علّة، ولابدّ من انتهاء العلّة إلى واجب الوجود.

والبيان الصحيح الذي يحلّ محلّ هذا البيان هو: أنّه لا شيء في العالم إلّا الوجود، وأمّا الماهيّة فليست إلّا عبارة عن حدّ الوجود وانتهاء الوجود، أي: أنّ الماهيّة عدم صِرف،

62



والذي يكون بذاته هو حقيقة الوجود المستقلّ يكون واجب الوجود، ولا يتصوّر العقل له حدّاً، وما لا يكون كذلك يكون عدماً صِرفاً، إلّا أن يوجد ويُخلَق، وبما أنّ كلّ ما في هذا العالم محدود، وكذلك هو متغيّر فيستحيل أن يكون هو واجب الوجود، فلابدّ من انتهائه إلى واجب الوجود.

وبكلمة اُخرى: إنّنا بدلاً عن أن نقسّم الشيء إلى ما يكون الوجود واجباً لماهيّته، أو ممتنعاً عليها، أو ممكناً لها نقسّمه إلى الوجود المستقلّ الواجب، أو الوجود التعلّقيّ، أو العدم.

وبما ذكرناه انهار أيضاً ما عن المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله): من أنّ كلّ وجود محدود له حدّان: حدّ وجوديّ وهو مقدار وجدانه المصحوب بالفقدان، وحدّ عدميّ وهو اللازم لحدّه الوجوديّ، وإن كان من ذوات الماهيّة فله حدّ ثالث وهو الحدّ الماهويّ(1).

وعلى أيّة حال، فإذا صحّ: أنّ الوجود اللامحدود هو واجب الوجود لا غيره، ثبت بذلك بعد ثبوت أصل الواجب تعالى أوّلاً: استحالة تعدّد واجب الوجود؛ إذ لو تعدّد لشكّل كلّ واحد منهما حدّاً للآخر؛ لأنّ أحدهما يجب أن ينتهي منذ أن يبدأ الآخر.

وثانياً: استحالة ثبوت وجود آخر ولو ممكناً بحيث يحدّ وجود ذلك الواجب؛ لأنّه لو صار الواجب محدوداً لكان ذلك خلف وجوبه.

ولتطبيق هذه النتيجة الثانية على واقع الحال ـ من وجود إله خالق وعالم مخلوق ـ




(1) راجع كتاب (توحيد علمي وعيني) الرسالة الرابعة للشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله) جواب على رسالة السيّد أحمد الكربلائيّ(رحمه الله)، ص 96. والصحيح: أنّ للوجود المحدود حدّاً واحداً إن شئت فسمّه بحدّه العدميّ، وإن شئت فسمّه بحدّه الماهويّ.

63





تصويرات ثلاثة لا رابع لها، بعد التسليم بوجود العالم حقيقةً:


التصوير الأوّل: افتراض: أنّ واجب الوجود، أو الوجود المطلق لا يحدّه إلّا واجب مثله، أو وجود مطلق مثله، وأمّا الوجودات المخلوقة فليست حدّاً لوجود الواجب؛ ولهذا اجتمع بالفعل وجود واجب الوجود من ناحية، ووجود عالم مخلوق له من ناحية اُخرى.


إلّا أنّ هذا التصوير ما لم يرجع إلى التصوير الثاني يبدو بظاهره واضح البطلان؛ لما قد يقال: من أنّ الوجود المطلق إن كان مطلقاً حقّاً لم يبقَ مجال لأيّ وجود آخر، وأيّ وجود آخر يفترض في مقابل هذا الوجود يعني ذلك انتهاء ذاك الوجود المطلق من حين ابتداء هذا الوجود، ومجرّد افتراض رابطة التعلّق بين الوجودين على شكل كون الوجود المطلق علّة أو خالقاً، والوجود الآخر المحدود معلولاً أو مخلوقاً لا يحلّ مشكلة استحالة وجود آخر إلى صفّ الوجود المطلق.


التصوير الثاني: افتراض: أنّ إطلاق الوجود يعني إطلاق الوجود المستقلّ، ولا تعارضه الوجودات التعلّقيّة، فإنّنا لا نفترض وجودات مستقلّة متّصفة فيما بينها بصفة العلّيّة والمعلوليّة، كي تحدّ تلك الوجودات المستقلّة المعلولة وجودَ العلّة.


وبكلمة اُخرى: إنّنا لا نفترض: أنّ نسبة الواجب تعالى إلى مخلوقاته كنسبة العلل والمعلولات المادّيّة التي ألِفناها، والتي يفترض فيها وجودان مستقلاّن بينهما رابطة التعلّق، أو نسبة العلّيّة والمعلوليّة، بل نقول: إنّ وجودات المخلوقات هي كلّها وجودات تعلّقيّة، في حين أنّ وجود الله تعالى هو الوجود المستقلّ المطلق، فليس هذا التعلّق خيطاً رابطاً بين شيئين مستقلّين، بل المخلوق هو عين التعلّق والارتباط، وهذا هو الفهم السائد بين الفلاسفة الإسلاميّين، وعلى هذا الأساس قالوا: إنّ علم الله سبحانه بمخلوقاته علم حضوريّ، لا حصوليّ.


64



التصوير الثالث: ما نسب إلى جمع من العرفاء(1): من أنّ أيّ وجود يفترض غير وجودالله سبحانه وتعالى يكون ذلك حدّاً لوجوده تعالى، سواء فرضناه وجوداً استقلاليّاً أو فرضناه وجوداً تعلّقيّاً، فهو مادام شريكاً مع الله في الوجود ولو بمرتبة افترضناها نازلة فقد شكّل هذا الوجود حدّاً لوجوده سبحانه وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، ولا فرق في لزوم التحديد بين أن يفترض وجود في مقابل وجود الله صغير كجناح بعوضة، أو ذرّة لا تُرى بالعين، أو هو أصغر من ذلك، أو يفترض وجود من أعظم الخلائق وأكبرها، وبين أن يفترض وجود من أعلى مراتب الوجود شدّةً وقوّةً وكثرةً، أو من أدناها مرتبة وضعفاً وقلّة.

وعليه فالواقع: أنّ الممكنات أو الماهيّات ـ في الحقيقة ـ هي شبكات لذلك الوجود المستقلّ المطلق، وهو وجود الله تعالى، ويرى من خلالها ذاك الوجود. إذن فصاحب هذا الرأي لا يقول بأنّ العالم وهم وخيال، أو اعتبار محض لا وجود له، أو أنّ إطلاق عنوان الموجود فيه يكون على أساس مجرّد نسبته إلى وجود الله من قبيل التامر واللابن نسبةً إلى التمر واللبن، ولا يرى: أنّ وجود الله حلّ في الوجودات الممكنة أو اتّحد معها، أو ما إلى ذلك من عناوين تقتضي نوعاً من الاثنينيّة أوّلاً، ثُمّ الحلول أو الاتّحاد، بل يرى صريحاً: أنّ العالم بكلّ ما يزخر به ظاهراً من الممكنات شبكة يُرى بها وجود الله الذي هو الوجود الحقيقيّ والمستقلّ والمطلق البسيط وغير المشكّك وإن كان المرئيّ كأنّه يتقدّر


(1) راجع كتاب (توحيد علمي وعيني) تذييل السيّد محمّد حسين الحسينيّ الطهرانيّ على الرسالة الرابعة للشيخ الإصفهانيّ (رحمه الله)، ص 195 ـ 220. وصاحب التذييل يدّعي أنّ هذا هو رأي جميع العرفاء بالله.

65



بتقديرات اعتباريّة باختلاف الشبكات التي يرى بها الرائي، ويعتقد عادة أصحاب هذا المسلك أنّ هذا سرّ لا يصحّ إفشاؤه أمام عامّة الناس؛ لأنّهم لا يدركونه ولا يتحمّلونه، وعلى هذا الأساس قال القائل بالفارسيّة:

گفت آن يار كزو گشت سردار بلند *** جرمش اين بود كه اسرار هويدا مى كرد(1)

وكأنّ كلاًّ من أصحاب هذين التصويرين: الثاني والثالث ينزّل على ما يقوله الآيات القرآنيّة، من قبيل قوله تعالى:

1 ـ (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ)(2).

2 ـ (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ)(3).

3 ـ (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ)(4).

4 ـ (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَة إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا)(5).

5 ـ (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ)(6).


(1) الغزل رقم 142 لحافظ.

(2) سورة الزخرف، الآية: 84.

(3) سورة الحديد، الآية: 3.

(4) سورة الحديد، الآية: 4.

(5) سورة المجادلة، الآية: 7.

(6) سورة الأنفال، الآية: 24.

66



6 ـ (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)(1).

وكذلك بعض الكلمات المنقولة عن إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام) كأنّه يفسّرها كلّ من أصحاب هذين التصويرين لصالح ما يتصوّره، من قبيل قوله:

1 ـ «مع كلّ شيء لا بمقارنة، وغير كلّ شيء لا بمزايلة»(2).

2 ـ «هو في الأشياء على غير ممازجة، خارج منها على غير مباينة، فوق كلّ شيء، فلا يقال: شيء فوقه، وأمام كلّ شيء، فلا يقال: له أمام، داخل في الأشياء لا كشيء في شيء داخل، وخارج منها لا كشيء من شيء خارج»(3).

3 ـ «ليس في الأشياء بوالج، ولا عنها بخارج»(4).

67



(1) سورة ق، الآية: 16، راجع (توحيد علمي وعيني)، ص 198 ترى السيّد محمّد حسين الحسينيّ الطهرانيّ يستشهد بمثل هذه الآيات على مختاره من انحصار الوجود بالله تعالى، وأنّ الممكنات وجودات مجازيّة، أو شبكات يُرى بها وجود الله.

إلّا أنّ هذه الآيات ـ كما ترى ـ تنسجم أيضاً مع التصوير الثاني، وهو تصوير الوجودات الممكنة وجوداً تعلّقيّاً، وانحصار الوجود المستقلّ بالله تعالى، وهذا خيرة السيّد الإمام الخمينيّ (رحمه الله) في كتابه في الطلب والإرادة، ص 64 و73 بحسب الطبعة المشتملة على ترجمة وشرح السيّد الفهريّ (رحمه الله)، وراجع كتاب الإلهيّات للشيخ السبحانيّ بقلم المكّيّ العامليّ (حفظهما الله) تراه يستشهد بمثل هذه الآيات لما يختاره من أنّ وجودنا وجود تعلّقيّ، وأنّ الوجود المستقلّ منحصر بالله تعالى، وذلك في ج 1، ص 695.

(2) نهج البلاغة، طبعة الفيض، ص 15.

(3) التوحيد، ص 306 بحسب طبعة جماعة المدرّسين، ح 1، من ب 43.

(4) نهج البلاغة، ص 737 بحسب طبعة الفيض.

أقول: لابدّ من توجيه سؤال إلى صاحب التصوير الثالث، وهو: أنّه لئن كانت الممكنات عبارة عن الهيئات التي هي شبكات مصوّرة على وجود الله تعالى، وتلك الشبكات هي أعدام بحت واعتباريّات صرف، إذن فمن المخاطب بالتكاليف الشرعيّة، هل هو ما يُرى من هذه الشبكات من وجود الله، أو نفس الشبكات التي هي أعدام، أو المجموع المركّب منهما تركيباً اعتباريّاً؟ ومن الذي يثاب ومن الذي يعاقب؟ وما هو الهدف من بعث الرسل وإنزال الكتب؟! ثمّ ما الذي خلقه الله تعالى، هل هو المرئيّ بالشبكة وهو الله تعالى، أو نفس الشبكة الذي هو عدم محض، أو إنّ المقصود بالخلق هو مجرّد الاعتبار الذي لا يكون وحده إلّا لعباً، وهو يقول:(مَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ)(1).

أمّا حديث كون الوجود التعلّقيّ حدّاً للوجود المطلق الإلهيّ، فكلام غريب؛ لأنّ الوجود التعلّقيّ إنّما يعتبر حدّاً لذاك الوجود لو كان يفسح عدمُه مجالاً لامتداد ذاك الوجود المطلق، فيقال: إنّ هذا الوجود يعني حدّاً لذاك؛ إذ لا يبدأ هذا إلّا من حين ينتهي ذاك، ولكن الأمر ليس كذلك؛ لأنّ عدم الوجود التعلّقيّ لو فسح مجالاً للامتداد، لكان الامتداد وجوداً تعلّقيّاً، وتعالى الله عن أن يكون له وجود تعلّقيّ، سواء وجد وجود تعلّقيّ آخر أو لم يوجد، فأيّ تأثير في حساب البرهان الذي اقتضى الإطلاق والصرافة في وجود الله لوجود تعلّقيّ مخلوق لله تعالى؟! والبرهان إنّما اقتضى الوجود المستقلّ لواجب الوجود لا شيئاً آخر، بل البرهان ناف للوجود التعلّقيّ عنه، فالذي ينافي البرهان إنّما هو فرض وجود مستقلّ آخر، فهو الذي ينفي صرافة الوجود المستقلّ لله تعالى.

نعم، لا شكّ أنّ الآيات المشار إليها والأحاديث التي نقلناها عن عليّ(عليه السلام) وما أشبهها


(1) سورة الأنبياء، الآية: 16.

68



تنفي الفهم الساذج البسيط لبعض عوام الناس الذي يعني كون نسبة الله إلى العالم كنسبة العلل المادّيّة إلى معلولاتها المادّيّة التي تنفصل عن عللها، أو كبنّاء بنى بيتاً ثُمّ انفصل عنه، ولكن لا ظهور لها في التصوير الثالث في مقابل التصوير الثاني، ولو فرض لها ظهور في ذلك، لكان ظهوراً منصدماً بحكم العقل.

وأمّا مسألة الأمر بين الأمرين التي كانت هي مصبّ بحثنا، فالشيخ الإصفهانيّ (رحمه الله)بعد ما اختاره من التصوير الثاني من التصويرات الثلاثة الماضية، وهو: أنّ وجود المخلوق عبارة عن عين الوجود التعلّقيّ والربط بالخالق تعالى قال: «وهذه الإضافة سمّيت بالإضافة الإشراقيّة في قبال الإضافة المقوليّة المتقوّمة بطرفين حقيقيّين، وهذه الإضافة الإشراقيّة من حيث القيام بفاعلها إيجاد، ومن حيث القيام بقابلها وجود، ومنه يظهر سرّ الأمر بين الأمرين»(1).

انتهى ما أردنا نقله، وكأنّ مقصوده (رحمه الله) هو: أنّ فعل الإنسان بما له من إضافة إشراقيّة إليه، ويكون المُشرق في هذه الإضافة نفس الإنسان يكون فعلاً منتسباً إليه، وبما أنّ نفس الإنسان له إضافة إشراقيّة إلى الله، ويكون المُشرق هو الله تعالى ففعله أيضاً مضاف ـ لا محالة ـ إضافة إشراقيّة إلى الله، ومنتسب إليه، فلا هو مفوّض إلى العبد نهائيّاً، ولا هو أجنبيّ عن الله سبحانه، بل هو أمر بين الأمرين.

أقول: إنّ الأمر بين الأمرين بهذا المعنى الذي هو الاحتمال الخامس لا يحسم أيضاً مسألة الجبر والاختيار الفلسفيّة، فلابدّ لحسم ذلك من خوض المسألة الثانية، وهذا ما فعله اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في المتن.


(1) توحيد علمي وعيني، الرسالة الرابعة للشيخ الإصفهانيّ (رحمه الله) إلى السيّد أحمد الكربلائيّ (رحمه الله)، ص 92.

69



وإنّما يكون الأمر بين الأمرين بهذا المعنى وسطاً بين الجبر بمعنى كون الفعل فعل الله وحده، وكون الإنسان محلاًّ لذلك الفعل كما هو الحال في فعل النجّار في الخشب حينما يصنع منه سريراً مثلاً، والتفويض بمعنى كون الفعل فعلاً للعبد وحده.

وعليه، فقد تحصّل: أنّ للأمر بين الأمرين معاني ثلاثة:

الأوّل: كون الفاعل المباشر هو الله تعالى، مع افتراض: أنّ الإرادة ومبادئها في العبد مقدّمات إعداديّة لصدور الفعل من الله، وهذا هو الاحتمال الرابع من الاحتمالات الخمسة المذكورة في المتن.

وهذا الوجه باطل بالوجدان المثبت لانتساب الفعل المباشر للإنسان.

والثاني: كون الفاعل المباشر هو الإنسان، والفاعل الطوليّ هو الله سبحانه بإفاضته آناً فآناً الوجود والقدرة للفاعل المباشر.

وقد أفاد السيّد الخوئيّ (رحمه الله) لتشريح فكرة الأمر بين الأمرين بهذا المعنى، مع فكرتي الجبر والتفويض في مقابل هذه الفكرة مثالاً عرفيّاً يفترق به كلّ من المذاهب الثلاثة عن الآخرين، فقال: إذا فرضنا أنّ المولى أعطى لعبده سيفاً مع علمه بأنّه يقتل به نفساً، فالقتل إذا صدر منه باختياره لا يكون مستنداً إلى المولى بوجه؛ فإنّه حين صدوره يكون أجنبيّاً عنه بالكلّيّة، غاية الأمر: أنّه هيّأ بإعطائه السيف مقدّمة إعداديّة من مقدّمات القتل، وبعد ذلك قد خرج أمر القتل عن اختياره بحيث لو شاء أن لا يقع في الخارج لما تمكّن منه، وهذا هو واقع التفويض وحقيقته، كما أنّه إذا شدّ آلة الجرح بيد العبد مع فرض ارتعاش اليد بغير اختيار العبد فأصابت الآلة من جهة الارتعاش نفساً فجرحته، فالجرح لا يكون صادراً من العبد بإرادته واختياره، بل هو مقهور عليه في صدوره منه لا محالة، وهذا هو واقع الجبر وحقيقته، وإذا فرضنا أنّ يد العبد مشلولة لا يتمكّن من تحريكها إلّا مع إيصال الحرارة إليها بالقوّة الكهربائيّة أو بغيرها،

70



فأوصل المولى القوّة إليها بواسطة سلك يكون أحد طرفيه بيد المولى، فذهب العبد باختياره إلى قتل نفس والمولى يعلم بذلك، فالفعل بما أنّه صادر من العبد باختياره فهو اختياريّ له، وليس بمقهور عليه، وبما أنّ السلك بيد المولى وهو الذي يعطي القوّة للعبد آناً فآناً فالفعل مستند إليه، وكلّ من الإسنادين حقيقيّ من دون أن يكون هناك تكلّف أو عناية، وهذا واقع الأمر بين الأمرين، فالأفعال الصادرة من المخلوقين بما أنّها تصدر منهم بالإرادة والاختيار فهم مختارون في أفعالهم من دون أن تكون هناك شائبة القهر والإجبار، وبما أنّ فيض الوجود والقدرة والشعور وغيرها من مبادئ الفعل يجري عليهم من قبل الله تعالى آناً فآناً بحيث لو انقطع عنهم الفيض آناً واحداً لما تمكّن العبد فيه من فعل أبداً، فالأفعال الاختياريّة بين الجبر والتفويض، ومنتسبة إلى المخلوقين من جهة وإلى الخالق من جهة اُخرى(1).

وهذا هو الاحتمال الثالث من الاحتمالات الخمسة المذكورة في المتن.

وقد علّق على هذا الكلام الشيخ السبحانيّ (حفظه الله) بما يلي:

هذا التمثيل مع كونه رفيع المنزلة في تبيين المقصود، إلّا أنّ الفلاسفة الإلهيّين لا يرضون بالقول بأنّ النفس تستخدم قواها كمن يستخدم كاتباً أو نقّاشاً، قائلين بأنّ مقام النفس بالنسبة إلى قواها أرفع من ذلك؛ لأنّ مستخدم البنّاء لا يلزم أن يكون بنّاءً، ومستخدم الكاتب لا يكون كاتباً، فلو كانت النفس بالنسبة لاستخدام قواها كذلك لم يجب أن يكون المستخدم سميعاً وبصيراً لدى استخدام السامعة والباصرة، في حين أنّ النفس هي السميعة البصيرة، فإذا كانت نسبة النفس إلى قواها فوق التسبيب والاستخدام، فكيف


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، المشتمل على تعاليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، ص 90، وراجع المحاضرات، ج 2، ص 87 ـ 89 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

71



مثله سبحانه وهو الخالق القيّوم، وما سواه قائم به قوام المعنى الحرفيّ بالاسميّ.

أقول: إنّ في المثال الذي ذكره (حفظه الله) من البنّاء والكاتب مناقشة، فإنّ السيّد الخوئيّ (رحمه الله) لم يجعل تسبيب الله سبحانه وتعالى كتسبيب مستخدم البنّاء والكاتب، فإنّ قدرة البنّاء والكاتب ليست مستمدّة آناً فآناً من الذي استخدمهما، فقد يقول السيّد الخوئيّ (رحمه الله): إنّ من أوصل التيّار الكهربائيّ إلى يد عبده المشلول، وأعطى بيده السيف ماسكاً زمام السلك حتّى نهاية القتل يكون قاتلاً.

إلّا أنّه مع ذلك يكون روح اعتراض الشيخ السبحانيّ وارداً في المقام برغم قصور عبارة الشيخ السبحانيّ (حفظه الله) فيما ذكره من التمثيل، فروح المطلب هو: أنّ إضافة الخالق ـ جلّ وعلا ـ إلى المخلوقين وإلى أفعالهم إضافة إشراقيّة كإضافة النفس إلى قواها، وليست إضافة مقوليّة كإضافة موصل السلك أو إيصاله إلى عمل العبد المشلول.

والثالث: أنّ فعل العبد من ناحية يكون قائماً بالمولى عزّ وجل؛ لكون الفعل وجوداً إمكانيّاً، والوجود الإمكانيّ حقيقته التعلّق والصلة والربط، كما أنّه في نفس الوقت لا يمكن إنكار دور العبد فيه، فهو فعل صادر من العبد وباختياره، فليس الفعل فعله سبحانه بحيث يكون منقطعاً عن العبد بتاتاً، ويكون دوره دور المحلّ والظرف لظهور الفعل، بل هو فاعل، كما أنّه ليس فعل العبد فقط حتّى يكون منقطعاً عن الواجب قضاءً لحقّ الإضافة الإشراقيّة، وكون الفعل والفاعل أمرين ممكنين، وكون حقيقة الوجود الإمكانيّ عبارة عن محض التعلّق والصلة والربط. وفي هذه النظريّة جمال التوحيد الأفعاليّ منزّهاً عن الجبر، وفيها محاسن العدل منزّهاً عن مغبّة الشرك والثنويّة(1).


(1) راجع الإلهيّات، للشيخ السبحانيّ، ج 1، ص 685 ـ 695.

72

هذه هي الاحتمالات الخمسة في المقام، والاحتمال الأوّل ساقط بالبرهان، والثاني ساقط بالوجدان، والخامس مبنيّ على تصوّر صوفيّ لا نفهمه، فيبقى الثالث والرابع، وكلّ منهما يمكن تطبيق أمر بين الأمرين الموروث عن الأئمّة(عليهم السلام) عليه.

وبعد هذا ننتقل إلى المسألة الفلسفيّة، وهي التي تنحسم بها مسألة الجبر



وهذا هو الاحتمال الخامس من الاحتمالات الخمسة المشار إليها في المتن. وهو مختارنا بعد تفسيره بهذ الشكل الذي عرفت.

وكأنّه إلى هذا يشير مثل قوله سبحانه وتعالى: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى)(1)، وقوله عزّ وجلّ: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ)(2)، وقوله عزّ من قائل: (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِين)(3)، في حين أنّ السيّد الخوئيّ (رحمه الله) صاحب التمثيل السابق يؤوّل هذه الآيات بمعنى مشيئة الله سبحانه لمبادئ الأفعال المفاضة من قبل الله تعالى للعبد، أو مشيئته الطوليّة لتلك الأفعال(4).

ومَثَل الله سبحانه وتعالى في الإضافة الإشراقيّة إلى مخلوقاته ـ كما أشرنا ـ هي إضافة النفس إلى مخلوقاتها، ولعلّ هذا جزء ممّا يشير إليه قوله سبحانه وتعالى: (وَفِي الاَْرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ)(5) والرواية الواردة: «من عرف نفسه عرف ربّه»(6).


(1) سورة الأنفال، الآية: 17.

(2) سورة التوبة، الآية: 14.

(3) سورة التكوير، الآية: 29.

(4) راجع المحاضرات، ج 2، ص 94 ـ 95 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف.

(5) سورة الذاريات، الآية: 20 ـ 21.

(6) غرر الحكم، ص 268 طبعة النجف.

73

والاختيار، حيث إنّ مجرّد اختيار المذهب الشيعيّ في المسألة الاُولى القائل بأنّ للإنسان دخلاً في الفاعليّة كما أنّ لله تعالى دخلاً فيها، أو اختيار المذهب المعتزليّ القائل بأنّ الإنسان هو الفاعل محضاً لا يُحتّم كون الإنسان مختاراً غير مجبور في فعل، فلعلّ صدور الفعل من الإنسان كصدور الإحراق من النار بناءً على فاعليّة النار للإحراق. نعم، لو اختير في المسألة الاُولى المذهب الأشعريّ القائل بكون الفاعل هو الله محضاً، لثبت كون الإنسان غير مختار، فهذا المسلك وإن كان يكفي لإثبات الجبر لكن المسلكين الآخرين لا يكفيان لإثبات الاختيار، فلابدّ من المسألة الثانية لحسم مسألة الجبر والاختيار فنقول:

المسألة الفلسفيّة:

وأمّا المسألة الثانية: فهي ـ في الحقيقة ـ نشأت لدفع شبهة فلسفيّة تنفي الاختيار حتّى بعد الاعتراف بأنّ الفعل فعل الإنسان، وهذه الشبهة مركّبة من مقدّمتين:

الاُولى: أنّ الاختيار ينافي الضرورة؛ فإنّ الضرورة تساوق الاضطرار المقابل للاختيار من قبيل حركة يد المرتعش التي هي ضروريّة.

الثانية: أنّ صدور الفعل من الإنسان يكون بالضرورة؛ لأنّ الفعل الصادر منه ممكن من الممكنات، فتسوده القوانين السائدة في كلّ عالم الإمكان القائلة بأنّ الممكن ما لم يجب بالغير لم يوجد، فبالجمع بين هاتين المقدّمتين يثبت أنّ الإنسان غير مختار في أفعاله؛ إذ لا يصدر منه فعل إلّا بالضرورة، والضرورة تنافي الاختيار.

وهذه الشبهة اختلفت المسالك والمباني في كيفيّة التخلّص عنها، فبعضها يرجع إلى المناقشة في المقدّمة الاُولى، وبعضها يرجع إلى المناقشة في المقدّمة الثانية، فنقول:

74

المسلك الأوّل: ما ذهب إليه المشهور من الفلاسفة، فهم اعترفوا بالمقدّمة الثانية، وهي: أنّ فعل الإنسان مسبوق بالضرورة، ولكنّهم ناقشوا المقدّمة الاُولى، وهي: أنّ الضرورة تنافي الاختيار؛ وذلك أنّهم فسّروا الأختيار بأنّ مرجعه إلى القضيّة الشرطيّة القائلة: إن شاء وأراد فعل وإلّا لم يفعل، والقضيّة الشرطيّة لا تتكفّل حال شرطها، وأنّه: هل هو موجود بالضرورة، أو معدوم بالضرورة، أو لا، فمتى ما صدقت هذه القضيّة الشرطيّة فقد صدق الاختيار حتّى إذا فرض أنّ الشرط ـ وهو الإرادة مثلاً ـ كان ضروريّاً، فكان الجزاء ضروريّاً بالغير، أو كان ممتنعاً، فكان الجزاء ممتنعاً بالغير من دون فرق بين أن يكون وجوب الشرط وامتناعه بالغير كما في الإنسان، أو بالذات كما يفترضونه في حقّ الباري تعالى؛ لأنّ صفاته واجبة بالذات؛ لأنّها عين ذاته، وضرورة الفعل الناشئة من الإرادة لا تنافي الاختيار، بل تؤكّده؛ لأنّ الاختياريّة تكون بصدق القضيّة الشرطيّة القائلة: لو أراد لصلّى مثلاً، فإذا ثبت أنّ الصلاة تصبح ضروريّة عند الإرادة، فهذا تأكيد للملازمة، وتحقيق بتّيّ لصدق القضيّة الشرطيّة، وبدون هذه الضرورة تكذب القضيّة الشرطيّة، وليست مضمونة الصدق.

والحاصل: أنّ الاختيار صادق متى ما صدقت هذه القضيّة الشرطيّة كما في حركة يد السليم، وغير صادق متى ما لم تصدق القضيّة الشرطيّة كما في حركة يد المرتعش، وهذا لا ينافي ضرورة الفعل بالإرادة، ولا ضرورة الإرادة نفسها، وهذا مرجع ما قاله صاحب الكفاية: من أنّ الفعل الاختياريّ ما يكون صادراً عن الإرادة بمبادئها، لا ما يكون صادراً عن إرادة صادرة عن الاختيار، وهكذا.

وهذا الكلام الذي قاله هؤلاء الفلاسفة والحكماء ـ بحسب الحقيقة ـ مبنيّ على ما ذكرناه من التفسير للاختيار، وهو: أنّه عبارة عن صدق تلك القضيّة الشرطيّة، وبعد فرض التسليم بهذا التفسير يتمّ استدلالهم في المقام، وهو: أنّ هذه القضيّة

75

الشرطيّة صادقة في جميع موارد الاختيار، ولا يضرّ به الوجوب بالذات أو بالغير.

إلّا أنّ الشأن في صحّة هذا التفسير؛ فإنّه إن كان مجرّد اصطلاح للفلاسفة لأجل تغطية المسألة، فلا مشاحّة معهم في الاصطلاح، وإن كان مرجعه إلى تشخيص معنى الاختيار لغة، وأنّ واضع اللغة هكذا وضع لفظة الاختيار، فأيضاً لا كلام لنا معهم؛ إذ ليس بحثنا لغويّاً لنرى أنّ الواضع لأيّ معنىً وضع لفظ الاختيار، وأمّا إن كان المنظور الاستطراق إلى التكليف والحساب، وتوضيح الفارق بين حركة أمعاء الإنسان وحركة أصابعه الذي جعل الإنسان يحاسب على الثانية دون الاُولى (سواء فرضنا أنّ لكلمة الاختيار معنىً في اللغة أو لا)، فحينئذ نقول: تارةً نتكلّم على ما هو الحقّ من التسليم بالحسن والقبح العقليّين، واُخرى نتكلّم بناءً على إنكار ذلك كما أنكره الأشاعرة صريحاً، وأنكره الفلاسفة بشكل مستور، حيث أرجعوا الحسن والقبح إلى الاُمور العقلائيّة والمشهورة:

أمّا بناءً على ما هو الحقّ من التسليم بالحسن والقبح العقليّين، فلا محصّل لكلّ هذه الكلمات في تخلّصهم من المشكلة، فإنّ حركة الأصابع إذا كانت ناشئة بالضرورة من الإرادة، والإرادة ناشئة بالضرورة من مبادئها، وهي ناشئة بالضرورة من عللها، وهكذا إلى أن ينتهي الأمر إلى الواجب بالذات، فحالها تماماً حال حركة الأمعاء عند الخوف مثلاً الناشئة بالضرورة من عامل الخوف الناشيء بالضرورة من عوامل مؤثّرة في النفس الناشئة من عللها، وهكذا إلى أن ينتهي الأمر إلى الواجب بالذات، وكما تقبح المحاسبة والعقاب على الثاني كذلك تقبح على الأوّل بلا أيّ فرق بينهما، سوى أنّ واضع اللغة سمّى الأوّل اختياريّاً دون الثاني.

وأمّا بناءً على إنكار الحسن والقبح العقليّين، فلا تبقى مشكلة من ناحية قبح المحاسبة والعقاب حتّى نحتاج إلى حلها. نعم، تبقى فقط مشكلة لَغْويّة التكليف،

76

وأنّه لا فائدة فيه بناءً على عدم الاختيار، فما الذي يدعُو المولى إلى التكليف والخطاب؟ وعندئذ يكفي ما ذكروه لحلّ هذه المشكلة؛ فإنّ الحركة الناشئة من الإرادة وإن كانت ضروريّة كحركة الأمعاء لكنّها سنخ فعل يمكن التدخّل التشريعيّ فيه (على خلاف سائر الاُمور الضروريّة) بالتكليف والتخويف بالعقاب، فمن يشتهي الأكل من الطعام الحرام لو علم بأنّه يضرب ضرباً أشدّ من لذّة الطعام، لأحجم عن ذلك ولو بلا اختيار، بخلاف حركة الأمعاء مثلاً؛ فإنّه حتّى لو عرف الضرب على تقدير الحركة تبقى الأمعاء تتحرّك.

هذا صفوة ما يمكن أن يقال في التعليق على هذا المسلك.

المسلك الثاني: يعاكس المسلك الأوّل، فيسلّم بالمقدّمة الاُولى، وأنّ الضرورة تساوق الاضطرار المنافي للاختيار، ويناقش في المقدّمة الثانية، فينكر قوانين العلّيّة، ويفرض أنّ الشيء ينتقل رأساً من عالم الإمكان إلى عالم الوجود بلا حاجة إلى توسيط الضرورة. ومال إلى هذا المسلك بعض الفلاسفة المتأخّرين من غير المسلمين، وتخيّلوا: أنّ هذا يساوق الاختيار والحرّيّة؛ إذ يبقى الفعل ممكناً حتّى حين صدوره.

وهذا المسلك حاله حال أصل الشبهة في ارتكاب الخطأ، فإنّ أصل الشبهة جعلت الضرورة بقول مطلق منافية للاختيار، وهذا المسلك جعل الإمكان ونفي الضرورة ونفي مبادئ العلّيّة مساوقاً للاختيار، وكلاهما غير صحيح:

أمّا الأوّل: فلأنّ الضرورة إذا كانت في طول الاختيار فهي لا تنافي الاختيار، وإلّا فهي تنافيه، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ الكلام في ذلك.

وأمّا الثاني: فلأنّ مجرّد كون الفعل ليس ضروريّاً لا يكفي في كونه اختياريّاً للفاعل؛ فإنّ إنكار مبادئ العلّيّة معناه ـ بحسب الحقيقة ـ التسليم بالصدفة، ومن الواضح: أنّ الصدفة غير الاختيار، فلو فرض ـ محالاً ـ أنّ الماء غلا بلا علّة وبلا نار، فهذا معناه: تحقّق الغليان صدفة، وليس معناه: أنّ الغليان كان اختياريّاً للماء؛

77

لأنّه وجد بلا علّة؛ فإنّ هذا غير ما يراه العقل اختياراً.

المسلك الثالث: ما قد يتفصّى به أيضاً بعض المُحدثين، وحاصله: أنّ الكائنات التي تعيش في ظلّ هذه الطبيعة نرى أنّها مختلفة في مقدار تحديد الطبيعة لها في مجال سيرها، فمثلاً الحجر الذي قذف به إلى أعلى يكون مجال سيره محدّداً مِائة بالمِائة ومن جميع الجهات، فقد فرض عليه أن يسير إلى أعلى بنحو مخصوص وإلى حدّ معيّن إلى أن تنتهي قوّة الدفع، فيرجع إلى أسفل محدَّداً أيضاً سيره من جميع الجهات بحيث يمكن التنبّؤ بالدقّة عن حال صعوده ونزوله، وتعيين وضعه في السير صعوداً ونزولاً بالضبط، هذا حال الحجر. وأمّا الحيوان الذي يضرب بحجر فيفرّ، فالطبيعة لم تحدّد له سيره تحديداً كاملاً، بل له عدّة فرص، ولذا لا يتاح لنا بالدقّة التنبّؤ بأنّه من أيّ جهة سيهرب؟ وأكثر منه فرصةً الإنسان؛ وذلك لأمرين:

الأوّل: أنّ ميوله وغرائزه أكثر تعقيداً وأشدّ من الحيوان، فمثلاً بينما الحيوان يفرّ حينما يرى الحجر متوجّهاً إليه قد يميل الإنسان إلى أن يقف ويتلقّف الحجر.

والثاني: أنّه اُوتي عقلاً يحكّمه في أفعاله ويلحظ المصالح والمفاسد.

وهذه الفرص كلّها تصعّب التنبّؤ بما سوف يفعل، والاختيار ينتزع من هذه الفرصة التي تعطيه الطبيعة.

وهذا الكلام وإن صدر من جملة من الفلاسفة المحدثين إلّا أنّه لا يرجع إلى محصّل؛ إذ مرجعه إلى أنّ الاختيار أمر وهميّ؛ إذ كون الفرصة في الإنسان أكثر منها في الحيوان، وفيه أكثر منها في الحجر، فتمنع الفرصة عن التنبّؤ مرجعه إلى عدم الإطلاع للمتنبّئ على كلّ الخصوصيّات الدخيلة في تصرّف الإنسان أو الحيوان لشدّة تعقيدها، وهذه الفرصة انتزعت وهماً من هذه الخصوصيّات المجهولة عند المتنبّئ، ولو أنّه اطّلع على كلّ الخصوصيّات، لتنبّأ كما يتنبّأ حال الحجر، وهذا هو عين القول بالجبر.

78

المسلك الرابع: ما ذهب إليه المحقّق النائينيّ (رحمه الله)، حيث إنّه سلّم بالمقدّمة الاُولى والثانية معاً، إلّا أنّه لم يقبل إطلاق المقدّمة الثانية، وقال بأنّ قوانين العلّيّة لا تشمل الأفعال الاختياريّة للإنسان، فالإنسان حينما يلتفت إلى عمل ما كالصلاة، وتنقدح في نفسه الإرادة الجدّيّة الكاملة لا يحصل وجوب وضرورة للصلاة بمعنىً يخرجها عن قدرة الإنسان، فالنفس حتّى بعد الإرادة يبقى بإمكانها أن تتحرّك نحو الصلاة أو لا تتحرّك، وحينما تصدر منها الصلاة قد صدر ـ في الحقيقة ـ من النفس بعدما تمّت عندها الإرادة عملان طوليّان:

أحدهما: فعل خارجيّ وهو الصلاة، والآخر: فعل نفسانيّ قائم بصقع النفس، وهو أسبق رتبة من الفعل الخارجيّ، وهو تأثير النفس وحملتها وإعمالها للقدرة، فالفعل يوجد بإعمال القدرة والاختيار، وهذا الفعل النفسانيّ ـ وهو إعمال القدرة والتحرّك والتأثير ـ نسبته إلى النفس نسبة الفعل إلى الفاعل، لا نسبة العرض إلى محلّه كالإرادة، وهذه الحملة والتحرّك التي هي فعل نفسانيّ ليست معلولة للإرادة وفقاً لقوانين العلّيّة، بل النفس بعد الإرادة يبقى بإمكانها أن تتحرّك نحو الفعل وأن لا تتحرّك.

وإذا لاحظنا هذين الفعلين نرى أنّهما اختياريان: أمّا فعلها الأوّل وهو توجّه النفس وتأثيرها فهو أمر اختياريّ؛ إذ لم يتحتّم ولم يصبح وجوده ضروريّاً بالإرادة حتّى يلزم خروجه من الاختيار. وأمّا فعلها الثاني وهو الفعل الخارجيّ كالصلاة، فهو وإن أصبح ضروريّاً بعد الاختيار لكن هذه الضرورة لا تنافي الاختيار؛ لأنّها ضرورة نشأت من الاختيار؛ إذ نشأت من الفعل الأوّل الذي هو عين اختيار النفس وإعمالها لقدرتها، والضرورة في طول الاختيار لا تنافي الاختيار(1).



(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 131 ـ 133 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ج 1، ص 89 ـ 91 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ (رحمه الله).

79

أقول: إنّنا نقبل من المحقّق النائينيّ (رحمه الله) بنحو الإجمال ما ذكره: من أنّه لابدّ من رفع اليد في الأفعال الاختياريّة عن إطلاق قوانين العلّيّة وقاعدة (أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد) كما سيأتي توضيحه، ولكن ما ذكره في مقام تفصيل ذلك من افتراض فعلين للنفس، وشرحه بالنحو الذي عرفت توجد لنا حوله عدّة تعليقات:

الاُولى: أنّ ما جعله فعلاً نفسيّاً وراء الفعل الخارجيّ ـ وهو تأثير النفس واختيارها وإعمالها لإمكانيّاتها في إيجاد الصلاة ـ ليس بحسب الحقيقة أمراً وراء الفعل الخارجيّ؛ فإنّ الإعمال عين العمل، والتأثير عين الأثر، وهذه عناوين انتزاعيّة منتزعة من نفس العمل والأثر، فالإعمال والعمل، والإيجاد والوجود، والتأثير والأثر مفهومان مختلفان بالاعتبار، متّحدان خارجاً، فمثلاً الاحراق تارةً يلحظ منسوباً إلى الفاعل فيسمّى إحراقاً وإيجاداً للاحتراق، واُخرى يلحظ منسوباً إلى المحلّ فيسمّى وجوداً أو احتراقاً.

الثانية: أنّ إدخال فرضيّة وجود عمل نفسانيّ وراء العمل الخارجيّ، وتوسيطه بين الإرادة والفعل لا دخل له في حلّ الشبهة، فيمكننا أن نلتزم رأساً في الفعل الخارجيّ بما التزم به المحقّق النائينيّ (رحمه الله)في الفعل النفسيّ من خروجه عن قانون (أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد)، فإن كان هذا التخصيص لذاك القانون كافياً لرفع الشبهة، أمكن أن يطبّق ابتداءً على الفعل الخارجيّ، وإن لم يكن كافياً لذلك، فافتراض فعل آخر متوسّط بين الإرادة والفعل لا يؤثّر في رفع الشبهة.

الثالثة: أنّنا إذا لاحظنا الفعل الخارجيّ ونسبته إلى الفعل النفسانيّ، رأينا أنّ حاله حال سائر الحوادث في عالم الطبيعة، أي: ينطبق عليه قانون (أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد)؛ إذ هو وليد الفعل النفسانيّ. وأمّا إذا لاحظنا الفعل النفسانيّ، فقد افترض(قدس سره) أنّه خارج عن قانون (أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد)، وسواء فرضنا: أنّ هذا الفعل النفسانيّ هو الخارج عن هذا القانون أو فرضنا: أنّ الفعل الخارجيّ

80

ابتداءً هو الخارج عن هذا القانون، نقول: إنّه من الواضح: أنّ هذا القانون لم يكن قانوناً تعبّديّاً يقبل التخصيص تعبّداً، وإنّما هو قانون عقليّ، فيأتي السؤال عن أنّه، ما هو المصحّح لوجود هذا الفعل بعد فرض عدم وجوبه الذاتيّ، وكيف وجد؟

فنقول: إنّ الأمر في ذلك لا يخلو من أحد فروض:

1 ـ أن يكون المصحّح لوجوده هو الوجوب بالغير والضرورة المكتسبة من العلّة، وهذا خلف الخروج من قاعدة (أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد).

2 ـ أن يكون المصحّح له مجرّد الإمكان الذاتيّ، أي: أنّ مجرّد إمكان صدوره من الفاعل يكفي في صدوره، وهذا أيضاً غير صحيح؛ إذ من الواضح بالفطرة: أنّ الإمكان الذاتيّ الذي معناه: كون نسبة الشيء إلى الوجود والعدم على حدّ سواء لا يكفي مرجّحاً لجانب الوجود، ويأتي السؤال عن أنّه: ما هو الفرق بين الإمكان هنا والإمكان في سائر المجالات، حيث لم يكفِ الإمكان في سائر المجالات للوجود، وكفى له هنا؟

هذا، مضافاً إلى أنّ ذلك لا يصحّح الاختيار؛ إذ هذا معناه الصدفة لا الاختيار، والصدفة غير الاختيار.

3 ـ أن يفترض: أنّ الفعل الخارجيّ صادر بهجوم النفس على حدّ تعبير المحقّق النائينيّ(قدس سره)، وذاك الهجوم صادر بهجوم آخر وهكذا، وهذا أيضاً باطل للزوم التسلسل، فلم يبقَ إلّا الفرض الرابع الذي هو الفرض المعقول في المقام، والذي قصر عنه المنقول من كلمات المحقّق النائينيّ (رحمه الله)، فلعلّ هذا هو المقصود، ولكن قصرت العبارة عن أدائه.

4 ـ أن نطرح مفهوماً ثالثاً في مقابل مفهومي الوجوب والإمكان، وهو مفهوم السلطنة، وهذا الوجه هو الذي يبطل به البرهان على الجبر، كما نوضّح ذلك في خلال عدّة نقاط:

81

الاُولى: أنّ قاعدة (أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد) لو كانت قاعدة قام عليها البرهان، فلا معنى للالتزام بالتخصيص؛ إذ ما يقوم عليه البرهان العقليّ لا يقبل التخصيص والتقييد، ولكن الصحيح: أنّها ليست قاعدة مبرهنة، بل هي قاعدة وجدانيّة، من المدركات الأوّليّة للعقل وإن كان قد يبرهن على ذلك بأنّ الحادث لو وجد بلا علّة ووجُوب، للزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر بلا مرجّح، وهو محال، لكنّك ترى: أنّ استحالة الترجيح أو الترجّح بلا مرجّح هي عبارة اُخرى عن أنّ المعلول لا يوجد بلا علّة، إذن فلابدّ من الرجوع في هذه القاعدة إلى الفطرة السليمة مع التخلّص من تشويش الاصطلاحات والألفاظ، لنرى ما هو مدى حكم الفطرة والوجدان بهذه القاعدة، فننتقل إلى النقطة الثانية.

الثانية: أنّ الفطرة السليمة تحكم بأنّ مجرّد الإمكان الذاتيّ لا يكفي للوجود. وهنا أمران إذا وجد أحدهما رأى العقل أنّه يكفي لتصحيح الوجود:

أحدهما: الوجوب بالغير، فإنّه يكفي لخروجه عن تساوي الطرفين، ويصحّح الوجود.

والثاني: السلطنة، فلو وجد ذات في العالم يملك السلطنة، رأى العقل بفطرته السليمة أنّ هذه السلطنة تكفي للوجود.

وتوضيح ذلك: أنّ السلطنة تشترك مع الإمكان في شيء، ومع الوجوب في شيء، وتمتاز عن كلّ منهما في شيء:

فهي تشترك مع الإمكان في أنّ نسبتها إلى الوجود والعدم متساوية، لكن تختلف عن الإمكان في أنّ الإمكان لا يكفي لتحقّق أحد الطرفين، بل يحتاج تحقّقه إلى مؤونة زائدة، وأمّا السلطنة فيستحيل فرض الحاجة معها إلى ضمّ شيء آخر إليها لأجل تحقّق أحد الطرفين؛ إذ بذلك تخرج السلطنة عن كونها سلطنة، وهو خلف، بينما في الإمكان لا يلزم من فرض الحاجة إلى ضمّ ضميمة خلف

82

مفهوم الإمكان، إذن فالسلطنة لو وجدت، فلابدّ من الالتزام بكفايتها.

وهي تشترك مع الوجوب في الكفاية لوجود شيء بلا حاجة إلى ضمّ ضميمة، وتمتاز عنه بأنّ صدور الفعل من الوجوب ضروريّ، ولكن صدوره عن السلطنة ليس ضروريّاً؛ إذ لو كان ضروريّاً لكان خلف السلطنة، وفرق بين حالة (له أن يفعل) وحالة (عليه أن يفعل)، وقد فرضنا أنّنا وجدنا مصداقاً للسلطنة، وأنّ له أن يفعل، وينتزع العقل من السلطنة ـ باعتبار وجدانها لهذه النكات ـ مفهوم الاختيار، لا من الوجوب ولا من الصدفة.

وقد تحصّل: أنّ المطلوب في هذه النقطة الثانية أنّه لو كانت هناك سلطنة في العالم، لكانت مساوقة للاختيار، وكفت في صدور الفعل.

الثالثة: أنّ هذه السلطنة هل هي موجودة، أم لا؟

يمكن البرهان على إثباتها في الجملة، وتعيينها في الله(1). وهذا خارج عمّا نحن بصدده، ويرجع إلى بحث قدرة الله. وأمّا في الإنسان الذي هو الداخل في



(1) كأن يقال: لو لم يكن الله ـ سبحانه وتعالى ـ فاعلاً مختاراً، أو كان علّة تكوينيّة، لانتهت الحركة في العالم منذ زمان قديم؛ لأنّ الحركة الجوهريّة في الموادّ والأشياء تعني خروج ما بقوّتها إلى الفعل، وما بقوّتها محدودة، وخروجها إلى الفعل محدود ويحتاج إلى زمان محدود، وأيّ مقدار من الزمان نفترض الحاجة إليه لانتهاء ما بقوّة المخلوقات إلى الفعل فقد مضى على ذلك أكثر من ذلك الزمان؛ لأنّ الخالق قديم، وهو ـ بحسب الفرض ـ علّة لتلك المخلوقات، والمعلول لاينفكّ عن علّته، إذن فهو قديم، فكيف لم تنتهِ حركة تلك المخلوقات حتّى يومنا هذا؟! ولو فرضنا: أنّه انتهت الحركة في المخلوقات الاُولى، ثُمّ بدأ الخالق بخلق جديد، لكان هذا أيضاً دليلاً على الخلق بالسلطنة لا بالعلّيّة؛ لأنّه لو كان بالعلّيّة لكان هذا الخلق أيضاً قديماً بقدم علّته، وكان حاله حال الخلق الأوّل في انتهاء حركته.