83

محلّ البحث، فلا برهان عليها، بل ينحصر الأمر في إثبات ذلك بالشرع أو بالوجدان، بأن يقال مثلاً: إنّنا ندرك مباشرة بالوجدان ثبوت السلطنة فينا، وإنّنا حينما يتمّ الشوق الأكيد في أنفسنا نحو عمل لا نقدم عليه قهراً، ولا يدفعنا إليه أحد، بل نقدم عليه بالسلطنة بناءً على دعوى: أنّ حالة السلطنة من الاُمور الموجودة لدى النفس بالعلم الحضوريّ من قبيل حالة الجوع أو العطش، أو حالة الحبّ أو البغض، أو بأن يقال: إنّنا كثيراً ما نرى: أنّنا نرجّح بلا مرجّح كما يقال في (رغيفي الجائع) و(طريقي الهارب)، فلو كان الفعل لا يصدر إلّا بقانون الوجوب بالعلّة، إذن لبقي جائعاً إلى أن يموت؛ لعدم المرجّح لأحدهما، بينما بناءً على قاعدة السلطنة يرجّح أحدهما بلا مرجّح. وإن عرض هذا الكلام على الحكماء، لقالوا: إنّ المرجّح موجود في علم المولى، أو بعض الملائكة المدبّرين للاُمور، إلّا أن يقال في مقابل ذلك: إنّ الوجدان يحكم بعدم دخل المرجّح دائماً في تصميماتنا وما يصدر منّا من الأفعال في مقابل بدائله، فرجع الأمر أيضاً مرّة اُخرى إلى الوجدان(1).



(1) الواقع: أنّ الاستشهاد بــ (رغيفي الجائع) و(طريقي الهارب) لو قصدت به البرهنة على الاختيار، لأمكن ردّه باحتمال وجود المرجّح في علم المولى، أو بعض الملائكة المدبّرين للاُمور، أو قل: إنّ في الموارد المتعارفة التي اتّفقت في العالم حتّى يومنا هذا من أمثال (رغيفي الجائع) و(طريقي الهارب) إنّما لم نرَ شخصاً يقف حائراً أمام الأمرين، بل رأينا دائماً اختياره لأحد الأمرين؛ لأنّ المرجّح في الواقع كان موجوداً وإن خفي علينا. أمّا لو فرض عدم المرجّح صدفة، فمن الذي أخبرنا بأنّه سوف لن يقف حائراً بين الأمرين؟!

أمّا لو قصد به تنبيه الوجدان على الاختيار، فهذا الردّ غير وارد، فإنّ المقصود بمثل هذه الأمثلة عندئذ دعوى: أنّ الوجدان حاكم بأنّه حتّى لو لم يكن في الواقع، وفي علم الله، وفي علم الملائكة ترجيح لأحد الأمرين، سوف لن يقف الشخص حائراً بين الأمرين، ومتحمّلاً الجوع، أو افتراس الأسد، أو نحو ذلك.

84

وعلى أيّ حال، فيكفي لإبطال برهان الجبر ما عرفته من إبداء احتمال كون الإنسان مصداقاً لمفهوم السلطنة(1).



(1) فيبقى الوجدان الحاكم بالاختيار خالياً عن المزاحمة بالبرهان. وهذا الوجدان غير الوجدان الذي مضى ذكره الذي كان حاكماً بالفرق بين حركة يد المرتعش وحركة يد السليم؛ فإنّه كان يكفي إشباعاً لذاك الوجدان فرض: أنّ حركة يد السليم حركة بإرادته، وليست يد السليم كعصا بيد الخالق هو الذي يحرّكها، وإلّا لكانت مثل حركة يد المرتعش، أي: يكفي لإشباع ذاك الوجدان إنكار الجبر الأشعريّ، في حين أنّ هذا الوجدان عبارة عن وجدان نفس السلطنة؛ لأنّها معلومة بالعلم الحضوريّ لدى النفس، أي: هي موجودة بذاتها لدى النفس، فالوجدان يحكم بها، وهذا يبطل الجبر الأشعريّ والفلسفيّ في وقت واحد، وقد كان يقف أمام هذا الوجدان برهان القائل بالجبر الذي قد يغطّي على الوجدان، فيكفينا إبطال ذاك البرهان بلاحاجة إلى برهان على الاختيار، وقد أبطلناه.

إن قلت: لو كان يكفينا إبطال برهان الجبر بلا حاجة إلى برهان على الاختيار والسلطنة، فلماذا اعترض اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) على المسلك الثاني من مسالك إبطال الجبر، وهو المسلك المنكر لقانون (أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد) والمؤمن في مقابل ذلك بقانون الصدفة، حيث مضى في الإشكال على ذلك ـ بغضّ النظر عن بطلان المبنى ـ: أنّ هذا لا يثبت الاختيار؛ فإنّ الصدفة غير الاختيار، فلِمَ لمْ تقولوا هناك: إنّه لم يكن المقصود البرهنة على الاختيار حتّى يقال: إنّ الصدفة لا تثبت الاختيار، وإنّما المقصود كان ردّ برهان الجبر ونفي المقدّمة الثانية، أعني: قانون (أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد) كاف في إبطال برهان الجبر.

قلنا: أوّلاً: إنّ صاحب هذا المسلك كان يحاول تفسير الاختيار بنفي الوجوب، وإنكار: أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد، فيكفي اعتراضاً عليه: أنّ مجرّد نفي الوجوب لا يساوق الاختيار.

85

هذا تمام ما أردنا أن نبيّنه في المسألة الثانية.

بقي هنا شيئان:

الأوّل: أنّه مضى في المسألة الاُولى، أي: في أنّ الفاعل هل هو الله أو الإنسان ذكر وجوه خمسة، وقلنا: إنّه في حدود تلك المسألة يكون الوجه الثالث والرابع كلاهما معقولاً، إلّا أنّه إذا ثبتت السلطنة بالشرع أو الوجدان، بطل على ضوء هذه المسألة الوجه الرابع الذي هو مستلزم للجبر، حيث إنّه يجعل مبادئ الإرادة مجرّد مقدّمات إعداديّة وموجبة لقابليّة المحلّ، والله هو الفاعل، فإن فرضنا: أنّ الإرادة حالة نفسانيّة نسبتها إلى النفس نسبة العرض إلى المحلّ، لم يبقَ اختيار للإنسان؛ إذ الإرادة تحصل قهراً، وما يأتي بعدها من فعل يوجده الله. وإن فرضنا: أنّ الإرادة فعل من أفعال النفس يأتي بعدها الفعل الخارجيّ، فالوجه الرابع يقول: إنّ هذا الفعل أيضاً فعل الله، فإنّ الوجه الرابع لا يختصّ بفعل دون فعل، فلو أمكن لفعل أن يصدر من الإنسان، فليكن الفعل الآخر مثله بلا فرق بينهما، وإلّا فكلاهما لا يمكن صدوره منه، فأيضاً لا يبقى اختيار للإنسان، فكلّ ما يثبت السلطنة للإنسان يبطل هذا الوجه.



وثانياً: إنّ هذا المسلك، أي: مسلك تعميم الصدفة على الأفعال الاختياريّة كمسلك تعميم قاعدة (أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد) على الأفعال الاختياريّة ينتهي إلى الجبر؛ لأنّ صدور الفعل منّا كما أنّه لو كان واجباً لكان هذا غير الاختيار، فلزم الجبر، كذلك لو كان صدفةً لكان هذا غير الاختيار، ولزم الجبر، فمن يفترض: أنّ الصلاة تصدر منّا صدفة، وكذلك شرب الخمر، كيف يمكن أن يفترض: أنّنا صلّينا باختيارنا، أو شربنا باختيارنا؟!

والخلاصة: أنّ كون نسبة الفعل إلينا نسبة الاختيار شيء يقابل كون نسبته إلينا نسبة الوجوب، أو كون نسبته إلينا نسبة الصدفة.

86

الثاني: أنّ هذا الاختيار الذي ثبت للإنسان ليس اختياراً مطلقاً؛ إذ ما أكثر الأشياء التي تقع أو لا تقع برغم أنف الإنسان، فهو اختيار محدود لا محالة، وضابطه هو: أنّ الأفعال والتروك التي يكون للاعتقاد بالمصالح والمفاسد تأثير فيها وجوداً وعدماً فهي اُمور اختياريّة.

ويدخل تحت هذا الضابط أمران:

الأوّل: الأفعال الخارجيّة كالصلاة والصيام، أو المُنشَآت النفسيّة كعقد القلب، ونحو ذلك.

والثاني: نفس الحبّ والبغض والشوق المؤكّد.

أمّا الأوّل، فانطباق الضابط عليه واضح.

وأمّا الثاني، فتطبيق الضابط عليه قد يكون بأحد وجهين:

الأوّل ـ وهو الصحيح ـ: أنّ تأثّر الحبّ والبغض والشوق المؤكّد يكون بالاعتقاد بالمصلحة والمفسدة في المحبوب والمكروه، فمن يعتقد المصلحة في الأكل مثلاً يشتاق إلى الأكل، ومن يعتقد المفسدة فيه يكرهه، نظير: أنّ من يعرف بوجود صفات الكمال في عليّ(عليه السلام) يحبّه، ومن يعرف بوجود صفات اللؤم في إبليس يبغضه. وبهذا الاعتبار كانت هذا الصفات داخلة تحت الاختيار في كثير من الأوقات، وصحّ التكليف بها، فيصحّ أن يوجب المولى على العبد أن يحبّ أمير المؤمنين(عليه السلام)؛ إذ بالإمكان دخله تحت الاختيار عن طريق النظر في صفاته وكمالاته(عليه السلام)، أو أن يحبّ الصلاة؛ إذ بإمكانه ذلك عن طريق النظر إلى مصالحها وهكذا.

الثاني: أن تفرض المصلحة في نفس الشوق المؤكّد، فلو فرض أنّه لا يرى مثلاً أيّ مصلحة في نفس القيام، لكن قال له شخص: لو أردت القيام واشتقت إليه شوقاً مؤكّداً، أعطيتك ديناراً، سواء قمت بالفعل كما هو الواقع؛ لأنّ الشوق المؤكّد

87

لا ينفكّ عن الفعل لدى الإنسان المختار، أو لم تقم كما لو طرأ العجز لدى إرادة القيام، فهو ينقدح في نفسه الإرادة والشوق المؤكّد إلى القيام، فمن هنا وقع الكلام في أنّه: هل يمكن أن تنشأ الإرادة والشوق المؤكّد من مصلحة في نفسها، أو لا؟ قد يقال: إنّ هذا ممكن وواقع عرفاً في جملة من الموارد، ومنها ما لو أراد أن يصوم وهو مسافر، فقد قالوا: يقصد إقامة عشرة أيّام، فيصحّ منه الصوم، ولكن يتّفق كثيراً أنّه ليست لديه مصلحة تدعوه إلى إقامة عشرة أيّام إلّا نفس أن يصحّ صومه، وهذه المصلحة لا تترتّب على نفس الإقامة، بل تترتّب على قصد الإقامة وإرادتها، فلو قصد الإقامة وصام، صحّ صومه ولو لم يوفّق خارجاً للإقامة عشرة أيّام، ولو بقي خارجاً عشرة أيّام من دون قصد للإقامة لم يصحّ صومه، وكثيراً ما يتّفق أنّ الإنسان يقصد الإقامة لأجل هذه المصلحة.

والمحقّق العراقيّ (رحمه الله) قال: إنّ هذا لا يمكن؛ إذ حينما يكون الفعل والترك في نظر الإنسان على حدّ سواء تكون إرادته واشتياقه إلى الفعل ترجيحاً بلا مرجّح، فيستحيل اقتضاء الفعل للإرادة في حقّه دون الترك(1).

والكلام يقع أوّلاً في أصل معقوليّة ذلك وعدمه، وثانياً في هذا الفرع الفقهيّ، وأنّه إذا استحال ذلك، فكيف يصحّح صوم هذا الشخص الذي يريد أن يصوم في السفر ولا يرى مصلحة في نفس الإقامة؟

أمّا الأوّل: فالصحيح: أنّ الحبّ والبغض والشوق المؤكّد دائماً يحصل على أساس ما في المتعلّق، ويستحيل حصوله لمصلحة في نفسه. وليس الوجه في ذلك ما ذكره المحقّق العراقيّ (رحمه الله): من أنّه يلزم من تعلّق الإرادة بالفعل مع تساوي الفعل والترك الترجيح بلا مرجّح؛ فإنّ هذا جوابه واضح، وهو: أ نّا لو بقينا وهذا المقدار



(1) راجع نهاية الأفكار، ج 1، ص 173 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

88

من البيان، لقال الخصم: إنّ المرجّح هو المصلحة في نفس الإرادة، فلو قيل للمريد: لماذا أردت الفعل مع أنّ الفعل والترك متساويان؟ لقال: أردت؛ لأنّ الإرادة كانت أرجح من عدمها، فلابدّ أن ندّعي قبل هذا البرهان بنحو المصادرة: أنّ الشوق المؤكّد والحبّ والبغض لا يكفي في وجودها الترجيح في نفسها. وهذه دعوىً ندّعيها بالوجدان، وفي طولها يتمّ ذلك البرهان، فكان المهمّ(1) إبراز هذه المصادرة، فالعلّة تكويناً للشوق هي الاعتقاد بالكمال أو المصلحة في المشتاق إليه، ولا ينشأ في عالم التكوين المعلول إلّا من علّته، فالشوق لا يحصل بمجرّد الاعتقاد بمصلحة في نفس الشوق، إذن فلابدّ من قياسه إلى متعلّقه، فحينئذ يقال: إنّه لو اشتاق إلى متعلّقه مع افتراض: أنّ وجود متعلّقه وعدمه في نظره سيّان، للزم الترجيح بلا مرجّح، ووجود المعلول بلا علّة، وهو مستحيل.

وأمّا الثاني: وهو علاج الفرع الفقهيّ الذي يمكن أن يجعل نقضاً على القول باستحالة نشوء الشوق والإرادة من مصلحة في نفسه، فالمحقّق العراقيّ (رحمه الله) كأنّه حاول التخلّص من هذا الإشكال، فذكر شيئاً (2) لا يخلو مقصوده من ذلك من غموض، وحاصل ما ذكره: أنّ النكتة والمصلحة الداعية لهذا الشخص إلى قصد الإقامة قائمة بنفس الإقامة، لكن لا بمطلق الإقامة، بل بحصّة خاصّة من الإقامة،



(1) لا يخفى: أنّ دعوى حكم الوجدان بذلك موجودة في نهاية الأفكار، إلّا أنّها لم تفرض كمصادرة في أساس ذلك البرهان، بل جعل البرهان دليلاً داعماً للوجدان، في حين أنّه ينبغي أن يكون الدليل على عدم نشوء الشوق من المصلحة في الشوق هو الوجدان فحسب، ثُمّ يكون الدليل على عدم تعلّق الشوق بالفعل مع تساوي الفعل والترك برهان لزوم الترجيح بلا مرجّح آخذين في موضوع هذا البرهان حكم الوجدان بعدم نشوء الشوق من المصلحة فيه، فلا تصلح المصلحة فيه مرجّحة لوجوده.

(2) راجع نهاية الأفكار، ج 1، ص 174 ـ 175 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

89

وهي الإقامة القصديّة، فهذه الحصّة من الإقامة، أو هذا(1) الباب من أبواب وجود الإقامة هي التي تكون مصبّاً للنكتة الداعية له إلى قصد الإقامة، فلا نقض.

وهذا الكلام يحتاج إلى تمحيص؛ لأنّه يحتمل فيه أحد أمرين:

الأوّل: أنّ المصلحة التي يتوخّاها هذا المسافر متعلّقة بحصّة خاصّة من الإقامة، أي: الإقامة المقيّدة بالقصد، أي: أنّ موضوع الحكم بصحّة الصوم هو المقيّد بالقصد مع نفس القيد بنحو التركّب الضمنيّ. فإن كان المراد هو هذا؛ فهذا جوابه من الفقه واضح؛ فإنّ نفس الإقامة لا دخل لها ولو ضمناً في الحكم، فلو نوى الإقامة وصام ثُمّ عدل ولم يقم، لصحّ صومه بلا إشكال.

الثاني: أن يكون المقصود: أنّ المصلحة تعلّقت بسدّ باب عدم الإقامة من ناحية عدم إرادة الإقامة، ولو فرض انفتاح باب آخر لعدمها كإجبار شخص إيّاه على الخروج، فكأنّ هذا حفظ لمرتبة من مراتب وجود الإقامة وشأن من شؤونها، وتقريب نحو وجودها، وحفظ لوجودها بهذا المقدار الناقص. فإن أراد هذا فهذا صحيح، إلّا أنّ هذا عبارة اُخرى عن قيام المصلحة بنفس القصد، فإنّ سدّ باب عدم الإقامة الناشئ عن عدم القصد عبارة اُخرى عن القصد، وليس جزءاً من الإقامة إلّا بنحو من المسامحة في التعبير، وليس سدّ باب عدم شيء بعدم إحدى مقدّماته إلّا عبارة عن إيجاد تلك المقدّمة، فرجع الإشكال جَذعاً.

وتوضيح الكلام في هذا الفرع: أنّ ما هو الشرط في صحّة الصوم وهو إرادة الإقامة بعد وضوح: أنّ أصل الإقامة ليس هو الشرط قد يتصوّر بأحد تصوّرات ثلاثة:



(1) كأنّ هذا الترديد في التعبير يكون على أساس افتراض: أنّ عبارة المحقّق العراقيّ (رحمه الله) غائمة يمكن تطبيقها على العبارة الاُولى ويمكن تطبيقها على العبارة الثانية، ولكن الذي يظهر من مراجعة عبارة نهاية الأفكار هو الثاني، لا الأوّل.

90

التصوّر الأوّل: ما يناسب اُسلوب طرحهم لهذا الفرع ونقاشهم فيه بالنحو الذي عرفت، وهو أن يكون شرط الصوم عبارة عن إرادة الإقامة على أن يقصد بالإرادة الحبّ والشوق المؤكّد، وعندئذ لا محيص عن الإشكال في أكثر فروض المسألة.

وتوضيحه: أنّه تارةً يفترض تعلّق غرضه في هذا السفر بالصوم لأقلّ من عشرة أيّام، وعندئذ فصومه لا يتوقّف على وقوع الإقامة منه، ولا يستلزمها بوجه من الوجوه؛ إذ لو عدل بعد الصوم عن الإقامة وكسر الإقامة، لصحّ صومه بلا إشكال، فلو حصل له حبّ الإقامة لأجل الصوم، للزم نشوء الحبّ من المصلحة فيه، وهذا هو المحال.

واُخرى يفرض تعلّق غرضه في هذا السفر بالصوم لعشرة أيّام، وأنّه صلّى أو سيصلّي صلاة رباعيّة قبل كسر نيّة الإقامة، فهنا أيضاً يستفحل الإشكال؛ لأنّ صومه لعشرة أيّام لا يتوقّف على الإقامة في مكان واحد ولا تستلزمها، كما يشهد لذلك أنّه لو كسر الإقامة في مكان واحد بعد أن صلّى صلاة رباعيّة وانتقل إلى مكان آخر يبعد عن الأوّل بأقلّ من المسافة الشرعيّة، لصحّ له أن يكمل صوم بقيّة الأيّام في ذلك المكان، إذن فإن نشأ منذ البدء حبّه لإقامة عشرة أيّام في مكان واحد من مصلحة الصوم المترتّب على هذا الحبّ، لزم نشوء الحبّ من مصلحة فيه، وهو المحال.

وثالثة يفرض أيضاً تعلّق غرضه في هذا السفر بالصوم لعشرة أيّام، إلّا أنّه سنخ رجل يصوم ولا يصلّي، ولنفترض أنّنا قد أفتينا بأنّ صوم يوم واحد كصلاة رباعيّة واحدة يوجب تثبيت حكم الإقامة، وحملنا الصلاة الرباعيّة الواردة في النصّ على المثاليّة لكلّ ما يكون عملاً بوظيفة المقيم، فهنا أيضاً يستفحل الإشكال؛ لأنّ صومه لعشرة أيّام لا يتوقّف على الإقامة في مكان واحد ولا يستلزمها، كما يشهد لذلك أنّه لو كسر الإقامة بعد صوم يوم واحد وانتقل إلى مكان آخر يبعد عن الأوّل

91

بأقلّ من المسافة الشرعيّة، لصحّ له أن يكمل صوم بقيّة الأيّام؛ لأنّنا فرضنا أنّصومه لليوم الأوّل كالصلاة الرباعيّة في تثبيته لحكم الإقامة، فإذن لو نشأ حبّه للإقامة من مصلحة الصوم المترتّب على هذا الحبّ، لكان هذا يعني نشوء الحبّ من مصلحة في نفس الحبّ والذي قلنا: إنّه محال.

نعم، لو فرضنا أنّ هذا الإنسان كان سنخ رجل يصوم ولا يصلّي، وفرضنا أنّ المثبّت لحكم الإقامة بعد كسرها إنّما هي الصلاة الرباعيّة قبل الكسر دون الصوم، وذلك اقتصاراً على حاقّ النصّ، ومن دون حمله على المثاليّة، فعندئذ يكون صومه عشرة أيّام متوقّفاً على الإقامة عشرة أيّام في مكان واحد؛ إذ لو انتقل في الأثناء إلى منطقة اُخرى سيبقى فيها أقلّ من العشرة، لم يصحّ منه الصوم قطعاً، والمفروض: أنّ الصوم عشرة أيّام محبوب له في سفره هذا، فسينوي الإقامة من باب نيّة مقدّمة المحبوب، إلّا أنّ هذا فرض نادر.

التصوّر الثاني: أن يكون المقصود بإرادة الإقامة التي تفرض شرطاً لصحّة الصوم البناء النفسيّ والالتزام بالإقامة، وهذا غير الشوق إلى الإقامة، فقد يحصل هذا البناء من دون الشوق إليها حينما تصبح الإقامة ملازمة لمحبوب له من دون فرض المقدّميّة، بل قد يبني عليها برغم كرهه لها؛ وذلك لأهمّيّة الملازم المحبوب، وهذا البناء فعل نفسانيّ داخل تحت سلطة الإنسان، ولا فرق بين أفعال الجوارح وأفعال النفس في دخولها تحت القدرة، وليس هذا البناء صفة من صفات النفس من قبيل الحبّ والبغض، فإذا رأى مصلحة في هذا البناء وهي صحّة صومه، فقد يقال: إنّه يقدم عليه لتلك المصلحة برغم عدم المصلحة في نفس الإقامة، والإشكال الماضي في التصوّر الأوّل وهو استحالة نشوء الشوق من مصلحة في نفس الشوق منتف هنا أساساً.

92

إلّا أنّنا نقول: إنّ الإشكال السابق وإن كان غير وارد هنا ولكن يحلّ محلّه إشكال آخر، وهو: أنّ الذي يدعوه إلى هذا البناء إنّما هو تصحيح الصوم، وهويعلم أنّ هذا الداعي سوف ينتفي عند انتهاء الصوم(1)، فيستحيل أن يتمشّىمنه هذا البناء إلّا من باب لقلقة اللسان، فإنّ الإنسان إنّما يستطيع أن يبني علىشيء استقباليّ فيما إذا كان داعيه إلى البناء على ذلك موجوداً في اُفق تصوّرهالآن بلحاظ ظرف العمل ولو حصل له البداء بعد ذلك. وأمّا إذا كان يعلم أنّداعيه إلى البناء سوف يزول في ظرف العمل، فلا يعقل منه تمشّي البناء عليه الآن حقيقة.

التصوّر الثالث: أن يكون المقصود بإرادة الإقامة العلم أو الاطمئنان بالبقاء عشرة أيّام، وهذا هو الصحيح، فالشرط في التمام وصحّة الصوم ليس هو قصد الإقامة بمعنى الشوق إليه أو إنشاء البناء النفسيّ عليه، بل يكفي أن يكون مطمئنّاً بأنّه سوف يبقى عشرة أيّام ولو مجبوراً بلا شوق ولا بناء نفسيّ، وهنا أيضاً يكون الإشكال الأوّل غير وارد، ولكن يرد ما هو نظير الإشكال الثاني، فإنّه يقال: إنّ مصدر اطمئنانه بالبقاء لم يكن هنا جبر الظالم مثلاً، بل كان هو بناؤه النفسيّ على البقاء، وقد مضى: أنّ البناء النفسيّ على شيء في المستقبل مع افتراض علمه بأنّه سوف يزول داعيه إلى هذا البناء، ويرجع إلى أهله شوقاً إليهم بعدما انتهى صومه لا يمكن أن يتمشّى منه حقيقةً.



(1) أو عند انتهاء صلاة رباعيّة، أو عند انتهاء صوم يوم واحد بناءً على كفاية الصوم لاستقرار أثر الإقامة، وهنا أيضاً يأتي استثناء الفرض النادر الذي مضى استثناؤه على التصوّر الأوّل، وكذلك الحال على ما سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ من التصوّر الثالث.

93

و قد تحصّل: أنّه في غالب الفروض (عند عدم وجود رغبة مستقلّة في نفس الإقامة) لا يمكن قصد الإقامة: إمّا من باب: أنّه لا يتولّد الشوق إلى الشيء لمصلحة في الشوق كما هو الحال على التفسير الأوّل لقصد الإقامة، أو من باب: أنّه يعلم بأنّه سوف يعدل عن الإقامة كما هو الحال على التفسير الثاني والثالث، إذن فيحتاج إلى جعل الإقامة ذات مصلحة حتّى يتمشّى منه قصدها، وذلك يكون بأنحاء: كالنذر، أو كأن يعلن عن قصده للإقامة عموماً للناس حينما تكون له حزازة في الخُلف، فتتكوّن في طول الإعلان مصلحة له في الإقامة.

وهناك فروع اُخرى مشابهة لهذا الفرع(1) داخلة في محلّ الابتلاء:

منها: من يريد أن يتوضّأ قبل الوقت ليحفظ وضوءه لصلاة الظهر مثلاً، حيث قد يقال فيه ـ بناءً على ما اشتهر من عدم صحّة الوضوء للصلاة قبل الوقت ـ: ليتوضّأ بقصد قراءة القرآن بينما تكون المصلحة في نفس القصد؛ إذ هو لا يشتاق إلى قراءة القرآن إلّا لأجل الوضوء، فبعد تماميّة الوضوء لا داعي له إلى قراءة القرآن، فهو يحتاج إلى إيجاد مرغّب له في نفس القراءة كأن يفكّر في ثوابها وفضيلتها(2).

إلّا أنّنا لسنا بحاجة إلى هذا الكلام؛ لأنّنا نناقش في أصل مبنى عدم صحّة الوضوء للصلاة قبل الوقت، فإنّنا لو بقينا نحن ومقتضى القاعدة، لم نكن نحتاج في



(1) أي في الإشكال الثاني، أعني: عدم إمكانيّة نيّة ما يعلم بزوال الدافع إليه في ظرفه المستقبليّ، لا الإشكال الأوّل.

(2) يبدو أنّ هذا الإشكال مبنيّ على ما هو المعروف من عدم اختصاص الوجوب المقدّميّ بالمقدّمة الموصلة، أمّا على ما سيختاره اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في محلّه من اختصاصه بالمقدّمة الموصلة، فلا مجال لهذا الإشكال؛ لأنّه لو لم يقرأ القرآن انكشف أنّ الوضوء الذي صدر منه لم يكن مأموراً به؛ لأنّ المقدّمة لم تصبح موصلة.

94

مقام صحّة الوضوء إلى وجود أمر؛ فإنّ الدليل الأوّليّ إنّما دلّ على اشتراط أصل الوضوء في الصلاة، غاية ما هناك أن نقيّده بأن يكون الوضوء بداع من الدواعي الإخلاصيّة للمولى، ولا إشكال في أنّ داعي الصلاة به بعد دخول الوقت داع إخلاصيّ له سبحانه وإن كان الوضوء قبل الوقت، إلّا أنّه يفرض بحسب التسالم والإجماع اشتراط كون الوضوء عباديّاً، والعباديّة لا تتحقّق بمجرّد كونه بداع إخلاصيّ، بل لابدّ فيها من أمرين:

أحدهما: أن يكون مطلوباً للمولى خطاباً وملاكاً، أو ملاكاً على الأقلّ.

والثاني: أن يُؤتى به بداع من الدواعي الحسنة والإخلاصيّة.

وكلا الأمرين حاصل في المقام:

أمّا الأوّل، فلما هو الصحيح من الاستحباب النفسيّ للوضوء، ولا نحتاج إلى وجوبه المقدّميّ أو ملاكه الذي لا يتحقّق ـ على المشهور ـ قبل الوقت.

وأمّا الثاني، فلأنّ قصد الصلاة التي سوف يأتي وقتها داع إخلاصيّ لله بلا إشكال، فمن يعلم بأنّ المولى سوف يعطش فيهيّء الماء سابقاً، يعدّ فعله حسناً عقلاً، ومظهراً من مظاهر الإخلاص في العبوديّة.

نعم، لو قلنا: إنّه لابدّ أن يقصد أمراً فعليّاً، فلا يمكن أن يتأتّى منه قصد ذلك لأجل مصلحة تصحيح الوضوء، لكن لا دليل على ذلك.

ومنها: ما لو اُوقف حوض المسجد مثلاً للوضوء للصلاة في المسجد، فإذا كان المقصود بذلك: الوقف لمن يتوضّأ بقصد الصلاة فيه ولو حصل له البداء ولم يصلِّ بعد ذلك، فمن الواضح: أنّه كان من قبيل ما نحن فيه، فالملاك يكون في نفس القصد وهو يعلم أنّه بعد انتهاء الوضوء يرتفع الداعي، وإذا كان المقصود بذلك: الوقف لمن يصلّي بالفعل في هذا المسجد بهذا الوضوء، فإذا حصل له البداء ولم

95

يصلِّ، انكشف كون وضوئه بماء مغصوب، وبناءً على ما هو المشهور من صحّة الوضوء بالماء المغصوب إذا انكشف ذلك بعد انتهاء العمل يثبت نفس الإشكال، حيث إنّ نفس قصده للصلاة في المسجد وعلمه بأنّه سوف يصلّي فيه يكفي لصحّة وضوئه، وبعد الوضوء لو حصل له البداء، يكون وضوؤه صحيحاً، فهو يعلم سابقاً بأنّه سوف يزول من نفسه الداعي إلى الصلاة بعد الوضوء، فكيف يتمشّى منه القصد إلى الصلاة والعلم بها؟ إلّا بإيجاد داع له إليها من قبل كالنذر مثلاً.

97

الفصل الثاني. الأوامر

صيغة الأمر

ويقع الكلام هنا أيضاً في جهات:

* دلالة صيغة الأمر على الطلب.

* كيفيّة دلالة صيغة الأمر على الوجوب.

* دلالة الجملة الخبريّة.

* الأصل في الواجب التعبّديّة أو التوصّليّة؟

* ظهور صيغة الأمر في النفسيّة والتعيينيّة والعينيّة.

* ورود الأمر عقيب الحظر أو في مورد توهّمه.

* دلالة الأمر على المرّة أو التكرار.

* الفور والتراخي.

99

دلالة صيغة الأمر على الطلب

الجهة الاُولى: في دلالتها على الطلب.

لا إشكال في أنّ صيغة «افعل» تدلّ على الطلب، وإنّما الكلام في كيفيّة دلالتها على الطلب، حيث إنّ صيغة «افعل» من الهيئات، وهي تدلّ على معنىً حرفيّ لا على معنىً اسميّ، فلا تكون صيغة الأمر دالّة بالمباشرة على مفهوم الطلب كما يدلّ عليه لفظ الطلب، فإنّ هذا مفهوم اسميّ، إذن فيقع الكلام في أنّه ما هو المعنى الذي تدلّ عليه صيغة «افعل» الذي يكون مغزاه ومآله إلى الطلب؟

وينبغي منذ البدء أن نستبعد ما ذكره السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ من أنّها موضوعة لإبراز اعتبار نفسانيّ، وهو اعتبار الفعل في ذمّة المكلّف، فإنّه مبنيّ على مبناه من كون الوضع عبارة عن التعهّد، فرتّب على ذلك أنّ الدلالة الوضعيّة هي الدلالة التصديقيّة الكاشفة عن وجود شيء في النفس يعبّر عنه بالاعتبار أو الإرادة، أو بأيّ تعبير آخر، بينما نحن قد وضّحنا في بحث الوضع: أنّ الدلالة الوضعيّة إنّما هي دلالة تصوّريّة، والتي ليست إلّا عبارة عن إخطار معنىً في الذهن من دون أيّ كشف عمّا في نفس المتكلّم، وأمّا الدلالة التصديقيّة فهي ظهور حاليّ سياقيّ له ملاك آخر غير الوضع، فحينما نتكلّم عن المدلول الوضعيّ لصيغة الأمر لا يمكن أن نذكر الدلالة التصديقيّة.

100

إذا عرفت هذا فنقول:

إنّنا لتحقيق ما هو معنى صيغة الأمر نذكر ابتداءً ملخّصاً عمّا ذكرناه في الجملةالفعليّة من قبيل «ضرب» و«يضرب» حتّى نأتي بعد ذلك إلى «اضرب» التي هي أيضاً جملة فعليّة.

فقد مضى: أنّ الجملة الفعليّة من قبيل «ضرب» تدلّ على النسبة الصدوريّة بين الفعل والفاعل بالنحو المناسب لذلك الفاعل من فاعليّته لذلك الفعل، ولكن لا ينبغي أن يتخيّل أنّ هذه هي تمام ما تفيده جملة «ضرب زيد» من النسب؛ لأنّ «ضرب زيد» جملة تامّة يصحّ السكوت عليها بلا إشكال، بينما النسبة الصدوريّة بين الفعل والفاعل نسبةٌ وعاؤها الأصليّ هو عالم الحقيقة لا الذهن، وقد برهنّا على أنّ كلّ نسبة من هذا القبيل يستحيل أن تكون تامّة، بل هي نسبة تحليليّة ناقصة ذهنيّة، إذن ففي «ضرب زيد» توجد نسبتان: إحداهما: نسبة ناقصة مستفادة من هيئة الفعل بين الفعل وذات ما، والاُخرى: نسبة تامّة بين ذات ما وزيد مستفادة من هيئة الجملة، أي: الفعل والفاعل، وقد وضّحنا: أنّ النسبة التامّة عبارة عن النسبة التصادقيّة، أي: نسبة التصادق بين مفهومين بما هما فانيان في عالم الخارج، فالنسبة التامّة في «ضرب زيد» نسبة تصادقيّة بين ذات ما وزيد، فكأنّما قال: إنّ الذات التي صدر منها الضرب هو زيد، وقلنا: إنّ هذا ما يسوق إليه البرهان في مقام تحصيل مفاد «ضرب زيد»، وبيّنّا: أنّ النسبة التصادقيّة لا تكون بين المفهومين بما هما مفهومان في عالم اللحاظ، فإنّهما في عالم اللحاظ متغايران، وإنّما هي نسبة تصادقيّة بين المفهومين بما هما فانيان، ومن هنا يأتي الفرق بين «ضرب زيد» و«هل ضرب زيد؟» ونحو ذلك، حيث إنّ المفنيّ فيه يختلف، فالمفنيّ فيه في «ضرب زيد» هو وعاء الخارج، وفي الاستفهام هو وعاء

101

الاستفهام، وفي الترجّي هو وعاء الترجّي وهكذا(1)، ففي قولنا: «لعلّ زيداً ضارب» يكون «زيد» عين «ضارب» في وعاء الترجّي، وفي قولنا: «هل زيد ضارب؟» يكون «زيد» عينه في وعاء الاستفهام، كما أنّ في قولنا: «زيد ضارب» يكون «زيد» عينه بحسب وعاء الخارج وهكذا.

إذا عرفت ذلك فنقول:

لا إشكال في أنّ هناك فرقاً بين «ضرب زيد» وبين «اضرب أنت» مثلاً: إمّا في النسبة التامّة، أو في النسبة الناقصة؛ إذ لو كانت النسبة التامّة فيهما شيئاً وأحداً، والنسبة الناقصة فيهما أيضاً شيئاً واحداً، إذن لما بقي فرق في المعنى بين الإخبار عن الخارج والأمر مع بداهة الفرق بينهما.

ويوجد بدواً في تفسير هذا الفرق احتمالان:

الاحتمال الأوّل: أن يكون الفرق بلحاظ النسبة التامّة، وذلك باعتبار المفنيّ فيه، فكما يقال: إنّ النسبة التامّة في الاستفهام هي النسبة التصادقيّة بين المفهومين بلحاظ وعاء الاستفهام، وفي الترجّي بلحاظ وعاء الترجّي وهكذا، فبذلك تختلف هذه الاُمور عن الإخبار الذي تكون النسبة التصادقيّة فيه بلحاظ وعاء الخارج، كذلك يقال: إنّ النسبة التامّة في «اضرب أنت» هي النسبة التصادقيّة بين ذات ما والفاعل في وعاء الطلب، إلّا أنّ هذا الاحتمال لابدّ من رفضه؛ إذ لو كان الفرق بين الفعلين بلحاظ النسبة التامّة دون الناقصة، إذن لما بقي فرق بين الفعلين في حدّ أنفسهما، بينما يشهد الوجدان اللغويّ بالفرق بينهما في حدّ أنفسهما بغضّ النظر عن وقوعهما في جملة تامّة، إذن فيتعيّن الاحتمال الثاني.



(1) مضى تعليقنا على ذلك في بحث مفاد هيئة الجمل فراجع.

102

الاحتمال الثاني: أن يكون الفرق بلحاظ النسبة الناقصة التي هي مدلول هيئة الفعل، فهيئة «ضرب» موضوعة للنسبة الصدوريّة بين الفعل وذات ما، بينما هيئة الأمر موضوعة للنسبة الإرساليّة، أو الإلقائيّة، أو الدفعيّة، أو التحريكيّة ونحو ذلك من التعابير.

وتوضيح ذلك: أنّ الإلقاء له فرد حقيقيّ تكوينيّ، وذلك كما لو دفع شخص زيداً بيده فألقاه على الأرض، أو على أيّ عين اُخرى غير الأرض، وله فرد عنائيّتكوينيّ كما لو دفعه بيده نحو عمل، وذلك كَأن يلقيه بالدفع على الكتاب أو الدفتر، لكي يطالع أو يكتب، فهذا ـ في الحقيقة ـ إلقاء على العين وهو الكتاب أو الدفتر، لكنّه بنحو من العناية يصدق عليه أنّه إلقاء نحو المطالعة والكتابة ودفع نحوها، وهذا الدفع يولّد ربطاً ونسبة مخصوصة بين المدفوع وهو زيد، والمدفوع نحوه وهو المطالعة، وهذه النسبة نسمّيها بالنسبة الإرساليّة، أو الدفعيّة، أو التحريكيّة، وحينئذ يقال: إنّ مفاد «افعل» عبارة عن هذه النسبة الإلقائيّة، والإرساليّة، فحينما نريد أن نعبّر عن النسبة الصدوريّة بين زيد والمطالعة نقول: «طالع زيد»، وحينما نريد أن نعبّر عن النسبة الإرساليّة بينهما نقول: «طالع يا زيد»، وحيث إنّ دفعه باليد على الكتاب مثلاً معلول عادة لإرادة المطالعة فهيئة «افعل» الموضوعة لهذه النسبة تدل دلالة تصوّريّة بالمطابقة على هذه النسبة الإرساليّة، وتدلّ دلالة تصوّريّة بالملازمة وفي طول الدلالة الاُولى على الإرادة، من قبيل: أنّ لفظ «الشمس» تدلّ تصوّراً بالمطابقة على القرص، وبالملازمة على النهار؛ ولذا حتّى لو سمعنا من الجدار لفظة «اضرب» ينتقش في ذهننا تلك النسبة وتلك الإرادة، ويوجد وراء المدلولين التصوّريّين مدلول تصديقيّ وهو الكشف عن وجود الإرادة.

وأمّا الطلب، فإن قلنا بأنّه عين الإرادة، فقد عرفت حاله، وإن قلنا بأنّه غير الإرادة، فالشوق النفسانيّ بمجرّده لا يصدق عليه أنّه طلب، وإنّما الطلب ـ على ما

103

هو الظاهر ـ هو السعي نحو المقصود، فيكون «افعل» بنفسه مصداقاً للطلب حقيقة،فإنّه باعتبار كشفه عن الإرادة سعي نحو المقصود(1).

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: أنّ صيغة «افعل» ذكروا لها معاني عديدة: كالطلب والتعجيز والتسخير والاستهزاء ونحوها، والمعروف بين المحقّقين المتأخّرين أنّ الاختلاف إنّما هو في دواعي الاستعمال، أي: في المداليل التصديقيّة، وأمّا المدلول الوضعيّ المستعمل فيه الصيغة فهو واحد في الجميع، وهو النسبة الإرساليّة مثلاً، إلّا أنّ السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ جرياً على مبناه القائل بأنّ المدلول الوضعيّ والمستعمل فيه اللفظ إنّما هو المعنى التصديقيّ افترض لصيغة الأمر معاني عديدة(2)؛ بداهة تباين تلك المداليل التصديقيّة فيما بينها.



(1) وهناك احتمال ثالث اخترناه فيما سبق(1) من بحث مفاد هيئة الجمل، وهو: أن تكون هيئة الأمر دالّة على نسبة بعثيّة تامّة ذات أطراف ثلاثة: الآمر والمأمور والمأمور به من دون محاكاة للبعث الخارجيّ فراجع. والخلاصة: أنّ أصل افتراض أنّ «ضَرَبَ» أو «اضرِبْ» مشتمل على نسبتين، نسبة ناقصة مستفادة من هيئة الفعل وذات مّا، ونسبة تامّة بين ذات مّا وزيد مثلاً مستفادة من هيئة الفعل مع فاعله، أوّل الكلام، فإنّ فرض الفاعل ذاتاً مّا أو فرضه زيداً بالخصوص لا يؤثّر في المقام، والصحيح أنّ هيئة الفعل بنفسها تدلّ على نسبة تامّة بين الفعل والفاعل.

(2) ولو بأن يكون أحدها حقيقة والباقي مجازاً. راجع محاضرات الفيّاض، ج 2، ص 123.

والتسخير مُثّل له بـ (كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِين). سورة 7، الأعراف، الآية: 166.


(1) مباحث الاُصول، ج. من القسم الأوّل، ص 204 بحسب الطبعة الاُولى لدار البشير.

104

وهذا الكلام مضافاً إلى خطأ مبناه يؤدّي إلى نتيجة غريبة، وتوضيح ذلك: أنّ صيغة الأمر حينما يقصد بها مثل التعجيز والاستهزاء كما لو قال: «طِر إلى السماء» بقصد إظهار عجزه، أو قال للفقير: «اشتر قصراً» بقصد الاستهزاء به، فمن الواضح: أنّ هذا التعجيز أو الاستهزاء لا يكون مرتبطاً بالمادّة ابتداءً، فإنّ إظهار العجز لا يكون بنفس الطيران، ولو طار لما كان عاجزاً، والاستهزاء لا يكون بنفس شراء القصر، ولو اشتراه لما استُهزئ به، فلالتصاق الهيئة بالمادّة دخل في فهم التعجيز أو الاستهزاء.

وعليه نقول: إنّ تفسير نكتة فهم مثل التعجيز أو الاستهزاء واضح بناءً على المبنى المتعارف بين الأصحاب؛ لأنّ الصيغة تدلّ عندهم حتّى في مثل مورد التعجيز والاستهزاء على الأمر والطلب؛ لأنّ المدلول التصوّريّ المستعمل فيه اللفظ في الجميع واحد، وحينئذ يكون الأمر بالطيران نكتة لإظهار عجزه؛ إذ لا يستطيع أن يمتثل، والأمر بشراء القصر نكتة للاستهزاء به. وأمّا على مبنى السيّد الاُستاذ فنكتة الدلالة على التعجيز أو الاستهزاء غير واضحة، ولا يبقى أيّ ارتباط بين مفاد الصيغة والمادّة، إلّا أن يفترض كون دلالتها على التعجيز أو الاستهزاء بمجرّد التعبّد الصرف، وهذا غريب.

الأمر الثاني: أنّ الدواعي المتعدّدة: من داعي الإرادة، أو التعجيز، أو التسخير، أو الاستهزاء وغير ذلك وإن كان كلّها منسجماً مع استعمال صيغة الأمر في معناها الحقيقيّ؛ إذ هذه كلّها خارجة عن المستعمل فيه، وهي تستعمل في كلّ هذه الفروض في النسبة الإرساليّة، فالمعنى الحقيقيّ للأمر منسجم مع كلّ واحد من هذه الدواعي، ولكن هذا لا ينافي ظهور صيغة الأمر لولا القرينة في أنّ ما في نفس المتكلّم هو الإرادة حقيقةً، ولا إشكال في هذا الظهور، ولكن يقع الكلام في تفسير هذا الظهور، وكيفيّة تكوّنه بالرغم من أنّ كلّ الدواعي تنسجم مع المدلول اللفظيّ.

105

ذكر في الكفاية(1) ـ على طريقته ـ: أنّ داعي الإرادة اُخذ قيداً في نفسالوضع، لا في المعنى الموضوع له سنخ ما تقدّم منه في بحث المعاني الحرفيّة: من أنّ قيد اللحاظ الآليّ اُخذ قيداً في نفس الوضع دون المعنى الموضوع له. وقد تبرهن بطلان ذلك في محلّه، حيث وضّحنا: أنّ الوضع ليس من الاُمور الجعليّة كالجعول الشرعيّة القابلة لتقييدات من هذا القبيل.

وإنّما الصحيح في نكتة هذا الظهور: أنّك عرفت أنّ المدلول التصوّريّ لصيغة الأمر أوّلاً هو النسبة الإرساليّة، وثانياً وفي طولها الإرادة، فلو كان المدلول التصديقيّ هو الإرادة لتطابق المدلول التصديقيّ مع المدلولين التصوّريّين، وإلّا فلا، وأصالة التطابق بين المدلول التصوّريّ والمدلول التصديقيّ أصل عرفيّ عامّ بحسب المناسبات المركوزة في أذهان العرف.

وإن شئت بيّنت المطلب بتعبير آخر، وهو: أنّ سائر الدواعي غير الإرادة تفترض قبلها الإرادة افتراضاً دون العكس، فمن يستهزئ، أو يعجّز، أو يسخّر يفترض أنّه قد أراد منه كذا، فترتّب عليه إظهار عجزه، أو استهزاؤه، أو تسخيره، فهو يتقمّص قميص من يريد حتّى يعجّز، أو يستهزئ، إذن فالطبع الأوّليّ هو الكشف عن الإرادة، والباقي مشتمل على مؤونة زائدة منفيّة بالإطلاق ومقدّمات الحكمة.



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 102 بحسب طبعة المشكينيّ.

107

كيفيّة دلالة صيغة الأمر على الوجوب

الجهة الثانية: في كيفيّة دلالة صيغة الأمر على الوجوب بعد الفراغ عن دلالتها على الطلب.

وقد تقدّم نظير ذلك في مادّة الأمر، وعرفت أنّ هناك مسالك ثلاثة لاستفادة الوجوب من مادّة الأمر:

1 ـ مسلك العقل، وهو: أنَّ العقل ينتزع الوجوب من أمر المولى عند عدم صدور الترخيص في الخلاف.

2 ـ مسلك الإطلاق، بأن يقال: إنّ مقتضى الإطلاق ومقدّمات الحكمة هو حمل الطلب على الفرد الأخفّ مؤونة، وهو الوجوب، ببيان مضى.

3 ـ مسلك الوضع، بأن يقال: إنّ مادّة الأمر موضوعة للوجوب.

أمّا المسلك الأوّل، فلو تمّ هناك يجري هنا أيضاً حرفاً بحرف بلا فرق بين المقامين.

وأمّا المسلك الثاني، فقد يقال: إنّه لو تمّ هناك لا يتمّ هنا؛ وذلك لأنّ صيغة «افعل» مدلولها هو الإرسال والدفع والتحريك، وليس مدلولها هو الإرادة كما في مادّة الأمر، ففي مادّة الأمر كان يقال: إنّها دالّة على الإرادة وهي ذات مراتب، فتحمل على المرتبة الشديدة مثلاً، ببيان مضى، وأمّا الإرسال والدفع فهو على حدّ واحد، لا يختلف باختلاف الوجوب والاستحباب حتّى تعيّن المرتبة الشديدة منه بالإطلاق.