193

علماً(1). أعضاؤكم شهوده، وجوارحكم جنوده(2)، وضمائركم عيونه(3)، وخلواتكم عيانه»(4).

 

5 ـ حفظ الجبال للأرض من الحركات والزلازل:

قال الله تعالى:﴿وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُون﴾(5)، ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الاَْرْضَ مِهَاداً * وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً﴾(6)، ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَات وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتاً﴾(7)، ﴿وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّة﴾(8).

فمن الذي كان يعلم وقتئذ تأثير الجبال في استقرار الأرض، وأنّها بمنزلة الأوتاد والرواسي؟ في حين أنّه بعد مضيّ قرون متمادية انكشف الأمر للعلماء،


(1) «وَكُلَّ سَيِّئَة أَمَرْتَ بِإِثْباتِهَا الْكِرامَ الْكاتِبينَ الَّذينَ وَكَّلْتَهُمْ بِحِفْظِ ما يَكُونُ مِنّي، وَجَعَلْتَهُمْ شُهُوداً عَلَيَّ مَعَ جَوارِحي، وَكُنْتَ أَنْتَ الرَّقيبَ عَلَيَّ مِن وَرَائِهِمْ، وَالشّاهِدَ لِما خَفِيَ عَنْهُمْ، وَبِرَحْمَتِكَ أَخْفَيْتَهُ، وَبِفَضْلِكَ سَتَرْتَهُ...». دعاء كميل.

(2) ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون﴾. س 36 يس، الآية: 65. ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْء وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُون﴾. س 41 فصّلت، الآية: 21 ـ 22.

(3) ﴿بَلِ الاِْنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَه﴾. س 75 القيامة، الآية: 14 ـ 15.

(4) نهج البلاغة، الخطبة 199. ﴿وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور﴾. س 64 التغابن، الآية: 4.

(5) س 16 النحل، الآية 15.

(6) س 78 النبأ، الآية: 6 ـ 7.

(7) س 77 المرسلات، الآية: 27.

(8) س 31 لقمان، الآية: 10.

194

فرأوا أنّ الجبال هي التي هدّأت الأرض في مقابل الحركات والزلازل، سواء التي قد تنشأ من حرارة مركز الأرض وضغطها على قشر الأرض، أو التي يمكن أن تنشأ من الجزر والمدّ الناتجين من جاذبيّة بعض الكواكب الاُخرى كالشمس والقمر، أو التي يمكن أن تنشأ على أثر اصطكاك الأرض بما حولها من الهواء نتيجة حركتها الدائرة حول نفسها، لولا أنّ الجبال تحرّك ـ كما قالوا ـ الهواء من حول الأرض بما يوازي حركة الأرض فلا يتحقّق الاصطكاك بينهما.

 

6 ـ الزوجية في النباتات:

ففي الوقت الذي لم يكن يعرف أحد الزوجيّة في النباتات ـ اللّهم إلّا في النخل الذي شاع تلقيحه عندهم ـ قال القرآن:

﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْج كَرِيم﴾(1)، ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْج كَرِيم﴾(2)، ﴿وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْج بَهِيج﴾(3)، ﴿وَتَرَى الاَْرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْج بَهِيج﴾(4)، ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَات شَتَّى﴾(5).

وقد كان يحمل التعبير بالزوج في هذه الآيات على تعدد الأصناف، إلى أن اكتشف العلم شمولية قانون الزوجيّة من الذكر والاُنثى للنبات والتلقيح فيها ولو بسبب الحشرات تارة، وبسبب الريح اُخرى، ولعلّه المقصود بقوله تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِح﴾(6).

بل ذهب القرآن إلى أكثر من ذلك وثبّت الزوجيّة لكلّ شيء حتّى الجمادات


(1) س 31 لقمان، الآية: 10.

(2) س 26 الشعراء، الآية: 7.

(3) س 50 ق، الآية: 7.

(4) س 22 الحج، الآية: 5.

(5) س 20 طه، الآية: 53.

(6) س 15 الحجر، الآية: 22.

195

في قوله تعالى: ﴿وَمِن كُلِّ شَيْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون﴾(1).

وقد كان يفسّر ذلك بمعنى خلق كلّ صنفين متقابلين كالليل والنهار، أو النور والظلمة، أو البحار والبراري، أو الشمس والقمر، أو الحرب والصلح، أو ما إلى ذلك، وأنت ترى أنّ هذا ـ مضافاً إلى عدم شموليته لكلّ شيء ـ تفسير واه؛ إذ لا نكتة لتركيز الكلام على الزوجيّة في ذلك، وليس مجرّد المقابلة بين أمرين تنسّب إطلاق الزوج عليهما هنا في حين أنّ العلم أثبت أخيراً تركيب كلّ مادّة من ذرّات، واشتمال كلّ ذرّة على نواة حولها الكترونات ذات شحنات سالبة تدور بسرعة كبيرة، مع احتواء النواة على بروتونات تحمل شحنات موجبة بمقدار شحنة الالكترونات السالبة، والجذب الموجود بينهما وتكميل أحدهما للآخر ممّا ينسّب افتراض أحدهما زوجاً للآخر وليس مجرّد المقابلة، وهذه قاعدة عامّة في جميع الموادّ بلا استثناء.

 

7 ـ بعض تطوّرات الجنين:

قال الله تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الاِْنسَانَ مِن نُّطْفَة أَمْشَاج نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾(2).

قوله تعالى: ﴿أَمْشَاج﴾ جمع مشج أو جمع مشيج بمعنى المختلط، كان يفسّر بالاختلاط بين منيّ الرجل وبُيَيضة المرأة(3)، ولكن لعلّ صيغة الجمع تشير إلى


(1) س 51 الذاريات، الآية: 49.

(2) س 76 الإنسان، الآية: 2.

(3) بل وحتّى هذا الاختلاط في خلقة الجنين لم يكن معروفاً في زمن رسول الله(صلى الله عليه وآله)بالأخص في ذاك المجتمع الجاهلي، وكان الاعتقاد السائد أنّ الولد للأب فقط، وأنّ الاُمّ حكمها حكم القدر الذي يطبخ فيه الطعام، وكان يقال:

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا
بنوهنّ أبناء الرجال الأباعد

196

أكثر من مادّتين.

أو يفسّر بالاختلاط بين الاستعدادات الجسمانيّة والروحيّة الكامنة في نطفة الإنسان، ولعل ظهور الكلمة يكون في الخلط المادّي الفعلي.

أو يفسّر باختلاط أنواع المركّبات المعدنيّة وشبهها في النطفة، في حين أنّ هذا المعنى من الاختلاط لا يختصّ بالنطفة، بل يشمل جميع الموادّ الإنسانيّة والنباتيّة والأغذية والجمادات المركّبة.

ولكن قد كشف العلم بعد قرون متمادية عن كون المنيّ خليطاً من ترشّحات غدد عديدة في البدن، كالخصيتين وغدّة البروستات وغيرها.

قوله تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾، قد يكون تقديم كلمة السميع على كلمة البصير إشارة إلى ما ثبت بعد حين لدى العلماء: من أنّ المولود يصبح قادراً على السماع في أوائل أيّام ولادته ـ ولعلّه من أوّل يوم ـ ولا يصبح قادراً على الرؤية إلّا بعد حين، أو إشارة على ما ثبت أيضاً بعد حين من أنّ تكوّن أساس الجهاز السمعي للجنين يكون قبل تكوّن أساس الجهاز البصري في الرحم.

وقال الله تعالى:﴿أَلَمْ نَخْلُقكُم مِّن مَّاء مَّهِين * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَار مَّكِين * إِلَى قَدَر مَّعْلُوم * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُون﴾(1)، وهذا ظاهر في أنّ خلق الإنسان من ماء مهين يكون أوّلاً قبل جعله في قرار مكين وهو الرحم، ثُمّ يجعل فور انعقاده في القرار المكين على ما هو ظاهر العطف بالفاء، وقد كشف العلم بعد قرون: عن أنّ انعقاد الجنين يتمّ أوّلاً بتلاقح المني والبُيَيضة خارج الرحم، ثمّ ينتقل فوراً بعد الانعقاد إلى الرحم.

قوله تعالى: ﴿فِي قَرَار مَّكِين﴾، وأيّ قرار أمكن وآمن من مقرّ الجنين الواقع


(1) س 77 المرسلات، الآية: 20 ـ 23.

197

بعد أستار ثلاثة(1) وفي كيس مليء بماء لزج، يجعل الجنين سابحاً في ذلك الماء فكأنّه لا وزن له؟! وتتحمّل تلك الفواصل ثمّ ذاك الماء كلّ الضربات المتوقعة، ويبقى الجنين سليماً في العادة إلى آخر لحظة، و﴿إِلَى قَدَر مَّعْلُوم * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُون﴾ ثمّ ينفجر الكيس وينزل الماء؛ ليعقّم طريق خروج الجنين الذي لا يخلو عادة من تلوّثات، ويوسّع فوهة الرحم تمهيداً لخروجه بسلام(2).

ولملحد أو كافر أن يقول: من قال: إنّ الآية القرآنيّة تحكي عن هذه الدقائق؟ ولعلّ مقصودها بالقرار المكين المقدار المنكشف لكلّ انسان اعتيادي من أنّ الرحم واقع في جوف البطن فهو قرار مكين نسبيّاً. وأيضاً من قال: إنّ تقديم كلمة «السميع» على كلمة «البصير» تشير إلى تقدّم السمع على البصر؟ ومن قال: إنّ كلمة ﴿أَمْشَاج﴾ تشير إلى الاختلاط بين أكثر من مادّتين؟ وقد قالوا: إنّ صيغة الجمع تطلق على اثنين فصاعداً.

ولكن ماذا يقول عن رفع القرآن الستار عن مراتب تطوّر الجنين في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَار مَّكِين * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين﴾(3) ؟ فمن علّم الرجل الاُمّي(صلى الله عليه وآله) الذي عاش وترعرع ضمن المجتمع الجاهليّ الذي لا يعرف شيئاً اسمه العلم، ولا يجيد إلّا السباب والشتائم


(1) جدار البطن، وجدار الرحم، والكيس الذي فيه الجنين. راجع أيضاً هذا البحث في ما مضى من بحث القرار المكين للجنين ضمن برهان النظم على وجود الله سبحانه وتعالى.

(2) راجع في كلّ هذا پيام قرآن 8: 169 ـ 172.

(3) س 23 المؤمنون، الآية: 13 ـ 14.

198

والمشاحنة والقتال والغارات أنّ الجنين يمرّ أوّلاً بمرحلة النطفة في الرحم، ثُمّ يصل إلى مرحلة الدم المنجمد، ثمّ يرتقي إلى مرحلة ما يشبه اللحم الممضوغ، ثمّ يتحوّل إلى الخلايا العظميّة، ثمّ تكسى العظام باللحم إلى أن ينتهي الأمر إلى نفخ الروح؟ فتبارك الله أحسن الخالقين. وهل أنّ أدوات التصوير التي شاعت اليوم عن مراحل الجنين كانت شائعة وقتئذ؟ أم الدراسات الممكنة اليوم لما في داخل البدن بجزيئاته بوسائل التلفزة الواضحة كانت تحت يد الرسول(صلى الله عليه وآله)يومئذ؟ أم هل كان قد راج آنذاك ما يسمّى اليوم بعلم تشريح الجنين؟ أوَ ليس كلّ هذا تعليماً ربّانيّاً من قبل إله حكيم عليم محيط بكلّ شيء إحاطة الخالق بالمخلوق؟(1)

ومن الطريف من الناحية البلاغيّة أنّه تعالى في الآية السابقة عطف مرحلة الجعل في قرار مكين بالفاء، وفي هذه الآية عطفها بثمّ؛ لأنّ المعطوف عليه في تلك الآية كان عبارة عن مرحلة الانعقاد الذي يتمّ خارج الرحم، ثمّ ينتقل الجنين فوراً إلى الرحم، في حين أنّ المعطوف عليه في هذه الآية عبارة عن مرحلة خلق الإنسان من سلالة من طين قبل نأي من الزمن.

وأيضاً من الطريف من الناحية البلاغيّة: أنّ المراحل المتقاربة نسبيّاً من بعد اجتياز مرحلة النطفة عطف بعضها على بعض في هذه الآية بالفاء، عدا مرحلة نفخ الروح البعيدة نسبيّاً عن المراحل السابقة، فقد عطفت بثمّ.

وأيضاً من الطريف في هذه الآية أنّها عنونت المراحل المتقدّمة بعناوين قابلة للفهم البشري من: النطفة والعلقة والمضغة والعظم وكسوة اللحم، ولكن أشارت إلى المرحلة الأخيرة ـ وهي نفخ الروح ـ بما يوحي إلى أنّه غير قابل


(1) راجع پيام قرآن 8: 173 ـ 174.

199

للدرك في فهم الإنسان المادّي فقال: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَر﴾ من دون أن يسمّي ذاك الخلق باسم؛ لأنّه ليس له اسم قابل للدرك في الذهن البشري، كما قال الله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾(1) على ما في أكبر الظنّ من أنّ المقصود بالروح هو الروح البشريّة، أو مطلق الروح الحيوانيّة على الرغم من أنّ بعض الأكابر(2) أصرّ على كون المقصود بالروح روح الأمين جبرائيل، وممّا ذكره كقرينة على ذلك: أنّ السائلين في قوله: ﴿يَسْأَلُونَك﴾ وإن كانوا بعض المشركين، لكنّهم إنّما سألوا بدلالة بعض اليهود الذين كانوا أعداء لجبرئيل باعتقادهم أنّه حرّف النبوّة من نسل إسرائيل إلى نسل إسماعيل، ويقولون بشأنه: خان الأمين؛ ولهذا قال الله تعالى في ردّهم: ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِين﴾(3).

أقول: إنّ هذا الكلام غريب؛ فإنّ الظاهر من فرض السؤال عن الروح هو السؤال عن هويته لا عن أمانته أو خيانته أو عن طيبه أو خبثه.

ومن الجدير بالذكر بهذه المناسبة أنّ البعض قد يتصوّر التضارب في بعض الاُمور بين العلم والدين، وقد يذكر كمثل لذلك ما هو المعروف في الفقه من أنّ الروح ينفخ في الجنين من بعد الأربعة أشهر، في حين أنّ العلم يقول: إنّ الجنين مشتمل على الروح من أوّل يوم؛ ولهذا ينمو ويتكامل ويطوي المراحل المختلفة، وقد يذكر أيضاً كمثل لذلك ما هو معلوم لدى الفقه من التفكيك بين دم الحيض ودم الاستحاضة، في حين أنّ العلم لا يفرّق بينهما ويراهما حقيقة


(1) س 17 الإسراء، الآية: 85.

(2) راجع منشور جاويد 3، الفصل العاشر.

(3) س 2 البقرة، الآية: 97.

200

واحدة ومن منبع واحد.

والواقع أنّ التضارب بين العلم والدين من المستحيلات؛ لأنّ خالق العلم ومنزّل الدين واحد وهو الله تعالى، أمّا الجواب على ما ذكرناهما من المثلين والمسموعين من بعض الأطبّاء فواضح:

أمّا المَثَل الأوّل فلأنّ فيه خلطاً بين الروح النباتيّة والتي تؤدّي إلى النموّ، والروح الحيوانيّة والتي تؤدّي إلى الحركات الإراديّة التي يتّصف بها الجنين عادة من بعد الأربعة أشهر.

وأمّا المَثَل الثاني فلأنّ فيه خلطاً بين تماثل الدّمين في الهويّة والعناصر التي يأتلف منها الدم، وفي منبع نزول الدم من ناحية وأسباب النزول من ناحية اُخرى، فسبب نزول دم الحيض سبب صحّي؛ ولهذا لا يعالجه الأطبّاء، وسبب نزول دم الاستحاضة سبب مرضي؛ ولهذا يحاول الطبيب معالجته، وسبب نزول الحيض هو التمزّق الدوري لغشاء الرحم، في حين أن سبب الاستحاضة كما قلنا انحراف المزاج، ونزول الحيض آيةٌ لقابليّة الحمل وليست الاستحاضة كذلك.

 

8 ـ السقف المحفوظ المسمّى اليوم بالغلاف الجوّي:

قال الله تعالى:﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُون﴾(1)، ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُون﴾(2).

كان الاعتقاد السائد قديماً هو أنّ السماوات كقشور البصل، فكأنّ كلّ سماء قشر كالقشور الأرضيّة، وبعضها منطبق على البعض، ثمّ انكشف ـ على الأقل


(1) س 21 الأنبياء، الآية: 32.

(2) س 6 الأنعام، الآية: 125.

201

بالنسبة لما هو مرتبط مادّياً بأرضنا وهي ما يسمّى بالسماء الدنيا ـ أنّه ليس الأمر كذلك، بل كوكبنا وكباقي الكواكب بالقدر المكشوف لنا كلّها كرات سابحة في جوّ يبدو لنا أنّه غير متناه.

وبهذا أصبح معنى قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً﴾ أمراً غامضاً؛ إذ يقال: لا سقف لعالمنا وأرضناأو مجرّتنا أو المجرّات الملحوظة كي يكون محفوظاً أو غير محفوظ، فلابدّ من حمل الآية على معنى مجازي.

ولكن العلم كشف أخيراً عن أنّ أرضنا محفوفة بالهواء المسمّى بالغلاف الجوّي، وهو هواء رقيق أرقّ وأصفى من الهواء المألوف عندنا في مرافق الأرض، وهذا الغلاف بلغ من الضخامة مئات الكيلو مترات وهو متألّف من الهواء وبعض الغازات الاُخرى، وضخامته التي أشرنا إليها جعلته مقاوماً ومحفوظاً كسقف حديدي يبلغ نحو عشرة أمتار مثلاً، ليحفظ الأرض ومن عليها وما عليها من الأخطار النازلة والمتنوّعة:

فالأحجار المسمّاة بالشهب تنزل بأسرع ما يتصوّر إلى الأرض، وواحدة منها تكفي لهلاكنا أو هلاك قسم واسع من أرضنا، فكيف وعددها يبلغ يوميّاً الملايين على ما يقول العلماء؟ ولكنّها جميعاً تصطدم في طريقها بذاك الغلاف الجوّي الضخم وتحترق بذلك، إلّا بعض الأجزاء اليسيرة المتبقّية من بعض الأحجار الكبيرة، فتخرق هذا السقف، وتحقّق بعض التهديمات المهمّة في بعض نقاط الأرض، وكأنّ ذلك لإلفات نظرنا وتنبيهنا إلى الأخطار الحقيقيّة للشهب التي يحفظنا منها هذا السقف المحفوظ.

وكذلك يحفظنا هذا السقف المحفوظ من الأشعّة فوق البنفسجيّة الصادرة من الشمس ممّا لا تدرك بالبصر، ومقدارها الضئيل الذي يصلنا ينفعنا ويقتل كثيراً من الميكروبات الملوّثة للجوّ؛ لما له من التأثير المضادّ الحيويّ، ولكن الكثير

202

من تلك الأشعة يحرق البدن، وامتصاص الغلاف الجوّي للزائد منها هو الذي ينجينا من الهلاك.

وكذلك يحفظنا هذا السقف المحفوظ أو قل: هذا الغلاف الجوّي من الأشعة التي تنزل إلينا من فوق المنظومة الشمسيّة بواسطة ما فيه من غاز أزرق يسمّى بالاُوزون. وقد شاعت في هذه الأيّام مخاوف العلماء من حدوث رقّة في طبقة الاُوزون نتيجة تصاعد بعض الغازات الأرضيّة الناشئة من احتراق الوقود وغيره.

وإطلاق كلمة السماء في هذه الآية المباركة على ما يسمّى اليوم بالغلاف الجوّي ليس غريباً؛ فإنّ كلمة السماء يبدو أنّها استعملت يقينا في هذا المعنى في عديد من الآيات، من قبيل آيات إنزال ماء المطر من السماء كقوله تعالى: ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ﴾(1).

وقل لي بالله عليك أنّ الرجل الاُمّي ـ أرواحنا له الفداء ـ كيف عرف الفرق بين الهواء المتواجد لدينا في مرافق أرضنا، والهواء الفوقاني من ناحية أنّ الهواء المتواجد لدينا مضغوط وفيه من الاُكسيجن ما يكفي للتنفّس بكلّ راحة، في حين أنّنا كلّما نصعد في الهواء ونقترب أكثر من ذاك السقف المحفوظ أو طبقات الغلاف الجوّي يرقّ الهواء أكثر ويقلّ فيه عنصر الاُكسجين، فيضيق التنفّس في الصدر إلى أن ينعدم، فورد في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿ فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُون﴾(2).

إنّ هذه حقيقة لم تنكشف للعلم إلّا بعد قرون متمادية، فترى اليوم أنّ


(1) س 2 البقرة، الآية: 22.

(2) س 6 الأنعام، الآية: 125.

203

المشرفين على الطائرات يعلنون لركّابها أنّ الهواء داخل الطائرة مكيّف بتكييف خاصّ لتسهيل التنفّس، فلو حصل أيّ عطب أو خلل أوجب ضيق التنفّس زوّدناكم بأجهزة اُكسجينيّة تستفيدون منها حتّى تهبط الطائرة إلى الجوّ المناسب من الهواء.

 

9 ـ نسبة البَرَد إلى الجبال في السماء:

فقد ورد في القرآن الكريم نسبة البَرَد(1) ـ الذي ينزل إلى الأرض عادة مع الأمطار ـ إلى جبال في السماء، فكأن المطر يسير إلى تلك الجبال ويحمل منها البَرَد، فينزل البَرَد ضمن المطر إلى الأرض، قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَال فِيهَا مِن بَرَد فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالاَْبْصَار﴾(2).

والمقدار المعروف لدى الناس الاعتياديين في زماننا ـ لا في زمان نزول الآية ـ أنّ السحاب الذي هو عبارة عن البخار المتصاعد من الأرض إلى السماء يتحوّل بالتلاقي مع برودة الطبقات الجوّية العليا إلى ماء، وينزل مرّة اُخرى إلى الأرض، وقد يتحوّل نتيجة شدّة البرد إلى الثلج؛ وذلك على شكلين: فإن تحوّل السحاب بشدّة البرد إلى الثلج تكوّن الوفر ونزل، وإن تحوّل بسبب مستوى معيّن من البرد إلى الماء وهو المطر ثمّ تحوّل بعض قطرات هذا المطر في الأثناء بشدّة البرد إلى الثلج تكوّن البَرَد ونزل البَرَد إلى الأرض. أمّا افتراض أنّ البَرَد


(1) البَرَد: الماء الجامد ينزل من السحاب قِطَعاً صغاراً، ويسمّى: حبّ الغمام. المعجم الوسيط«برد».

(2) س 24 النور، الآية: 43.

204

عبارة عن حبّات تؤخذ من جبال في السماء فيكاد يبدو في الذهن ـ لولا اكتشافات علميّة أخيرة ـ من الخرافات.

إلّا أنّ الاكتشافات الأخيرة تقول: إنّ المطر حينما يلتقي طبقة باردة في الجوّ، وتتحوّل قطرات منه إلى الثلج تكون تلك القطرات صغيرة جدّاً، ولا تبلغ ابتداءً حجم البَرَد المألوف لدينا نزوله هذا من ناحية، ومن ناحية اُخرى تقول الاكتشافات: إنّ الغيوم وإن كانت تتراءى لنا في ظاهر الحال كأوراق مفروشة في السماء، ولكنّها كما نراها من الطائرات التي تعلوها تكون في جهتها الاُخرى جبالاً سحابيّة، أي ركاماًـ كما عبّر به في القرآن ـ ضخماً مختلف السطوح وليست كوجهها الظاهر لنا من مكان بعيد، وهي تماماً كالجبال الأرضية متفاوتة السطوح ومختلفة الأحجام، ومن ناحية ثالثة تقول الاكتشافات أيضاً: إنّ تلك القطرات الثلجية الصغيرة الضئيلة يأخذ بها الريح لخفّتها يميناً وشمالاً وصعوداً إلى تلك الجبال الغيميّة، وتمتصّ معها مرّة اُخرى رطوبة الجوّ لتتحوّل إلى قشر ثلجيّ جديد في طريقها للنزول، فيكبر بذلك حجم البَرَد، وتتكرّر هذه العمليّة عدّة مرّات إلى أن تبلغ من الكبر ما لا يستطيع الهواء رفعه مرّة اُخرى إلى ما فوق تلك الجبال، فتأخذ طريقها في الهبوط إلى الأرض بحجمها المألوف أو بتعبير القرآن: على شكل البَرَد فقد عرفنا كيف يحمل المطر البَرَد من الجبال.

بل قيل: إنّ من تلك الجبال ما هي متحوّلة إلى ثلوج ناعمة متراكمة(1).

أقول: ويحتمل ـ ولعل هذا يكشفه العلم بالمستقبل ـ وجود جبال هوائيّة باردة، كما يحسّ به اليوم من وجود وِديان هوائيّة قد تجذب الطائرات الصاعدة.

 


(1) راجع پيام قرآن 8: 181 ـ 182.

205

10 ـ عظمة ودقّة صنع البنان:

قال الله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الاِْنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَه﴾(1). هذه الآية المباركة تبدأ بالاستنكار على من لا يستطيع التصديق بقدرة الله سبحانه على جمع عظام الميّت ونفخ الروح فيه مرّة اُخرى، وتنتهي بالإشارة إلى قدرته عزّ وجلّ على صنع أدقّ عضو من أعضاء الإنسان وإرجاعه إلى الخلق الأوّل، فعلى خلاف ما قد يبدو في تصوّر ساذج من أنّ العظام الكبيرة العظيمة التي تتقوّم بها البُنية الأصليّة من الجسد هي أعظم ما يكون في صنع البشر، يقول الله تعالى: لا تستغرب من إرجاع العظام إلى ما كانت عليه في الخلق الأوّل، فهنا ما يكون أعظم وأغرب في الصنع وأدقّ في التسوية والترتيب، والله تعالى يُرجعها ويُرجع العظام وباقي الأعضاء كما كانت، ألا وهي البنان.

فمن الذي كان يعرف أنّ البنان من أغرب ما في جسم البشر وأعظمها وأدقّها قبل أن يكتشف العلم خطوط البنان التي لو قيس فيها بنان شخص ببنان شخص آخر مع الجمع بين الأوّلين والآخرين من البشر من أوّل العالم وإلى يوم القيامة فلن يوجد بنانان متساويان لشخصين في تلك الخطوط؟ ولهذا أصبحت البصمة في عالم القضاء والحكم في زماننا هذا أمتن توقيع متميّز فوق الختم والإمضاء، فكلّ شيء يقبل التزوير والتصنيع ما عدا بصمة البنان، وأصبح تشخيص المجرم عن طريق آثار البنان ـ التي تبقى على الأبواب أو الأقفال أو الحيطان أو الأسلحة أو ما إلى ذلك ـ فنّاً رائعاً من فنون هذا العصر، نعم يقول الله تبارك وتعالى: ﴿بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَه﴾.

 


(1) س 75 القيامة، الآية: 3 ـ 4.

206

 

الإخبار عن اُمور غيبيّة مستقبليّة

 

وردت أخبار غيبيّة مستقبليّة في القرآن من قبيل:

 

1 ـ انتصار الروم بعد بضع سنين:

قال تبارك وتعالى: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الاَْمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون﴾(1).

قالوا: وقعت حرب بين الروم والفُرس بهجوم من قبل الفُرس سنة (617) الميلاديّة تقريباً على الروم في أراضي الشامات، وانتهت بهزيمة الامبراطوريّة الروميّة الشرقيّة وأصبحت على أبواب الانقراض. وكان ذلك فيما يقارب السنة الهجريّة السابعة، وأوجب فرحاً وسروراً للمشركين في مكّة؛ لأنّ الفُرس كانوا مشركين مجوسيّين والروم مسيحيّين ومن أهل الكتاب، فتفاءل مشركو مكّة بأنّهم سيغلبون المسلمين، ويُنهون بذلك حياة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وهذا ما أوجب فرح المشركين وأذى المسلمين واغتمامهم، فنزلت الآية المباركة المصرّحة بأنّ الروم سيَغلِبون في ما هو أقل من عشر سنين.

والذي وقع حسب ما يحدّثنا التاريخ هو بدء غلبة الروم على الفُرس من سنة (626) الميلاديّة في حروبهم مع إيران إلى سنة (627)، فكان يتمّ للروم


(1) س 30 الروم، الآية: 1 ـ 6.

207

الانتصار تلو الانتصار حتّى اكتمل انتصارهم، وخلع الإيرانيون ملكهم خسرو پرويز ونصبوا مكانه ابنه شيرويه. إذن بدأت انتصارات هرقل ملك الروم بعد تسع سنين من انكساره واكتملت في السنة العاشرة، حيث اكتسح سلطانه الأرض إلى ما يقرب من عاصمة خسرو فهرب وخلعه الإيرانيون وقُتل بعد ذلك.

 

2 ـ دخول المسجد الحرام:

قال تبارك وتعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً﴾(1).

قالوا: عزم رسول الله(صلى الله عليه وآله)على زيارة المسجد الحرام وأداء العمرة في شهر ذي القعدة سنة ست للهجرة، وطلب من المسلمين مصاحبته في هذا العمل فاستجاب كثير منهم. وقد رأى رسول الله(صلى الله عليه وآله) في عالم الرؤيا دخوله مع أصحابه المسجد الحرام لأداء مناسك العمرة، وحدّث المسلمين بذلك، ورؤيا النبي تعتبر بمنزلة الوحي، فتوهّم المسلمون أنّ ذلك سيكون في تلك السنة نفسها.

وسار مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) نحو ألف وأربع مئة نفر وهم لا يحملون من السلاح إلّا السيف الذي يعتبر سلاح السفر ولا يكفي للحرب، وحينما وصلوا إلى عسفان قريباً من مكّة عرفوا أنّ قريشاً صمّمت على منعهم من دخول مكّة، ولكنّهم ساروا إلى الحديبيّة التي كانت تبعد عن مكّة بعشرين كيلو متراً، فوقفت الناقة وزجرها فلم تنزجر وبركت، فقال أصحابه: خلأت الناقة. أي بركت ولم تبرح


(1) س 48 الفتح، الآية: 27.

208

مكانها. فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): وما هذا لها عادة ولكن حبسها حابس الفيل. ودعا عمر بن الخطّاب ليرسله إلى مكّة ليأذنوا له بأن يدخل مكّة ويحلّ من عمرته وينحر هديه، فقال: يا رسول الله ما لي بها من حميم، وإنّي أخاف قريشاً لشدّة عداوتي إيّاها، ولكن أدلّك على رجل هو أعزّ بها منّي وهو عثمان بن عفّان. فقال: صدقت. فدعا رسول الله(صلى الله عليه وآله)عثمان، فأرسل إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنّه لم يأت لحرب وإنّما جاء زائراً لهذا البيت معظّماً لحرمته، فخرج عثمان إلى مكّة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص ـ حين دخل مكّة أو قبل أن يدخلها ـ فحمله بين يديه، ثمّ أجاره حتّى بلّغ رسالة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فاحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله(صلى الله عليه وآله)والمسلمين أنّ عثمان قد قتل، فقال(صلى الله عليه وآله): لا نبرح حتّى نناجز القوم. فدعا الناس إلى البيعة فقام رسول الله(صلى الله عليه وآله)إلى الشجرة فاستند إليها، وبايع الناس على أن يقاتلوا المشركين ولا يفرّوا.

ونزل(صلى الله عليه وآله) بأقصى الحديبيّة على ثمد قليل الماء، فشكوا إليه العطش، فانتزع رسول الله(صلى الله عليه وآله) سهماً من كنانته ثمّ أمرهم أن يجعلوه في الماء، فو الله مازال يجيش لهم بالريّ حتّى صدروا عنه، وبعد ذلك جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة وأخبره بتهيّؤ قريش للقتال، فقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله): نحن لم نجئ لنقاتل أحداً ولكنّنا جئنا معتمرين. وعرض(صلى الله عليه وآله) عليه فكرة الصلح وإيقاف الحرب لمدّة بين المسلمين والمشركين، وإعطاءه حرّية تبليغ الرسالة مع كونهم في أمان من المسلمين وكون المسلمين في أمان منهم، فقال بديل: ساُبلّغهم ما تقول. فرجع إلى قريش وأخبرهم بكلام رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فقام عروة بن مسعود الثقفي وقال: إنّه قد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها ودعوني آته. فأتى النبيّ(صلى الله عليه وآله) وضمن حواره معه(صلى الله عليه وآله) جعل يرمق صحابته(صلى الله عليه وآله)، فإذا أمرهم رسول الله(صلى الله عليه وآله) ابتدروا أمره، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلّموا

209

أخفضوا أصواتهم عنده وما يحدّون إليه النظر تعظيماً له. فرجع عروة إلى أصحابه وقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكاً قطّ يعظّمه أصحابه بمثل ما يعظّم أصحاب محمّد محمّداً، إذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلّموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون إليه النظر تعظيماً له، وإنّه قد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها. فقال رجل من بني كنانه: دعوني آته. فلمّا أشرف عليهم قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): وهذا فلان وهو من قوم يعظّمون البدن فابعثوها له. واستقبله القوم يلبّون، فلمّا رآى ذلك قال لأصحابه: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا. فقام رجل يقال له مكرز بن حفص فقال: دعوني آته. فلمّا أشرف عليهم قال النبيّ(صلى الله عليه وآله): هذا مكرز وهو رجل فاجر فجعل يكلّم النبيّ(صلى الله عليه وآله)، فبينا هو يكلّمه إذ جاء سهيل بن عمرو فقال(صلى الله عليه وآله): قد سهّل الله عليكم أمركم. فقال: اكتب بيننا وبينك كتاباً. فدعا رسول الله(صلى الله عليه وآله) عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)فقال له اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: أمّا الرحمن فو الله ما أدري ما هو ولكن اكتب بسمك اللّهمّ. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلّا بسم الله الرحمن الرحيم. فقال النبيّ(صلى الله عليه وآله): اكتب بسمك اللّهمّ، هذا ما قضى عليه محمّد رسول الله. فقال سهيل: لو كنّا نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمّد بن عبدالله. فقال النبيّ(صلى الله عليه وآله): إنّي رسول الله وإن كذّبتموني. ثمّ قال لعليّ(عليه السلام): امح رسول الله. فقال(عليه السلام): يا رسول الله، إنّ يدي لا تنطلق بمحو اسمك من النبوّة. قال له: فضع يدي عليها. فمحاها رسول الله(صلى الله عليه وآله)بيده.

ثمّ قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): يا عليّ، إنّك أبيت أن تمحو اسمي من النبوّة، فوالذي بعثني بالحقّ نبيّاً لتجيبنّ أبناءهم إلى مثلها وأنت حضيض مضطهد. فلمّا كان يوم

210

صفّين ورضوا بالحكمين كتب: هذا ما اصطلح عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. فقال عمرو بن العاص: لو علمنا أنّك أمير المؤمنين ما حاربناك، ولكن اكتب: هذا ما اصطلح عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): صدق الله وصدق رسوله(صلى الله عليه وآله)؛ أخبرني رسول الله(صلى الله عليه وآله) بذلك. ثمّ كتب الكتاب.

وممّا ينقل عن هذه القصّة أنّه «أقبل سهيل بن عمرو إلى النبي(صلى الله عليه وآله) فقال له: يا محمّد، إنّ أرقّاءنا لحقوا بك فارددهم علينا. فغضب رسول الله(صلى الله عليه وآله) حتّى تبيّن الغضب في وجهه ثمّ قال: لتنتهن يا معاشر قريش، أو ليبعثنّ الله عليكم رجلاً امتحن الله قلبه بالإيمان يضرب رقابكم على الدين. فقال بعض من حضر: يا رسول الله، أبوبكر ذلك الرجل؟ قال: لا. قال: فعمر؟ قال: لا، ولكنّه خاصف النعل في الحجرة. فتبادر الناس إلى الحجرة ينظرون من الرجل فإذا هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)»(1)، ورُوي أنّه كان الذي أصلحه أمير المؤمنين(عليه السلام) من نعل النبيّ(صلى الله عليه وآله) شسعها؛ فإنّه كان قد انقطع فخصف موضعه وأصلحه.

وفي رواية اُخرى: أنّ أبابكر هو الذي قال: أنا هو يا رسول الله؟ قال(صلى الله عليه وآله): لا. وعمر هو الذي قال: أنا هو يا رسول الله؟ قال(صلى الله عليه وآله): لا، ولكنّه ذلكم خاصف النعل في الحجرة(2).

وعلى أيّ حال فبعد الصلح اعترض بعض على رسول الله(صلى الله عليه وآله) بأنّ الرؤيا إذن لم تصدق، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): هل قلت لكم إنّه في هذه السنة سندخل المسجد الحرام؟ إنّما قلت: إنّه سيتحقّق ذلك في وقت قريب. فنزلت الآية


(1) البحار 20: 360، الباب 20 من أبواب أحوال الرسول(صلى الله عليه وآله)، الحديث 9.

(2) راجع المصدر السابق: 364، الحديث 11.

211

المباركة وتحقّق الأمر في العام المقبل(1).

بقي الكلام في ذيل الآية المباركة وهو قوله: ﴿فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً﴾ فقد ذُكر لذلك تفسيران:

أحدهما: إنّ المقصود بذلك نفس صلح الحديبيّة، وقد يدلّ على ذلك قوله تعالى في أوّل السورة:﴿اِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً * وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً * هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾(2)، فإنّ أغلب الظنّ أنّ المقصود بالفتح المبين هو صلح الحديبيّة لا فتح مكّة ولا فتح خيبر؛ بدليل كون الآية ضمن آيات الحديبيّة، والتعبير بــ ﴿فَتَحْنَا﴾ تعبير بفعل ماض ظاهر في تحقّق الفتح، ولم يكن في أيّام الحديبيّة فتح غير صلح الحديبيّة. وقد نقل عن تفسير جوامع الجامع: أنّه حينما نزلت سورة الفتح عند الرجوع من الحديبيّة إلى المدينة قال أحدهم: ما هذا الفتح؟ لقد صددنا عن البيت وصدّ هدينا، فقال(صلى الله عليه وآله): بئس الكلام هذا، بل هو أعظم الفتوح، قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراع، ويسألوكم القضيّة ورغبوا إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا(3).

وقد يقال: ما معنى عدّ الصلح فتحاً؟

والجواب: أنّ هذا الصلح أوّلاً لم يكن بإصرار المسلمين بل أصبح مطلباً للمشركين فأعطى ذلك اُبّهة للإسلام؛ لأنّ المشركين خافوا سطوتهم ونزلوا إلى


(1) راجع لتفصيل القصّة البحار 20، باب غزوة الحديبيّة وبيعة الرضوان، وكذلك باقي كتب السيرة المفصّلة.

(2) س 48 الفتح، الآية: 1 ـ 4.

(3) تفسير نمونه 22: 16 نقلاً عن تفسير جوامع الجامع.

212

الصلح. وثانياً كان من بنود الصلح حرّية نشر الإسلام حتّى من قبل مسلمي مكّة في داخلها. وثالثاً إنّ الصلح صبغ الإسلام بصبغته الواقعيّة وهي عدم كونه دين قتال ونزاع، وأنّه يقبل بصلح عادل ما لم يضطرّ إلى دفع العدوّ بالقوّة، ومن هنا قوي الإسلام فيما بعد صلح الحديبيّة في زمن قصير نسبيّاً إلى أن فتحت مكّة بسهولة. وقد نقل عن الزهري أنّه لم يكن فتح أعظم من فتح الحديبيّة(1).

وممّا يؤيّد أيضاً كون المقصود بالفتح المبين صلح الحديبيّة: التعبير في ذيل الآية بقوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِين﴾؛ إذ نحن نعلم أنّ إنزال السكينة في قلوب المؤمنين كان في بيعة الرضوان التي وقعت قبيل الصلح حينما صمّم رسول الله(صلى الله عليه وآله)في ظاهر الحال على القتال وأخذ البيعة من المؤمنين، إذ قال الله: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً﴾(2).

إلّا أنّ كلّ هذا يكون شاهداً على كون المقصود بالفتح المبين هو صلح الحديبيّة، ولكن كلامنا الآن في الفتح القريب الوارد في قوله تعالى: ﴿فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً﴾ ولم نظفر حتّى الآن بشاهد قويّ على توحّد الفتح القريب مع الفتح المبين.

ثانيهما: ـ وهو أكبر الظنّ ـ أنّ المقصود بالفتح القريب في الآية هو عين الفتح القريب في ما قبلها في الآية: (18)، ومن الواضح من تلك الآية أنّ المقصود بالفتح القريب هو فتح خيبر؛ بدليل أنّه عُطف عليه قوله تعالى: ﴿وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا﴾(3)، وهو منصرف إلى المغانم المادّيّة، وهي لم تكن في صلح


(1) تفسير نمونه 22: 17 نقلاً عن تفسير الدرّ المنثور 6: 109.

(2) س 48 الفتح، الآية: 18.

(3) س 48 الفتح، الآية: 19.

213

الحديبيّة، ولكن وقعت بعد ذلك قريباً في فتح خيبر، وعليه فهذا الدليل إشارة ثانية إلى أمر غيبيّ مستقبلي آخر وهو فتح خيبر.

 

3 ـ اختراع وسائل النقل الحديثة:

قال تبارك وتعالى: ﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفٌْ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَد لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُون﴾(1)، فإنّ هذه الآية تكون إخباراً عن اختراع وسائل النقل في زماننا بناءاً على ما قد يقال: من أنّ عطف قوله تعالى: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُون﴾ على ما يركب قديماً من الخيل والبغال والحمير ـ التي وصفها الله تعالى بكونها وسائل السفر والنقل إلى ما لم نكن نبلغه إلّا بشق الأنفس ـ ظاهر في كون المقصود بما يخلق بعد ذلك ممّا لم تكن البشريّة تعلم به هو وسائل السفر والنقل الحديثة، أمثال السيّارات والطائرات ممّا لم يكن ممكناً توضيحه حتّى على مستوى التصوّر للبشريّة وقتئذ إلّا بمثل: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُون﴾، وهذا لا يكون إلّا من قول إله نسبته إلى الماضي والحال والمستقبل سواء.

 

* * *

 


(1) س 16 النحل، الآية: 5 ـ 8.

214

 

معاجز النبيّ(صلى الله عليه وآله)غير القرآن

 

نشير باختصار إلى أنّ معاجز النبيّ(صلى الله عليه وآله) لم تكن منحصرة في القرآن بل كانت له معاجز اُخرى، ولكنّها لم تكن خالدة وإنّما كانت مختصّة بأوقاتها.

أمّا أنّنا كيف نستفيد منها مع اختصاصها بأوقاتها؟ فلذلك عدّة طرق:

الأوّل: الاستفادة من تواترها الإجمالي.

الثاني: الاستفادة من التواتر الذي قد يتّفق صدفة لمعجز معيّن من النقل الكثير الواسع، كما يدّعى ذلك في إعجاز انشقاق القمر.

الثالث: الاستفادة من المعاجز التي اُشير إليها في القرآن على أساس أنّها لو كانت كذباً لكان يتّضح بسهولة كذب القرآن في وقته، ولانتهى الإسلام في أوائل بزوغه، على أنّه من لا يعترف بنبوّة رسول الله(صلى الله عليه وآله) لا يشكّ في نبوغه وحكمته فلا يحتمل بشأنه الكذب الذي ينكشف في نفس الأيّام الاُولى، ولو فعل ذلك لسهل على الأعداء إبطال دينه بلا حاجة إلى الحروب الطاحنة للطرفين.

وهنا نشير إلى معجزتين من المعجزات المشار إليها في القرآن:

 

الاُولى ـ الإسراء:

قال تعالى: ﴿بسم اللَّه الرحمن الرحيم سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير﴾(1).

 


(1) س 17 الإسراء، الآية: 1.

215

ومن الواضح أنّ دعوى الإسراء إلى المسجد الأقصى والرجوع منه في ليلة واحدة لو كانت كذباً لأمكنهم فضح النبيّ(صلى الله عليه وآله) بأسرع وقت بتوجيه أسئلة إليه يعجز عن الإجابة عنها؛ لأنّه لم يكن في حياته قد سافر إلى المسجد الأقصى، ولو أجاب عنها بإجابات كاذبة فما كان أسهل كشف كذبه.

وقد ورد أنه(صلى الله عليه وآله) أخبرهم عن رؤيته عيراً لهم في موضع كذا وكذا، وأنّ لهم ماء في آنية فشرب(صلى الله عليه وآله) منه وأراق الباقي، وقد كانوا أضلّوا بعيراً لهم فلمّا أخبرهم قالوا: حتّى تجيء العير ونسألهم عمّا قلت. فقال لهم رسول الله(صلى الله عليه وآله): وتصديق ذلك أنّ العير تطلع عليكم مع طلوع الشمس يقدمها جمل أحمر. فلمّا أصبحوا أقبلوا ينظرون إلى العقبة وهم يقولون: هذه الشمس تطلع الساعة. فبيناهم كذلك إذ طلعت العير مع طلوع الشمس يقدمها جمل أحمر، فسألوهم عمّا قال رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فقالوا: لقد كان هذا، فقد ضلّ لنا جمل في موضع كذا وكذا ووضعنا ماءً وأصبحنا وقد اُريق الماء(1).

 

الثانية ـ انشقاق القمر:

قال تعالى:﴿بسم الله الرحمن الرحيم اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْر مُّسْتَقِرّ﴾(2).

ولا يمكن حمل الآية على شقّ القمر الذي يقال إنّه يقع بعنوان علامة على بدء القيامة ويكون من أشراطها، فإنّه لا معنى لافتراض حمل ذلك من قبل الكفّار على السحر، أو تكذيبهم لدين الإسلام، فالمقصود يقيناً هو الإعجاز الذي وقع في زمان رسول الله(صلى الله عليه وآله).

 


(1) تفسير كنز الدقائق 7: 304.

(2) س 54 القمر، الآية: 1 ـ 3.

216

ويا تُرى هل يعقل أن يدّعي رسول الله(صلى الله عليه وآله) كذباً انشقاق القمر ثمّ لا ينفضح كذبه؟

وقد يعترض على قصّة شقّ القمر بأنّها لو كانت واقعيّة لانعكست في كلّ تواريخ العالم؛ فإنّ انشقاق القمر ليس بأمر هيّن حتّى لا يجلب انتباه الكثيرين.

وقد أجاب عن ذلك الشيخ آية الله مكارم في پيام قرآن(1): بأنّ شقّ القمر لا يراه من كان في النصف الثاني من العالم؛ لخلو الاُفق منه لدى وجوده في النصف الآخر هذا من ناحية، ومن ناحية اُخرى كان وقته بعد نصف الليل في حين أنّ أكثر الذين يمكنهم مشاهدته في النصف الآخر كانوا نياماً، ومن ناحية ثالثة يمكن افتراض كون قسم من العالم قد استتر القمر فيه بالسحاب، ومن ناحية رابعة إنّ شقّ القمر ليس كالصاعقة ولا كالخسوف والكسوف الكليّين ممّا يجلب الأنظار بصوته أو بسبب مفاجأته العالم بالظلام، ومن ناحية خامسة لم تكن وسائل تدوين التاريخ وكتبه منتشرة في ذلك الزمان، إذن لم يكن عدم ذكر حادث ما في غير التاريخ الإسلامي دليلاً على عدمه، أو موجباً لإثارة التعجّب منه.

 

 

* * *


(1) پيام قرآن 8: 321 ـ 322.

217

 

 

 

 

 

إخبار أنبياء سابقين عن نبوّة رسول الله(صلى الله عليه وآله)

 

مضى أنّ من وسائل إثبات النبوّة هو إخبار نبيٍّ سابق عن نبوّة النبي المأخّر وهذا متحقّق بشأن نبوّة رسول الله(صلى الله عليه وآله)لإخبار التوراة والإنجيل عنها، وإن عُمّي عليها في التوراة والإنجيل الحاليين فلا شكّ في وجودها بوضوح في التوراة والإنجيل زمن الرسول(صلى الله عليه وآله) بدليل أنّ القرآن أخبر بذلك، في حين أنّه لو كان كاذباً لفضحه الكفّار في ذلك الزمان بأسهل ما يكون.

وقد أخبر القرآن عن ذلك في عدّة آيات:

1 ـ ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُون﴾(1).

2 ـ ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون﴾(2).

3 ـ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيل﴾(3).


(1) س 2 البقرة، الآية: 146.

(2) س 6 الأنعام، الآية: 20.

(3) س 7 الأعراف، الآية: 157.