168

وحبّ الأب أو الاُمّ للطفل قد يصل إلى مستوى لا يتصوّر مخالفته لما يهواه الطفل إلّا لمصلحة نفس الطفل، فكيف بحبّ الله تعالى الجامع لصفات الجمال والجلال؟!

والمرويّ عن إمامنا زين العابدين(عليه السلام) أنّه قال: «إلهي، مَنْ ذا الَّذِي ذَاقَ حَلاوَةَ محبَّتكَ فَرَامَ مِنْكَ بَدَلاًَ؟ وَمَنْ ذَا الَّذِي أنِسَ بِقُرْبِكَ فَابْتَغَى عَنْكَ حِوَلاًَ؟»(1)، وعن الصادق(عليه السلام) أنّه قال:

تعصي الإله وأنت تظهر حبّه
هذا محال في الفعال بديع
لو كان حبّك صادقاً لأطعته
إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع(2)
 

 

4 ـ من براهين العصمة:

البرهان الأوّل: قلنا: إنّ اكتناه عظمة الربّ بالمقدار الممكن للإنسان المخلوق يكون مانعاً قطعيّاً عن المعصية، وكذلك اكتناه حقيقة المعصية وقذارتها ونجاستها ودناءتها، وكلا هذين الأمرين موجودان لدى كلّ نبيّ يوحى إليه؛ لأنّ مقام الوحي هو أعلى مقام من مقامات الاقتراب إلى الربّ والاطّلاع على عظمته؛ ولذا ورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «يا عليّ، ما عرف الله حقّ معرفته غيري وغيرك»(3). وأيضاً الوحي أعلى مقام من مقامات كشف الحقيقة لا يناله عقل


(1) الصحيفة السجّاديّة: مناجاة المحبّين.

(2) البحار 70: 15، الباب 43 من أبواب الايمان والكفر، الحديث 3.

(3) البحار 39: 84، وعليّ(عليه السلام) وإن لم يكن يوحى إليه، ولكنّه قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) بشأنه: «إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلّا أنّك لست بنبيّ ولكنّك لوزير، وإنّك لعلى خير». راجع نهج البلاغة، الخطبة 192، فضل الوحي.

169

العقلاء مهما كانوا عباقرة، فالذي حظي بهذا المقام فقد حظي بأعلى ما يمكن أن يتصوّر بشأن الإنسان من درك عظمة الربّ وجماله وجلاله، ومن درك حقيقة الطاعة وحقيقة المعصية، وخاصّة إذا كان الوحي بالتجلّي المباشر.

وأيضاً إنّ من يتّصل بالله تعالى بأقرب وسائل الاتّصال ـ ألا وهو الوحي ـ يتمكّن حبّ الله تعالى في قلبه بأعلى مستوى معقول، وقد قلنا: إنّ من يكتمل في حبّ الله يستحيل صدور المعصية منه.

وكذلك نقول: إنّ المتّصل بمنبع الوحي يكون اطّلاعه على الغيب ـ أعني عالم الآخرة ـ بأقوى مستوى ممكن للبشريّة من الاطّلاع، فهم والجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون، وهم والنّار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون، فكيف يمكن لهكذا اُناس أن يعصوا؟

البرهان الثاني: إنّ الغرض المتوخّى من بعثة الأنبياء لهو هداية البشريّة ونشر نور الله تعالى في أرضه، وممارسة خلافة الله في أرضه بأكمل ما يكون، وهذا أمر يختلف عن مستوى الهداية التي تصدر من القادة الروحانيين الاعتياديين كالفقهاء العظام والعلماء الأعلام؛ فإنّهم لا يمارسون إلّا إعانة الخلق على الاستفادة من المنهل الإلهي العذب الذي فتح الله بابه للناس عن طريق الأنبياء، في حين أنّ أصل فتح باب تلك المناهل للناس إنّما هو بيد الأنبياء، وأصل الهداية إلى الله وإلى دينه وإلى رضوانه إنّما هو بهم، وليس العلماء إلّا اُولئك الثلّة الذين اغترفوا غرفة من بحر معرفة الأنبياء ليسقوا العطاشى بماء المعرفة بقدر إمكاناتهم؛ ولهذا شرطت العدالة في مراجع التقليد. أمّا الأنبياء فلا تكفي العدالة بشأنهم؛ لأنّ مفاتيح الهداية الأصليّة بيدهم، ولولا أن يستطيعوا جلب ثقة الاُمّة بأعلى مستوى الثقة لما تحقّق الهدف من إرسالهم، ولا يمكن جلب الثقة بهذا

170

المستوى إلّا بالعصمة، فيكون عدم منحهم العصمة من قبل الله تعالى نقضاً للغرض، ونقض الغرض من قبل الله تعالى مستحيل.

وأيضاً لايمكن للأنبياء أن يكونوا قدوة عمليّين للبشر بشكل كامل إلّا بالعصمة، كما أنّه لا يمكن للفقهاء أن يكونوا قدوة عمليّين بالمستوى المترقّب منهم إلّا بالعدالة.

البرهان الثالث: التمسّك بقوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين﴾(1)، فانّه لا شكّ في أنّ النبوّة مصداق بارز من مصاديق عهد الله تعالى، ولا شك في أنّ المعصية ظلم، ولا إشكال في أنّ مناسبة الحكم والموضوع وجلالة مقام النبوّة تعطيان للكلام ظهوراً في كون المقصود بعنوان الظالم التلبّس بمبدأ الظلم ولو آناً مّا، فظهور الكلام في المقارنة بين الحكم والوصف العنواني أو كون المشتق حقيقة في المتلبّس بالفعل بحثان بعيدان عن مورد هذه الآية المباركة بالخصوص.

 

 

 

 

 


(1) س 2 البقرة، الآية: 124.

171

النبوّة

2

 

 

 

النبوّة الخاصّة

 

المهم عندنا إثبات نبوّة نبيّنا محمّد(صلى الله عليه وآله)، وقد مضى أنّ وسائل إثبات نبوّة أيّ نبيّ أحد اُمور أربعة: الإعجاز وإخبار نبيّ سابق، وتجميع القرائن المختلفة ومضمون الدعوة، وكلّ هذه الوسائل متحقّقة بشأن نبوّة نبيّنا محمّد(صلى الله عليه وآله) كالتالي:

 

○ إعجاز نبيّنا محمّد(صلى الله عليه وآله).

○ إخبار أنبياء سابقين عن نبوّة رسول الله(صلى الله عليه وآله).

○ تجميع قرائن مختلفة على نبوّة نبيّنا(صلى الله عليه وآله).

○ مضمون دعوة نبيّنا(صلى الله عليه وآله).

 

 

 

173

 

 

 

 

 

إعجاز نبيّنا محمّد(صلى الله عليه وآله)

 

الإعجاز أعمّ الأدلة وأشملها لفهم الناس. ولرسول الله(صلى الله عليه وآله) معاجز كثيرة، والخالد منها والباقي حتّى زماننا هذا وإلى يوم القيامة هو القرآن:

 

إعجاز القرآن

 

إنّ إعجاز القرآن من عدّة جهات: البلاغة والفصاحة، والكشف عن قسم من أسرار الطبيعة، والإخبار عن بعض الاُمور الغيبية وغير ذلك، ووجوه إعجاز القرآن غير البلاغة والفصاحة أو قسم من هذه الوجوه أهمّ وأعظم من مسألة البلاغة والفصاحة، إلّا أنّ مسألة البلاغة والفصاحة كانت هي القابلة للإدراك لعرب الحجاز وقتئذ، ونحن نذكر هنا ثلاثة من وجوه إعجاز القرآن:

 

بلاغة القرآن وفصاحته

 

الواضح من وجوه إعجاز القرآن لدى عامّة الناس السذّج في زمن الرسول(صلى الله عليه وآله) هي الفصاحة والبلاغة؛ لأنّ العرب الحجازيين كانوا قد نبغوا فيهما،

174

فجاء إعجاز القرآن من سنخ ما كانوا فنّانين فيه.

وهذا الوجه من الإعجاز ربّما لا يدركه من لا يعرف اللغة العربيّة، بل ربّما لا يدركه قسم من العارفين للّغة العربيّة وغير الملتفتين والمتذوّقين لنكات الفصاحة والبلاغة، ولكن هؤلاء بإمكانهم أن يعتقدوا بإعجاز القرآن البلاغي عن طريق ما ورد فيه من تحدّي أبلغ البلغاء بالإتيان بمثل سورة من القرآن، وما ثبت في التاريخ من أنّهم عجزوا عن ذلك، ولو لم يكونوا قد عجزوا عن ذلك لفعلوه، ولو كانوا قد فعلوه لأسقطوا رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن الاعتبار لدى عامّة الناس، وكان ذلك أسهل عليهم من إسقاطه بخوض الحروب ضدّه، في حين أنّه لم يكن شيء من هذا القبيل.

قال الله تعالى:

1 ـ ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيراً﴾(1).

2 ـ ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَر مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَات وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِين﴾(2).

3 ـ ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْب مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَة مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين﴾(3).

4 ـ ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَة مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِين﴾(4).

 


(1) س 17 الإسراء، الآية: 88.

(2) س 11 هود، الآية: 13.

(3) س 2 البقرة، الآية: 23 ـ 24.

(4) س 10 يونس، الآية: 38.

175

5 ـ ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيث مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ﴾(1).

وقد ورد في التاريخ:

1 ـ روي عن هشام بن الحكم: «أنّ ابن أبي العوجاء وأبا شاكر الديصاني و عبدالملك البصري وابن المقفّع اجتمعوا لدى بيت الله الحرام، وكانوا يستهزئون بالحجّاج ويطعنون على القرآن، فقال ابن أبي العوجاء: فليعارض كلّ واحد منّا ربع القرآن، ولنجتمع هنا في العام القابل في هذا المكان، وبه نبطل الإسلام ونبوّة محمّد، فافترقوا ثمّ اجتمعوا في مثل ذلك اليوم من العام الماضي لدى بيت الله الحرام، فقال ابن أبي العوجاء: إنّني منذ أن فارقتكم فكّرت في معارضة الآية: ﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً﴾(2) فعجزت عن ذلك، وقال عبد الملك: إنّني منذ أن فارقتكم فكّرت في معارضة الآية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوب﴾(3) فعجزت عن ذلك، وقال أبو شاكر: إنّني منذ أن فارقتكم فكّرت في معارضة الآية: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾(4) فعجزت عن ذلك، وقال ابن المقفّع: يا قوم، إنّ هذا القرآن ليس من سنخ كلام البشر فإنّني منذ أن فارقتكم فكّرت في معارضة الآية: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِين﴾(5) فعجزت عن ذلك.


(1) س 52 الطور، الآية: 33 ـ 34.

(2) س 12 يوسف، الآية: 80.

(3) س 22 الحجّ، الآية: 73.

(4) س 21 الأنبياء، الآية: 22.

(5) س 11 هود، الآية: 44.

176

قال هشام: وفي هذه الأثناء مرّ عليهم جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) وقرأ: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيراً﴾(1)»(2).

2 ـ ويروى «أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) لمّا اُنزل عليه ﴿حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَاب﴾(3) قام إلى المسجد والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته، فلمّا فطن النبيّ(صلى الله عليه وآله) لاستماعه لقراءته أعاد قراءة الآية. فانطلق الوليد حتّى أتى مجلس قومه بني مخزوم فقال: والله! لقد سمعت من محمّد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجنّ، وإنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق، وإنّه ليعلو وما يعلى عليه. ثمّ انصرف إلى منزله، فقالت قريش: صبأ والله الوليد، والله لتصبأنّ قريش كلّهم. وكان يقال للوليد: ريحانة قريش، فقال لهم أبو جهل: أنا أكفيكموه، فانطلق فقعد إلى جنب الوليد حزيناً، فقال: ما لي أراك حزيناً يابن أخي؟ قال: هذه قريش يعيبونك على كبر سنّك ويزعمون أنّك زيّنت كلام محمّد، فقام مع أبي جهل حتّى أتى مجلس قومه فقال: تزعمون أنّ محمّداً مجنون، فهل رأيتموه يخنق قَطّ؟! فقالوا: اللّهم لا. قال: أتزعمون أنّه كاهن، فهل رأيتم عليه شيئاً من ذلك؟ قالوا: اللّهم لا. قال: أتزعمون أنّه شاعر، فهل رأيتموه أنّه ينطق بشعر قَطّ؟! قالوا: اللّهم لا. قال: أتزعمون أنّه كذّاب، فهل جربتم عليه شيئاً من الكذب؟ فقالوا: اللّهم لا، وكان يسمّى الصادق الأمين قبل النبوّة من صدقه، فقالت قريش للوليد: فما هو؟ فتفكّر في نفسه ثمّ نظر وعبس فقال: ما هو إلّا ساحر ما رأيتموه


(1) س 17 الإسراء، الآية: 88.

(2) پيام قرآن 8: 90 ـ 92.

(3) س 40 غافر، الآية: 1 ـ 3.

177

يفرّق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟ فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر»(1).

3 ـ قال عليّ بن إبراهيم: قدم أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد قيس في موسم من مواسم العرب وهما من الخزرج، وكان بين الأوس والخزرج حرب قد بقوا فيها دهراً طويلاً، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار، وكان آخر حرب بينهم يوم بعاث، وكانت للأوس على الخزرج.

فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكّة في عمرة رجب يسألون الحلف على الأوس، وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة فنزل عليه فقال له: إنّه كان بيننا وبين قومنا حرب وقد جئناك نطلب الحلف عليهم. فقال له عتبة: بعدت دارنا من داركم ولنا شغل لا نتفرّغ لشيء. قال: وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم؟ قال له عتبة: خرج فينا رجل يدّعي أنّه رسول الله، سفّه أحلامنا وسبّ آلهتنا وأفسد شبّاننا وفرّق جماعتنا. فقال له أسعد: من هو منكم؟ قال: ابن عبدالله بن عبد المطّلب من أوسطنا شرفاً وأعظمنا بيتاً. وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم، النضير وقريظة وقينقاع: أنّ هذا أوان نبيّ يخرج بمكّة يكون مهاجره بالمدينة لنقتلنّكم به يا معشر العرب. فلمّا سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمع من اليهود، قال: فأين هو؟ قال: جالس في الحجر، وإنّهم لا يخرجون من شعبهم إلّا في الموسم، فلا تسمع منه ولا تكلّمه فإنّه ساحر يسحرك بكلامه. وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب، فقال له أسعد: فكيف أصنع وأنا معتمر لابدّ لي أن أطوف بالبيت؟ قال: ضع في اُذنيك القطن. فدخل أسعد المسجد وقد حشا اُذنيه بالقطن فطاف بالبيت ورسول الله جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم فنظر


(1) اُنظر مجمع البيان، ضمن تفسير سورة المدّثر.

178

إليه نظرة فجازه، فلمّا كان في الشوط الثاني قال في نفسه: ما أجد أجهل منّي! أيكون مثل هذا الحديث بمكّة فلا أتعرّفه حتّى أرجع إلى قومي فاُخبرهم؟! ثمّ أخذ القطن من اُذنيه ورمى به، وقال لرسول الله(صلى الله عليه وآله): أنعم صباحاً. فرفع رسول الله(صلى الله عليه وآله)رأسه إليه وقال: قد أبدلنا الله به ما هو أحسن من هذا تحيّة أهل الجنّة: السّلام عليكم، فقال له أسعد: إنّ عهدك بهذا لقريب، إلى مَ تدعو يا محمّد؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلّا الله وأ نّي رسول الله وأدعوكم إلى: ﴿أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَق نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون﴾(1). فلمّا سمع أسعد هذا قال له: أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله، يا رسول الله بأبي أنت واُمّي أنا من أهل يثرب من الخزرج، وبيننا وبين إخوتنا من الأوس حبال مقطوعة، فإن وصّلها الله بك، ولا أجد أعزّ منك، ومعي رجل من قومي فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتمّم الله لنا أمرنا فيك، والله يا رسول الله، لقد كنّا نسمع من اليهود خبرك، ويبشّروننا بمخرجك ويخبروننا بصفتك، وأرجو أن يكون دارنا دار هجرتك عندنا، فقد أعلمنا اليهود ذلك، فالحمد لله الذي ساقني إليك، والله ما جئت إلّا لنطلب الحلف على قومنا، وقد آتانا الله بأفضل ممّا أتيت له.

 


(1) س 6 الأنعام، الآية: 151 ـ 152.

179

ثمّ أقبل ذكوان فقال له أسعد: هذا رسول الله الذي كانت اليهود تبشّرنا به وتخبرنا بصفته فهلمّ فأسلم، فأسلم ذكوان ثمّ قالا: يا رسول الله، إبعث معنا رجلاً يعلّمنا القرآن ويدعو الناس إلى أمرك. فبعث معهم رسول الله(صلى الله عليه وآله)مصعب بن عمير ...(1).

وهذه القصّة الأخيرة كما يحتمل فيها أنّ بلاغة القرآن أثّرت في أسعد فآمن بالإسلام، كذلك يحتمل فيها أنّ المضامين الحقّة والوجدانيّة لتلك الآيات والتي تعارض أسوأ العادات للمجتمع وقتئذ أثّرت فيه، أو كان المؤثّر فيه مجموع الأمرين.

4 ـونظير هذه القصّة في تطرّق الاحتمالين إليه قصّة النجاشي في حبشة والعلماء المسيح حينما هاجر كثير من المسلمين إلى حبشة من جور أهل مكّة ولجؤوا إلى النجاشي، فأرسلت قريش نفرين إلى النجاشي لمطالبته بإرجاعهم إلى مكّة، وهما عبدالله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص ومعهما هدايا للنجاشي، فغضب النجاشي وقال: لم أكن لاُسلّم جمعاً لجؤوا إليّ إلى أعدائهم إلّا أن اُحقّق عن وضعهم وتثبت لي خيانتهم. فجمع النجاشي العلماء المسيح فجاؤوا مع كتُبهم، وأرسل أيضاً إلى المسلمين ومعهم جعفر بن أبي طالب(عليه السلام) وسألهم عن الأمر، فشرح جعفر(عليه السلام) له قصّة الإسلام، فقال له النجاشي: هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم. قال: إقرأ. فتلا جعفر(عليه السلام) قوله تعالى: ﴿كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾(2)إلى آخر قصّة مريم وولادة المسيح(عليهما السلام) وتنزيههما عن الرجس والإشراك بالله، فبكى النجاشي وبكى العلماء المسيح إلى أن بلّت


(1) البحار 19: 8 ـ 10.

(2) س 19 مريم، الآية: 1 ـ 2.

180

محاسنهم وكتبهم، ورفض النجاشي تسليم المسلمين إلى قريش(1).

5 ـ والخلاصة أنّه لم يستطع أحد أن يعارض القرآن إلّا بمثل ما قاله مسيلمة الكذّاب: «الفيل ما الفيل؟ وما أدراك ما الفيل؟ له ذنب وبيل، وخرطوم طويل»(2)، وقوله أيضاً: «لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، بين صفاق وحشى»(3)، وينقل عنه أيضاً قوله: «والمبذّرات بذراً، والحاصدات حصداً، والذاريات قمحاً، والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً، والخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، واللاقمات لقماً إهالةً وسمناً»(4).

واُشير هنا إلى نكتة طريفة وردت على لسان الشيخ السبحاني ـ حفظه الله ـ(5)حول سرّ الفرق في التعبير بين قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَق نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾(6)، وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاق نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم﴾(7) حيث قدّمت الإشارة إلى رزق الأبوين على الإشارة إلى رزق الأولاد في الاُولى، وعكس الأمر في الثانية، فيا ترى هل هذا مجرّد تفنّن في التعبير أو توجد تحته نكتة بلاغيّة؟ يقول ـ حفظه الله ـ: الصحيح هو الثاني؛ لأنّ الآية الاُولى خطاب للعوائل الفقيرة بقرينة قوله: ﴿مِّنْ إمْلاَق﴾ وكان يجرّهم فقرهم إلى قتل أولادهم، فناسب الأمر ضمان الله تعالى لهم رزقهم أوّلاً ثمّ رزق أولادهم، والآية الثانية خطاب للعوائل الميسورة بقرينة قوله: ﴿خَشْيَةَ إِمْلاق﴾أي إنّ الذي يجرّهم إلى قتل أولادهم ليس هو فقرهم بالفعل وإنّما هو خشية


(1) پيام قرآن 8: 99 ـ 102 نقلاً عن سيرة ابن هشام 1: 356.

(2) الإلهيّات 2: 338.

(3) المصدر السابق.

(4) راجع پيام قرآن 8: 105.

(5) الإلهيّات 2: 269 ـ 300.

(6) س 6 الأنعام، الآية: 151.

(7) س 17 الإسراء، الآية: 31.

181

الفقر نتيجة إطعام الأولاد، فناسب الأمر ضمان الله تعالى لهم رزق الأولاد أوّلاً ثمّ رزقهم.

 

الكشف عن بعض أسرار الطبيعة

 

كشف القرآن الستار عن عدد من أسرار الطبيعة التي لم تكن قابلة للدرك وقتئذ لأعظم ما يفترض من المجتمعات العريقة في العلوم والمعارف، فضلاً عن مجتمع منهمك آنئذ في الجهل المطبق كالمجتمع الحجازي، ولم يكتشف العلماء بعد ذلك تلك الأسرار إلّا بعد قرون من بيانها على لسان الوحي في القرآن الكريم. وهذا كما ترى أعظم بكثير من مسألة الفصاحة والبلاغة. ولا يخفى أنّ القرآن ليس كتاباً في علوم الطبيعة حتّى يتوقّع منه ذكر كلّ التفاصيل، وإنّما هو كتاب هداية للبشريّة ضُمّن بقدر اللزوم الإشارة إلى بعض أسرار الطبيعة فمنها:

 

1 ـ قوّة الجذب والدفع:

وهما القوّتان اللتان قامت بهما السماوات والأرض، ولو رجح الجذب على الدفع لاندكّت الكواكب بعضها ببعض وتصدّعت، ولو رجح الدفع على الجذب لخرج كلّ كوكب عن مداره وهرب وانفرط العقد وتلاشت بعضها عن بعض، ولكنّها جميعاً مرتبط بعضها ببعض، يدور كلّ في فلكه بسبب تعادل القوّتين ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الليْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَك يَسْبَحُون﴾(1)، شبيها


(1) س 21 الأنبياء، الآية: 33.

182

بإناء يدار حول اليد التي تمسكه بخيط متّصل بينهما.

وقد اكتشف العلماء ذلك بعد قرون من نزول القرآن وبمستوى الحسّ الذي لا ينكر، والقرآن سبقهم بقرون في قوله عزّ وجلّ: ﴿اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَل مُّسَمًّى﴾(1)، وهذه الآية تدلّ بوضوح على وجود عَمد غير مرئي بين السماء والأرض، وهذا ينطبق على الجاذبة والدافعة أو تعادلهما.

وقد ورد عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا(عليه السلام) قال: «قلت له: أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ:﴿وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُك﴾(2)، فقال: هي محبوكة إلى الأرض. وشبك بين أصابعه، فقلت: كيف تكون محبوكة إلى الأرض والله يقول: رفع السماء بغير عمد ترونها؟ فقال: سبحان الله! أليس الله يقول: ﴿بِغَيْرِ عَمَد تَرَوْنَهَا﴾؟ قلت: بلى، فقال: ثَمّ عمد ولكن لا ترونها ...»(3).

وعن الصادق(عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين(عليه السلام): هذه النجوم التي في السماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض، مربوطة كلّ مدينة إلى عمود من نور»(4).

 

2 ـ حركة الأرض:

وقد اكتشفها العالم الإيطالي المعروف غاليلو، فعارضته الكنيسة ولاحقته حتّى حكمت عليه بالإعدام بعد سجن طويل؛ ولأجل ذلك كان العلماء يكتمون


(1) س 13 الرعد، الآية: 2.

(2) س 51 الذاريات، الآية: 7، والحُبُك: الطُرُق.

(3) تفسير البرهان 2: 278.

(4) سفينة البحار 8: 195، وقد مضى هذا البحث ضمن برهان النظم لإثبات وجود الله سبحانه وتعالى.

183

اكتشافاتهم خوفاً من الكنيسة، ولكن القرآن الكريم قد كشف اللثام عن هذه الحقيقة قبل قرون من وصول غاليلو إلى ذلك بقوله عزّ وجلّ: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُون﴾(1).

وقد يتوهم البعض أنّ هذه الآية راجعة إلى يوم القيامة بقرينة الآية السابقة لها، وهي قوله: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّور...﴾(2)، ولكن الواقع أنّه لو كان لابدّ من ربط الآية بما قبلها فهي مربوطة بما قبل آية القيامة، وهي قوله: ﴿أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا الليْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً﴾(3)؛ لأنّ في الآية قرائن قطعيّة تدل على أنّها راجعة إلى الدنيا لا إلى يوم القيامة:

فأوّلاً: قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَة﴾، فإنّ حسبان جمود الجبال إنّما هو في دار الدنيا، أمّا في يوم القيامة فسير الجبال أو تلاشيها واضح كما قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ﴾(4)، وقال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً﴾(5)، وقال: ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوش﴾(6).

وثانياً: قوله تعالى: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء﴾، فإنّ هذا يناسب الدنيا، ولا يناسب يوم القيامة الذي هو يوم هدم العالم وخرابه.

وثالثاً: قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُون﴾، فإنّه لو كان راجعاً إلى يوم القيامة كان المفروض أن يقول: إنّه خبير بما فعلتم.

 


(1) س 27 النمل، الآية: 88.

(2) س 27 النمل، الآية: 87.

(3) س 27 النمل، الآية: 86.

(4) س 81 التكوير، الآية: 3.

(5) س 20 طه، الآية: 105 ـ 106.

(6) س 101 القارعة، الآية: 5.

184

ومن الواضح أنّ سير الجبال يلازم سير الأرض؛ لوضوح أنّ الجبال لا تسير في دائرة الأرض، فإن كانت تسير فإنّما تسير ضمن سير الأرض، أمّا أنّه نسب السير إلى الجبال لا إلى الأرض مباشرة فبنكتة أنّ الجبال هي الجانب البارز في النظر من الاستقرار والسكون والثقل، فهي أوتاد الأرض.

 

3 ـ بعض حركات الشمس:

اُشير في القرآن الكريم إلى بعض حركات الشمس التي لم تكن مكشوفة للعلم وقتئذ:

قال الله تعالى: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ الليْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَك يَسْبَحُون﴾(1).

وهذا المقطع القرآني المبارك بصدد الإشارة إلى الآيات العظيمة الدالّة على وجود الله سبحانه، وعظمته ووحدانيّته وحكمته وعلمه وقدرته، ونحن الآن لسنا بهذا الصدد؛ لأنّ هذا ما بحثناه في فصول وجود الله وتوحيده وصفاته، وإنّما نحن بصدد الإشارة إلى أنّ بعض الآيات التي ذكرت في هذا المقطع القرآني كان غير معروف أو محسوس، وإنّما كشف العلم عنه بعد قرون متمادية.

وقد كانت تحمل هذه الآيات المباركات قديماً على الحركة الظاهريّة للشمس والقمر التي ترى بالعين من قبيل قوله تعالى: ﴿وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَاب﴾(2).

وفي الوقت الذي كان الناس يعتقدون أنّ الدوران وتبدّل الأبراج ناتج من حركة الأفلاك أو حركة هذه الأبراج السماوية، وأنّ الأرض ساكنة في محلّها،


(1) س 36 يس، الآية: 38 ـ 40.

(2) س 10 يونس، الآية: 5.

185

كانت هذه الآيات تحمل على ذلك، وحينما كشف العلم بعد قرون أنّه ناتج من حركة الأرض التي كان قد أشار إليها القرآن في وقت نزوله بقوله: ﴿وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَاب﴾(1) اُوّلت الآيات على أنّها جريٌ وفق الإحساس الظاهري كما هو متعارف لدينا اليوم من أنّنا ـ برغم علمنا بأنّ حدوث الليل والنهار يكون نتيجةً لحركة الأرض حول نفسها دون حركة الشمس ـ نعبّر بــ«طلعت الشمس» و «غربت الشمس» في حين أنّ الشمس لا تطلع ولا تغرب، وإنّما الأرض هي التي تدور، فيتراءى لنا أنّ الشمس تطلع وتغرب. فحينما كان علم الهيئة المسيطر على عقول الناس ما يسمّى بالهيئة البطلميوسيّة كان الاعتقاد السائد أنّ الشمس ملصقة بالسماء الرابعة ومعلّقة بها، وتلك السماء وباقي السماوات ـ التي كانت تفترض من قبيل قشور البصل المطبق بعضها على بعض ـ تدور حول الأرض، فدوران الشمس حول الأرض ـ الذي يتمّ به الشروق والغروب ـ ليس في الحقيقة سبحاً للشمس بل الشمس ثابتة في محلّها من الفلك، والأفلاك أو السماوات هي التي تدور حول الأرض، وحينما انكشف أخيراً بالعلم أنّ الأرض هي التي تدور حول الشمس ظلّت الشمس أيضاً راكدة، إلى أن انكشف بعد ذلك أيضاً بوقت متأخّر أنّ للشمس عدّة حركات: حركتين ظاهريّتين وحركتين واقعيّتين:

أمّا الظاهريّتان: فإحداهما ما يتمّ به الشروق والغروب، والاُخرى ما يتم به طيّ المنازل الاثني عشر ضمن سنة كاملة، وبه يحدث الربيع والصيف والخريف والشتاء، وهاتان الحركتان ظاهريّتان؛ لأنّ واقعهما عبارة عن حركة الأرض حول نفسها بالقياس لحدوث الليل والنهار أو حول الشمس بالقياس لتبدّل الأبراج.

 


(1) س 27 النمل، الآية: 88.

186

وأمّا الواقعيّتان: فإحداهما حركة الشمس حول نفسها وقد تسمّى بالحركة الوضعيّة، والاُخرى حركتها مع منظومتها الشمسيّة ضمن المجرّة إلى نقطة معيّنة تسمّى اليوم بنجمة وكا، والتي هي ضمن مجموعة نجوم فلكيّة تسمّى بالجاثي على ركبتيه؛ لأنّها بمجموعها تشكّل هيئة من هو جالس على ركبتيه ومتهيّئ للقيام، وقد تسمّى هذه الحركة بالحركة الانتقاليّة، وهذه ليست حركة دوريّة بل حركة في خط مستطيل.

أمّا القمر فيطوي منازله الثمانية والعشرين التي تكون له قبل المحاق مع أيّام المحاق في شهر كامل، أي إنّ الحركة الدوريّة للقمر في منازلها أسرع من الحركة الدورية التي ترى للشمس في منازلها باثنتي عشرة مرّة؛ لأنّ الشمس تطويها في سنة أي في اثني عشر شهراً، بينما القمر يطويها في شهر.

ويحتمل أن يكون المقصود بقوله: ﴿لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَر﴾ هو هذا المعنى: أي إنّ الشمس لا تدرك القمر في سرعة حركته.

ويحتمل أن يكون المقصود بقوله: ﴿وَلاَ الليْلُ سَابِقُ النَّهَار﴾ أي الليل لا يلتهم النهار ولا يبلعه فيفنيه، بل مدار الليل والنهار يبقيان إلى أن تقوم ساعة انهدام الدنيا، كما يحتمل أن يكون المقصود أنّ النهار خلق قبل الليل ويأتي الليل دائماً عقيب النهار؛ لأنّ الكرة الأرضيّة كما يقال انفصلت عن الشمس بعد أن كانت مندكّة فيها، فكان النهار دائماً ثمّ أعقبه الليل بعد الانفصال.

أمّا قوله تعالى: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيم﴾ فكأنّه يشير ـ والله العالم ـ إلى أنّ القمر قدّر له السير في منازله إلى أن يعود في آخر الشهر قبل المحاق بشكل العرجون القديم، وقد فسّر العرجون بالعود الأصفر المتّصل به عذق التمر، فإذا أصبح قديماً ومضت عليه شهور أصبح ذابلاً واشتدّ اصفراره، فشبّه القرآن الهلال في أواخر الشهر به.

187

أمّا شاهدنا من هذه الآية المباركة في المقام فيمكن أن يكون أحد مقطعين:

أحدهما: قوله تعالى: ﴿كُلٌّ فِي فَلَك يَسْبَحُون﴾، فعلى رأي هيئة بطلميوس لا معنى لسبح الشمس والقمر ضمن الفلك؛ لأنّهما معلّقان ومتّصلان بالفلك أو بالسماء حسب اعتقادهم، وإنّما الذي يسبح في اعتقادهم هو نفس الفلك أو السماء.

ولعلّه يجاب على ذلك بأنّ الآية قد تكون جرت وفق الحسّ العادي للإنسان من حركة الشمس والقمر ضمن الفلك أو السماء، ولم يعلم كونها حكاية عن أمر لم يكن قد كشف عنه العلم.

ثانيهما: قوله تعالى: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم﴾، فهذا أيضاً ظاهره نسبة الحركة إلى ذات الشمس لا إلى الفلك أو السماء.

ولعلّه يجاب على ذلك أيضاً بأنّ التعبير في الآية قد يكون جارياً على ما هو محسوس للإنسان الاعتيادي من الحركة الدوريّة للشمس حول الأرض، ولم يعلم كونه حكاية عمّا لم يكن منكشفاً ذاك اليوم، فهي تحكي عن شروق الشمس وغروبها حول الأرض المستمرّين إلى يوم القيامة، وذاك يوم استقرارها؛ لأنّها تسكن من حركتها.

إلّا أنّه يجاب على ذلك بأنّ هذا خلاف ظاهر الآية الكريمة جدّاً، وذلك:

أوّلاً: لأنّ الجري غير الدوران، فالجري يحكي عن الحركة المستقيمة أو الطوليّة، والدوران يحكي عن الحركة الدائريّة، والآية تشير إلى الحركة الدائريّة للشمس بقوله: ﴿لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ الليْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَك يَسْبَحُون﴾ ولكن قوله: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرّ لَّهَا﴾ إنّما يحكي عن الحركة الطوليّة.

وثانياً: لأنّ حمل كلمة ﴿مستقر﴾ في الآية على يوم القيامة خلاف الظاهر

188

جداً، فإنّ السياق يدل على أنّها اسم مكان وليست اسم زمان، فإنّ الجريان في قوله: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي﴾ كان ظاهراً في التحرّك المكاني لا في البعد الرابع الذي يعني الحركة الزمانيّة أو الجري الزماني، فمعنى الآية والله العالم هو أنّ الشمس تسير سيراً طوليّاً في الفضاء إلى نقطة معيّنة تستقرّ فيها، وينتهي السير إليها، وهذا يطابق تماماً ما اكتشفوه أخيراً من سير الشمس بمنظومتها إلى نجمة وكا أو إلى الجاثي على ركبتيه، فمن أين جاء القرآن بهذه المعلومة قبل أربعة عشر قرناً لولا كونه من قِبل الله سبحانه وتعالى الخالق لهذا العالم وما فيه والعالِم بكلّ شيء؟

 

4 ـ الحياة على كواكب اُخرى غير الأرض:

إنّ الحياة على كواكب اُخرى غير الأرض ما زالت غير مكشوفة كشفاً قطعيّاً للعلم إلى زماننا هذا، ولا يوجد حتّى الآن أكثر من بعض الحدوس وإرهاصات الكشف.

قال الله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّة وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِير﴾(1).

والذي يظهر لنا من هذه الآية المباركة هو الإخبار عن الحياة المادّية في السماوات كما هي في الأرض، ولا يصحّ حمل ذلك على الملائكة كما قد يتصوّر، فإنّ الدابّة تعني ما يدبّ ويتحرّك من الموجودات المادّية دون مثل الملك أو الجنّ، ولا يصحّ حمل الآية على الطيور التي تطير في الهواء؛ فإنّها إمّا أن تعتبر من دوابّ الأرض، أو تعتبر بين السماء والأرض، لا في نفس السماء،


(1) س 42 الشورى، الآية: 29.

189

في حين أنّ ضمير التثنية في الآية يرجع إلى نفس السماوات والأرض، والدابّة تشمل كلّ ذي حياة وحركة من أصغر الذرّات إلى أكبر الحيوانات جثّةً.

ولا يبعد أن يكون قوله تعالى: ﴿أَ لاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْض﴾(1) حاكياً عن بعض إرهاصات الحياة في السماوات وهو النبات، فإنّ الآية وإن كانت تفسّر بإخراج ما هو مخبوء في الأرض وهي النباتات وما هو مخبوء في السماوات وهي الأمطار، ولكنّ هذا التفسير يبدو بعيداً عن الذهن؛ فإنّ الأمطار ليست مخبوءة في السماوات، بل هي البخار الذي صعد من الأرض ثمّ سال على شكل ماء، وأكبر الظن أن يكون المقصود بالمخبوء في السماوات أيضاً هي النباتات التي تُعدّ من إرهاصات الحياة وعلاماتها.

وذيل الآية كأنّها تخبر عن جمع كلّ الدوابّ سواء ما في الأرض أو ما في السماء ليوم يجمع فيه الناس وهو يوم القيامة؛ وذلك لأنّ الآية لم تعبّر بتعبير: «وهو على جمعهم إن شآء قدير» كي يقال: إنّ (إن) أداة شرط، ولا تحكي عن أنّه سوف يشاء، وإنّما عَبّر بقوله: ﴿إِذَا يَشَاء﴾ و(إذا) أداة ظرف، فكأنّ أصل المشيئة مفروضة وانّما الآية تقول: إنّ جمعهم في ظرف مشيئة الله مقدور.

والأصرح والأوضح من ذلك في حشر جميع الدوابّ وذوات الحياة بخصوص كرتنا قوله تعالى: ﴿وَمَا مِن دَآبَّة فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِر يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُون﴾(2)، والأوضح


(1) س 27 النمل، الآية: 25.

(2) س 6 الأنعام، الآية: 38.

190

من هذه بخصوص الوحوش قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾(1).

وقد انجرّ كلامنا هنا إلى ما هو خارج عن بحثنا وهو حشر الوحوش والحيوانات جميعاً في يوم المعاد على ما يظهر لنا من هذه الآيات المباركات.

وهذا ما يجعلنا نحدس ـ والله العالم ـ بثبوت نوع من الحساب والجزاء لهم بالرغم من عدم امتلاكهم للفهم والإدراك بالمستوى الذي نحن نمتلكه ممّا تتبعه التكاليف الشرعيّة بالمعنى المفهوم لنا في الفقه، وتكاليف عرفانيّة بالمعنى المفهوم لنا في العرفان، ولكن يبدو أنّ لهم فهماً وشعوراً بمستوى يؤهّلهم لمسؤوليّات بحدودهم ولو بمقدار معرفة قبح ظلم بعضهم لبعض.

ويدعم ذلك عدّة اُمور:

أوّلاً: ما هو محسوس لنا في بعض الحيوانات من نظم مذهل في اُمورها، ممّا يدلّ على مدى إدراكها كما في النحل والنمل ممّا يستبعد كونه ـ على ما قد يقال ـ غريزة بدون عقل، وكذلك ما نراه من تشخيص كثير من الحيوانات لأعدائها من دون تجربة مسبقة، كما يُرى من فرار الشاة من الذئب حتّى لأوّل مرّة من رؤيته إيّاه، وكذلك ما نراه من وفاء بعض الحيوانات كالكلب لصاحبه الذي أنعم عليه، بل ولباقي أهل البيت من الأولاد والأطفال والنساء، وكذلك ما نراه من تعليم البشر لبعض الحيوانات لأداء خدمات كثيرة كتعليم كلب الصيد للصيد وتعليم الطير لإيصال الرسائل وأدائها لما يطلب منها بدقّة فائقة.

ثانياً: حكاية القرآن بعض القصص المذهلة عن بعض الحيوانات، كقصّة النمل: ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ


(1) س 81 التكوير، الآية: 5.

191

لاَ يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا﴾(1).

وكقصّة الهُدهُد، وتفقّد سليمان(عليه السلام) للطير فقال: ﴿مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لاَُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاََذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَان مُّبِين * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيد فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإ بِنَبَإ يَقِين * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُون﴾(2)، وفي هذه الآية الثانية نرى أنّ سليمان(عليه السلام) قدّر للهُدهُد نوع مجازاة لو لم يأته بسلطان مبين.

ثالثاً: إشارة بعض الروايات إلى مجازاة بعض الحيوانات أو القضاء فيما بينها يوم القيامة، إلّا أنّ الظاهر أنّها جميعاً سنّية المصدر كما ورد في مجمع البيان ضمن تفسير الآية (38) من سورة الأنعام ما رووه عن أبي هريرة أنّه قال: يحشر الله الخلق يوم القيامة والدوابّ والطير وكلّ شيء، فيبلغ من عدل الله يومئذ: أن يأخذ للجمّاء من القرناء ثمّ يقول: كوني تراباً، فلذلك يقول الكافر: يا ليتني كنت تراباً، وعن أبي ذر (وأظنّه يقصد: ورووا عن أبي ذر، عطفاً على قوله:


(1) س 27 النمل، الآية: 18 ـ 19.

وقد روي عن عليّ بن موسى الرضا(عليه السلام) عن أبيه موسى بن جعفر(عليه السلام) عن أبيه جعفر بن محمّد(عليه السلام) قال: لمّا قالت النملة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُه وَهُمْ لاَ يَشْعُرُون﴾ حملت الريح صوت النملة إلى سليمان(عليه السلام) وهو مارّ في الهواء والريح قد حملته، فوقف وقال: عليّ بالنملة، فلمّا اُتي بها قال سليمان(عليه السلام): يا أيّتها النملة، أما علمت أ نّي نبيّ الله وأ نّي لا أظلم أحداً؟ قالت النملة: بلى. قال سليمان(عليه السلام): فلم حذّرتهم ظلمي فقلت: يا أيّها النمل ادخلوا مساكنكم؟ قالت النملة: خشيت أن ينظروا إلى زينتك فيفتتنوا بها فيبعدون عن ذكر الله تعالى. اُنظر عيون أخبار الرضا 2: 78، الباب 32، الحديث 8.

(2) س 27 النمل، الآية: 20 ـ 24.

192

رووه عن أبي هريرة) قال: «بينا عند رسول الله(صلى الله عليه وآله) اذ انتطحت عنزان، فقال النبي(صلى الله عليه وآله)أتدرون فيما انتطحتا؟ فقالوا: لا ندري، قال(صلى الله عليه وآله): لكن الله يدري وسيقضي بينهما».

رابعاً: تصريح القرآن بثبوت الخشية من الله في بعض الجمادات والأحجار بقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّه﴾(1)، فلئن كان الجماد ـ الذي يشكّل في تصوّراتنا الظاهريّة أخسّ مرتبة من المراتب المادّية في عدم الإحساس والشعور ـ يمتلك بصريح القرآن إحساس الخشية من الله، فما الذي يبعّد وجود مستوى من الشعور لدى الحيوانات ممّا يجعلها مسؤولة تجاه بعض نكات الحسن والقبح العقليين؟!

وبهذا البيان يتّضح مدى ظلم الإنسان وجهله الذي حمل الأمانة التي لم تحملها السماوات والأرض والجبال، ثمّ لا يخشى الله ويخون الأمانة ويوقع نفسه في مستوى أنزل من الحيوانات ومن الجمادات، ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الاَْمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الاِْنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾(2).

وفي نهج البلاغة: «ثمّ أداء الأمانة، فقد خاب من ليس من أهلها، إنّها عرضت على السماوات المبنيّة والأرضين المدحوّة والجبال ذات الطول المنصوبة، فلا أطول ولا أعرض ولا أعلى ولا أعظم منها، ولو امتنع شيء بطول أو عرض أو قوّة أو عزّ لامتنعن، ولكن أشفقن من العقوبة وعقلن ما جهل من هو أضعف منهنّ، وهو الإنسان، إنّه كان ظلوماً جهولاً. إنّ الله سبحانه وتعالى لا يخفى عليه ما العباد مقترفون في ليلهم ونهارهم، لطف به خبراً وأحاط به


(1) س 2 البقرة، الآية: 74.

(2) س 33 الأحزاب، الآية: 72.