101

سورة من القرآن برغم نزولها المتأخّر.

ومن يبدأ القراءة في الصلاة بالاستعانة بالله الرحمن الرحيم، ويعترف بأنّه تعالى مالك يوم الدين، ويحصر العبادة والاستعانة بالله تعالى، كيف يتّخذ بعد ذلك إلههُ هواه، ويستعين بنعم الله ـ تعالى ـ على معصيته؟!

 

ورابعاً ـ الركوع والسجود:

وقد قالوا عنهما: إنّهما عبادة ذاتيّة؛ لأنّ العبادة تذلّل، والتذلّل بالعبائر إنّما تكون بمعانيها اللُغويّة التي تختلف من لغة إلى لغة ومن قوم إلى قوم، في حين أنّ دلالة الركوع والسجود على التذلّل دلالة عالمية أجمع عليها كلّ الملل وكلّ اللغات، فكأنّ دلالتها على ذلك ذاتيّة، ومن يتذلّل لله بهكذا تذلّل بمحض اختياره ومن دون أيّ إجبار؛ لأنّ « ... اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل »(1)كيف يعارض الله ـ تعالى ـ بعد ذلك بمعصيته؟!

إلى هنا تكلّمنا حول تفسير قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ والمُنْكَرِ ...﴾(2). ولا بأس بتكميل البحث بحديث مختصر عن ذيل الآية، وهو قوله تعالى: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ...﴾ وفيه احتمالان:

الاحتمال الأوّل: أن يكون المقصود بالذكر ذكر العبد لله تعالى. ويؤيّد هذا الاحتمال ما ورد في تفسير الذكر في هذه الآية المباركة عن الصادق(عليه السلام)من قوله: «ذكر الله عندما أحلّ وحرّم»(3). وليس معنى الآية على هذا الاحتمال: أنّ ذكر الله أكبر من الصلاة، وذلك لوضوح أنَّ الصلاة من أبرز مصاديق الذكر وأكملها، بل


(1) نهج البلاغة: 80، رقم الخطبة: 42.

(2) السورة 29، العنكبوت، الآية: 45.

(3) تفسير «نمونه» 16/289.

102

كأنّ معناها: إمّا هو تعليلٌ لنهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر: بأنّ ذكر الله أكبر من كلّ ما يكون قابلاً للنهي عن الفحشاء والمنكر، أي: بما أنّ الصلاة تكون أبرز أنحاء الذكر وأتمّها وأكملها فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وإمّا هو بيان لكون ذكر الله ـ ومن أتمّها وأكملها الصلاة ـ أكبر من كلّ اللّذائذ والتي منها لذّة النفس الأمّارة، وهي لذّة الفحشاء والمنكر(1).

والاحتمال الثاني: أن يكون المقصود بالذكر ذكر الله للعبد، فيكون معنى الآية: أنّ ذكر الله لعبده أكبر من ذكر العبد لله.

قال الله تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ...﴾(2). ويؤيّد هذا الاحتمال ما ورد عن الإِمام الباقر(عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ...﴾ أنّه يعني: «ذكر الله لأهل الصلاة أكبر من ذكرهم إيّاه، ألا ترى أنّه يقول: ﴿اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ...﴾»(3).

 

استنتاجٌ وإضافة:

أمّا الاستنتاج: فقد اتَّضح أنّ أوّل خطوة للسلوك هو الخشوع في الصلاة، وقد أشار القرآن إلى ذلك في آيتين:

الأُولى: قوله سبحانه وتعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾(4). فقد جعل أوّل علامة الإيمان هو الخشوع في الصلاة.

والثانية: قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَى


(1) راجع بهذا الصدد رسالة السير والسلوك المنسوب إلى السيّد بحر العلوم مع تعليق السيّد محمّد حسين الطهراني: 122 ـ 123.

(2) السورة 2، البقرة، الآية: 152.

(3) البحار 82/206.

(4) السورة 23، المؤمنون، الآية: 1 ـ 2.

103

الْخَاشِعِينَ﴾(1).

فمن يصلّي بهدف التخلّص من مسؤوليّة الوجوب، وليس بدافع خشوعه القلبي لله واستغراقه في ذات الله، يحسّ بثقل الصلاة، ويتمنّى في أثناء صلاته بين آونة واُخرى أن تنتهي الصلاة كي لا تشغله عن أعماله وعن علاج مشاكله التي هو مصاب بها، فَمَثله مثل رجل مريض يراجع الطبيب، وينتظر في صفّ المرضى المنتظرين ولو لعدّة ساعات، ويتحمل ذلك لعلمه بأنّ هذا لابدّ له منه علاجاً لمرضه أو نجاةً من الموت الاحتمالي، لكنّه يتمنّى في كلّ لحظة أن تنتهي هذه المراجعة كي يفرغ لسائر أعماله وهمومه. أمّا من يتشرف بلقيا عظيم من العظماء كالسيد الإِمام(رحمه الله) أو السيّد الشهيد الصدر(رحمه الله) ممّن يكون خاشعاً له مستغرقاً في حبِّه ملتذّاً بحضوره لديه فقد تمضي عليه الساعات الطوال ولا يحسّ أصلاً بمرور الزمن، فكأنّ هذا هو معنى قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾، أي: أنّ غير الخاشع إن كان يصلّي يرى أنّ صلاته قد زاحمت أعماله وأشغاله الأُخرى، فهو قد يأتي بالصلاة باعتبار اعتقاده بوجوبها، لكنّه يحسّ بثقلها ومشقّتها. وأ مّا الخاشع فهو الذي يلتذّ بالصلاة، فلا يحسّ بثقلها، وكأنّه يغفل عن مرور الزمن عليه في حال الصلاة.

للهِ قومٌ إِذا ما الليل جنّهمو
قاموا من الفرشِ للرحمنِ عُبَّادا
ويركبون مطايا لا تملُّهمو
إذا هُمو بمنادي الصبحِ قد نادا
هُمو إذا ما بياضُ الصبحِ لاحَ لهم
قالوا من الشوقِ ليت الليلَ قد عادا
الأرضُ تبكي عليهم حينَ تفقدُهمْ
لأنّهم جعلوا للأرضِ أوتادا

ثُمّ إنّني لا أتصوّر أن تكون الصلاة التي هي كبيرة إلاّ على الخاشعين عبارة عن صلواتنا التي قد تكون نقراً كنقر الغراب، أو لا تستغرق إلاّ خمس دقائق،


(1) السورة 2، البقرة، الآية 45.

104

ولا تكون إلاّ بالمقدار المجزي فقهيّاً، فأيّ ثقل مهمّ لهذه الصلاة حتّى يقال عنها: ﴿ إِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾؟!

وأمّا الإضافة فأُمور ثلاثة:

الأوّل: هناك عدّة طرق لتحصيل حضور القلب في الصلاة، منها:

1 ـ أن يبادر قبل الدخول في الصلاة بحلّ مشاغله الآنيّة، كمدافعة الأخبثين، وألم يمكن تسكينه ولو نسبيّاً في وقت قصير، ونحو ذلك. وقد وردت النصوص في النهي عن الصلاة مع مدافعة الأخبثين(1).

وقد رُوي عن أبي الدرداء أنّه قال: من فقه الرجل أن يبدأ بحاجته قبل دخوله في الصلاة؛ ليدخل في الصلاة وقلبه فارغ(2).

2 ـ أن يفرّغ نفسه قبل الصلاة عن أفكاره الأُخرى ومشاغله دنيويّة أو أُخرويّة، ويفكّر في عظمة الله ورحمته وغضبه، وفي الموت وما بعده.

3 ـ أن يتأمّل في الصلاة في معاني ما يقول. وطبعاً التوجّه إلى الله من خلال الكلمات ليس هو الأصل؛ بل الأصل هو العكس، ولكن هذا ممّا لابدّ منه في بداية الطريق.

الثاني: على السالك أن يتدرّج في السلوك، ولا يحمّل نفسه فوق طاقته، ولا يبغّض إلى نفسه العبادة بالإكثار، ويداري حالات قلبه المختلفة من الإقبال والإدبار.

وقد ورد عن الصادق(عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنّه قال لعليّ(عليه السلام): «يا عليّ إنّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغّض إلى نفسك عبادة ربّك إنّ المنبتّ ـ يعني المفرط ـ لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع، فاعمل عمل من يرجو أن يموت هرماً


(1) راجع الوسائل، ج7، الباب 8 من قواطع الصلاة.

(2) راجع المحجة البيضاء 1/398.

105

واحذر حذر من يتخوّف أن يموت غداً»(1).

وعن أحدهما(عليهما السلام) قال: قال النبيّ(صلى الله عليه وآله): «إنّ للقلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فتنفّلوا، وإذا أدبرت فعليكم بالفريضة»(2).

وعن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنّ للقلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فاحملوها على النوافل، وإذا أدبرت فاقتصروا بها على الفرائض»(3).

الثالث: كلّما تقدّم السالك في سلوكه ازداد ثقل كاهله، ولن يصل إلى مرحلة التخفيف، فهاهم أنبياء الله العظام الذين وصلوا في سلوكهم فوق ما يتصوَّره متعارف الناس ترى عظم مسؤوليتهم وثقل كاهلهم. وكنموذج لذلك نشير إلى قِصَّة يونس على نبيّنا وآله وعليه الصلاة والسلام، فهو حينما غضب على قومه الكفرة الفجرة، وكان غضبه لله لم يستطع الصبر على ذلك حتّى دعا عليهم، وهذا أمر لو صدر من أحدنا لشكرنا الله عليه، ولكُنَّا بذلك من الممدوحين، ولكنّ الله تعالى أدّبه على ذلك بسجنه في بطن الحوت، وقال: ﴿فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِن الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾(4). وذلك لا لشيء إلاّ لأنّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين، ولا لشيء إلاّ لأنّه كان يتوقّع منه أن يكون أوسع صدراً من ذلك. وهذه مسؤوليّة لا نتحمل نحن عُشراً من معشارها.

وهذا رسول الله(صلى الله عليه وآله) قد أذِنَ للبعض بهدف المداراة وحسن السلوك مع الناس؛ لتقريبهم بذلك إلى الله الأمر الذي لو صدر من أحدنا لكُنّا من الممدوحين والمشكور على عملهم، ولكنّ الله تعالى أدّبه فأحسن تأديبه حينما قال: ﴿عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾(5).


(1) الوسائل 1/110، الباب 26 من مقدّمة العبادات، الحديث 7.

(2) الوسائل 4 / 69، الباب 16 من أعداد الفرائض، الحديث 8 .

(3) نهج البلاغة: 721، رقم الحكمة: 312.

(4) السورة 37، الصّافات، الآيتان: 143 ـ 144.

(5) السورة 9، التوبة، الآية: 43.

107

 

 

 

 

النقطة الرابعة

وهي التأكيد على ضرورة العمل الاجتماعي مع الناس

ومع الطبيعة وعدم الابتعاد عن العمل السياسي وعدم تنافي

ذلك كلّه لتهذيب النفس وتزكيتها، بل إنّ هذا أيضاً عامل

من عوامل التهذيب والتزكية

 

فالمألوف الغالب في وضع الصوفيّة إبعاد الناس الذين يفتتنون بهم عن العمل السياسي الاجتماعي. وقد يدّعى أنّ تزكية النفس بحاجة إلى الاختلاء والابتعاد عن وضع المجتمع.

ونحن نقول: صحيح أنّ تربية النفس لا تستغني عن نوع من الاختلاء بالله، وهو أمر مرغوب فيه شرعاً، إلاّ أنّ الشريعة أمرت بتوزيع هذا الاختلاء على تمام العمر يوماً فيوماً بتخصيص ساعة للاختلاء، وأفضل الساعات لذلك هو جوف الليل الغابر ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً﴾(1). فالنهار يناسب السبح في المجتمع وفي مسرح الحياة وفي الأعمال الدنيويّة والأُخرويّة، وغابر الليل يناسب الخلوة مع الله سبحانه وتعالى. وهذا معنى توزيع الخلوات على تمام أيّام العمر من دون الانقطاع عن الأعمال الاجتماعيّة والسياسيّة، وكشف منابع الطبيعة ونعمها واستثمارها. أمّا الانصراف تمام العمر أو


(1) السورة 73، المزمّل، الآيتان: 6 ـ 7.

108

ردحاً من الزمن عن العمل السياسي الاجتماعي وبحُجّة تزكية النفس أو بأ يّة حُجّة أُخرى، فهذا ليس من دأب الإسلام، وهذا خلاف العمل بخلافة الله على وجه الأرض.

قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ...﴾(1).

والمقصود بالخلافة: الخلافة عن الله لا الخلافة عن إنسان قديم، فإنّ الَمخلف عنه لو كان غير المتكلّم لوجب التنبيه عليه.

والمقصود بالخليفة: الإنسانيّة بالذات لا شخص آدم(عليه السلام) وأكبر الظنّ أنّ هذا هو الذي أثار مخاوف الملائكة ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ... ﴾(2). أمّا شخص آدم(عليه السلام) فلم يكن يثير تخوّفاً في نفوس الملائكة. والسجود وإن كان بوجهه الخاص لآدم(عليه السلام) أو للإنسانيّة المعصومة وللمعصومين في صلب آدم(عليه السلام)، ولكنّه بوجهه العام كان سجوداً للإنسانيّة.

قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُم ثُمَّ صَوَّرْنَاكُم ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ ...﴾(3). فذيل الآية يشير إلى وجه السجود الخاص بآدم أو بالمعصومين، لأنّه أو لأنّهم الفرد الكامل في الخلافة المشتملة على ولاية الطاعة. وقد ورد عن الرضا (عليه السلام): «كان سجودهم لله ـ تعالى ـ عبوديّة، ولآدم إكراماً وطاعة لكوننا في صلبه»(4). وصدر الآية يشير إلى وجه السجود العام؛ إذ دلَّ على أنّ خلق آدم كان خلقاً لكم أيُّها البشر، وتصويره كان تصويراً لكم، فالسجود له كان سجوداً لكم. وسجود الملائكة للإنسانيّة فيه إشارة عظيمة إلى عظمة الإنسان الكامنة في امتيازه


(1) السورة 2، البقرة، الآية: 30.

(2) السورة 2، البقرة، الآية: 30.

(3) السورة 7، الأعراف، الآية: 11.

(4) تفسير «نمونه» 1/183.

109

عن الملائكة، وكان امتياز الإنسان فيما له من الخلافة. وليس المقصود بخلافة الإنسان أن يكون بكلِّ أفراده وليّاً واجب الطاعة، بل المقصود: أنّ الإنسان بكلِّ أفراده يخلف المنوب عنه في رعايته للمخلف فيه، والمخلف فيه هو الأرض وما على الأرض.

فليس معنى ﴿جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ كون مهبط الخليفة هو الأرض فحسب من دون أن تكون الخلافة على الأرض، بل معناه: أنّه في الأرض، وأنّه خليفة على الأرض، فعليه أن يستعمر الأرض ويستثمرها، ويرعى ما عليها ومَنْ عليها كلّ بمستواه، وطبعاً مستوى المعصومين هو الخلافة المشتملة على ولاية الطاعة. وقد ورد في الحديث: «مَن أصبح لا يهتمّ بأُمور المسلمين فليس بمسلم»(1). وورد: «لا رهبانيّة في الإسلام»(2).

ورسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يربِّ أصحابه على الانفصال عن العمل السياسي الاجتماعي دائماً أو ردحاً من الزمن، بل زجّهم ـ من أوّل زمن شوكة الإسلام ـ في الحروب والأعمال السياسيّة، وكانت الخلوة مع الله ثابتة بينهم بشكل موزّع على أيّام العمر، وكان هو وطائفة من الذين معه يقومون بالعبادة في جوف الليل الغابر.

هذا، والعزوف عن الحياة الاعتياديّة والترهبن والتعمد في ترك اللذائذ المحلّلة ـ أيضاً ـ أمر مرغوب عنه في الإسلام.

وإليك بعض الآيات:

1 ـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ


(1) راجع الوسائل 16/336 ـ 337، الباب 18 من أبواب فعل المعروف.

(2) سفينة البحار 3/428، مادّة (رهب).

110

مُؤْمِنُونَ﴾(1).

2 ـ ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾(2).

3 ـ ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ...﴾(3).

4 ـ ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ...﴾(4).

وإليك بعض الروايات:

1 ـ عن عليّ(عليه السلام) قال: «إنّ جماعة من الصحابة كانوا حرّموا على أنفسهم النساء، والإفطار بالنهار، والنوم باللّيل، فأخبرت أمُّ سلمة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فخرج إلى أصحابه، فقال: أترغبون عن النساء؟! إنّي آتي النساء، وآكل بالنهار، وأنام باللّيل، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي...»(5).

2 ـ عن الصادق(عليه السلام) قال: «جاءت امرأة عثمان بن مظعون إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله)فقالت: يا رسول الله إنّ عثمان يصوم النهار ويقوم اللّيل. فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله)مغضباً يحمل نعليه حتّى جاء إلى عثمان، فوجده يصلّي، فانصرف عثمان حين رأى رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقال له: يا عثمان لم يرسلني الله بالرهبانيّة، ولكن بعثني بالحنيفيّة السمحة أصوم وأُصلّي وألمس أهلي، فمن أحبّ فطرتي فليستنّ بسنّتي، ومن سنّتي النكاح»(6).


(1) السورة 5، المائدة، الآيتان: 87 ـ 88 .

(2) السورة 66، التحريم، الآيتان: 1 ـ 2.

(3) السورة 7، الاعراف، الآية: 32.

(4) السورة 28، القصص، الآية: 77.

(5) الوسائل 20 / 21، الباب 2 من مقدّمات النكاح، الحديث 9.

(6) الوسائل 20/106 ـ 107، الباب 48 من مقدمات النكاح، الحديث 1.

111

3 ـ عن الصادق(عليه السلام) قال: «إنّ ثلاث نسوَة أتين رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالت: إحداهنّ: إنّ زوجي لا يأكل اللّحم. وقالت الأُخرى: إنّ زوجي لا يشمّ الطيّب. وقالت الأُخرى: إنّ زوجي لا يقرب النساء. فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) يجرّ رداءه حتّى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: ما بال أقوام من أصحابي لا يأكلون اللّحم، ولا يشمّون الطيّب، ولا يأتون النساء؟! أمّا إنّي آكل اللّحم، وأشمّ الطيب، وآتي النساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي»(1).

4 ـ في نهج البلاغة(2) دخل عليّ (عليه السلام) بالبصرة على العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه يعوده، فلمّا رأى سَعة داره قال: «ما كنت تصنع بسَعة هذه الدار وأنت إليها في الآخرة كنتَ أحوج؟ وبلى إن شئت بلغتَ بها الآخرة تقري فيها الضيف، وتصل فيها الرحم، وتُطِلع منها الحقوق مطالعها، فإذن أنت قد بلغت بها الآخرة.

فقال له العلاء: يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زياد، قال: وماله؟ قال: لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا. قال: عَليَّ به، فلمّا جاء قال: يا عُدَيّ نفسه لقد استهام بك الخبيث، أما رحمتَ أهلك وولدك، أترى الله أحلّ لك الطيّبات وهو يكره أن تأخذها؟! أنت أهون على الله من ذلك!

قال: يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك.

قال: ويحك إنّي لست كأنت، إن الله ـ تعالى ـ فرض على أئمّة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس كي لا يتبيّغ بالفقير فقره». ورواه ابن أبي الحديد مع بعض الفوارق(3).


(1) المصدر السابق 20 / 107، الحديث 2.

(2) نهج البلاغة: 439 ـ 440، رقم الخطبة: 209.

(3) راجع البحار 70/121 ـ 122 ناقلاً له عن ابن أبي الحديد.

112

5 ـ ورد عن ابن القدّاح قال: «كان أبو عبدالله(عليه السلام) متكئاً عليَّ، أو قال: على أبي، فلقيه عبّاد بن كثير وعليه ثياب مَرْويّة حسان، فقال: يا أبا عبدالله إنّك من أهل بيت النبوّة، وكان أبوك وكان، فمالهذه الثياب المزيّنة عليك؟! فلو لبست دون هذه الثياب.

فقال له أبو عبدالله(عليه السلام): ويلك يا عبّاد ﴿مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ...﴾ إنّ الله عزّ وجلّ إذا أنعم على عبد نعمةً أحبّ أن يراها عليه ليس به بأس، ويلك يا عبّاد إنّما أنا بضعة رسول الله(صلى الله عليه وآله) فلا تؤذني». وكان عبّاد يلبس ثوبين قطريين (قطوبين خَ لَ)(1).

6 ـ روى في البحار(2) عن تحف العقول قال: «دخل سفيان الثوري على أبي عبدالله(عليه السلام)، فرأى عليه ثياب بياض كأنّها غِرْقِئ البيض(3)، فقال له: إنّ هذا اللباس ليس من لباسك.

فقال له: اسمع منّي وعِ ما أقول لك، فإنّه خير لك عاجلاً وآجلاً إن كنت أنت متّ على السنّة والحقّ، ولم تمت على بِدْعة: أُخبرك أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان في زمان مقفر جَشِب، فإذا أقبلت الدنيا فأحقّ أهلها بها أبرارها لا فجّارها، ومؤمنها لا منافقوها، ومسلموها لا كفّارها، فما أنكرت يا ثوريّ؟ فو الله إنّي لمع ما ترى ما أتى عليَّ مذ عقلتُ صباح ولا مساء ولله في مالي حقّ أمرني أن أضعه موضعاً إلاّ وضعته.

فقال: ثمَّ أتاه قومه ممّن يظهر التزهّد، ويدعون الناس أن يكونوا معهم مثل


(1) الوسائل 5/16، الباب 7 من أحكام الملابس، الحديث 4.

(2) البحار 70/122 ـ 128.

(3) جاء هنا في البحار تحت الخط ما يلي: الغِرْقِئ ـ كزبرج ـ القشرة الملتزقة ببياض البيض، شبهه بها للطافتها وشفوفها ونعومتها وبياضها.

113

الذي هم عليه من التقشّف، فقالوا: إنّ صاحبنا حَصِرَ عن كلامك، ولم تحضره حجّة(1).

فقال لهم: هاتوا حججكم. فقالوا: إنّ حججنا من كتاب الله. قال لهم: فأدلوا بها، فإنّها أحقّ ما اتُّبع وعمل به.

فقالوا: يقول الله تبارك وتعالى يخبر عن قوم من أصحاب النبيّ(صلى الله عليه وآله): ﴿ ... وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(2). فمدح فعلهم، وقال: في موضع آخر ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً﴾(3) فنحن نكتفي بهذا.

فقال رجل من الجلساء: إنّا ما رأيناكم تزهدون في الأطعمة الطيّبة ومع ذلك تأمرون الناس بالخروج من أموالهم حتّى تتمتّعوا أنتم منها.

فقال له أبو عبدالله(عليه السلام): دعوا عنكم مالا ينتفع به(4).

أخبروني أيّها النفر ألكم علم بناسخ القرآن من منسوخه، ومحكمه من متشابهه الذي في مثله ضلّ من ضلّ وهلك من هلك من هذه الأُمّة؟ فقالوا له: أو بعضه فأمّا كلّه فلا. فقال لهم: من هنا أُتيتم، وكذلك أحاديث رسول الله(صلى الله عليه وآله).

فأ مّا ما ذكرتم من إخبار الله إيّانا في كتابه عن القوم الذين أخبر عنهم بحسن فعالهم، فقد كان مباحاً جائزاً، ولم يكونوا نهوا عنه، وثوابهم منه على الله؛ وذلك أنّ الله ـ جلَّ وتقدّس ـ أمر بخلاف ما عملوا به فصار أمره ناسخاً لفعلهم، وكان نهي الله


(1) أي: أنّ سفيان الثوري لم تحضره الحجّة فعجز عن الجواب، ونحن لدينا الحجّة، ومستعدون للاحتجاج عليك بها.

(2) السورة 59، الحشر، الآية: 9.

(3) السورة 76، الإنسان، الآية: 8 .

(4) كأنّه خطاب للرجل المعترض عليهم، أي: اتركوا الجدال في أنّهم هل يعملون بما يقولون أو لا؛ كي ننشغل بالبحث عن أصل صحّة ما يقولون وفساده.

114

ـ تبارك وتعالى ـ رحمة للمؤمنين ونظراً؛ لكي لا يضرّوا بأنفسهم وعيالاتهم منهم الضعفة الصغار، والولدان، والشيخ الفانِ، والعجوز الكبيرة الذين لا يصبرون على الجوع، فإن تصدّقت برغيفي ولا رغيف لي غيره ضاعوا وهلكوا جوعاً.

فمن ثمَّ قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «خمس تمرات أو خمس قرص أو دنانير أو دراهم يملكها الإنسان وهو يريد أن يمضيها فأفضلها ما أنفقه الإنسان على والديه، ثمّ الثانية على نفسه وعياله، ثمّ الثالثة القرابة وإخوانه المؤمنين، ثمّ الرابعة على جيرانه الفقراء، ثمّ الخامسة في سبيل الله، وهو أخسّها أجراً».

وقال النبيّ(صلى الله عليه وآله) للأنصاريّ حيث أعتق عند موته خمسة أو ستة من الرقيق، ولم يكن يملك غيرهم، وله أولاد صغار: «لو أعلمتموني أمره ما تركتكم تدفنونه مع المسلمين، ترك صبية صغاراً يتكففون الناس». ثمّ قال: حدّثني أبي أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله)قال: «ابدأ بمن تعول الأدنى فالأدنى».

ثُمَّ هذا ما نطق به الكتاب ـ ردّاً لقولكم ونهياً عنه ـ مفروض من الله العزيز الحكيم، قال: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً﴾(1)أفلا ترون أن الله ـ تبارك وتعالى ـ قال غير ما أراكم تدعون ]الناس إليه من الأثَرَة على أنفسهم وسمّى مَن فَعَل ما تدعون[(2) إليه مسرفاً، وفي غير آية من كتاب الله يقول: ﴿ ... إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾(3) فنهاهم عن الإسراف، ونهاهم عن التقتير، لكن أمر بين الأمرين: لا يعطي جميع ما عنده، ثُمّ يدعو الله أن يرزقه، فلا يستجيب له للحديث الذي جاء عن النبيّ(صلى الله عليه وآله): «إنّ أصنافاً من أُمّتي لا يستجاب دعاؤهم:


(1) السورة 25، الفرقان، الآية: 67.

(2) ورد في البحار هنا تحت الخط: أن ما بين العلامتين ساقط من نسخة التحف والكمباني أضفناه من نسخة الكافي.

(3) السورة 6، الأنعام، الآية: 141، والسورة 7، الأعراف، الآية: 31.

115

رجل يدعو على والديه، ورجل يدعو على غريم ذهب له بمال ولم يشهد عليه، ورجل يدعو على امرأته وقد جعل الله تخلية سبيلها بيده، ورجل يقعد في البيت يقول: يا ربّ ارزقني ولا يخرج يطلب الرزق، فيقول الله ـ جلّ وعزّ ـ: عبدي ألم أجعل لك السبيل إلى الطلب والضرب في الأرض بجوارح صحيحة؟ فتكون قد أعذرت فيما بيني وبينك في الطلب لاتباع أمري، ولكي لا تكون كَلاًّ على أهلك، فإن شئت رزقتك، وإن شئت قترت عليك وأنت معذور عندي، ورجل رزقه الله مالاً كثيراً، فأنفقه، ثمَّ أقبل يدعو يا ربّ ارزقني، فيقول الله: ألم أرزقك رزقاً واسعاً؟! أفلا اقتصدت فيه كما أمرتك، ولم تسرف كما نهيتك. ورجل يدعو في قطيعة رحم».

ثُمَّ علّم الله نبيّه كيف ينفق؛ وذلك أنّه كان عنده أوقية من ذهب فَكَرِه أن تبيت عنده، فصدّق، وأصبح ليس لديه شيء وجاءه من يسأله فلم يكن عنده ما يعطيه، فلامه السائل، واغتمّ هو حيث لم يكن عنده ما يعطيه وكان رحيماً رفيقاً، فأدّب الله نبيّه بأمره إيّاه فقال: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً﴾(1).

يقول: إنّ الناس قد يسألونك ولا يعذرونك، فإذا أعطيت جميع ما عندك كنت قد حسرت من المال.

فهذه أحاديث رسول الله يصدّقها الكتاب، والكتاب يصدّقه أهله من المؤمنين.

وقال أبو بكر(2) عند موته: أُوصي بالخمس والخمس كثير، فإنّ الله قد رضي بالخمس، فأَوصى بالخمس، وقد جعل الله له الثلث عند موته، ولو علم أنّ الثلث خير له أَوصى به.


(1) السورة 17، الإسراء، الآية: 29.

(2) كأنّ هذا احتجاج معهم بأبي بكر باعتبارهم من السُنّة.

116

ثُمَّ من قد علمتم بعده في فضله وزهده سلمان وأبو ذرّ:

فأمّا سلمان فكان إذا أخذ عطاءه رفع منه قوته لسنته حتّى يحضره عطاؤه من قابل، فقيل له: يا أبا عبدالله أنت في زهدك تصنع هذا؟! وإنّك لا تدري لعلك تموت اليوم أو غداً. وكان جوابه: أن قال: ما لكم لا ترجون لي البقاء كما خفتم عليَّ الفناء؟! أومَا علمتم يا جهلة أنّ النفس قد تلتاث(1) على صاحبها إذا لم يكن لها من العيش ما يعتمد عليه، فإذا هي أحرزت معيشتها اطمأ نّت.

فأمّا أبو ذرّ فكانت له نويقات(2) وشويهات(3) يحلبها ويذبح منها إذا اشتهى أهله اللحم، أو نزل به ضيف، أو رأى بأهل الماء الذين هم معه خصاصة نحر لهم الجزور أو من الشاء على قدر ما يذهب عنهم قرم اللحم(4). فيقسّمه بينهم، ويأخذ كنصيب أحدهم لا يفضل عليهم.

ومَن أزهد من هؤلاء؟! وقد قال فيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما قال ولم يبلغ من أمرهما أن صارا لا يملكان شيئاً البتّة كما تأمرون الناس بإلقاء أمتعتهم وشيئهم، ويؤثّرون به على أنفسهم وعيالاتهم.

واعلموا أيّها النفر أ نّي سمعت أبي يروي عن آبائه: أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال يوماً: ما عجبت من شيء كعجبي من المؤمن إنّه إن قُرِّض جسده في دار الدنيا بالمقاريض كان خيراً له، وإن ملك ما بين مشارق الأرض ومغاربها كان خيراً له، فكلّ ما يصنع الله به فهو خير له، فليت شعري هل يحيق(5) فيكم اليوم ما قد شرحت لكم أم أزيدكم؟


(1) أي: تلتفّ بصاحبها وتوسوسها.

(2) جمع نويقة مصغّر ناقة.

(3) جمع شويهة مصغّر شاة.

(4) فسّر تحت الخط بشهوة اللحم والميل المفرط بأكله.

(5) فسّر تحت الخط بمعنى: هل يؤثّر وينفذ فيكم هذا المقدار.

117

أو ما علمتم أنّ الله ـ جلّ اسمه ـ فرض على المؤمنين في أوّل الأمر أن يقاتل الرجل منهم عشرة من المشركين ليس له أن يولّي وجهه عنهم، ومن ولاّهم ـ يومئذ ـ دبره فقد تبوّأ مقعده من النار، ثمَّ حوّلهم من حالهم رحمة منه لهم فصار الرجل منهم عليه أن يقاتل الرجلين من المشركين تخفيفاً من الله عن المؤمنين، فنسخ الرجلان العشرة.

وأخبروني ـ أيضاً ـ عن القضاة أجورٌ منهم حيث يفرضون على الرجل منكم نفقة امرأته إذا قال: أنا زاهد، وأنّه لا شيء لي؟ فإن قلتم: جور ظلمتم أهل الإسلام، وإن قلتم: بل عَدل، خصمتم أنفسكم. وحيث يردّون صدقة مَنْ تصدّق على المساكين عند الموت بأكثر من الثلث.

أخبروني لو كان الناس كلّهم كما تريدون زهّاداً لا حاجة لهم في متاع غيرهم فعلى مَنْ كان يتصدّق بكفّارات الأيمان والنذور والصدقات من فرض الزكاة من الإبل والغنم والبقر، وغير ذلك من الذهب والفضّة والنخل والزبيب وسائر ما قد وجبت فيه الزكاة إذا كان الأمر على ما تقولون لا ينبغي لأحد أن يحبس شيئاً من عرض الدنيا إلاّ قدّمه وإن كان به خصاصة؟ فبئس ما ذهبتم إليه وحملتم الناس عليه من الجهل بكتاب الله وسنّة نبيّه وأحاديثه التي يصدّقها الكتاب المنزل، وردّكم إيّاها بجهالتكم وترككم النظر في غرائب القرآن من التفسير بالناسخ من المنسوخ والمحكم والمتشابه والأمر والنهي.

وأخبروني أنتم عن سليمان بن داود(عليه السلام) حيث سأل الله مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فأعطاه الله ذلك، وكان يقول الحقّ ويعمل به، ثُمَّ لم نجد الله عاب ذلك عليه ولا أحداً من المؤمنين، وداود قبله في مُلْكه وشدّة سلطانه.

ثُمّ يوسف النبيّ حيث قال لملك مصر: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ

118

عَلِيمٌ﴾(1) فكان من أمره الذي كان أن اختار مملكة الملك وما حولها إلى اليمن، فكانوا يمتارون الطعام من عنده لمجاعة أصابتهم، وكان يقول الحقّ، ويعمل به، فلم نجد أحداً عاب ذلك عليه.

ثُمَّ ذو القرنين عبد أحبّ الله فأحبّه، طوى له الأسباب، وملّكه مشارق الأرض ومغاربها، وكان يقول بالحقّ، ويعمل به، ثُمَّ لم نجد أحداً عاب ذلك عليه.

فتأدّبوا أيُّها النفر بآداب الله للمؤمنين، واقتصروا على أمر الله ونهيه، ودعوا عنكم ما اشتبه عليكم ممّا لا علم لكم به، وردّوا العلم إلى أهله تؤجروا وتعذروا عند الله، وكونوا في طلب علم الناسخ من القرآن من منسوخه ومحكمه من متشابهه، وما أحلّ الله فيه وما حرّم، فإنّه أقرب لكم من الله وأبعد لكم من الجهل، ودعوا الجهالة لأهلها، فإن أهل الجهل كثير، وأهل العلم قليل، وقد قال الله: ﴿فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْم عَلِيمٌ﴾(2)» انتهى الحديث(3).

وللكلام عن مدى وجود الناسخ والمنسوخ في القرآن، وأنّ النسخ هنا هل يحمل على معناه المصطلح لدى الفقهاء، أو يفسّر بتفسير آخر مجال آخر.

ولنلخص الكلام حول المقصود ببيان أنّ هناك طُرُقاً ثلاثة لتهذيب النفس وتصفيتها، ثالثها هو الصحيح، والأوّلان ليسا شرعيين:

الطريق الأوّل: الترهبن أو ترك الدنيا ونعيمها. وهذا ما عرفت ـ ممّا سردناه لك من الآيات والروايات ـ خطأه، نعم، هناك نكتتان لا ينبغي إغفالهما:

الأُولى: أنَّ تنعّم العبد بما آتاه الله ـ تعالى ـ من النعم المحلّلة في الدنيا لا ينبغي أن يوجب تغافله عن مواساة الآخرين، أو تناسيه لما ينبغي أن يصرفه في مصالح


(1) السورة 12، يوسف، الآية: 55.

(2) السورة 12، يوسف، الآية: 76.

(3) وقد ورد هذا الحديث أيضاً في البحار 47/232 ـ 237 نقلاً عن الكافي مع فارق يسير.

119

الإسلام والمسلمين، أو انشغاله عن أمر الآخرة. وقد مضى كلام أمير المؤمنين(عليه السلام)للعلاء بن زياد: «ما كنت تصنع بسَعة هذه الدار وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج، وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة...».

والثانية: أنّ التنعّم بتلك النعم المحلّلة لا ينبغي أن يصل إلى مستوى تعلّق القلب بها، فيأسو على ما فاته، بل ينبغي أن يكون في الرضا بقضاء الله على مستوى بحيث لو عاش في اليوم الأوّل غارقاً في النعم وفي اليوم الثاني فاقداً لها جميعاً لكان وضعه النفسي سواءً، وذلك تسليماً لما يرضاه الله تعالى وثقةً بأنّه سبحانه وتعالى لا يقدّر إلاّ ما فيه الخير والصلاح. وهذا هو الزهد المفهوم من قوله سبحانه وتعالى: ﴿لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ...﴾(1) فالزهد الحقيقي هو أن لا يملككَ شيء، لا أن لا تملك شيئاً.

والطريق الثاني: الابتعاد عن الخدمات الاجتماعيّة والسياسيّة للإسلام وللمسلمين، والتفرغ للخلوة مع الله سبحانه وتعالى وتزكية النفس، وهذا ـ أيضاً ـ غير صحيح، فإنّه خلاف مقام خلافة الإنسان لله على وجه الأرض، وخلاف ضرورة الاهتمام باُمور المسلمين، وخلاف طريقة تربية الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه.

والطريق الثالث: هو العمل في خطّين متوازيين في وقت واحد:

أحدهما خطّ الخلوة مع الله وتصفية الباطن عن طريق مدارسة الوضع الباطني والاهتمام به. والثاني خط الاهتمام باُمور الإسلام والمسلمين. وهذا هو الطريق الصحيح.

وتوضيح المقصود: أنّ في النفس البشريّة نقصين لابدّ من علاجهما في مقام السلوك إلى الله وارتقاء مدارج الكمال:

الأوّل: ضيق أُفق نفس الشخص عن مصالح غيره وعدم الاهتمام إلاّ بمصالح


(1) السورة 57، الحديد، الآية: 23.

120

نفسه، في حين أنّ الآخرين ـ أيضاً ـ هم عباد الله، والله ـ تعالى ـ يريد مصلحتهم.

والثاني: سُمك المادّة الذي حجبه عن المصالح المعنويّة والأُمور الروحانيّة.

ولربما يخفّف بعض الضيق الأوّل، فتراه يهتمّ بمصالح غيره ولو في إطار من القوميّة مثلاً والذي هو إطار ضيّق بالقياس إلى إطار البشريّة أو إطار المذهب الصحيح، ولكنّه لم يخفّف عن نفسه سُمك المادة، بل ربّما لا يكون مؤمناً بما وراء المادّة، ولا يؤمن بالله العليّ العظيم وإن كان من صفته وشيمته الاهتمام بقومه أو بالإنسانيّة مثلاً.

ولربّما ترى بعض أهل العرفان (غير العرفان الصحيح الذي أراده الإسلام) يعكس الأمر، فقد يخفّف حجاب سُمك المادّة عن بصيرته، ويلتذّ بلقاء الله بالمعنى المعنوي من اللقاء، ولكنّه يحصر ذلك في إطار نفسه؛ لأنّه يعيش ضيق اُفق النفس، فلا يهمّه الآخرون ويقول: إنّ علاج الآخرين إنّما يصحّ لي حينما لا يضر بحالتي العرفانيّة أو يزاحمها. وقد تراه يستدلّ بقوله سبحانه وتعالى: ﴿... عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ...﴾(1) غفلةً عن أنّ معنى الآية المباركة لو كان ذلك لكانت الآية في تناقض مع آيات الجهاد وآيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إذن فمعنى الآية ليس هو هذا، فإنّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً، وإنّما معنى الآية: عدم التحسّر على الذين لا ينفعهم الإرشاد والهداية. فوزان الآية وزان قوله تعالى: ﴿... فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَات ...﴾(2) وقوله تعالى: ﴿... وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ...﴾(3).


(1) السورة 5، المائدة، الآية: 105. وراجع بهذا الصدد كتاب روح مجرّد: 598 كي ترى نموذجاً من هذا الاستدلال.

(2) السورة 35، فاطر، الآية: 8 .

(3) السورة 16، النحل، الآية: 127، والسورة 27، النمل، الآية: 70.

121

وقد رُوِيَ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنّه سُئِلَ عن معنى قوله تعالى: ﴿... عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ...﴾ فقال (صلى الله عليه وآله): «ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، فإذا رأيت دنياً مؤثرة وشحاً مطاعاً وهوىً متّبعاً وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه، فعليك بخويصة نفسك، وذر عوامهم»(1).

وحينما وجب الجهاد أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصبح الإتيان بذلك جزءاً من مفاد قوله تعالى: ﴿... عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ...﴾؛ لأنّ ترك ذاك الواجب يضرّ بأنفسنا.

ولو صحّ ما يقوله بعض المنحرفين: من أنّ الإنسان يصل بتهذيب النفس والتجرّد عن سُمك المادّة إلى حدّ يذوب ذوباناً حقيقيّاً في الله، فلا يبقى إلاّ الله نفسه، لكان كلا النقصين اللذين أشرنا إليهما في النفس البشريّة يرتفعان بذلك؛ لأنّه كان هو الله سبحانه وتعالى، وصحّ له أن يقول: ليس في جبّتي إلاّ الله.

ولو كان كلامهم هذا جدّياً وعلى نحو الاعتقاد لا الكذب والدجل، كان جوابه الفلسفي: أنّنا لو آمنّا بأنّه ليس في الوجود إلاّ الله، وأنكرنا أيَّ وجود آخر حتّى الوجود التعلّقي، فهذا المقام ثابت للإنسان، بل لأيّ موجود قبل تهذيب النفس والتزكيّة؛ لأنّه أمر واقعي وأساسي منذ البدء، والتعبير بالإنسان أو بأيّ موجود ليس إلاّ تعبيراً اعتبارياً وعلى أساس ضيق التعابير. ولو لم نؤمن بذلك فالذوبان الحقيقي مستحيل، وتهذيب النفس لا يؤدّي إلى ذلك حتّى لو فُرِضَ التجرّد عن المادّة حقيقة قبل الموت، أو وصلنا إلى الموت الإرادي وافترضنا أنّه يساوق التجرّد عن المادة؛ فإنّ النقص البشري ليس فقط في الجانب المادّي حتّى يُفترض أنّ التخلّص عن هذه المادّة والتجرّد الحقيقي عنها ـ لو أمكن ـ لا يُبقي فرقاً بينه


(1) تفسير «نمونه» 5/110.

122

وبين الله ويكون هو هو، بل الجانب المجرّد من الإنسان ـ أيضاً ـ مشتمل على الحدّ الماهوي ونقص الإمكان والحدوث والتعلق وسائر النقائص التي هي ذاتية له، فلا معنى لفرض التجرّد عنها.

والصحيح: هو ضرورة علاج كلا النقصين اللذين أشرنا إليهما بقدر الإمكان، وهما: حجاب سُمك المادّة في مقابل المعنويات، وضيق الأُفق في مقابل الآخرين. وهذان المنهجان ـ أعني: منهج ترقيق حجاب المادّة والالتذاذ بالمعنويات، ومنهج توسيع الأُفق الضيّق الذي حصرنا في الاهتمام بالتذاذ أنفسنا ولو التذاذاً معنوياً ـ لو لم يعمد إلى الفصل بينهما فهما بحدّ ذاتهما وفيما بينهما متفاعلان.

وقد ورد في الحديث عن الصادق(عليه السلام): «خصلتان مَنْ كانتا فيه وإلاّ فأعزب ثُمّ أعزب ثُمّ أعزب، قيل: وماهما؟ قال: الصلاة في مواقيتها والمحافظة عليها، والمواساة»(1).

أقول: كأنّ الاُولى وهي: المحافظة على الصلاة وفي مواقيتها تنظر إلى جانب ترقيق حجاب سُمك المادة ـ والثانية وهي: المواساة تنظر إلى جانب كسر ضيق أُفق النفس وتمحوره على مصالح نفسه دون الآخرين.

وقد ورد في كلمات أهل العرفان الكاذب: أنّه لابدّ للسالك أن يذبح نفسه كي يصل إلى المقصود، ولا يقدر أحد على ذبح نفسه؛ لأنّه يتحرّك على أيّ حال عن التذاذ نفسه وحبّه لنفسه، وحتّى حينما يريد أن يصل إلى مرحلة الفناء في الله إنّما يريد ذلك ليكمّل نفسه بذلك. إذن فالعلاج في تحقّق الذبح هو: أن يذبحه غيره على خلاف رغبته وطلبه(2).


(1) البحار 83/12.

(2) راجع كتاب روح مجرّد: 591.

123

ومن القصص التي يذكرها هؤلاء ما يلي:

جاء في كتاب روح مجرّد(1): أن الحاج محمّد رضا كان له مقام علمي، وله تأليفات كثيرة، وكان يسكن بروجرد، واتَّهمه البروجرديون بالتصوّف، وصادروا أمواله، وأخرجوه من بروجرد، فذهب إلى تبريز، وأصبح محبوباً لدى أهل تبريز، وكان يجتمع تحت خطابه خلق كثير، وفي أحد الأيّام كان جميع الناس ملتفّين حول منبره لسماع خطابه، وكانت للتجمع منظرة عظيمة، فخطر في نفسه: أنّ هذا التوجّه والالتفات من قبل التبارزة عوض من الأذايا والمحن التي شاهدها من البروجرديين، وإذا بدرويش دخل واتَّجه رأساً نحو المنبر، وناجاه في أُذنه بكلام، وكأنّه كان ذاك الكلام: (هل أفعل ما يجب أن أفعل؟) فقال له الحاج محمّد رضا: نعم، فأخذ الدرويش عمامة الحاج محمّد رضا، ولفّها حول عنقه، وجرّه من على المنبر، وأخرجه من المسجد تلافياً لهذا الخطور النفساني. وهذا الدرويش كان قد أرسله من دَكن ـ الذي هو من بلاد الهند ـ أُستاذ الحاج محمّد رضا المدعو: السيّد علي رضا الدكني قائلاً له: اذهب فوراً إلى تبريز، فإنّ وليّاً من أولياء الله كاد أن يهلك، فعليك بإنقاذه. وبهذا الأُسلوب نجا الحاج محمّد رضا من الهلاك.

أقول: لو صحّت هذه الكلمات ولم تكن دجلاً فعليك بالمقايسة بين هذا الأُسلوب وأُسلوب تربية الإسلام الذي يعالج في وقت واحد حجاب سُمك المادّة وضيق النفس الموجب لدورانها حول ذاتها، فيهيئ الإنسان لتضحية نفسه بنفسه، لا لذبح شخص آخر له على رغم رغبته وارادته. وإليك بعض الأمثلة:

1 ـ زهير بن القين كان يمتنع عن منازلة الحسين(عليه السلام) في الطريق، فنزل في منزل لم يجد بدّاً من أن ينازله، فبينما هو وأصحابه جلوس يتغذّون إذ أقبل رسول الحسين(عليه السلام) حتّى سلّم ثُمَّ دخل، فقال: يا زهير بن القين إنَّ أبا عبدالله الحسين


(1) المصدر السابق: ص362 تحت الخط.

124

بعثني إليك لتأتيه، فطرح كلُّ إنسان منهم ما في يده حتّى كأنّ على رؤوسهم الطير . فقالت له امرأته: سبحان الله أيبعث إليك ابن رسول الله ثمّ لا تأتيه؟! لو تأتيه فسمعتَ كلامه، ثُمّ انصرفت. فأتاه زهير بن القين فما لبث أن جاء مستبشراً قد أشرق وجهه، فأمر بفسطاطه وثقلِه ومتاعه فقوّض وحمل إلى الحسين(عليه السلام)، ثمّ قال لامرأته: أنت طالق، الحقي بأهلك فإنّي لا أُحبّ أن يصيبك بسببي إلاّ خير، وقد عزمتُ على صحبة الحسين لأُفديه بروحي وأقيه بنفسي، ثُمّ أعطاها مالها، وسلّمها إلى بعض بني عمّها ليوصلها إلى أهلها، فقامت إليه، وبكت، وودّعته، وقالت: خار الله لك، أسألك أن تذكرني في يوم القيامة عند جدّ الحسين (عليه السلام). ثُمّ قال لأصحابه: مَنْ أحبّ منكم أن يتبعني وإلاّ فهو آخر العهد، إنّي سأحدّثكم حديثاً: إنّا غزونا البحر ففتح الله علينا، وأصبنا غنائم، فقال لنا سلمان: أفرحتم بما فتح الله عليكم، وأصبتم من الغنائم؟ فقلنا: نعم، فقال: إذا أدركتم سيّد شباب آل محمّد(صلى الله عليه وآله) فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معه ممّا أصبتم اليوم من الغنائم، فأمّا أنا فأستودعكم الله. قالوا: ثُمّ والله مازال في القوم مع الحسين حتّى قُتِلَ(رحمه الله) (1).

هكذا يعلّم الإسلام الإنسان درس التضحية والفداء بمحض اختياره وتمام


(1) البحار 44 / 371 ـ 372. أمّا ماجاء فيه من كلمة (إنّا غزونا البحر) فيبدو أنّه قد ورد في بعض نسخ التأريخ: (إنّا غزونا البحر من بلاد الخزر)، وفي بعض نسخ التأريخ: (إنّا غزونابلنجر من بلاد الخزر). راجع بهذا الصدد الدوافع الذاتيّة لأنصار الحسين تأليف محمّد عليّ عابدين: 155.

وقد ورد في كتاب معالم المدرستين للسيّد العسكري حفظه الله المجلد الثالث: 79 حسب الطبعة الرابعة: (غزونا بلنجر، ففتح الله علينا، وأصبنا غنائم، فقال لنا سلمان الباهلي: أفرحتم...). وقد نقل الرواية عن الطبري: 6 / 224 ـ 225، وقال تحت الخط: سلمان المذكور هو ابن ربيعة الباهلي، أرسله الخليفة عثمان لغزو اران من آذربايجان، ففتح كورها صلحاً وحرباً، وقتل خلف نهر بلنجر. فتوح البلدان: ص240 ـ 241. وراجع ترجمته في أُسد الغابة: 2/225. انتهى مافي تحت الخط من كتاب السيّد العسكري حفظه الله.

125

إرادته، لا الذبح بيد شخص آخر على رغم عدم طوعه ورغبته، فهذا الذي كان أبغض شيء عليه منازلة الحسين(عليه السلام) آل أمره إلى أن قال للحسين(عليه السلام) حينما رفع بيعته عن أصحابه ليلة العاشر من المحرّم: والله لوددت أ نّي قتلت ثُمّ نُشرت، ثُمّ قتلت حتّى أُقتل هكذا ألف مرّة وإنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك(1).

2 ـ شبابنا في جبهة القتال في الحرب الظالمة التي شنّها طاغية العراق صدّام على إيران الإسلام كانوا يتهافتون ويتسابقون لتفدية أنفسهم بالسير على الألغام لفتح الطريق للمقاتلين، لا لتكميل انفسهم (وان كملوا بذلك) بل لإعلاء كلمة الله على وجه الأرض.

3 ـ العبّاس(عليه السلام) لا يمتنع عن شرب الماء لتكميل نفسه وإنْ كملت نفسه بذلك، أو كانت كاملة من قبل، وإنّما يمتنع عن ذلك لأنّه تذكّر عطش الحسين(عليه السلام)وأهل بيته، فرمى الماء وملأ القربة، وقال:

يا نفس من بعد الحسين هوني
وبعده لا كنت أن تكوني
هذا الحسين وارد المنون
وتشربين بارد المعينِ

تـالله مـا هـذا فـعـال ديـنِ(2)

هذا هو والله ذبح النفس المنتهي إلى خطاب العبّاس(عليه السلام) لنفسه بالأمر بالهوان وبالفناء، وليس ذبح النفس أن يأتي درويش ويلفّ العمامة على عنق الخطيب، ويخرجه من المسجد، فإنّ ذبح شخص لنفس شخص آخر لا قيمة له، وإنّما القيمة تكمن في التضحية والفداء بمحض الإرادة والاختيار.

والعمل السياسي الاجتماعي في سبيل الله من أقصر الطرق لرفع سُمك المادّة


(1) البحار 44/393.

(2) البحار 45/41، المتن وتحت الخط.