المولفات

المؤلفات > تزكية النفس

116

ثُمَّ من قد علمتم بعده في فضله وزهده سلمان وأبو ذرّ:

فأمّا سلمان فكان إذا أخذ عطاءه رفع منه قوته لسنته حتّى يحضره عطاؤه من قابل، فقيل له: يا أبا عبدالله أنت في زهدك تصنع هذا؟! وإنّك لا تدري لعلك تموت اليوم أو غداً. وكان جوابه: أن قال: ما لكم لا ترجون لي البقاء كما خفتم عليَّ الفناء؟! أومَا علمتم يا جهلة أنّ النفس قد تلتاث(1) على صاحبها إذا لم يكن لها من العيش ما يعتمد عليه، فإذا هي أحرزت معيشتها اطمأ نّت.

فأمّا أبو ذرّ فكانت له نويقات(2) وشويهات(3) يحلبها ويذبح منها إذا اشتهى أهله اللحم، أو نزل به ضيف، أو رأى بأهل الماء الذين هم معه خصاصة نحر لهم الجزور أو من الشاء على قدر ما يذهب عنهم قرم اللحم(4). فيقسّمه بينهم، ويأخذ كنصيب أحدهم لا يفضل عليهم.

ومَن أزهد من هؤلاء؟! وقد قال فيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما قال ولم يبلغ من أمرهما أن صارا لا يملكان شيئاً البتّة كما تأمرون الناس بإلقاء أمتعتهم وشيئهم، ويؤثّرون به على أنفسهم وعيالاتهم.

واعلموا أيّها النفر أ نّي سمعت أبي يروي عن آبائه: أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال يوماً: ما عجبت من شيء كعجبي من المؤمن إنّه إن قُرِّض جسده في دار الدنيا بالمقاريض كان خيراً له، وإن ملك ما بين مشارق الأرض ومغاربها كان خيراً له، فكلّ ما يصنع الله به فهو خير له، فليت شعري هل يحيق(5) فيكم اليوم ما قد شرحت لكم أم أزيدكم؟


(1) أي: تلتفّ بصاحبها وتوسوسها.

(2) جمع نويقة مصغّر ناقة.

(3) جمع شويهة مصغّر شاة.

(4) فسّر تحت الخط بشهوة اللحم والميل المفرط بأكله.

(5) فسّر تحت الخط بمعنى: هل يؤثّر وينفذ فيكم هذا المقدار.