163

التصرّف إليه فلمَ لا يكفي ذلك في مورد أخبار التحليل قبل وصولها إلى الشيعي؟ ولو كان يشترط في صدق طرفية المالك للتصرّف الاعتباري أن يكون العاقد قد استند في عقده إلى هذا الإذن والإجازة فكيف صارت ذات الإجازة المتأخّرة كافية في صيرورة المالك طرفاً للعقد مع أنّ الفضولي لم يكن مستنداً إلى إذن المالك أو إجازته؟!

وعلى أيّ حال فنحن لا نضايق من القول بنفوذ بيع الفضولي بالإجازة المتأخّرة بمقتضى القاعدة وبلا حاجة إلى نصّ خاصّ، ولكن لا بالبيان الذي نقلناه عن السيّد الخوئي رحمه الله بل ببيان أنّ بناء العقلاء وارتكازهم قائم على ذلك وفي طول نفوذ ذلك عند العقلاء يرى العقلاء طرفية المالك للبيع، فتشمله إطلاقات نفوذ العقد و﴿تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ﴾ وغير ذلك.

ولو لم يقتنع أحدٌ بتمامية الإطلاقات عن هذا الطريق انحصر الأمر في تصحيح بيع الفضولي بالإجازة بلا حاجة إلى نصّ تعبّدي بالقول بأنّ البناء العقلائي أو الارتكاز الذي أشرنا إليه ممضى لدى الشريعة بعدم الردع.

أمّا لو لم يقتنع أحدٌ بتصحيح بيع الفضولي بالإجازة على القاعدة بأيّ وجه من الوجوه فينحصر الأمر عندئذٍ بالرجوع إلى النصوص.

النصوص الدّالة علی الصحّة

ونذكر في المقام نصوصاً عديدة:

النصّ الأوّل: رواية عروة البارقي، وهي بحسب ما ورد في مستدرك الوسائل عن أبي جعفر محمد بن علي الطوسي في ثاقب المناقب عن عروة بن جعد البارقي قال: «قدم جَلَبٌ(1) فأعطاني النبي(صل الله عليه وآله) ديناراً فقال: اشتر بها شاة، فاشتريت شاتين بدينار، فلحقني رجل، فبعت أحدهما منه بدينار، ثم أتيت النبي(صل الله عليه وآله) بشاة ودينار،


(1) أي ما جُلب من خيل وإبل ومتاع إلى الأسواق للبيع.

164

فردّه عليّ وقال: بارك الله لك في صفقة يمينك، ولقد كنت أقوم بالكناسة _ أو قال بالكوفة _ فأربح في اليوم أربعين ألفاً»(1).

والذي يبدو هو أنّ الرواية أصلها من كُتب العامّة.

وقد روى في السنن الكبرى عن شبيب بن غرقدة سمع قومه يحدّثون عن عروة البارقي: «أنّ النبي(صل الله عليه وآله) أعطاه ديناراً ليشتري له شاة أُضحية فاشترى به شاتين، فباع إحداهما بدينار وأُتي النبي(صل الله عليه وآله) بشاة ودينار، فدعا النبي(صل الله عليه وآله) بالبركة في بيعه، فكان لو اشترى التراب ربح فيه»(2).

هذا هو نقلٌ عن عروة البارقي بواسطة شبيب، وليس ينقله شبيب عن عروة مباشرةً، وقد أشار نفس الناقلين السنّة إلى أنّ شبيباً لم يسمع من عروة هذا الحديث، وإنّما سمع قومه يحدّثون عنه حتّى أنّه ورد في سنن البيهقي أنّ الحسن بن عمارة جاء بهذا الحديث عن شبيب عن عروة، فحينما بلغ النقل إلى مسامع شبيب أنكر النقل المباشر وقال: إنّي لم أسمعه من عروة، سمعت الحيّ يخبرونه عنه(3).

نعم، ورد عن سعيد بن زيد حدّثنا الزبير بن الخريت عن أبي لبيد عن عروة بن أبي الجعد البارقي قال: «أعطاني رسول الله(صل الله عليه وآله) ديناراً فقال: اشتر لنا به شاة. قال: فانطلقت فاشتريت شاتين بدينار، فلقيني رجل في الطريق فساومني بشاة فبعتها بدينار، فأتيت النبي(صل الله عليه وآله) فقلت: يا رسول الله هذا ديناركم وهذه شاتكم، قال: فقال النبي(صل الله عليه وآله): وصنعت كيف؟ قال: فأخبره. فقال: اللهمّ بارك له في صفقة يمينه. قال: فقال: إنّي لأقوم في الكناسة بالكوفة فما أرجع إلى أهلي حتّى أربح أربعين ألفاً»(4).


(1) مستدرك الوسائل،‌ج13، ص245، الباب18 من أبواب عقد البيع وشروطه، ح1.

(2) السنن الکبری(للبیهقي)، ج6،‌ص185، ح11613.

(3) المصدر السابق.

(4) المصدر السابق، ص186، ح11617.

165

ثم ورد في سنن البيهقي كلام لا أدري هو نصّ البيهقي أو نصّ أحد رواة الحديث وهو قوله: «رواه جماعة عن سعيد بن زيد وهو أخو حمّاد بن زيد، وليس بالقوي، والله أعلم»(1). وكان مقصودي من هذا التطويل في النقل عن سنن البيهقي إبراز وقوع الغمز من نفس علماء السنّة في سند الحديث.

وعلى أيّ حال فسواء ورد الغمز من قِبل علماء السنّة في سند الحديث أو لا لا شكّ عندنا في سقوط سند الحديث سقوطاً ذريعاً.

ومعه لا أراني بحاجة إلى البحث عن دلالة الحديث والمناقشات التي قد تذكر فيها.

والنص الثاني: صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: «قضى أمير المؤمنين عليه السلام في وليدة باعها ابن سيّدها وأبوه غائب، فاستولدها الذي اشتراها، فولدت منه غلاماً، ثم جاء سيّدها الأوّل فخاصم سيّدها الآخر فقال: وليدتي باعها ابني بغير إذني. فقال(عليه السلام): الحكم أن يأخذ وليدته وابنها، فناشده الذي اشتراها، فقال له: خذ ابنه الذي باعك الوليدة حتّى ينقُد لك البيع ، فلمّا أخذه قال له أبوه: أرسل ابني. قال: لا والله لا أُرسل إليك ابنك حتّى ترسل ابني، فلمّا رأى ذلك سيّد الوليدة أجاز بيع ابنه»(2).

والرواية صريحة في كفاية الإجازة اللاحقة لنفوذ البيع.

ولعلّ أهمّ الإشكالات التي قد تورد على الاستدلال بهذا الحديث أُمور ثلاثة:

الأوّل: أنّ مضمون الحديث مقطوع الفساد؛ لأنّه ورد في مورد نفوذ الإجازة بعد الردّ، مع أنّ ذلك خلاف الإجماع، فالإجازة التي يفتی بنفوذها في بيع الفضولي إنّما هي الإجازة قبل الردّ.


(1) المصدر السابق.

(2) الکافي، ج5، ص211، باب شراء الرقيق من کتاب المعيشة، ح12.

166

والثاني: أنّه كيف جاز في مورد الحديث للسيّد الأوّل أخذ ولد الوليدة في حين أنّه حرّ؛ لأنّه مولود بوطء شبهة من حرّ؟!

والثالث: أنّه ما معنى حبس السيّد الثاني لابن السيّد الأوّل؟! ولو جاز حبس المدين لثمن الوليدة فإنّما يكون ذلك بعد المطالبة بالثمن وامتناعه من الأداء، ولم يذكر شيء من هذا القبيل في هذه الرواية؟!

ويمكن الجواب على كلّ واحد من هذه الإشكالات الثلاثة:

أمّا الإشكال الأوّل وهو أنّ الإجازة مسبوقة بالردّ فيجاب عليه:

تارة بأنّ الردّ يعني حلّ العقد ونفيه، وليس أخذ السيّد الأوّل للوليدة وابنها أو مخاصمته للسيّد الثاني دليلاً على ذلك، فإنّه ما لم يمض العقد ولم ينفّذه يجوز له ذلك.

وأُخرى بأنّه إن دلّ شيء من هذا القبيل على الردّ فليكن الحديث دليلاً على أنّ الردّ لا يمنع عن الإجازة بعده، ومجرّد الإجماع على خلاف ذلك لو ثبت لا قيمة له؛ إذ لم يثبت كونه إجماعاً تعبّديّاً كاشفاً عن رأي المعصوم، فلعلّه إجماع ناتج مثلاً من تصوّر عدم موافقة العقلاء على ذلك أو كونه خلاف القواعد لكون الردّ إنهاءً للعقد مثلاً.

وأمّا الإشكال الثاني وهو أنّه كيف جاز للسيّد الأوّل أخذ ولد الوليدة مع أنّه حرّ؛ لأنّه مولود بوطء شبهة من حرّ؟!

فيمكن الجواب عليه:

أوّلاً: بأنّه فلنفت ولو بسبب نفس هذا الحديث الصحيح السند بأنّ ولدها مملوك للمولى رغم شرعية دخول المشتري بسبب كونه وطءاً بشبهة. فمادام المولى الأصلي لم ينفّذ البيع ولم يكن آذناً في استفادة الحرّ منها بالوطء يعتبر الولد مملوكاً له.

وثانياً: بأنّه لو لم نقبل بذلك فلنفت استناداً لهذا الحديث بأنّ له أخذ الولد بثمنه إلى أن يأخذ ثمن الولد؛ لأنّه انحرم من إمكانية استيلادها بواسطة عبد له كي يكون الولد ملكاً له، فمادام لم ينفّذ البيع له حقّ أخذ ثمنه لابن السيّد الأوّل؟!

167

ولعلّ الصحيح من هذين الجوابين هو الجواب الثاني بدليل صحيحة جميل بن درّاج عن أبي عبدالله(عليه السلام): «في الرجل يشتري الجارية من السوق فيولدها ثم يجيء مستحقّ الجارية؟ قال: يأخذ الجارية المستحقّ ويدفع إليه المبتاع قيمة الولد، ويرجع على من باعه بثمن الجارية وقيمة الولد التي أُخذت منه»(1).

ولا أقلّ من كون هذا الحديث مؤيّداً للجواب الثاني في مقابل الجواب الأوّل، كما أنّ باقي روايات نفس الباب أيضاً تؤيّد ذلك.

والوجه في تنزّلنا من الاستدلال إلى التأييد احتمال وحدة هذه الرواية مع مرسلة جميل، فتأتي فيها شبهة الإرسال، فإنّها كتلك الرواية تنتهي إلى محمد بن أبي عمير عن جميل بن درّاج، ولكن الثانية تقول: عن بعض أصحابنا عن أبي عبدالله عليه السلام «في رجل اشترى جارية فأولدها فوجدت الجارية مسروقة قال: يأخذ الجارية صاحبها ويأخذ الرجل ولده بقيمته»(2)، فلو احتملنا _ احتمالاً معتدّاً به _ تعدّد الرواية ولو بسبب اختلاف المتن تمّ الاستدلال بالحديث الأوّل، وإلّا كان مجرّد تأييد.

وأمّا الإشكال الثالث وهو أنّه ما معنى حبس السيّد الثاني لابن السيّد الأوّل؟ فيمكن الجواب عليه بأنّه بالإمكان الإفتاء بسب نفس هذا الحديث بجواز حبسه في مقابل غصبه للمال من السيّد الثاني.

نعم، لم يأت في الرواية ذكرٌ لعدم استعداد ابن المولى الأوّل لإرجاع الثمن إلى المولى الثاني، ولكن مجرّد عدم ذكر ذلك في الرواية ليس دليلاً على خلافه، ولو فرض انعقاد الإطلاق بذلك أمكن تقييده.

والإنصاف أنّ كلّ هذه الإشكالات إن هي في مقابل هذا الحديث الصحيح الصريح في نفوذ بيع الفضولي بالإجازة المتأخّرة إلّا اجتهاد في مقابل النصّ.


(1) وسائل الشيعة، ج21، ص205، الباب88 من أبواب نكاح العبيد والإماء، ح1.

(2) المصدر السابق، ص204، ح3.

168

والنصّ الثالث: ما مضى من صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سألته عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده، فقال: ذاك إلى سيّده إن شاء أجازه، وإن شاء فرّق بينهما. قلت: أصلحك الله إنّ الحكم بن عتيبة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون: إنّ أصل النكاح فاسد ولا تحلّ إجازة السيّد له، فقال أبو جعفر(عليه السلام): إنّه لم يعص الله، وإنّما عصى سيّده، فإذا أجازه فهو له جائز»(1).

وللاستدلال بهذا الحديث على المقصود تقريبان:

التقريب الأوّل: دعوى التعدّي العرفي من مورده وهو نكاح العبد إلى بيع الفضولي.

والتقريب الثاني: دعوى التمسّك بعموم العلّة؛ إذ جعل عليه السلام العلّة في نفوذ النكاح أنّ النكاح لم يكن معصية أوّلية لله تعالى كالنكاح بذات بعل أو النكاح في العدّة أو النكاح بالمحارم كي يقال: إنّ الله تعالى سوف لن يبدّل رأيه وسوف لن يجيزه في ذلك، وإنّما المعصية الابتدائية كانت لسيّده الذي لم يُجز، فحينما أجاز انتهت المشكلة ونفذ العقد، وهذه النكتة تماماً موجودة في بيع الفضولي، فإنّ بيعه لم يكن معصية أوّلية لله تعالى كبيع الخمر والخنزير والميتة كي يقال: إنّه تعالى سوف لن يبدّل رأيه ولن تنتهي المشكلة، وإنّما کان معصية أوّلية لمالك المال الذي قد يتبدّل رأيه فيجيز، فإن أجاز فقد انتهت المشكلة ونفذ البيع.

والتقريب الأوّل وهو التعدّي العرفي عن المورد باطل؛ لأنّ النكاح أُريد تصحيحه لنفس العبد لا للمجيز، في حين أنّ بيع الفضولي يراد تصحيحه للمجيز لا لنفس الفضولي، واحتمال الفرق بينهما بنفوذ الأوّل دون الثاني موجود، فلو أُريد التعدّي من المورد وجب أن يكون التعدّي إلى المواردالمشابهة له، كالتعدّي من نكاح العبد إلى بيع ماله بدون إذن مولاه، أو إلى نكاح الزوج لبنت أخي زوجته أو بنت أُختها بدون إذن الزوجة فيقال: إذا أجاز المولى بعد بيع العبد لمال نفسه ذاك البيع أو


(1) وسائل الشيعة، ج21، ص114، الباب24 من أبواب نكاح العبيد والإماء، ح1.

169

أجازت الزوجة ذاك النكاح نفذ العقد، ومثله أيضاً بيع الراهن للعين المرهونة من دون إذن المرتهن، لا التعدّي إلى ما يراد تنفيذه للمجيز كما في بيع الفضولي.

والتقريب الثاني وهو التمسّك بعموم التعليل وهو كون المعصية معصية للشخص لا معصية لله تعالى مباشرةً فهل هو لتنفيذ البيع بشأن الفضولي أو لتنفيذه بشأن المالك؟ فإن قصد التمسّك بالتعليل لتنفيذ البيع بشأن الفضولي فمن الواضح أنّه سوف لن ينفُذ البيع بشأن الفضولي أبداً وإن قصد التمسّك بالتعليل لتنفيذ البيع بشأن المالك فمن الواضح عدم انطباق العلّة بشأنه، فإنّه لم يكن قد صدر من المالك بيعٌ غير مُجاز حتّى يقال: إنّه لم يعص الله، وإنّما عصى من لم يُجزه فإذا أجاز له جاز.

هذا كلّه بناء على تفسير صحيح زرارة بالتفسير الذي مشينا عليه حتّى الآن، وهو أنّ نكاح العبد كان باطلاً حتّى الآن، ولكنّه لم يكن بطلانه بسبب المعصية الأوّلية لله من قبيل النكاح في العدّة، وإنّما كان بسبب معصية السيّد، فإذا أجاز جاز.

أمّا لو فسّرناه بتفسير آخر، وهو أنّ النكاح كان صحيحاً، وإنّما كان للمولى فسخه، فإذا أجاز جاز وانتهی الأمر، أي: خرج من يد المولى حقّ الفسخ، فالرواية تصبح أساساً أجنبية عن المقام، ولا موضوع للتمسّك بها لتصحيح بيع الفضولي بالإجازة.

ولكلّ من التفسيرين ما يشهد له:

فممّا يشهد للتفسير الأوّل إطلاق الآية المباركة: ﴿ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلاً عَبْدَاً مَّمْلُوْكَاً لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ﴾(1)، فإنّ مقتضى إطلاقها بطلان النكاح لا إمكانية فسخه للمولى.

وممّا يشهد له أيضاً ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السکوني عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «قال رسول الله(صل الله عليه وآله): أيّما امرأة حرّة زوّجت نفسها عبداً بغير إذن مولاه فقد أباحت فرجها، ولا صداق لها»(2)، فلولا بطلان النكاح


(1) النحل: 75.

(2) الکافي، ج5، ص479، باب المملوك یتزوّج بغیر إذن مولاه من کتاب النکاح، ح7.

170

لا معنى لقوله(عليه السلام): «أباحت فرجها، ولا صداق لها». نعم، هي معارضة لمعتبرة زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام): «سألته عن رجل تزوّج عبده بغير إذنه فدخل بها ثم اطّلع على ذلك مولاه؟ قال: ذاك لمولاه إن شاء فرّق بينهما، وإن شاء أجاز نكاحهما، فإن فرّق بينهما فللمرأة ما أصدقها إلّا أن يكون اعتدى فأصدقها صداقاً كثيراً...»(1).

وقد جمع الشيخ الحرّ رحمه الله بينهما بحمل الأُولى على فرض علم المرأة بالحال وحمل الثانية على فرض عدم علمها بالحال(2).

ويوجد في سند الحديث النوفلي، ويقال بصدد تصحيحه: إنّ روايات السكوني وصلتنا عادة _ إلّا ما شذّ وندر _ عن طريق النوفلي، فشهادة الشيخ بعمل الطائفة بروايات السكوني شهادة بعمل الطائفة بروايات النوفلي أيضاً، وإلّا فما يُدري الشيخ رحمه الله بعمل الطائفة بروايات السكوني في حين أنّ روايات السكوني التي وصلتنا في الكتب الأربعة عن غير طريق النوفلي تعدّ بالأصابع.

وقد يردّ ذلك بأنّه ما يُدرينا أنّ في زمان الشيخ الطوسي رحمه الله أيضاً كان الأمر كذلك، فأنت ترى أنّ النجاشي قال عن ربيع بن سليمان: «كوفي صحب السكوني وأخذ عنه وأكثر، وهو قريب الأمر»(3)، وقال ابن الغضائري أيضاً عن ربيع بن سليمان: «روى عن إسماعيل بن أبي زياد السكوني كتابه عن جعفر بن محمد عليه السلام أمره قريب، قد طعن عليه، ويجوز أن يخرج شاهداً»(4)، وأيضاً قال النجاشي عن أُميّة بن عمرو الشعيري: «كوفي، أكثرُ كتابه عن إسماعيل السكوني»(5) وأيضاً طريق الصدوق إلى أُميّة بن عمرو ا


(1) وسائل الشيعة، ج21، ص115، الباب24 من أبواب نکاح العبيد والإماء، ح2.

(2) المصدر السابق، ص116، ذیل الحدیث4.

(3) رجال النجاشي، ص115، رقم 435.

(4) رجال ابن الغضائري، ص61، رقم50.

(5) رجال النجاشي، ص105، رقم 263

171

الشعيري عن السكوني في مشيخة الصدوق ما يلي: «وما كان فيه عن أُميّة بن عمرو عن الشعيري فقد رويته عن أحمد بن محمد بن يحيى العطّار(رضي الله عنه) عن سعد بن عبدالله عن أحمد بن هلال عن أُميّة بن عمرو عن إسماعيل بن مسلم الشعيري»(1).

وعليه فالظاهر أنّ تصحيح النوفلي لا يخلو من صعوبة.

وممّا يشهد أيضاً للتفسير الأوّل صحيح عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «لا يجوز للعبد تحرير ولا تزويج ولا إعطاء من ماله إلّا بإذن مولاه»(2)، فإن أمكن حمل قوله: «ولا تزويج ولا إعطاء من ماله» على أنّ للمولى فسخ التزويج والهبة فحمل قوله: «لا يجوز للعبد تحرير» على ذلك بعيد؛ لأنّ معنى هذا الحمل أن يصبح العبد الذي كان مملوكاً للعبد حرّاً ثم يرجع إلى الرقّية بفسخ المولى، فإن حمل ذلك على معنى بطلان التحرير فمقتضى وحدة السياق حمل التزويج والهبة أيضاً على معنى البطلان.

وممّا يشهد للتفسير الثاني وهو أنّ النكاح صحيح وأنّ معنى قوله: «إن شاء أجازه، وإن شاء فرّق بينهما» جواز فسخ النكاح من قِبل المولى صحيح منصور بن حازم عن أبي عبدالله عليه السلام «في مملوك تزوّج بغير إذن مولاه أعاصٍ لله؟ قال: عاصٍ لمولاه قلت: حرام هو؟ قال: ما أزعم أنّه حرام ونوله(3) أن لا يفعل إلّا بإذن مولاه»(4).

ولا أظنّ أنّ المفهوم عرفاً من قوله: «تزوّج» مجرّد العقد(5) فحكمه عليه السلام بقوله: «ما أزعم


(1) من لا يحضره الفقيه، ج4، ص528، بیان الطريق إلی أمية بن عمرو، عن الشعيري.

(2) وسائل الشيعة، ج21، ص113، الباب23 من أبواب نكاح العبيد والإماء، ح1.

(3) نوله يعني: ينبغي له. وقد كُتب تحت الخطّ في الوسائل، ج21، ص113، الباب23 من أبواب نكاح العبيد والإماء، ح1، عن هامش المخطوط: «في نسخة: وقل له».

(4) المصدر السابق، ص113،‌ح2.

(5) وذلك بقرينة قوله: «قلت: حرام هو؟ قال: ما أزعم أنّه حرام»، فإنّ السؤال عن الحرمة والجواب بنفي الحرمة ينصرفان بلا شكّ إلى حلّية وحرمة الأفعال التي تُرتّب على العقد كالمضاجعة والملامسة، ولا يقبل الحمل على معنى نفوذ وعدم نفوذ العقد بالإجازة المتأخّرة؛ إذ لا شكّ أنّ نفوذه وعدم نفوذه بالإجازة لا يعني حلّية العقد وحرمته

172

أنّه حرام...» يعني أنّ العقد صحيح وإنّما للمولى فسخه.

وإن شئنا الترجيح بين هذين التفسيرين فالظاهر أنّ الترجيح للتفسير الأوّل؛ لأنّه كان ممّا يشهد له ظاهر إطلاق الآية المباركة، ومن المعلوم في علم الأُصول أنّ أوّل المرجّحات في باب التعارض هي موافقة الكتاب.

والنصّ الرابع: أخبار تحليل حقّ الإمام عليه السلام للشيعة.

وذكر السيّد الخوئي رحمه الله أنّ التمسّك بهذه الأخبار متوقّف على عدم كفاية الرضا المبرَز مع عدم وصوله إلى العاقد في إخراج بيع الفضولي عن كونه فضوليّاً، والصحيح عدم كفاية ذلك في إخراجه عن الفضولية؛ لأنّ الخروج عن الفضولية متقوّم باستناد العقد إلى المالك، وهو متقوّم بوقوع العقد مستنداً إليه، وأمّا إذا فرض أنّ المالك رضي بالعقد في نفسه أو أبرز رضاه وإذنه ولكن لم يصل ذلك إلى العاقد، أو وكّل العاقد في بيع داره مثلاً وأبرز ذلك لأهله ولكن قبل وصول ذلك إلى الوكيل باع الدار فضولة لعدم مبالاته فلا يقال عرفاً: إنّ المالك باع داره، وعليه يكون شراء ما تعلّق به حقّ الإمام عليه السلام أيضاً من الفضولي، وتكون الإباحة بمنزلة الإجازة المتأخّرة، فيمكن التمسّك بهذه الأخبار على الفضولي(1).

أقول: الظاهر أنّ التحليل ثابت من قِبل الأئمّة(عليهم السلام) في أُمور ثلاثة:

الأوّل: في خصوص الإماء اللاتي كانت تحصل عليها الحكومات الإسلامية المنحرفة عن طريق الحرب، فقد حلّلها الأئمّة(عليهم السلام) لمن يصيبه من الشيعة شيء من هذه الإماء. وهذا مستفاد من قسم من الروايات من قبيل: ما ورد بسند تامّ عن الفضيل عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «من وجد برد حبّنا في كبده فليحمد الله على أوّل النعم. قال: قلت: جعلت فداك ما أوّل النعم؟ قال: طيب الولادة، ثم قال أبو عبدالله(عليه السلام): قال


(1) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص387.

173

أمير المؤمنين عليه السلام لفاطمة(سلام الله عليها): أحلّي نصيبك من الفيء لآباء شيعتنا ليطيبوا ثم قال أبو عبدالله(عليه السلام): إنّا أحللنا أُمّهات شيعتنا لآبائهم ليطيبوا»(1).

والثاني: في مطلق ما يصل ليد الشيعي من مستحلّي الخمس أو ممّن لم يخمّس. كما يستفاد ذلك من بعض الأحاديث من قبيل:

1_ صحيحة سالم بن مكرّم أبي خديجة عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «قال رجل وأنا حاضر: حلّل لي الفروج، ففزع أبو عبدالله عليه السلام فقال له رجل: ليس يسألك أن يعترض الطريق، إنّما يسألك خادماً يشتريها أو امرأة يتزوّجها أو ميراثاً يصيبه أو تجارة أو شيئاً أُعطيه. فقال: هذا لشيعتنا حلال الشاهد منهم والغائب والميّت منهم والحيّ وما يولد منهم إلى يوم القيامة فهو لهم حلال، أما والله لا يحلّ إلّا لمن أحللنا له، ولا والله ما أعطينا أحداً ذمّة (وما عندنا لأحد عهد(2)) ولا لأحد عندنا ميثاق»(3)؛ بناء على أنّ أصل السؤال وإن كان بالنسبة للفروج، لكن قوله: «أو تجارة أو شيئاً أُعطيه» جعل الكلام عامّاً لجميع الأموال.

2_ صحيحة يونس بن يعقوب قال: «كنت عند أبي عبدالله عليه السلام فدخل عليه رجل من القمّاطين فقال: جعلت فداك يقع في أيدنيا الأرباح والأموال وتجارات نعلم أنّ حقّك فيها ثابت وإنّا عن ذلك مقصّرون؟ فقال أبو عبدالله(عليه السلام): ما أنصفناكم إن كلّفناكم ذلك اليوم»(4).

وهذا الحديث أيضاً خاصّ بما يصل الإنسان من غيره ممّن لم يخمّس بناء على أنّ قوله: «تقع في أيدينا الأرباح والأموال... نعلم أنّ حقّك فيها ثابت» يعني العلم


(1) وسائل الشيعة، ج9، ص547، الباب4 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام، ح10.

(2) كتب في الوسائل تحت الخط: في الاستبصار: «وما بيننا لأحد هوادة»، الاستبصار، ‌ج2، ص58، باب ما أباحوه لشيعتهم من الخمس في حال الغيبة من أبواب زکاة الفطرة، ح3.

(3) وسائل الشيعة، ج9، ص544، الباب4 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام، ح4.

(4) المصدر السابق، ص545، ح6.

174

بثبوت حقّ الإمام فيها قبل وقوعها في يده؛ لأنّ الظاهر أنّ جملة «نعلم أنّ حقّك فيها ثابت» صفة لتلك الأموال أي: أنّ الأموال المتّصفة بهذه الصفة تقع في أيدينا، لا أنّ ثبوت حقّ الإمام فيها يكون في طول وقوعها في يده وبعد مرور رأس السنة مثلاً وزيادته على المؤونة، وإنّما المقصود بيان أنّه يقع في يده مال ممّن لم يخمّس، والظاهر أنّ المقصود من قوله(عليه السلام): «ما أنصفناكم إن كلّفناكم ذلك اليوم» أنّنا لو كنّا مبسوطي اليد لأخذنا خمسنا من المخالف لنا في المذهب أو من الشيعي العاصي الذي يعصي الله بعدم التخميس، فكان يبقى في يده المال الطاهر، وكان يصلك منه بالتجارة المال الطاهر ولكن بما أنّنا لسنا قادرين على ذلك فافتراض أن نتصيّد فرصة أن يصل ذاك المال بيدك أنت الشيعي المطيع فنكلّفك بكلفة ما لم نقدر على أخذه من المخالف أو العاصي ليس إنصافاً بشأنكم.

3_ ما رواه الشيخ بسنده إلى سعد بن عبدالله عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي عمارة عن الحارث بن المغيرة النصري عن أبي عبدالله(عليه السلام): قال: «قلت له: إنّ لنا أموالاً من غلّات وتجارات ونحو ذلك، وقد علمت أنّ لك فيها حقّاً؟ قال: فلِمَ أحللنا إذاً لشيعتنا إلّا لتطيب ولادتهم، وكلّ من والى آبائي فهو في حلّ ممّا في أيديهم من حقّنا، فليبلّغ الشاهد الغائب»(1).

وقد وقع في السند أبو عمارة، وهو مشترك بين عديدين من ثقة وغير ثقة، ولكن يكفينا أنّ الراوي عنه هنا هو البزنطي.

وأمّا حال الدلالة فهذا الحديث أيضاً مخصوص بحسب المتن الموجود في الوسائل بتحليل الحقّ الثابت في المال الذي وصلنا ممّن يستحلّ الخمس أو ممّن لا يخمّس


(1) تهذیب الأحکام، ج4، ص143، باب الزیادات من کتاب الزکاة، ح21. وقد وقع في نقل صاحب الوسائل خطأ في السند، وسائل الشيعة، ج9، ص547، الباب4 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام، ح9. وبإمكانك مراجعة مصدر الرواية: التهذيب.

175

رغم مضيّ رأس سنته الخمسية مثلاً وزيادته على المؤونة. والشاهد على ذلك قوله: «وكلّ مَن والى آبائي فهو في حلّ ممّا في أيديهم»؛ إذ لم يقل: فهو في حلّ ممّا في يده أو فهم في حلّ ممّا في أيديهم، بل أفرد الضمير الأوّل وجمع الضمير الثاني ممّا يدلّ على أنّ مرجع الضمير الثاني ليس هو الشيعي الذي بيده المال المحلّل له، بل آخرون، وهذا يعني أنّ الحقّ تعلّق بالمال قبل انتقاله منهم إليه.

ولكن المتن الموجود في التهذيب _ والذي هو مصدر صاحب الوسائل _ بحسب النسخة الواصلة لنا ليس هكذا، فالضمير في كلا الموردين ضمير الجمع أي ورد: «فهم في حلّ ممّا في أيديهم»، وهذا قد يستظهر منه التحليل المطلق، إلّا أن يقيّد بقرينة الروايات النافية لذلك بخصوص الحقّ الذي وقع في يد الشيعي من يد غيره بأن كان الحقّ قد تعلّق بالمال قبل وقوعه في يده.

وينبغي الالتفات إلى أنّه يحتمل أن يكون مرجع الضميرين _ وإن كانا معاً بصيغة الجمع _ مختلفاً، فيكون مرجع ضمير الجمع في قوله: «فهم في حلّ» هم الشيعة الملتزمون، ويكون مرجع ضمير الجمع في قوله: «ممّا في أيديهم» هم المخالفون أو الذين لا يخمّسون، فلا تزيد هذه الرواية في الدلالة على الرواية السابقة، وهي حلّية ما وصل من يد المخالفين أو الفاسقين إلى الشيعة الملتزمين.

والثالث: في الأنفال من قبيل ما عن أبي سيّار مسمع بن عبدالملك عن الصادق عليه السلام قال له: «إنّي كنت ولّيت الغوص فأصبت أربعمائة ألف درهم وقد جئت بخمسها ثمانين ألف درهم وكرهت أن أحبسها عنك وأعرض لها، وهي حقّك الذي جعل الله تعالى لك في أموالنا. فقال(عليه السلام): وما لنا من الأرض وما أخرج الله منها إلّا الخمس؟! يا أبا سيّار الأرض كلّها لنا، فما أخرج الله منها من شيء فهو لنا. قال: قلت له: أنا أحمل إليك المال كلّه؟ فقال لي: يا أبا سيّار قد طيّبناه لك وحلّلناك منه، فضمّ إليك مالك، وكلّ ما كان في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محلّلون، ومحلّل لهم ذلك

176

إلى أن يقوم قائمنا فيجبيهم طسق ما كان في أيدي سواهم؛ فإنّ كسبهم من الأرض حرام عليهم حتّى يقوم قائمنا فيأخذ الأرض من أيديهم ويخرجهم منها صغرة»(1).

قوله: «فيجبيهم طسق ما كان في أيدي سواهم، فإنّ كسبهم من الأرض...» هذا هو نسخة التهذيب(2)، والظاهر وقوع سقط في عبارة التهذيب، والصحيح ما في الكافي: «فيجبيهم طسق ما كان في أيديهم ويترك الأرض في أيديهم، وأمّا ما كان في أيدي غيرهم فإنّ كسبهم من الأرض...»(3).

وبعد هذا العرض السريع لبعض روايات الباب نقول:

أوّلاً: إنّ الطائفة الأُولى من هذه الطوائف الثلاث التي عرضناها ينبغي أن تكون خارجة عن مورد الاستدلال؛ لأنّه لا يستفاد منها أكثر من تحليل الإمام، ولا تدلّ على تصحيح المعاملات والعقود حتّى يقال: إنّ خروجها عن الفضولية كان متوقّفاً على وصول الإذن إلى العاقد.

وثانياً: إنّ روايات تحليل الخمس والأنفال إمّا أن يستفاد منها ترخيصهم(عليهم السلام) للشيعة لتملّكها، كما لعلّه ظاهر كلمة: «ضمّ إليك مالك» الواردة فيما مضى من رواية الأنفال، أو يستفاد منها مجرّد الإباحة من دون تمليك، كما قد يُفهم ذلك من قوله في نفس تلك الرواية: «محلّل لهم ذلك إلى أن يقوم قائمنا فيجبيهم طسق ما كان في أيديهم»، فإنّ جباية الطسق منهم بعد قيام القائم(عجل الله تعالى فرجه الشريف) تناسب عدم التمليك، أو يفصّل بين الأرض والأموال المنقولة باستفادة جواز التملّك في المنقولات، والاكتفاء بحقّ الاختصاص في الأرض مادام القائم(عجل الله تعالى فرجه الشريف) غائباً بقرينة فرض الطسق عليها بعد الظهور.


(1) وسائل الشيعة، ج9، ص548، الباب4 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام، ح12.

(2) التهذيب، ج4، ص144، باب الزيادات من کتاب الزکاة، ح25.

(3) الكافي، ج1، ص408، باب أنّ الأرض كلّها للإمام من کتاب الحجة، ح3.

177

ففي كلّ مورد فرضنا التملّك خرجت الروايات عمّا نحن بصدده من معاملات غير المالك الفضولية.

وفي كلّ مورد فرضنا الإباحة فهذا يعني ثبوت حقّ الاختصاص لكلّ شيعي فيما يحوزه بالأساليب المألوفة، وهذا الحقّ كافٍ في تصحيح المعاملات والمبادلات، فإنّ التبادل لا يعني التبادل في خصوص الملكية، بل يعني التبادل فيما كان لكلّ واحد منهم من حقّ سواء كان عبارة عن حقّ الملكية أو حقّ الاختصاص، وبهذا يصحّح بيع الأراضي الخراجية مثلاً من قبل الشيعة بعضهم لبعض في أيّام الغيبة بعد الإحياء، فتصحيح المعاملات في المقام إذن غير متوقّف على القول بصحّة عقد الفضولي كي تجعل هذه الروايات الظاهرة في تصحيح المعاملات دليلاً على صحّة عقد الفضولي.

وثالثاً: إنّ غاية ماتدلّ عليه هذه الروايات بعد الغضّ عمّا مضى هي كفاية الإذن السابق ولو لم يصل إلى العاقد، أمّا كفاية الإجازة المتأخّرة فغير واردة في هذه الروايات، وما دمنا لا نريد فعلاً تصحيح الإجازة المتأخّرة وفق القواعد _ وإلّا لما استدللنا بالروايات _، فمن المحتمل الفرق بين الإذن السابق والإجازة المتأخّرة، فلعلّ الإذن السابق يكفي في نفوذ المعاملة تعبّداً ولو غير الواصل، ولكن الإجازة المتأخّرة لا تكفي.

والنصّ الخامس: ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه الله(1) من صحيحة الحلبي كتأييد أو كدليل لصحّة بيع الفضولي، وهي ما يلي: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن رجل اشترى ثوباً ولم يشترط على صاحبه شيئاً فكرهه، ثم ردّه على صاحبه فأبى أن يقبله إلّا بوضيعة قال: لا يصلح له أن يأخذه بوضيعة، فإن جهل فأخذه فباعه بأكثر من ثمنه ردّ على صاحبه الأوّل ما زاد»(2).


(1) کتاب المکاسب، ج3، ص361.

(2) وسائل الشيعة، ج18، ص71، الباب17 من أبواب أحكام العقود، الحديث الوحيد في الباب.

178

وأفاد السيّد الخوئي رحمه الله أنّ مورد الرواية لو صحّ الاستدلال بها من أردأ أنحاء الفضولي، وهو بيعه لنفسه، فتدلّ على صحّة بيع الفضولي للمالك بطريق أولى.

ولكنّه أورد رحمه الله على الاستدلال بهذه الرواية بإيرادين:

الأوّل: أنّ بيع البائع على تقدير كونه فضوليّاً يحتاج إلی إجازة صاحب المال من دون فرق بين فرض العلم والجهل، ولا معنى لتخصيص الحكم بفرض الجهل، فهذا شاهد على تفسير الرواية بتفسير آخر.

والثاني: أنّ البيع لو كان فضوليّاً لزم ردّ تمام الثمن إلى المشتري واسترداد ما دفعه إليه أوّلاً بالإقالة، لا ردّ خصوص المقدار الزائد.

ثم استظهر رحمه الله: أنّ البيع لم يكن فضوليّاً؛ لأنّ المستقيل كان قد أبرز بالملازمة رضاه في بيع ما استقاله وإن كان لم يعرف أنّ هذا بيعٌ لماله، فمن كان يقبل بالإقالة بالوضيعة يرضى ببيع المقيل للمال بأيّ سعر أراد، وهذا المقدار من الإبراز كافٍ في الخروج عن الفضولية، فهذا بيع صحيح قائم بالمالين، وليس قائماً بالمتعاقدين، فإنّ نظر المشتري إلى استبدال ماله بمال آخر من دون نظر إلى بائع خاصّ، وبما أنّه زاد على ما أخذه البائع من المشتري الأوّل حكم عليه السلام بردّه إليه فهو بيع صحيح، ولا ربط له بالفضولي(1).

أقول: إنّ ظاهر الرواية في قوله: «لا يصلح...» بطلان الإقالة بوضيعة، فبيع المقيل للثوب فضولي لا محالة، ودعوى كفاية إبراز الرضا ببيع المقيل مع جهل الراضي بكونه هو المالك دعوى غريبة؛ إذ ليس هذا إبرازاً للرضا المستند إلى المالك بما هو مالك، وهذا هو السرّ في أنّ مقتضى القاعدة فيمن باع شيئاً ثم ملك بطلان بيعه لو لم يجزه بعد ما مَلَك؛ لأنّ البيع لم يكن مستنداً إلى المالك بما هو مالك.

أمّا ما قاله رحمه الله من: «أنّه قد استبدل مشتري الثوب ماله بمال آخر وبما أنّه زاد على ما أخذه البائع من المستقيل حكم عليه السلام بردّ الزيادة عليه» فهذا هو عين ما نجيب به


(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص400 _ 401.

179

على إيراده الثاني من الإيرادين اللذين أوردهما على الاستدلال بالصحيحة لتصحيح بيع الفضولي فنقول: إنّما حكم الإمام عليه السلام بردّ الزيادة على المقيل؛ لأنّه كان قد أعطاه المستقيل قسماً من المال، ففرض الإمام ذلك نوع تبادل بين هذا المقدار وذاك المقدار المساوي، فلم يأمر عليه السلام باسترداد ما دفعه إليه بالإقالة وردّ تمام الثمن إليه.

وأمّا إيراده الأوّل وهو أنّ بيع الفضولي بحاجة إلى إجازة من دون فرق بين فرض العلم والجهل، ولا معنى لتخصيص الحكم بفرض الجهل فجوابه أنّ الرواية ليس لها ظهور في تخصيص الحكم بفرض الجهل، وبالإمكان تفسير قوله: «فإن جهل فأخذه فباعه بأكثر من ثمنه» بأنّه بعد ما أفاد عليه السلام أنّ الحكم الإلهي كان عدم الإقالة بوضيعة أراد أن يلتمس عذراً لمخالفة المقيل لهذا الحكم ففرض جهله بالحكم من دون أن يقصد عليه السلام بذلك كون هذا قيداً في صحّة المعاملة.

ولولا الإيمان بهذا الجواب لكان هذا الإشكال وارداً أيضاً على تفسيره رحمه الله من أنّ هذا بيع غير فضولي وأنّه صحيح على القاعدة فأيضاً نقول: ما معنى تقييد ذلك بشرط الجهل؟! فإنّه من الواضح أنّ البيع لو كان صحيحاً بالإذن الثابت بالملازمة فهو صحيح حتّى مع فرض علم المُقيل ببطلان الإقالة، فليس المفروض تقييد ذلك بشرط الجهل.

هذا تمام ما أردنا بيانه في أصل بيع الفضولي ونفوذه بالإجازة المتأخّرة.

وقد تركنا تفاصيل كثيرة في الكلام محيلين الأمر إلى الكتب المفصّلة من قبيل البحث عن أدلّة بطلان بيع الفضولي وغير ذلك.

بقي الكلام في إضافة عنصر آخر إلى الفضولية بعد تسليم أصل نفوذ بيع الفضولي بالإجازة المتأخّرة لكي نرى أنّ إضافة ذاك العنصر هل توجب البطلان وعدم نفوذ الإجازة أو لا؟ ثم الكلام في الكشف والنقل.

180

فلنا مقامان من البحث:

المقام الأوّل:

في إضافة عنصر آخر إلى فضولية البيع كي نرى أنّه هل يوجب عدم نفوذ البيع بالإجازة بعد أن آمنّا بأصل نفوذ بيع الفضولي بالإجازة أو لا؟

وهذا العنصر الإضافي الذي قد يحتمل تأثيره في إبطال نفوذ الإجازة أحد أمرين:

الأوّل: سبق منع المالك.

والثاني: عقد الفضولي لنفسه.

فإنّ كلامنا حتّى الآن كان في فرض عدم سبق منع المالك، وكان في فرض بيع الفضولي للمالك، أو قل: فرض عدم قصد الفضولي كون البيع لغير المالك، ولكن قصده لكون البيع لنفسه أو قل: لغير المالك لعلّه يضرّ بنفوذ البيع بعد ذلك بالإجازة.

عقد الفضولي مع سبق منع المالك

أمّا الفرع الأوّل: وهو فرض سبق منع المالك فقد يقال: إنّ هذا المنع يضرّ بلحوق الإجازة، ولا إشكال في أنّ هذا المنع يفقدنا الدليل الخاصّ على صحّة بيع الفضولي، وهو صحيحة محمد بن قيس وصحيحة الحلبيّ؛ لأنّه لم يفترض فيهما منع سابق، فهما لا تدلّان بظهورهما على أكثر من صحّة عقد الفضولي حينما يكون بلا إذن المالك، دون ما إذا كان مع منعه.

ولكن يبقى لنا ما مضى من مقتضى القاعدة فإنّه يشمل هذا القسم من الفضولي.

وتوهّم مبطلية المنع السابق بافتراضه كالردّ المتأخّر، أو بالقول بأنّ الكراهة مستمرّة عادة إلى ما بعد العقد _ ولو آناً مّا _ وهي كراهة مبرَزة فحالها حال الردّ، يرد عليه:

أنّنا لنفترض الكلام في الردّ الصريح بعد العقد، فلو انتهينا إلى مانعيّته عن لحوق الإجازة وصلت النوبة إلى البحث عن أنّ المنع السابق أو الكراهة المبرَزة المستمرّة

181

بعد العقد هل يلحق بالردّ أو لا؟ وإلّا فلا داعي إلى هذا البحث.

فنقول: لا مبرّر لافتراض أنّ ردّ المالك لا يبقي مجالاً للإجازة، فإنّه إن كان المقصود بذلك عقلائية زوال العقد بالردّ بحيث لا يقبل بعد ذلك عقلائيّاً لحوق الإجازة فهذا لا يكون إلّا في الردّ بمعنى كسر القرار وإنهائه من النفس من قِبل العاقد الأصيل، كما لو فرضنا أنّ الفضولي باع كتابنا من زيد الذي هو مالك الثمن، ثم كسر زيدالقرار وسحب العقد قبل إجازتنا لبيع الفضولي، فلم يبق موضوع للحوق إجازتنا بالبيع، ولا يعقل ذلك من مالك الكتاب؛ إذ لم يكن من قِبَله قبل الإجازة قرار حتّى نبحث عن سحبه وكسره.

والردّ المعقول من قِبل المالك في باب الفضولي بمعنى مجرّد إبراز الكراهة أو بمعنى كسر القرار بالفرض والاعتبار والإنشاء لا بالمعنى الحقيقي للكلمة لا يوجب عقلائيّاً عدم إمكان لحوق الإجازة.

وإن كان المقصود بذلك دعوى التمسّك بالإجماع على مبطلية الردّ بالمعنى المعقول من المالك في باب الفضولي فلا إجماع تعبّدي كاشف عن رأي المعصوم في المقام أبداً.

عقد الفضولي لنفسه

وأمّا الفرع الثاني: وهو عقد الفضولي لنفسه فالكلام تارة يقع عن وقوعه لنفسه بعد أن يملكه بشراء ونحوه، بمعنى أنّه هل يقع البيع له بمجرّد تملّكه بشراء ونحوه للمبيع بلا حاجة إلى أن يجيز البيع بعد تملّكه للبيع، وأُخری يقع عن وقوعه للمالك بعد إجازته:

أمّا الكلام عن وقوعه للفضولي بعد انتقال المبيع إليه بشراء ونحوه فلا ينبغي الإشكال في أنّ هذا خلاف روايات «لا تواجبه البيع قبل أن تستوجبه»(1)، ولا تشمله الإطلاقات أيضاً؛ لأنّه لم ينتسب العقد إليه حين مالكيّته، أو قل: لم ينتسب العقد إليه بما هو مالك.


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص48، الباب8 من أبواب أحكام العقود.

182

وأمّا الكلام عن وقوعه للمالك بإجازته فهذا يشتمل على فرعين:

الأوّل: فرض إجازة المالك غير الفضولي للعقد.

والثاني: فرض تملّك الفضولي للمال بشراء ونحوه ثم إجازته للعقد السابق.

وتوجد هنا إشكالات ثلاثة:

الأوّل: ما هو مشترك الورود على كلا الفرعين، وهو: أنّ قصد البيع الحقيقي لم يتمݦݨّ؛ لأنّ البيع عبارة عن المبادلة بين المالين، وهي دخول كلّ من المالين في ملك من خرج من ملكه الآخر، في حين أنّ الفضولي قصد هنا دخول العوض في ملكه هو، وليس هو الذي خرج من ملكه العوض الآخر، فلم يقصد إلّا بيعاً صوريّاً، فلا محلّ للإجازة أصلاً سواء فرضنا المجيز هو المالك الأوّل أو الفضولي بعد ما يملك المال.

والثاني: ما يختصّ بالفرع الأوّل، وهو أنّ الإجازة لم تطابق الإنشاء، فما أُنشئ لم يجز وما أُجيز لم ينشأ؛ لأنّ الفضولي أنشأ ملكية نفسه، والمالك الأوّل أنشأ ملكية نفسه.

والثالث: ما يختصّ بالفرع الثاني، وهو تقدّم العقد على الملك، فالعقد انتسب إليه قبل أن يكون مالكاً، وهذا الانتساب لا قيمة له، وبعد الملك لم ينتسب إليه انتساباً جديداً بالإجازة؛ لأنّ الفعل لا ينتسب إلى الشخص مرّتين، إذاً لم يقترن انتساب العقد إليه بالملك.

والجواب عن الأخير: أنّ الانتساب إلى ذات الشخص وإن تمّ قبل الملك لكن الانتساب إليه بما هو مالك انتساب جديد حصل بالإجازة، ولا أقصد بذلك انتساب ذات العقد إليه مرّة ثانية كي يقال: إنّ الفعل لا ينتسب إلى الشخص مرّتين، بل أقصد بذلك أنّ انتحال الفضولي بعد الملك للعقد الأوّل وتبنّيه إيّاه موضوع في نظر العرف والعقلاء في تحقّق التمليك من قِبله في لوح التشريع العقلائي، وهذا يحقّق موضوع التمسّك بالإطلاقات وبالسيرة.

نعم، هذا الإشكال لا جواب عليه لو كنّا نقصد بانتساب العقد إلى المجيز المصحّح

183

للتمسّك بالإطلاقات ما مضى عن السيّد الخوئي رحمه الله من انتساب ذات العقد إليه؛ فإنّ هذا الانتساب ثابت هنا قبل الإجازة وقبل الملك ولم يتكرّر.

بقي الكلام في الإشكالين الأوّلين:

والموقف تجاه هذين الإشكالين يمكن أن يكون بأحد وجهين:

الوجه الأوّل: أن لا يهتمّ بحلّهما بمقتضى القواعد؛ إذ يكفينا التعبّد بصحيحة محمد بن قيس؛ فإنّ الفضولي في تلك الصحيحة كان قد باع الوليدة لنفسه فأعقبته الإجازة من قِبل المالك وصحّ البيع، فحتّى لو لم يتمّ ذلك بمقتضى القواعد نقول بصحّته بالنصّ الخاصّ، ويتمّ التعدّي إلى فرض ما إذا تملّكه الفضولي بالشراء مثلاً فأجاز البيع الأوّل بعدم احتمال الفرق عرفاً، وكذلك يمكن التمسّك بالنصّ الخامس الذي مضى إن قبلنا ما قرّبناه من دلالته على صحّة بيع الفضولي، وهو صحيحة الحلبي.

والوجه الثاني: أن نبحث الإشكالين وفق مقتضى القواعد وعندئذٍ نقول:

إنّ خير ما يمكن افتراض كونه المقصود من كلام الشيخ الأنصاري رحمه الله كجواب على هذين الإشكالين _ بعد تخليصه من التطويل والتشويش الموجودين في كلامه _ هو أنّ الفضولي لو كان يعتقد مالكية نفسه للمثمن الذي يبيعه أو للثمن الذي يشتري به فقد قصد حقيقةً البيع أو الشراء الأصلي، وإن كان غاصباً فهو يدّعي ادّعاء الملكية، وبناءً علی هذا الادّعاء يتمشّى أيضاً منه قصد البيع حقيقةً. نعم، لو لم يدّع المالكية ومع ذلك قصد العقد لنفسه التزمنا بالبطلان؛ لأنّه صورة بيع، وليس بيعاً حقيقةً.

وبهذا اندفع الإشكال الأوّل، وهو عدم تمشّي قصد البيع الحقيقي، كما هو واضح.

واندفع أيضاً الإشكال الثاني في فرع ما لو كان المجيز هو المالك الأصلي من أنّ ما أُجيز لم ينشأ وما أُنشئ لم يُجَزْ؛ فإنّ الجواب على ذلك أنّ العقد في واقعه أُنشئ للمالك وإن كان هناك تطبيق كاذب لعنوان المالك على نفسه، فالإجازة قد طابقت الإنشاء؛

184

فإنّ المالكية مأخوذة في إنشاء الفضولي بوصفها حيثية تقييدية(1).

أقول: والواقع أنّ هذين الإشكالين يمكن علاجهما بوجه يتأتّى حتّى فيما فرض الشيخ الأنصاري رحمه الله الفراغ عن بطلان المعاملة فيه، وهو ما لو لم يدّع الفضولي المالكية ومع ذلك قصد العقد لنفسه، فقد فرغ الشيخ رحمه الله عن بطلان ذلك بحجّة عدم تحقّق معنى المعاوضة.

والجواب عن ذلك أنّنا لا نقصد بالمعاوضة التي نريد تصحيحها بالإجازة قصد إدخال كلّ واحد من العوضين في ملك من فرض خروج العوض الآخر عن ملكه، ولذا لا شكّ في صحّة شراء أحد العمودين وإن كان ينتج انعتاقه، فنحن مقصودنا في المقام: أنّه قد صدرت من الفضولي المعاوضة الضمنية ضمن البيع أو الشراء، وهذه المعاوضة الضمنية قابلة للتصحيح بالإجازة المتأخّرة ولو بطل البيع أو الشراء.

ودعوى أنّ صحّة شراء أحد العمودين إنّما تكون على أساس تحقّق الملكية التقديرية كلام صوري لا قيمة له؛ لأنّه لو قصد بذلك الملكية آناً مّا فملكية أحد العمودين ولو آناً مّا غير صحيحة، ولو قصد بذلك الملكية التقديرية بمعنى مجرّد التقدير فتقدير الملك ليس ملكاً.

والخلاصة: أنّ المعاوضة الضمنية حاصلة في بيع الفضولي في عالم الاعتبار يقيناً وتنفذ بالإجازة المتأخّرة، ولا يلزم من ذلك لا إشكال صوريّة البيع أو الشراء ولا إشكال أنّ ما أُجيز لم يقع وما وقع لم يُجَز.

بل لعلّ الأولى أن نقول: إنّ البيع إن هو إلّا عبارة عن جامع المبادلة، فلو اشترى شخص أحد عموديه وهو عالم بأنّه لا يملكهما ولم يقصد ملكهما، بل قصد انعتاق ما اشتراه فقد اشتراه حقيقةً وإن كانت نتيجة شرائه انعتاقه، ولا إشكال في أنّ الفضولي قصد أصل المبادلة بين المالين وإن كانت الشريعة لم تقرّ له حصول التبادل في عالم


(1) راجع کتاب المكاسب، ج3، ص380 _ 384.

185

التشريع، وأصل التبادل قابل للإجازة والتنفيد من قِبل المجيز، فليس البيع كالنكاح مثلاً الذي يكون العمود الأصلي فيه هو نفس الزوج والزوجة.

المقام الثاني:

في أنّ إجازة عقد الفضولي هل هي كاشفة أو ناقلة؟

معاني الکشف

وقد ذكر السيّد الخوئي رحمه الله _ على ما ورد في التنقيح _ عدّة معانٍ للكشف:

المعنى الأوّل: ما أسماه بالكشف الحقيقي، وهو أنّه لا دخل للإجازة أصلاً في صحّة البيع، وإنّما هي كالعَلَم المنصوب على باب دار للأمارية والكاشفية عن وجود مجلس عزاء هناك من دون أن يكون له دخل فيه بوجه.

وأفاد رحمه الله أنّ هذا واضح البطلان، لا بمعنى استحالته، بل لوضوح شرط الرضا والإذن أو الإجازة كما قال الله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُوْنَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ﴾(1)، فدون إثبات هذا المعنى من الكشف خرط القتاد(2).

ونحن لا يوجد لدينا تعليق على هذا الكلام.

المعنی الثاني: ما أسماه أيضاً بالكشف الحقيقي، وهو التسليم بأنّ الإجازة دخيلة في الملكية إلّا أنّ الإجازة المتأخّرة تكون مؤثّرة في حصول المشروط سابقاً، وهذا لا ضير في الالتزام به في الشرعيّات وإن كان ذلك مستحيلاً في الأُمور التكوينية، فرغم استحالة ذلك في الأُمور التكوينية قد وقع ذلك في الشرعيّات في موردين:

1_ الواجبات التركيبية كالصلاة ونحوها؛ فإنّ كون التكبيرة مأموراً بها في الصلاة وصحيحة واقعاً متوقّف على التحاق الأجزاء الآتية بها حتّى السلام.


(1) النساء: 29.

(2) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص436 _ 437.

186

2_ غسل المستحاضة، فاغتسالها للظهرين شرط لصحّة صومها في اليوم، فإذا تحقّق يكشف عن أنّ صومها إلى الظهر صحيح، مع أنّه تحقّق قبل شرطه، وكذلك اغتسالها للفجر بناء على وجوب أو جواز إيقاعها للغسل بعد الفجر، فصحّة الصوم في الآنات المتأخّرة عن الفجر إلى زمان الاغتسال متوقّفة على ذاك الغُسل المتأخّر.

قال رحمه الله: والجواب عن ذلك أنّ فرض إمكان الشرط المتأخّر في الشرعيّات واختصاص استحالته بالأُمور التكوينية يشبه فرض إمكان اجتماع النقيضين في الشرعيّات واختصاص استحالته بالتكوينيّات كما نبّه على ذلك الشيخ الأنصاري رحمه الله(1)، فالصحيح إرجاع المثالين المتقدّمين إلى شرط التعقّب، والذي هو في الحقيقة شرط مقارن(2).

أقول: إنّ المثال الأوّل وهو اشتراط الأجزاء الأوّلية من المركّبات الارتباطية _ كالصلاة _ بالأجزاء المتأخّرة منها أجنبي عن بحث الشرط المتأخّر، فصحّة الأجزاء المتقدّمة إن هي إلّا بمعنى قبولها بالتحاق الأجزاء المتأخّرة، وهذه الصحّة ليست مشروطة بذاك الالتحاق. نعم، الأمر المتعلّق بالمجموع من الأجزاء والشرائط أمر واحد لا تسقط فاعليّته إلّا دفعة واحدة بإنهاء كلّ الأجزاء والشرائط، وأين هذا من الشرط المتأخر الذي يفرض احتياجه إلى التأويل بشرط التعقّب؟!


(1) راجع کتاب المكاسب، ج3، ص401. فقد ذكر الشيخ(رحمه الله) في هذه الصفحة ما يلي: «ودعوى أنّ الشروط الشرعية ليست كالعقلية، بل هي بحسب ما يقتضيه جعل الشارع، فقد يجعل الشارع ما يشبه تقديم المسبّب على السبب _ كغسل الجمعة يوم الخميس وإعطاء الفطرة قبل وقته _ فضلاً عن تقدّم المشروط على الشرط _ كغسل الفجر بعد الفجر للمستحاضة الصائمة، وكغسل العشاءَين لصوم اليوم الماضي على القول به _ مدفوعة بأنّه لا فرق فيما فرض شرطاً أو سبباً بين الشرعي وغيره، وتكثير الأمثلة لا يوجب وقوع المحال العقلي، فهي كدعوى أنّ التناقض الشرعي بين الشيئين لا يمنع عن اجتماعهما؛ لأنّ النقيض الشرعي غير العقلي فجميع ما ورد ممّا يوهم ذلك لابدّ فيه من التزام أنّ المتأخّر ليس سبباً أو شرطاً، بل السبب والشرط الأمر المنتزع من ذلك...».

(2) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص436 _ 437.

187

وأمّا استحالة الشرط المتأخّر في الشرعيّات وتشبيهه باجتماع المتناقضين فيها فجوابه: أنّ الشرط المتأخّر في الشرعيّات ليس له معنى إلّا ما يسمّى بـ (تقيّدٌ جزء وقيد خارج) وهذا كما ترى لا استحالة فيه، ولا معنى لقياس ذلك بالشروط التكوينية.

نعم، لا نضايق من افتراض كون تأثير الغسل في الملاك والمصلحة أمراً تكوينيّاً، وافتراض تأخّر حصول ذلك الملاك أو المصلحة إلى حين الإتيان بالغسل.

وعليه فلا مشكلة في هذا المعنى من الكشف الحقيقي، ولا معنى لقياسه بدعوى إمكانية اجتماع النقيضين في الشرعيّات. وإذاً فلو دلّ دليل على الكشف أمكن تنزيله على هذا المعنى.

المعنى الثالث: من المعاني التي ذكرها رحمه الله للكشف يكون أيضاً كشفاً حقيقيّاً وقد فرضه رحمه الله معنى وسطاً بين المعنيين الأوّلين، وهو أن يقال: إنّ شرط الملكية عبارة عن تعقّب العقد بالإجازة واقعاً، وأنّ اتّصافه بكونه متعقّباً بها كافٍ في حصول الملكية شرعاً ولو لم يعلم بذلك، فلذا لو علم المشتري أنّ المالك سيجيز بيع الفضولي جاز له وطء الأمة وغيره من التصرّفات في المبيع، وعليه فالإجازة المتأخّرة تكشف عن أنّ العقد السابق مؤثّر من الابتداء وأنّه كان متّصفاً بعنوان «أنّه ستعقبه الإجازة».

قال رحمه الله: وهذا المعنى من الكشف وإن كان معقولاً واقعاً وممكناً في حدّ نفسه إلّا أنّه مخالف لظاهر الأدلّة الأوّلية للعقود، فإنّ ظاهرها كون الرضا والإذن أو الإجازة شرطاً بذاته، لا كون الشرط عنواناً منتزعاً كالتعقّب(1).

المعنى الرابع: ما أسماه بالكشف الحكمي، وفسّره بالتنزيل منزلة الملك في ترتيب جميع آثار ملكية ما قبل الإجازة.

وأورد عليه بأنّه في باب التنزيل تارة يكون المنزّل عليه أمراً واقعيّاً تكوينياً كتنزيل الفقّاع منزلة الخمر وتنزيل الطواف منزلة الصلاة. وفي هذه الحالة يمكن أن يكون


(1) راجع المصدر السابق، ص437 _ 438.