764

وأمّا من حيث السند: فسند ابن طاووس إلى كتاب المشيخة للحسن بن محبوب عبارة عمّا يتلفّق من سنده إلى الشيخ الطوسي، وسند الشيخ الطوسي إلى مشيخة الحسن بن محبوب في الفهرست. وللشيخ الطوسي إلى مشيخة الحسن بن محبوب في الفهرست سند تام. أمّا سند ابن طاووس إلى الشيخ فقد ذكر ابن طاووس في مقدّمة كتاب فلاح السائل(1) أسانيد له إلى الشيخ الطوسي أفضلها لنا هو أوّل تلك الأسانيد حيث قال:

«فمن طرقي في الرواية إلى كلّ ما رواه جدّي أبو جعفر الطوسي في كتاب الفهرست وكتاب أسماء الرجال وغيرها من الروايات ما أخبرني به جماعة من الثقات منهم الشيخ حسين بن أحمد السوراوي إجازةً في جُمادى الآخرة سنة تسع وستمائة، قال: أخبرني محمد بن أبي القاسم الطبري عن الشيخ المفيد أبي علي عن والده جدّي السعيد أبي جعفر الطوسي».

أقول: هذا السند تام. أمّا الذين نقل عنهم ابن طاووس مباشرةً. ومنهم الشيخ حسين بن أحمد السوراوي، فهو قد شهد بوثاقتهم. وأمّا محمد بن أبي القاسم الطبري فقد شهد الشيخ منتجب الدين في فهرسته بوثاقته، والشيخ منتجب الدين وإن كان من المتأخّرين، لكن توثيقه يقبل بالنسبة لمثل محمد بن أبي القاسم الطبري الذي هو قريب من عصره، فإنّ منتجب الدين هو تلميذ محمود بن علي بن الحسن الحمصي الرازي الذي يروي مباشرةً عن محمد بن أبي القاسم الطبري، كما صرّح بذلك كلَّه منتجب الدين في فهرسته في ترجمة محمد بن أبي القاسم(2)، ووثّقه أيضاً


(1) ص 14، حسب طبعة مكتب الأعلام الإسلامي في قم.

(2) راجع جامع الرواة، ج2، ص57.

765

الشيخ الحرّ صاحب الوسائل في تذكرة المتبحّرين(1)، وأمّا ولد الشيخ الطوسي الذي هو الشيخ محمد بن أبي القاسم فقد وثّقه أيضاً منتجب الدين في فهرسته والشيخ الحرّ في تذكرة المتبحّرين(2).

وأمّا سند صاحب الوسائل إلى المحاسن فينتهي إلى الشيخ الطوسي، وعنه بأسانيده إلى المحاسن، وسند صاحب الوسائل إلى الشيخ الطوسي تام. أمّا أسانيد الشيخ الطوسي إلى المحاسن فكما يلي:

ذكر الشيخ الطوسي (رحمه الله) في الفهرست: أنّه «قد زيد في المحاسن ونقص، فممّا وقع إليه منها...». وعدّ هنا كتباً كثيرةً، ثم قال: «وزاد محمد بن جعفر بن بطّة على ذلك...» وعدّ هنا عدّة كتب، ثم قال: «أخبرنا بهذه الكتب كلّها وبجميع رواياته عدّة من أصحابنا منهم الشيخ أبو عبداللّه محمد بن محمد بن النعمان، وأبو عبداللّه الحسين بن عبيداللّه، وأحمد بن عبدون، وغيرهم، عن أحمد بن محمد بن سليمان الزراري قال: حدّثنا مؤدّبي علي بن الحسين السعد آبادي أبوالحسن القمّي، قال: حدّثنا أحمد بن أبي عبداللّه، وأخبرنا هؤلاء الثلاثة عن الحسن بن حمزة العلوي الطبري، قال: حدّثنا أحمد بن عبداللّه بن بنت البرقي، قال: حدّثنا جدّي أحمد بن محمد، وأخبرنا هؤلاء _ إلا الشيخ أبا عبداللّه _ وغيرهم عن أبي المفضّل الشيباني عن محمد بن جعفر بن بطّة عن أحمد بن أبي عبداللّه بجميع كتبه ورواياته. وأخبرنا بها ابن أبي جيد، عن محمد بن الحسن بن الوليد، عن سعد ابن عبداللّه، عن أحمد بن أبي عبداللّه بجميع كتبه ورواياته».


(1) راجع معجم رجال الحديث، ج14، ص313.

(2) نفس المصدر، ج5 ، ص115.

766

وهذه الأسانيد التي نقلها الشيخ الطوسي (رحمه الله) أسانيد إلى أعيان الكتب الموجودة من المحاسن لدى الشيخ الطوسي (رحمه الله)، ولكن قد عرفت أنّ الشيخ الطوسي (رحمه الله) ذكر في آخر حديثه أنّ محمد بن جعفر بن بطّة أضاف كتباً أُخرى، إذاً فتلك الكتب الأُخرى ليس للشيخ الطوسي سند إلى أعيانها؛ لأنّها لم تصل إليه، وإنّما له سند إلى أسمائها وهو السند الثالث من الأسانيد الأربعة التي نقلها عنه، وهو ضعيف بأبي المفضّل الشيباني. هذا إذا تجاوزنا أنّ صدر السند عبارة عن حسين بن عبداللّه الغضائري وأحمد بن عبدون، ولم تثبت وثاقتهما، والسرّ في تجاوز ذلك أنّ الناقل هو هذان الشخصان مع عطف كلمة (غيرهم)، وهذا قد يفيد الاطمئنان.

وقد وصل إلى الشيخ الحرّ العاملي _ على ما جاء في آخر الوسائل _ من كتب المحاسن أحد عشر كتاباً، وواحد منها من الكتب التي نسب الشيخ نقلها إلى محمد ابن جعفر بن بطّة، فإذا احتملنا أنّ الحديث الذي نقله صاحب الوسائل في المقام قد أخذه من ذاك الكتاب فقد سقط بما عرفت. وإن استبعدنا ذلك بحساب الاحتمالات باعتباره كتاباً من أَحد عشر كتاباً قلنا: إنّ كلّ الأسانيد الأربعة التي مضت عن صاحب الوسائل لا تخلو من ضعف: فالسند الثالث قد عرفت حاله، والسند الرابع فيه ابن أبي جيد، ولا دليل على وثاقته عدا كونه من المشايخ، والسند الأول فيه علي بن الحسين السعد آبادي، ولا دليل على وثاقته، والسند الثاني فيه عبداللّه بن بنت البرقي، ولا دليل على وثاقته.

نعم، من حسن الحظّ أنّ للشيخ (رحمه الله) في المشيخة سنداً تامّاً إلى أحمد بن أبي عبداللّه البرقي حيث قال (رحمه الله): «ما ذكرته عن أحمد بن أبي عبداللّه البرقي فقد أخبرني به الشيخ أبو عبداللّه عن أبي الحسن أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد عن أبيه، عن سعد بن عبداللّه. وأخبرني أيضاً الشيخ عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين

767

ابن بابويه عن أبيه ومحمد بن الحسن بن الوليد، عن سعد بن عبداللّه والحميري، عن أحمد بن أبي عبداللّه. وأخبرني به أيضاً الحسين بن عبيداللّه عن أحمد بن محمد ابن الزراري، عن علي بن الحسين السعد آبادي، عن أحمد بن أبي عبداللّه، ومن جملة ما ذكرته عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي ما رويته بهذه الأسانيد (إشارة إلى أسانيده إلى الكليني) عن محمد ابن يعقوب، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد». والسند الأخير تام، ولكنّه لا يفيد؛ لأنّه سند إلى بعض غير معيّن ممّا رواه عنه. والسند الأول فيه أحمد بن محمد بن الحسن ابن الوليد. والسند الثالث فيه الحسين بن عبيداللّه الغضائري وعلي بن الحسين السعد آبادي، والسند الثاني تام، ونفس أحمد بن أبي عبداللّه البرقي تام عندنا وإن وقع الخلاف بشأنه؛ إذاً فكلّ ما يرويه الشيخ (رحمه الله) في التهذيب أو الاستبصار عن أحمد بن أبي عبداللّه البرقي فهو تام سنداً، ولكن ما يرويه صاحب الوسائل في الوسائل عن المحاسن مباشرةً لا يكون تامّاً سنداً. والرواية التي كنّا بصددها قد رواها صاحب الوسائل عن المحاسن مباشرةً؛ إذاً هذا السند بالنسبة لها غير تام، لكن يكفيها سند ابن طاووس.

7_ ما رواه في الوسائل عن الكليني عن محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان وعن أبي علي الأشعري، عن محمد بن عبدالجبّار جميعاً، عن صفوان بن يحيى، عن عبداللّه بن مسكان، عن إسحاق العرزمي (وفي الكافي إسحاق الفزاري)، قال: سئل وأنا عنده _ يعني أبا عبداللّه (عليه السلام) _ عن مولود ولد وليس بذكر ولا أُنثى، وليس له إلا دبر: كيف يورث؟ قال: يجلس الإمام ويجلس معه ناس، فيدعو اللّه، ويجيل السهام على أيّ ميراث يورثه _ ميراث الذكر أو ميراث الأُنثى _ فأيّ ذلك خرج ورثه عليه، ثم قال: وأيّ قضيّة أعدل من قضيّة يجال عليها بالسهام؟ إنّ اللّه

768

تبارك وتعالى يقول:﴿فَسٰاهَمَ فَكٰانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾(1). ورواه الشيخ بإسناده عن أبي علي الأشعري مثله، إلا أنّه قال: «عن إسحاق المرادي»(2).

ولا يرد على الاستدلال بهذا الحديث عدم الدلالة على حجّية القرعة قضائيّاً أو في نفسها، واحتمال توقّفها على رضا الكلّ؛ وذلك لأنّ المفروض إلزام هذا المولود ومن معه من الورثة بنتيجة القرعة قضائيّاً من قبل الإمام.

نعم، يرد على دعوى الإطلاق فيه ما مضى من الاستشكال في الإطلاق، فإنّه إنّما دلّ على أنّه لا قضاء أعدل من قضاء القرعة، أمّا ما هو مورد قضاء القرعة فليس بصدد بيان ذلك، فلابدّ من الاقتصار فيه على القدر المتيقّن وهو دائرة المباحات. ولم تدل هذه الرواية على أنّه قد عُيّن بالقرعة كون هذا ذكراً أو أُثنى بتمام ما لذلك من أحكام، وإنّما دلّ على العمل بها في مسألة المال فحسب، وهذا داخل في دائرة المباحات، أي: إنّ بإمكان الورثة الاتّفاق عند الشكّ على حصّة معيّنة(3).

هذا، والحديث خاصّ بمورد النزاع بقرينة كلمة «قضيّة».

والحديث ساقط سنداً بإسحاق سواء فرض أنّ لقبه العزرمي أو الفزاري أو المرادي؛ إذ لا دليل على وثاقته. نعم، ذكر المحقّق الأردبيلي (رحمه الله) في جامع الرواة: أنّ إسحاق المرادي هو إسحاق المدايني، والقرينة التي يذكرها على الوحدة هي رواية ابن مسكان عن كلّ واحد منهما عن الإمام الصادق (عليه السلام)، فلو تمّ هذا


(1) الصافات: 141.

(2) وسائل الشيعة، ج17، ص579، الباب 4 من ميراث الخنثى، ح1.

(3) مضى في بعض تعليقاتنا السابقة أنّ ارتكازيّة حجّية القرعة في موارد النزاع تتمّ دلالته على حجّيتها في موارد النزاع . نعم، يبقى احتمال اختصاص ذلك بالحجّية القضائية.

769

الاستظهار أمكن توثيقه بناءً على أنّ إسحاق المدايني هو إسحاق ابن أبي هلال المدايني الذي روى عنه ابن أبي عمير، ولكن ليس لدينا الوثوق بالقدر الكافي بذاك الاستظهار.

وقد ورد سند آخر لمتن قريب جدّاً من متن هذا الحديث، وهو ما رواه في الكافي عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضّال والحجّال، عن ثعلبة بن ميمون، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبداللّه (عليه السلام)(1). والسند إلى ثعلبة بن ميمون تام، ولكنّه كما ترى مبتلىً بالإرسال.

كما ورد أيضاً سند آخر لمتن قريب منه جدّاً، وهو إسناد الشيخ إلى علي بن الحسن، عن أيّوب بن نوح، عن صفوان بن يحيى، عن عبداللّه بن مسكان قال: «سئل أبو عبداللّه (عليه السلام) وأنا عنده...»(2).

وهذا السند عيبه: أوّلاً ضعف سند الشيخ إلى علي بن الحسن بن فضّال، وثانياً أنّه يُحدس سقوط الواسطة بين ابن مسكان وأبي عبداللّه (عليه السلام)؛ لقوّة احتمال اتّحاد هذا الحديث مع ما مضى آنفاً عن صفوان، عن ابن مسكان، عن إسحاق، عن أبي عبداللّه لوحدة المتن ووحدة السند إلى صفوان، واستبعاد تكرّر قصّة من هذا القبيل.

وابن مسكان رغم أنّه من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) قليل الرواية عنه بلا واسطة بالقياس إلى رواياته عنه بالواسطة. ومن الطريف ما روى الكشي عن العيّاشي أنّ ابن مسكان كان لا يدخل على أبي عبداللّه (عليه السلام) شفقة أن لا يوافيه حقّ إجلاله، فكان يسمع من أصحابه، ويأبى أن يدخل عليه إجلالاً وإعظاماً له (عليه السلام).


(1) وسائل الشيعة، ج17، ص580، الباب 4 من ميراث الخنثى، ح3.

(2) نفس المصدر، ص581، ح4.

770

8_ ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن عبدالرحمان بن أبي نجران، عن عاصم بن حميد، عن بعض أصحابنا، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «بعث رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) عليّاً (عليه السلام) إلى اليمن، فقال له حين قدم: حدِّثْني بأعجب ما ورد عليك، فقال: يا رسول اللّه، أتاني قوم قد تبايعوا جاريةً فوطأها جميعهم في طهر واحد، فولدت غلاماً، فاحتجّوا فيه كلّهم يدّعيه، فأسهمت بينهم، فجعلته للذي خرج سهمه وضمّنته نصيبهم. فقال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله): ليس من قوم تنازعوا، ثم فوّضوا أمرهم إلى اللّه إلا خرج سهم المحقّ». ورواه الصدوق بإسناده عن عاصم بن حميد، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) نحوه إلا أنّه قال: «ليس من قوم تقارعوا»(1). والسند الأول وإن كان ضعيفاً بالإرسال، ولكن السند الثاني تام.

وأمّا من حيث المتن فلا يرد عليها ما أوردناه على بعض الروايات السابقة _ من أنّها لا تدل على الحجّية القضائية، ولا على الحجّية الذاتية؛ لأنّها ليست بصدد بيان ذلك، وإنّما هي بصدد بيان أنّهم حينما يفوّضون أمرهم إلى اللّه ويتراضون بالقرعة يخرج سهم المحقّ، أمّا إرغامهم على القرعة ابتداءً، أو من قبل القاضي فغير معلوم _ أقول: هذا الإشكال لا يرد هنا؛ لأنّه في مورد الرواية قد حكم القاضي وهو أمير المؤمنين (عليه السلام) بالقرعة، فالرواية تدل على الحجّية القضائية بلا إشكال.

نعم، لا تدل على الحجّية الذاتية، أي: بغضّ النظر عن حكم القاضي؛ وذلك لأنّ الكبرى المذكورة في الحديث هي صحّة التفويض إلى اللّه والالتجاء إلى القرعة كأمر مفروغ عنه فيها، ورتّب على ذلك خروج سهم المحقّ، أمّا متى(2) يصحّ ذلك فغير


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص188، الباب13 من كيفيّة الحكم، ح5 و6.

(2) يحتمل في هذا الحديث وفي كلّ الأحاديث المتضمّنة للحكم بخروج سهم المحقّ لقوم فوّضوا أمرهم إلى اللّه فاقترعوا أن تكون هذه الأحاديث بصدد تشريع هذا التفويض والاقتراع، لا بصدد مجرّد بيان ←

771

معلوم، والقدر المتيقّن من ذلك ما يكون من قبيل مورد الحديث وهو فرض القرعة من قبل القاضي.

وعلى أيّة حال فليس للحديث _ بعد التسليم _ إطلاق لغير مورد النزاع حتى على نسخة «تقارعوا»؛ لما مضى من أنّ المفهوم عرفاً من فرض الأمر راجعاً إلى قوم وأنّ فيهم المحقّ وغير المحقّ هو ذلك.

ولا يرد أيضاً على الاستدلال بهذه الرواية ما أوردناه على بعض الروايات السابقة من أنّ القدر المتيقّن منها خصوص دائرة المباحات، ولا إطلاق لها بالنسبة لغير ذلك؛ وذلك لأنّ مورد هذا الحديث هو من غير هذه الدائرة، وهو مورد إثبات البنوّة بكامل أحكامها.

وأمّا الإيراد بأنّ إطلاق كبرى هذا الحديث يشمل فرض وجود حلّ آخر للنزاع، وهو خلاف الضرورة الفقهيّة، فجوابه: أنّ ارتكاز اشتراط القرعة في النزاع بعدم وجود حلّ آخر مقيّد كالمتّصل، بل يمكن أن يقال: إنّه بقطع النظر عن هذا الارتكاز لا يتمّ إطلاق من هذا القبيل في المقام؛ وذلك لأنّ مورد الحديث لا حلّ آخر فيه للنزاع، وذيل الحديث الدالّ على الكبرى قد فرض صحّة التفويض إلى اللّه والالتجاء إلى القرعة أمراً مفروغاً عنه، فلا إطلاق له، والمتيقّن منه ما يكون من قبيل مورد الحديث.

إذاً ثبتت بهذا الحديث الحجّية القضائية للقرعة في مورد النزاع عند عدم وجود حلّ آخر للنزاع.

9_ ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن موسى بن عمر، عن


خروج الحقّ على تقدير التفويض والاقتراع في مورد جاز ذلك، إلا أنّ هذا مجرّد احتمال، وليس استظهاراً، فلا يكفي لتتميم الإطلاق.

772

علي بن عثمان، عن محمد بن حكيم قال: «سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن شيءٍ، فقال: كلّ مجهول ففيه القرعة. قلت له: إنّ القرعة تخطئ وتصيب؟ قال: كلّما حكم اللّه به فليس بمخطئ»، ورواه الصدوق بإسناده عن محمد بن حكيم(1). ورواه الشيخ (رحمه الله) أيضاً في النهاية مرسلاً عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام)، وعن غيره من آبائه وأبنائه(2). والسند الأول غير تام؛ لأنّ موسى بن عمر مردّد بين موسى بن عمر بن بزيع الثقة وموسى بن عمر ابن يزيد غير الثابت وثاقته. وعلي بن عثمان لم تثبت وثاقته، أمّا محمد بن حكيم، فالظاهر أنّه منصرف إلى المشهور، وهو الخثعمي لا الساباطي، وابن أبي عمير نقل عن محمد بن حكيم بعض الروايات، وهو أيضاً ينصرف إلى هذا المشهور، وبهذا تثبت وثاقته.

وعلى أيّ حال فيكفينا سند الشيخ الصدوق إلى محمد بن حكيم، فإنّ له إليه سندين تامّين، ومن حسن الحظّ أنّ أحدهما ينتهي بمحمد بن أبي عمير، وبهذا تثبت وثاقة الراوي المباشر للإمام في المقام حتى لو بقي مردّداً بين محمد بن حكيم الخثعمي ومحمد بن حكيم الساباطي.

وأمّا من حيث الدلالة فقوله: «كلّ مجهول» يشمل بعمومه غير دائرة المباحات، فلا يرد عليه ما أوردناه على بعض الروايات السابقة من كون القدر المتيقّن منها دائرة المباحات، والمفهوم من قوله: «فيه القرعة» هو حجّية القرعة لا مجرّد كونها قضيّة أخلاقيّة، أو قضيّة يمكن التراضي والتشارط عليها كما يمكن التراضي والتشارط على كلّ شيء آخر؛ وذلك لأنّ مجرّد قضيّة أخلاقيّة أو قضيّة تتبع التراضي والتشارط لا تشمل


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص179، الباب13 من كيفيّة الحكم، ح11.

(2) نفس المصدر، ص191، ح18.

773

غير دائرة المباحات، وهذا خلاف عموم الموضوع؛ أعني قوله: «كلّ مجهول».

هذا، وقد يناقش في التمسّك بهذا الحديث: بأنّنا نعلم بالارتكاز أنّ القرعة ليست قاعدة يرجع إليها عموماً في جميع موارد الشكّ، فمثلاً لو علمنا إجمالاً بنجاسة أحد إناءين فلا أحد يفتي بتعيين النجس بالقرعة، ولو كانت القرعة حجّةً في الشبهات الحكميّة على الإطلاق لما كانت هناك حاجة إلى الاستنباط بمراجعة الأمارات والأصول الشرعيّة، بل كنّا نعيِّن الحكم دائماً في تلك الموارد بالقرعة، ومن البديهي بطلان ذلك إلى غير ذلك من النقوض، وتخصيص الأكثر مستهجن فتبتلي الرواية بالإجمال.

وما قد يقال من أنّ مقياس العمل براوية القرعة هو عمل الأصحاب؛ إذ نعلم إجمالاً بوجود ضابط للقرعة لم يصل إلينا، وعمل الأصحاب في موردٍ مّا يكشف عن انطباق ذاك الضابط، غير واضح؛ إذ لا نتعقّل وجود ضابط وصل إليهم يداً بيد من زمان المعصوم ثم اختفى علينا نهائيّاً، ولو كان هناك ضابط فلعلّه كان ضابطاً اجتهاديّاً لو عرفنا مدركه لم نقتنع به.

والتحقيق في المقام: أنّ هذا الارتكاز لا يوجب إجمال الحديث على الإطلاق، وتوضيح ذلك: أنّنا نعلم بارتكاز كالمتّصل أنّ القرعة ليست قاعدة يرجع إليها عموماً في غير موارد النزاع ولا في موارد النزاع عند وجود حلّ آخر للنزاع من الحلول القضائيّة المتعارفة، فإطلاق الحديث مقيَّد بمقيِّد كالمتّصل بخصوص مورد النزاع وعدم وجود حلّ آخر كذلك للنزاع.

هذا، وبما أنّنا لا نؤمن بالإطلاق الشمولي للمحمول فنقول: أنّ قوله: «فيه القرعة» إنّما دلّ على أصل مشروعيّة القرعة في كلّ مجهول، أمّا أنّها هل شرّعت لكي يجريها نفس المتنازعين _ وهذا ما عبّرنا عنه بالحجّية الذاتيّة _ كما يجريها القاضي، أو لكي يجريها القاضي فحسب، فهذا لا يمكن فهمه من الحديث، والقدر المتيقّن هو

774

الحجّية القضائية؛ إذ لا يحتمل فقهيّاً كون القرعة حجّةً ذاتيّةً للمتنازعين مع عدم جواز حكم القاضي بها.

وخلاصة ما اتّضح حتى الآن من هذه الروايات العامّة عدّة أمور:

الأول _ مشروعيّة القرعة مشروعيّةً أخلاقيّةً في موارد تقتضي الصفة الأخلاقيّة ذلك ولو يكن هناك أمر مجهول له تعيّن في الواقع، كما دلّ على ذلك الحديث الرابع التامّ سنداً.

الثاني _ مشروعيّة القرعة في موارد التراضي والتشارط عليها في دائرة المباحات ولو لم يكن هناك أمر مجهول له تعيّن في الواقع، كما دلّ على ذلك الحديث السادس التامّ سنداً، بل هو ثابت بمقتضى القاعدة.

الثالث _ الحجّية القضائية للقرعة في موارد النزاع عند عدم وجود الحلول القضائية المتعارفة، تعمل من قبل القاضي(1) من دون فرق بين فرض دعوى كلّ من المترافعين العلمَ بالواقع، وفرض شكّهم في ذلك، ووقوع المرافعة على أساس عدم استعدادهم للتنازل عن الحقّ، كما هو مقتضى إطلاق قوله في الحديث التاسع: «كلّ مجهول ففيه القرعة»، بل لعلّ مورد الحديث الثامن أنسب بفرض شكّهم في البنوّة؛ إذ كيف يستطيع أحدهم دعوى أنّ الولد من نطفته؟!

أمّا الحجّية الذاتية للقرعة بأن يرغم الأطراف على القرعة من قبل غير القاضي فلم نستطع إثباتها؛ لما عرفت من الإشكال في بعض الإطلاقات التي كان يمكن التمسّك بها سنداً أو دلالةً.


(1) ولا أقصد بالحجّية القضائية الحجّية في خصوص مورد المرافعة بالمعنى الذي يشترط فيه جزم المدّعي بما يدّعيه، بل أقصد بها ما يجري على يد القاضي.

775

وأمّا الحجّية القضائية للقرعة في مورد لا تعيّن له في الواقع فأيضاً لم نعرف لها دليلاً، فقوله في الرواية التاسعة: «كلّ مجهول ففيه القرعة» ظاهر في افتراض واقع مجهول. وكذلك الحال في قوله في الرواية الثامنة: «ليس من قوم تنازعوا ثم فوّضوا أمرهم إلى اللّه إلا خرج سهم المحقّ»، كما أنّ حديث: «القرعة سنّة» لا تكون له دلالة إطلاقيّة لغير ما لا تعيّن واقعي له، ولا يفيدنا إطلاق ما عن دعائم الإسلام، عن أمير المؤمنين وأبي جعفر وأبي عبداللّه (عليهم السلام): «أنّهم أوجبوا الحكم بالقرعة فيما أشكل»؛ لسقوطه سنداً لو تمّ إطلاقه.

نعم، هنا مورد واحد _ سيأتي في بحث الروايات الخاصّة _ دلّت بعض الروايات الخاصّة على القرعة فيه من دون افتراض واقع مجهول، وهو مورد تعيين من عليه الحلف في باب القضاء بالقرعة عند تعارض الشهود.

ثم إنّ هناك رواية قد تدل على عدم حجّية القرعة حتى قضائيّاً إلا على يد الإمام المعصوم، وهي ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن إسماعيل ابن مرار، عن يونس: «قال في رجل كان له عدّة مماليك، فقال: أيُّكم علَّمَنِ آيةً من كتاب اللّه فهو حرٌّ، فعلّمه واحد منهم، ثم مات المولى، ولم يُدْرَ أيُّهم الذي علّمه، أنّه قال: يُستخرج بالقرعة. قال: لا يُستخرجه إلا الإمام؛ لأنّ له على القرعة كلاماً ودعاءً لا يعلمه غيره»(1). فإن لم نقل بانصراف كلمة (الإمام) إلى الإمام المعصوم، فالقرينة على إرادة الإمام المعصوم في المقام هي افتراض دعاء لا يعلمه غيره.

أمّا لو قلنا بانصراف (الإمام) إلى الإمام المعصوم، فيعطف على هذا الحديث حديث آخر، وهو مرسلة حمّاد عمّن ذكره، عن أحدهما قال: القرعة لا تكون إلا


(1) وسائل الشيعة، ج16، ص38، الباب 34 من العتق، ح1.

776

للإمام(1).

وقد تؤيِّد ذلك أيضاً الروايةُ السابعة من الروايات الماضية حيث جاء فيها قوله: «يجلس الإمام، ويجلس معه ناس...»(2).

إلا أنّه يمكن التخلّص من تلك الرواية _ بغضّ النظر عمّا مضى من ضعْفها سنداً _ بأنّها ليست بصدد الحصر، وإنّما فرض فيها أنّ القاضي هو الإمام، فإذا كان العرف لا يحتمل الفرق _ ولذا يفهم من مثل قوله: «كلّ أمر مجهول ففيه القرعة» شمول الحكم بالنسبة لما إذا كان القاضي غير الإمام _ يتعدّى في هذا النص من فرض كون الإمام قاضياً إلى كلّ قاضٍ شرعي.

كما يمكن التخلّص من مرسلة حمّاد _ بغضّ النظر عن ضعفها بالإرسال _ بالتعدّي إلى الفقيه الجامع للشرائط بدليل ولاية الفقيه الذي أثبت ما للإمام للفقيه؛ بناءً على حمل الحصر في قوله: «لا تكون إلا للإمام» على الحصر في مقابل ثبوت حقّ الاقتراع لغير الإمام في ذاته. أمّا إعطاء هذا الحقّ من قبل الإمام لغيرة بنصبه مكانه كما هو الحال في مبدأ ولاية الفقيه فلا ينفيه هذا الحصر، إلا أنّ هذا التخلُّص لا يحلّ المشكل في كلّ قاضٍ شرعي؛ إذ القاضي قد لا يكون فقيهاً، وإنّما هو منصوب من قبل الفقيه بناءً على جواز ذلك (3).


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص189، الباب 13 من كيفيّة الحكم، ح9.

(2) نفس المصدر، ج17، ص579، الباب 4 من ميراث الخنثى، ح1.

(3) قد يقال: إن صحّ أنّ للإمام إيكال أمر القرعة إلى شخص آخر كإيكاله لسائر أمور القضاء إليه، ولذا استفدنا من مبدأ ولاية الفقيه صحّة اقتراع الفقيه؛ إذاً يصحّ للفقيه أيضاً إيكال أمر القرعة إلى غيره؛ لأنّ ما للإمام فهو للفقيه، فكما صحّ للإمام إيكال أمر القرعة إلى غيرة كذلك يصحّ ذلك للفقيه.

وقد يقال: إنّ التعدّي إلى الفقيه أيضاً غير جائز فضلاً عن غير الفقيه؛ إذ جواز الحكم بالقرعة وعدمه ←

777

أمّا رواية يونس فلا يمكن التخلّص عنها بمثل ذلك؛ إذ لو كان هناك دعاءٌ خاصّ بالإمام المعصوم لا يعرفه غيره وهو شرط في القرعة فالفقيه لا يحلّ محلّه؛ لعدم معرفته لذلك الدعاء.

نعم، هناك إشكالان حول رواية يونس:

1_ أنّه ليس فيها تصريح بالنقل عن الإمام.

ويمكن علاج ذلك بأنّ الظاهر من قوله: قال: «يستخرج بالقرعة» هو أنّ يونس يقول: قال: يستخرج بالقرعة. أي: إنّ يونس ينقل هذا الكلام عن شخص، فالرواية مضمرة، ويأتي فيها الحلّ الثابت للروايات المضمرة من دعوى الانصراف إلى المعصوم خصوصاً من مثل يونس.

إلا أنّ هذا العلاج لا يأتي في ذيل الحديث الذي هو محلّ الشاهد، وهو قوله: «قال: لا يستخرجه إلا الإمام...»؛ إذ لم يعلم كون ضمير (قال) راجعاً إلى غير يونس، فيحتمل كون هذا رأياً واستنباطاً ليونس ولا حجّية في ذلك.

2_ سقوط سند الحديث بإسماعيل بن مرار.

هذا تمام الكلام في مطلقات القرعة. وقد تحصَّل أنّها لا تدل على الحجّية الذاتيّة للقرعة، بمعنى أنّه ليس لأحد المتخاصمين إرغام صاحبه على القرعة عن غير طريق القضاء، وإنّما هي حجّة قضائيّة بمعنى أنّ القاضي هو الذي يرغم المتخاصمين على الالتزام بالقرعة.


حكم شرعي فقهي وليس مرتبطاً بباب صلاحيّات ولي الأمر كي يشمله إطلاق دليل ولاية الفقيه ولا أقلّ من احتمال ذلك، ودليل ولاية الفقيه لم يرد بعنوان: (كلّ ما للإمام فهو للفقيه) كي يفرض إطلاق لذلك في المقام.

778

روايات خاصّة في القرعة

وأمّا روايات القرعة الواردة في موارد خاصّة فهي على قسمين:

الأول _ ما لا علاقة له بباب المرافعة والقضاء، فلا معنى للحديث عن أنّها هل تدل على الحجّية القضائية فحسب أو على الحجّية الذاتية؟ من قبيل الرواية الواردة عن محمد بن عيسى _ بسند تام _ عن الرجل أنّه سئل عن رجل نظر إلى راعٍ نزا على شاة قال: «إن عرفها ذبحها وأحرقها، وإن لم يعرفها قسّمها نصفين أبداً حتى يقع السهم بها، فتذبح وتحرق، ونجت سائرها»(1).

والاعتماد على هذا الحديث مبني على استظهار كون المراد بـ «الرجل» هو الإمام (عليه السلام).

وعلى أيّ حال فهذا الحديث _ كما قلنا _ أجنبي عن المقام، وهو حديث خاصّ بمورده لا مبرِّر للتعدّي عنه إلى مورد آخر، فإنّ الارتكاز المتشرّعي قائم على عدم مرجعيّة القرعة بشكل عام في غير باب النزاع.

والثاني _ الروايات الواردة في باب المرافعة، لكنّها جميعاً ناظرة إلى الحجّية القضائية، ولا علاقة لها بموقف يتّخذه نفس المترافعين مستقلّاً عن القاضي، وذلك من قبيل الروايات الواردة في تعيين من عليه اليمين عند تعارض الشهود، وقد مضى ذكرها فيما سبق في بحث تعارض البيّنتين، ونذكر هنا كنموذج رواية الحلبي التامّة سنداً قال: «سئل أبو عبداللّه (عليه السلام) عن رجلين شهدا على أمر، وجاء آخران فشهدا على غير ذلك، فاختلفوا. قال: يقرع بينهما فأيّهما قرع فعليه اليمين، وهو أولى بالحقّ»(2).


(1) وسائل الشيعة، ج16، ص358، الباب 3 من الأطعمة المحرمة، ح1.

(2) نفس المصدر، ج18، ص185، الباب 12 من كيفيّة الحكم، ح11.

779

ورواية داود بن يزيد العطّار، عن بعض رجاله، عن أبي عبداللّه (عليه السلام): «في رجل كانت له امرأة، فجاء رجل بشهود أنّ هذه المرأة امرأة فلان وجاء آخران فشهدا أنّها امرأة فلان، فاعتدل الشهود وعدّلوا، فقال: يقرع بينهما فمن خرج سهمه، فهو المُحِقّ، وهو أولى بها»(1).

وهذا الحديث وإن لم يصرّح فيه بأنّ القرعة لتعيين من عليه اليمين لا لفصل الخصومة بها مباشرةً، لكنّه محمول جمعاً على مفاد باقي روايات القرعة عند تعارض الشهود من أنّها لتشخيص من عليه اليمين لا لفصل الخصومة بها ابتداءً. وعلى أيّة حال فالحديث ضعيف بالإرسال.

ومن قبيل الروايات الواردة في فصل الخصومة بالقرعة وهي غالباً واردة في غير باب الأموال كالحديث الوارد عن الحلبي _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام)، قال: «إذا وقع الحرّ والعبد والمشرك على امرأة في طهر واحد، وادّعوا الولد أُقرع بينهم، وكان الولد للذي يقرع»(2).

وما رواه الصدوق بسنده عن الحكم بن مسكين، عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا وطأ رجلان أو ثلاثة جاريةً في طهر واحد فولدت فادّعوا جميعاً أقرع الوالي بينهم فمن قرع كان الولد ولده ويردّ قيمة الولد على صاحب الجارية. قال: فإن اشترى رجل جاريةً، فجاء رجل فاستحقّها، وقد ولدت من


(1) نفس المصدر، ج14، ص184، الباب 12 من نكاح العبيد والإماء، ح8.

(2) نفس المصدر، ج18، ص187، الباب 13 من كيفيّة الحكم، ح1. ورواه عن الحلبي ومحمد بن مسلم في ج14، ص567، الباب 57 من نكاح العبيد والإماء، ح3.

780

المشتري، ردَّ الجارية عليه، وكان له ولدها بقيمته»(1). والحكم بن مسكين ثقة لرواية بعض الثلاثة عنه، غير أنّ سند الصدوق إلى الحكم بن مسكين غير معلوم لدينا، ولكن الشيخ الطوسي (رحمه الله) روى نفس الحديث بسند تام.

وأيضاً ورد حديث _ بسند تام _ عن سليمان بن خالد، عن أبي عبداللّه (عليه السلام)، قال: «قضى علي (عليه السلام) في ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد، وذلك في الجاهليّة قبل أن يظهر الإسلام فأقرع بينهم، فجعل الولد للذي قرع...»(2).

وورد أيضاً _ بسند تام _ عن الحلبي عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا وقع المسلم واليهودي والنصراني على المرأة في طهر واحد أُقرع بينهم...»(3).

وهناك حديث واحد في باب القضاء دلّ على القرعة في باب الأموال، وهو حديث سماعة التامّ سنداً عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إنّ رجلين اختصما إلى علي (عليه السلام) في دابّة فزعم كلّ واحد منهما أنّها نتجت على مذوده، وأقام كلّ واحد منهما بيّنةً سواءً في العدد فأقرع بينهما سهمين، فعلّم السهمين كلّ واحد منهما بعلامة، ثم قال: أللّهم ربَّ السماوات السبع، وربّ الأرضين السبع، وربّ العرش العظيم، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم أيّهما كان صاحب الدابّة وهو أولى بها فأسألُكَ أن يقرع، ويخرج سهمُه، فخرج سهم أحدهما، فقضى له بها»(4). وهذا الحديث محمول على فرض نكولهما عن اليمين؛ لما دلّ _ في باب النزاع في الأموال مع تساوي البيّنتين _ على


(1) وسائل الشيعة، ج16، ص190، الباب13 من كيفيّة الحكم، ح14. وج14، ص566، الباب57 من نكاح العبيد والإماء، ح1.

(2) نفس المصدر، ج14، ص 566، الباب 57 من نكاح العبيد والإماء، ح2.

(3) نفس المصدر، ج17، ص571، الباب 10 من ميراث ولد الملاعنة.

(4) نفس المصدر، ج18، ص185، الباب 12 من كيفيّة الحكم، ح12.

781

أنّ الوظيفة هي التحالف، فلو حلفا قُسِّم المال بينهما، ولو حلف أحدهما كان المال له، ولو كان أحدُهما ذا اليد دون الآخر وُجّه اليمين إلى ذي اليد. إذاً فلم يبق بعد إخراج هذه الفروض مورد لهذا الحديث إلا فرض نكول المتداعيين.

وبعض أحاديث الباب مردّد بين إلحاقه بما ورد في فصل النزاع، أو عدّه ممّا ورد في غير مورد فصل النزاع، كما ورد عن حمّاد، عن المختار، قال: «دخل أبوحنيفة على أبي عبداللّه (عليه السلام) فقال له أبوعبداللّه (عليه السلام): ما تقول في بيت سقط على قوم فبقي منهم صبيّان ‏أحدهما حرٌّ والآخر مملوك لصاحبه، فلم يعرف الحرّ من العبد؟ فقال أبوحنيفة: يعتق نصف هذا ونصف هذا، فقال أبو عبداللّه (عليه السلام): ليس كذلك، ولكنّه يقرع بينهما، فمن أصابته القرعة فهو الحرّ، ويعتق هذا، فيجعل مولىً لهذا»(1). وسند الحديث ضعيف بالمختار؛ إذ لم تثبت وثاقته.

وعن حريز عمّن أخبره، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) باليمين في قوم انهدمت عليهم دارهم وبقي صبيّان أحدهما حرّ والآخر مملوك فَأسْهَمَ أمير المؤمنين (عليه السلام) بينهما، فخرج السهم على أحدهما، فجعل له المال، وأعتق الآخر»(2).

فإمّا أن يقال: إنّه لم يكن في مورد الحديثين نزاع؛ إذاً فالحديثان واردان في غير باب النزاع، وقد مضى أنّ الارتكاز المتشرّعي يدل على عدم مرجعيّة القرعة بشكل عام في غير باب النزاع، فلا يمكن التعدّي من المورد، أو يقال _ وهو الصحيح _: إنّ هذا الارتكاز غير وارد في مثل مورد الحديثين ممّا هو من شأنه وقوع النزاع، وإنّما لم يقع النزاع لأنّ


(1) نفس المصدر، ص188، الباب 13 من كيفيّة الحكم، ح7.

(2) نفس المصدر، ص189، ح8.

782

طرفي القضيّة طفلان؛ إذاً فهذا ملحق بالقسم الثاني، أعني ما ورد في مورد النزاع. وعلى أيّ حال فالصحيح _ بغضّ النظر عمّا عرفت من ضعف السند _ هو عدم إمكان التعدّي عن مورد الحديثين حتى لو أنكرنا ذاك الارتكاز؛ وذلك لعدم ثبوت نفي خصوصيّة المورد من قبل العرف.

هذا، وهناك حديث تام السند من القسم الثاني _ أي: وارد في مورد خاصّ في باب النزاع _ قد يمكن التعدّي عرفاً _ بإلغاء خصوصيّة المورد _ منه إلى سائر موارد النزاع ممّا لا يمكن فيه فصل النزاع بسائر مقاييس القضاء، فيصبح مؤيِّداً لما استفدناه من الروايات العامّة وهو حديث أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في قصّة أمير المؤمنين (عليه السلام) مع شابّ قُتل أبوه ظلماً حيث عيَّن (عليه السلام) مالَ أبيه المقتول بالقرعة، والحديث مذكور بكامله في الكافي في باب النوادر من كتاب الديات(1)، ومذكور مرسلاً في الفقيه في باب الحيل في الأحكام(2)، ومذكور ببعض قطعاته _ ومنها القطعة التي تدل على مقصودنا _ في الوسائل في الباب العشرين من كيفيّة الحكم(3).

هذا تمام الكلام في روايات القرعة، وهي العمدة في الدليل على القرعة.

أمّا الاستدلال عليها بقوله تعالى:﴿وَمٰا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاٰمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾(4)، وقوله تعالى:﴿فَسٰاهَمَ فَكٰانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾(5) بدعوى أنّ الآيتين دلّتا على مشروعيّة القرعة في سالف الزمان، فتثبت مشروعيّتها في هذا


(1) الكافي، ج7، ص371، ح8.

(2) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص15، ح11.

(3) وسائل الشيعة، ج18، ص204، الباب 20 من كيفية الحكم، ح1.

(4) آل عمران: 44.

(5) الصافات: 141.

783

الزمان، إمّا بالاستصحاب أو بأنّ ذكرها في القرآن من دون تعليق عليها دليل الإمضاء، فهذا الاستدلال لا يفيدنا شيئاً؛ لأنّ الآيتين لم تدلّا على كبرى كلّية نتمسّك بها في مورد الشك، وإنّما دلّتا على ثبوت القرعة وقتئذٍ في الجملة، والقدر المتيقّن من ذلك فرض التراضي والتباني عليها في الأمور المباحة.

كما أنّ الاستدلال عليها بالسيرة العقلائية بدعوى قيام السيرة على القرعة في زمن المعصوم من دون ردع لا يفيدنا أيضاً، فإنّ السيرة دليل لبّي، والمتيقَّن منها فرض التراضي والتباني عليها في دائرة المباحات.

وأيضاً الاستدلال عليها بالإجماع لا يُفيد؛ إذ لا أقلّ من احتمال المدركيّة.

785

الفصل الرابع

 

 

الحكم على الغائب

 

 

  1- نفوذ الحكم على الغائب

  2- أقسام الحكم على الغائب

  3- أقسام الغائب

 

 

787

الحكم على الغائب

نفوذ الحكم على الغائب

الحكم على الغائب بالبيّنة نافذ بدليل إطلاق حجّية البيّنة، مضافاً إلى ما ورد من النص الخاص الدال على ذلك، وهو ما ورد _ بسند تام _ عن جميل بن درّاج عن جماعة من أصحابنا عنهما (عليهماالسلام) قالا: «الغائب يقضى عليه إذا قامت عليه البيّنة، ويباع ماله، ويقضى عنه دينه وهو غائب، ويكون الغائب على حجّته إذا قدم. قال: ولا يدفع المال إلى الذي أقام البيّنة إلا بكفلاء»(1).

ويمكن علاج ما فيه من الإرسال بدعوى أنّ مثل جميل بن دراج الذي هو من أجلّة الرواة لو نقل عن جماعة نستبعد بحساب الاحتمال كون أُولئك الجماعة كلّهم كاذبين.

فبناءً على هذا النص ينفذ الحكم على الغائب بالبيّنة، ولكنّه إذا رجع كان على حجّته، فلو أبطل البيّنة ببيّنة معارضة _ مثلاً _ بطل الحكم، فحتى لو فرضنا أنّ دليل نفوذ حكم الحاكم وعدم جواز نقضه الذي سنبحث عنه _ إن شاء اللّه _ يشمل مثل هذا المورد فهذا النص يقيّد ذاك الدليل، ويثبت أنّ الغائب على حجّته، فإن كان


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص216، الباب 26 من كيفيّة الحكم، ح1.

788

يمتلك حجّة تُغيّر مقاييس القضاء انتقض الحكم.

وهذا النص قد يقال إنّه يختصّ بباب الدَين بقرينة قوله: «ويباع ماله، ويقضى عنه دينه» وقد يقال: إنّ هذه جملة مستقلّة وحكم مستقل غير الحكم الأول، وهو: «يقضى عليه إذا قامت عليه البيّنة»، أو يقال _ بعد استظهار ارتباط الجملتين إحداهما بالأُخرى، أو احتماله _: إنّ هذا الارتباط لا يعني تقييد الجملة الأُولى بباب الدَين، وإنّما الجملة الثانية راجعة إلى بعض موارد الجملة الأُولى، وهو مورد الدين مع بقاء الجملة الأُولى على إطلاقها.

ولو قلنا بالإجمال بدعوى أنّه لا أقلّ من احتمال صلاحيّة الجملة الثانية للقرينيّة على إرادة خصوص باب الدين أمكن أن يقال: إنّ العرف يُلغي خصوصيَّة مورد الدَين لاستظهار أنّ الرواية ناظرة إلى نكتة مرتكزة عند العقلاء أو المتشرّعة، وهي حجّية البيّنة، ولا فرق في ذلك بين باب الدَين وغيره.

ولو لم نقبل بهذا التقريب أيضاً كفانا أنّ الحكم على مقتضى القاعدة وذلك لحجّية البيّنة على الإطلاق، فيثبت الحكم في غير باب الدين بمقتضى القواعد.

أما ما ورد في ذيل الحديث من شرط أخذ الكفيل من المدّعي لاحتمال نقض الغائب للحكم بإقامة الحجّة إذا حضر، فهو مقيّد في بعض نُقلِه بقوله: «إذا لم يكن مليّاً» وهذا النقل ضعيف سنداً بجعفر بن محمد بن حكيم الذي لا دليل على توثيقه عدا وروده في أسانيد كامل الزيارات.

ولعلّنا لسنا بحاجة في إثبات هذا القيد إلى هذا الحديث الضعيف سنداً، وذلك بدعوى أنّ المفهوم وفق المناسبات من الحديث الأول ليس هو أخذ الكفيل مطلقاً حتى فيما إذا كان مليّاً؛ لأنّ أَخْذ الكفيل إنّما هو لضمان القدرة على الأداء على تقدير ما لو أثبت الغائب بعد رجوعه أنّ الحقّ كان معه، وإذا لم يكن مليّاً فقد يعجز عن الأداء.