661

إسقاطه لدعواه، وبناءً على استظهار عدم إرادة خصوص فرض القضاء هو إسقاطه لحقّه المالي، والثاني _ أيضاً _ محتمل لو قصد خصوص فرض القضاء. وعلى أيّ حال فهذا الوجه إنّما يتمّ لو فرضنا أنّ الأمر دائر بين أن يكون التحليف بيد الحاكم أو بطلب من المدّعي، فيقال: إنّ أصل كون التحليف من الحاكم لا إشكال فيه، فلو أُلغي قيد طلب المدّعي لزمت لغويّة القيد المأخوذ في المنطوق. ولكن سيأتي _ إن شاء اللّه _ أنّه يمكن المصير إلى رأي آخر، وهو أنّ تحليف الحاكم يجب أن يكون على أساس طلب أحد المتنازعين _ إمّا المدّعي وإمّا المنكر _ والمذكور في هذا الحديث هو طلب المدّعي، ونفي طلب المنكر لا يكون إلا بالمفهوم.

الإشكال الثاني _ أنّ غاية ما دلّت عليه هذه الروايات أو بعضها هي أنّ سقوط حقّ المدّعي بالحلف إنّما يكون إذا كان الحلف بطلب من المدّعي، ولكن كلامنا الآن ليس في ذلك، وإنما كلامنا في أنّ حكم الحاكم هل يتوقف على كون حلف المنكر بطلب من المدّعي، أو ينفذ حكمه عندما يطالبه هو من تلقاء نفسه بالحلف من دون طلب المدّعي؟ وهذا مطلب آخر لا علاقه لهذه الروايات به. أمّا حمل هذه الروايات على معنى سقوط حقّ المدّعي بعد حكم الحاكم المترتب على تحليف المدّعي، فهذا أخْذٌ لقيد زائد وهو صدور الحكم بلا مبرّر، وإنّما المنظور لهذه الروايات هو سقوط حقّه بمجرد تحليفه إيّاه، أي: لا يحقّ له بعد ذلك أن يقيم البيّنة كي يجعل الحاكم يحكم وفق البيّنة؛ لأنّ اليمين ذهبت بحقّه.

ويمكن الجواب على هذا الإشكال بأنّ المفهوم عرفاً من هذه الروايات أنّها تشير إلى الحلف الذي يصحّ للحاكم الاعتماد عليه في الحكم، فإذا دلّت هذه الروايات على أنّ الحلف الذي يُسقط حقّ المدّعي هو الحلف الذي يكون بطلب من المدّعي؛ إذاً فقد دلّت على أنّ ما يصحّ للحاكم الاعتماد عليه من الحلف إنّما هو الحلف الذي

662

يكون بطلب من المدّعي.

القسم الثاني _ ما ورد في الوظيفة بعد عدم امتلاك المدّعي للبيّنة، وجعل الوظيفة هي استحلاف المدّعي، وهو ما عن محمد بن مسلم _ بسند تام _ عن أحدهما (عليهماالسلام) في الرجل يدّعي ولا بيّنة له، قال: «يستحلفه، فإن ردّ اليمين على صاحب الحقّ فلم يحلف فلا حقّ له»(1). فيقال: إنّ هذا الحديث شخّص الوظيفة في استحلاف المدّعي، وهذا يعني أنّ استحلاف الحاكم من تلقاء نفسه لا أثر له، وبه يقيّد ما قد يستفاد منه الإطلاق من قبيل:

1_ ما عن عبيد بن زرارة عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في الرجل يُدَّعى عليه الحقّ ولا بيّنة للمدّعي قال: «يُستحلف، أو يردّ اليمين على صاحب الحقّ، فإن لم يفعل فلا حقّ له»(2).

2_ ما عن يونس عمّن رواه قال: «استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين عدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، فإن لم تكن امرأتان فرجل ويمين المدّعي، فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدّعى عليه...»(3).

3_ ما عن أبان عن رجل عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في الرجل يُدّعى عليه الحقّ وليس لصاحب الحقّ بيّنة، قال: يُستحلف المدّعى عليه...»(4).

فقد يدّعى أنّ هذه الروايات تدل بسكوتها عن قيد طلب المدّعي ليمين المنكر على عدم اشتراط هذا القيد، فلو تمّت هذه الدعوى قيّدت هذه الإطلاقات بالحديث


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص176، الباب 7 من كيفيّة الحكم، ح1.

(2) نفس المصدر، ح2.

(3) نفس المصدر، ح4.

(4) نفس المصدر، ص177، الباب 7 من كيفيّة الحكم، ح5.

663

الأول على أنّ تماميّة هذه الإطلاقات محلّ نظر؛ لإمكان القول بأنّ هذه الروايات إنّما بيّنت ما يأتي بعد عجز المدّعي عن البيّنة، وهو يمين المنكر، أمّا أنّ هذا اليمين هل يوجّه إليه من قبل الحاكم ابتداءً، أو بطلب المدعي، فهذا مطلب آخر لا علاقة له بهذه الروايات، فهذه الروايات وِزانها وِزان أصل الروايات التي تبيِّن أنّ مقياس القضاء هو البيّنة واليمين، أو هو بيّنة المدّعي ويمين المنكر، لا علاقة لها بنفي شرط طلب المدّعي أو إثباته، على أنّ هذه الروايات كلّها ضعيفة سنداً. وأيضاً لو تمّت دلالة ما ورد في أمر نبي من الأنبياء بالتحليف فإنّما ذلك بالإطلاق، ويقيّد برواية محمد بن مسلم، ويكون المفاد بعد التقييد أنّ القاضي يحلّف بعد طلب المدعي.

إلا أنّ الصحيح: أنّ دلالة رواية محمد بن مسلم _ على شرط كون طلب الحلف من المدّعي _ أيضاً قابلة للنقاش، فإنّ السؤال فيه عن الرجل يدّعي ولا بيّنة ‏له قال: «يستحلفه»، فلا يبعد أن يكون هذا بصدد تعليم المدّعي كيفيّة تصدّيه لعلاج مشكلته، وهو أن يطلب حلف المنكر، أمّا لو لم يتصدَّ هو للعلاج فهل يجوز للحاكم أن يستقلّ بالعلاج، أو لا، فهذا مطلب آخر.

وتحقيق الحال في المقام أن يقال: إنّه تارةً يفترض أنّ الحقّ المتنازع عليه يكون تحت سلطة المنكر، وأُخرى يفترض أنّه تحت سلطة المدّعي.

فإن كان تحت سلطة المنكر لا يحلّف المنكر إلا بطلب المدّعي، فلو رضي المدّعي بإيقاف النزاع _ ولو موقّتاً _ وعدم مطالبته بحقّه، فلا دليل على نفوذ تحليف الحاكم للمنكر، ودليل كون وظيفةِ الحاكم حسم النزاع لا إطلاق له لفرض استعداد المدّعي لإيقاف النزاع ولو موقّتاً.

وإن كان تحت سلطة المدّعي _ كما لو كانت العين بيده معترفاً بأنّه أخذها من صاحبه قهراً عليه؛ لعلمه بأنّها له _ فهنا لا يحلّف المنكر إلا بطلب المنكر؛ بمعنى أنّه لو

664

رضي المنكر برفع اليد عن المطالبة بحقّه ولو موقّتاً، فلا دليل على نفوذ تحليف الحاكم إيّاه ولو بطلب من المدعي؛ لأنّ دليل كون وظيفة الحاكم حسم النزاع لا إطلاق له لفرض استعداد صاحب النزاع لرفع اليد عن النزاع ولو موقّتاً، وهنا صاحب النزاع هو المنكر؛ أي: إنّه المحروم عن الحقّ المتنازع فيه، ولو طلب المنكر الحلف حلّفه الحاكم ولو رغماً على المدّعي؛ لأنّ وظيفة الحاكم فصل النزاع.

فالمقياس في باب التحليف هو طلب من كان محروماً عن الحقّ المتنازع فيه سواء كان مدّعياً أو منكراً، ويكفي في ثبوت الطلب دلالة شاهد الحال على ذلك بلا حاجة إلى التصريح.

ولو أراد من بيده الحقّ المتنازع فيه تأجيل النزاع وعدم وقوع التحليف، فعليه أن يسلّم الحقّ بيد الآخر كي ينتقل حقّ طلب الحلف إليه.

فمثلاً لو كان المدّعي هو المسيطر على الحقّ المتنازع فيه، ولكنّه يطلب تأجيل الحلف؛ لأنّه يمتلك بيّنةً ستأتي بعد فترة ملحوظة من الزمن، فعليه أن يسلّم الحقّ إلى المنكر، ثم ينتظر البيّنة، وإلا فوظيفة الحاكم هي إنهاء النزاع بتحليف المنكر.

وما قلنا من أنّ من ليس بيده الحقّ المتنازع فيه يجوز له تأجيل الحلف نقصد بذلك تأجيله بتأجيل المطالبة بالحقّ، لا أن يؤجّل الحلف، ثم يؤذي صاحبه باستمرار المطالبة، وإلا خيّره الحاكم بين عدم تأجيل الحلف وترك المطالبة.

ولعلّ المُجمعين على اشتراط الحلف بطلب المدّعي كانوا ينظرون إلى ما هو الغالب من أنّ المسيطر على الحقّ المتنازع فيه هو المنكر، ولو فرض الإطلاق فيما قصدوه فالإجماع مدركي لا أثر له، ولم يثبت في المقام إجماع تعبّدي.

يبقى الكلام هنا في فرعين:

665

سقوط حق المدّعي بيمين المنكر

الفرع الأول _ متى يُسقط الحلفُ حقَّ المدّعي في الدعوى وإقامة البيّنة والتقاصّ؟ فيه ثلاثة احتمالات:

الاحتمال الأول _ أنّ سقوط حقّ المدّعي إنّما يكون بحكم الحاكم لصالح المنكر بعد يمينه، أمّا مجّرد اليمين من المنكر _ ولو بطلب الحاكم وبمطالبة المدّعي _ فلا يسقط حقّه في الدعوى، وإلا فأيّ حاجة إلى القضاء والحكم بعد ذلك؟! ولماذا يقول الرسول (صلى الله عليه و آله): «إنّما أقضي بينكم بالبينات والأيمان»؟!

والجواب: أنّ الحاجة إلى القضاء واضحة؛ إذ المدّعي قد لا يعترف _ اجتهاداً، أو تقليداً، أو عناداً، أو جهلاً _ بسقوط حقّه، فالحاكم هو الذي يحكم بسقوط الحقّ وإنهاء المرافعة.

الاحتمال الثاني _ أنّ سقوط حقّ المدّعي يكون قبل حكم الحاكم تمسكاً بإطلاق الروايات، فبعد يمين المنكر لا يحقّ للمدّعي أن يقيم البيّنة _ مثلاً _ على مدّعاه قبل تماميّة الحكم، ولكن سقوط حقّ المدّعي مشروط بكون اليمين بلحاظ قانون المحكمة، وذلك لانصراف الأخبار الواردة في مثل اليمين والبيّنة إلى باب القضاء، فلو أنّ المدّعي حلّف المنكر بتوافق فيما بينهما على التحليف لا عن طريق القضاء، فلا قيمة لهذا التحليف.

الاحتمال الثالث _ أنّ تحليف المدّعي للمنكر _ ولو بتوافق بينهما لا عن طريق القضاء _ يسقط حقّه فضلاً عمّا إذا كان في المحكمة وبطريق القضاء، وذلك لأننّا لو لم نؤمن بإطلاق روايات الباب، وقلنا بانصرافها إلى مسألة القضاء، فهناك رواية واحدة تدل على سقوط حقّ المدّعي بالتحليف ولو عن غير طريق القضاء، وهي ما تقدّم من

666

رواية عبداللّه بن وضّاح(1) الواردة في الحلف عند الوالي، ويقصد به والي الجور، ونحن نعلم أنّ المرافعة إلى والي الجور ليست إلا أمراً صورياً بهدف استنقاذ الحقّ عند العجز عن المرافعة لدى حاكم الشرع، أمّا حكم الوالي فلا قيمة له شرعاً؛ إذاً فحلف المنكر كأنّما لم يكن بطريق القضاء؛ لأنّ القضاء لم يكن شرعيّاً، فكأنّه تحليف من قبل المدّعي مباشرةً للمنكر، ومع ذلك حكم الإمام (عليه السلام) بسقوط حقّ المدّعي، فهذا يعني أنّ مجرّد تحليف المدّعي للمنكر يسقط حقّه ولو لم يكن عن طريق القضاء.

نعم مجرّد تبرّع المنكر بالحلف من تلقاء نفسه لا قيمة له. ولكن قد مضى فيما سبق ضعف سند الرواية.

وقد يقال: إنّ تحليف المدّعي للمنكر _ ولو عن غير طريق القضاء _ يسقط حقّ المدّعي بمقتضى القاعدة بلا حاجة إلى نص خاص؛ لأنّ معنى تحليفه تعهّده بالاكتفاء بالحلف عن إدامة المرافعة والنزاع، ويجب الوفاء بالعهد.

وفيه: أنّه لو رجع هذا إلى التعهّد فهذا تعهّدٌ في طول ظلم الظالم إيّاه حسب ما يعتقد، ودفعٌ لظلمه، وهذا النحو من التعهّد لا قيمه له لا عقلائيّاً ولا شرعاً.

وقد تحصّل بهذا العرض أنّ أقوى الوجوه هو الاحتمال الثاني.

والتحليف _ حتى لو اشترطنا فيه أن يكون بمطالبة المدّعي _ يجب أن يكون من قبل الحاكم، فلو حلّفه المدعي أمام الحاكم فلا قيمة لهذا الحلف، فإنّ الثابت بالنصّ إنّما هو تحليف الحاكم، كما ورد في حديث سليمان بن خالد: «وأضفهم إلى اسمي، وحلّفهم به»، أمّا التحليف عن طريق المدّعي مباشرةً أمام الحاكم فلا دليل على نفوذه.

والتحليف من قبل الحاكم في مورد لم نشترط في مشروعيّته طلب المدّعي أو رضاه


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص180، الباب 10 من كيفيّة الحكم، ح2.

667

يكفي في سقوط حقّ المدّعي وإن لم يكن بطلب المدّعي أو رضاه، وذلك لأنّ روايات إسقاط الحلف لحقّ المدّعي وإن كانت كلّها بلسان استحلاف المدّعى ولكن بعد ما عرفت من أنهّا ليست بنكتة التعهّد من قبل المدّعي عقلائياً يكون المفهوم منها عرفاً الإشارة إلى الحلف المشروع في باب القضاء الذي يكفي لحكم الحاكم، فلو كان ذلك أوسع من الحلف الذي يكون بطلب من المدّعي فسقوط حقّ المدّعي أيضاً يتّسع لتمام موارد مشروعيّة حلف المنكر.

حكم اليمين إذا أعقبه الإقرار

الفرع الثاني _ هل يُسقِط تحليفُ المنكر حقَّ المدّعي حتى بعد إقرار المنكر؟

فلو تاب المنكر بعد أن حلف، وأقرّ بالحقّ للمدّعي وقدّم المال إليه _ مثلاً _ لم يجز للمدّعي أن يأخذ حقّه؛ لأنّه قد سقط حقّه بيمين المنكر، أو لا؟

الظاهر: أنّ الإقرار يُعطي للمدّعي حقَّ أَخْذِ مالِهِ ولو كان قد حلف المنكر، وحكم الحاكم لصالحه بسبب الحلف، فحلفه لا يمنع المدّعي عن أخذ حقّه بعد الإقرار، وليس الإقرار كالبيّنة التي لو أتت بعد الحلف لم تكن لها قيمة للمدّعي، والوجه في ذلك أمور:

الأول _ أنّ روايات سقوط حقّ المدّعي بيمين المنكر تنصرف _ بمناسبات الحكم والموضوع _ إلى سقوط حقّه بوصفه مخاصماً في قاموس القضاء، وفي مقابل خصمه الآخر، أمّا إذا سلّم المنكر بالحقّ فقد انتهى التخاصم والتكاذب في قاموس القضاء، ويكون المرجع عندئذٍ مقتضى دليل سلطنة الناس على أموالهم مثلاً، فمن حقّه أخذ ماله.

الثاني _ أنّه لو لم يجز للمدّعي أخذ ماله مثلاً، فلا يخلو الأمر من أحد فرضين:

1_ أن يفترض أنّ الملكيّة الواقعيّة انتقلت إلى المنكر، وهذا يعني أن الظالم انتقل

668

المال إليه واقعاً بسبب إصراره على ظلمه إلى حدّ الحلف، وهذا غير محتمل ارتكازاً، فيكون فهم هذا المعنى من دليل سقوط حقّ المدّعي خلاف الظاهر، بل قد ورد النص على خلافه، وهو ما عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) من قوله: «فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً، فإنّما قطعت له به قطعة من النار»(1).

2_ أن يفترض أنّ المنكر وظيفته تقديم المال إلى المالك خروجاً من الغصب لأنّه ما زال في ملكه، والمالك وظيفته رفض المال، فهذا يسلّم مال المالك إليه، وذاك لا يستلم، وهذا أيضاً خلاف المرتكز، فيكون حمل دليل سقوط حقّ المدّعي على ذلك خلاف الظاهر، فيتعيّن ما قلناه من أنّ له أخذ حقّه.

الثالث _ النص الدالّ على جواز أخذ المدّعي حقّه بعد اعتراف المنكر له رغم يمينه، وهو ما عن مسمع أبي سيّار _ بسند تام _ قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): إنّي كنت استودعت رجلاً مالاً، فجحدنيه وحلف لي عليه، ثم إنّه جائني بعد ذلك بسنتين بالمال الذي أودعته إيّاه، فقال: هذا مالك فخذه، وهذه أربعة آلاف درهم ربحتها، فهي لك مع مالك واجعلني في حلّ، فأخذت منه المال وأبيت أن آخذ الربح منه، ورفعت المال الذي كنت استودعته وأبيت أخذه حتى أستطلع رأيك، فما ترى؟ فقال: خذ نصف الربح وأعطه النصف وحلّله، فإنّ هذا رجل تائب، واللّه يُحبّ التوّابين»(2) بناءً على حمل الحديث على الحلف لدى القضاء.

وقد يناقش في دلالة الحديث بعد تسليم حمله على فرض المرافعة عند الحاكم أنّ القضيّة الخارجية المذكورة في هذا الحديث تنصرف إلى ما كان متعارفاً وقتئذٍ من


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص169، الباب 2 من كيفيّة الحكم، ح1.

(2) نفس المصدر، ج16، ص179، الباب 48 من الأيمان، ح3.

669

المرافعة لدى والي الجور، وقضاء الجائر ليس شرعيّاً، فلعلّ هذا هو السرّ في جواز أخذ ماله لا الإقرار.

وذكر في الجواهر(1): أنّ دليل نفوذ الإقرار يعارض دليل سقوط حقّ المدّعي بيمين المنكر بالعموم من وجه في مورد الإقرار بعد اليمين، ويرجّح عليه بالإجماع على جواز أخذ الحقّ للمدّعي بعد إقرار المنكر، وبحديث مسمع أبي سيّار.

أقول: لو تمّ حديث مسمع أبي سيّار أو الإجماع دليلاً على جواز أخذ الحقّ عند الإقرار رغم اليمين، فهو دليل مستقلّ، وليس مرجّحاً لدليل حجّية الإقرار، وإلا فلا قيمة له ولا يرجّح أيضاً دليل حجّية الإقرار، على أنّ إطلاقاً لفظيّاً تام السند في باب الإقرار نرجع إليه في مثل المقام غير موجود، ولو سلّمنا وجوده وتعارض بالعموم من وجه مع دليل سقوط حقّ المدّعي بيمين المنكر، فهذا الدليل يقدّم على دليل الإقرار بالحكومة؛ لأنّه ناظر إلى كلّ ما يفرض _ بغضّ النظر عن اليمين _ من حقّ للمدّعي بما فيه حق نفوذ إقرار المنكر.

والعمدة في إثبات جواز أخذ المدّعي لحقّه بعد إقرار المنكر رغم اليمين ما عرفته من الوجهين الأوّلين من الوجوه الثلاثة التي ذكرناها.

هذا إذا أقرّ المنكر، واستعدّ لتقديم المال إلى المدّعي، أمّا لو أقرّ المنكر من دون استعداده لتقديم العين التي أقرّ بها، كما لو كان إقراره بعنوان التحدّي؛ كأن يقول له: إنّ المال مالك، ولكنّي استطعت أن أغصبه منك وأتغلّب عليك في المحكمة باليمين، فهل يجوز للمدّعي أن يأخذ منه المال قهراً، أو لا؟

الظاهر التفصيل بين ما إذا وقع ذلك في غياب القاضي، وما إذا وقع بمسمع من القاضي


(1) ج40، ص174.

670

صدفةً، ففي الأول لا يجوز للمدّعي أخذ ماله قهراً على المنكر، إذ لا يأتي فيه شيء من الوجوه الثلاثة التي ذكرناها، أمّا حديث أبي سيّار فواضح؛ إذ مورده فرض التوبة، وأمّا الثاني فلأنّه لم ينته الأمر إلى أن هذا يسلّم المال والآخر يجب عليه الرفض الذي قلنا: إنّه خلاف الارتكاز، وأمّا الأول فلأنّ التخاصم والتكاذب في قاموس القضاء لم ينته.

وفي الثاني وهو ما إذا وقع الإقرار بمسمع من القاضي صدفةً، فالتخاصم والتكاذب في قاموس القضاء قد انتهى بذلك؛ لأنّ القاضي بنفسه سمع نفي التكذيب من المنكر، فينتقض حكمه، ويُلزِمُه بردّ المال عملاً بقاعدة نفوذ الإقرار، ويتمّ في المقام الوجه الأول من الوجوه الثلاثة دون الوجهين الآخرين.

هذا تمام الكلام في يمين المنكر الذي به يحكم الحاكم لصالحه.

أما لو رفض المنكر اليمين، فإمّا أن يردّها على المدّعي، أو ينكل عن اليمين من دون ردّها عليه:

ردّ اليمين على المدّعي

أمّا لو ردّ اليمين على المدّعي فلا إشكال في أنّ المدّعي يحلف ويأخذ الحقّ، أو ينكل فيكون الحقّ للمنكر. وتدلّ على ذلك الروايات من قبيل:

1_ ما عن محمد بن مسلم _ بسند تام _ عن أحدهما (عليهماالسلام) في الرجل يدّعي ولا بيّنة له قال: «يستحلفه، فإن ردّ اليمين على صاحب الحقّ فلم يحلف فلا حقّ له»(1).

2_ وما عن جميل _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا أقام المدّعي البيّنة فليس عليه يمين، وإن لم يقم البيّنة فردّ عليه الذي ادّعى عليه اليمين فأبى فلا حقّ له»(2).


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص176، الباب 7 من كيفيّة الحكم، ح1.

(2) نفس المصدر، ص177، ح6.

671

نكول المنكر لليمين

وأمّا لو نكل فلم يحلف، ولم يردّ اليمين إلى المدّعي، ففيه قولان:

القول الأول _ إنّ الحاكم يحكم لصالح المدّعي بمجرّد نكول المنكر بلا حاجة إلى تحليف المدّعي، ويشهد لذلك بعض الروايات وهي:

1_ ما عن عبدالرحمان بن أبي عبداللّه قال: «قلت للشيخ: خبّرني عن الرجل يدّعي قِبلَ الرجل الحقَّ فلم تكن له بيّنة بماله، قال: فيمين المدّعى عليه، فإن حلف فلا حقّ له، وإن لم يحلف فعليه _ إلى أن قال _: فإن ادّعى بلا بيّنة (يعني على الميّت) فلا حقّ له؛ لأنّ المدّعى عليه ليس بحي، ولو كان حيّاً لأُلزم اليمين أو الحقّ أو يردّ اليمين عليه...»(1).

ومحلّ الشاهد من الحديث فقرتان:

الأُولى _ قوله: «وإن لم يحلف فعليه»، إلا أنّ هذا إنّما ورد في نسخة الكافي(2) والتهذيب(3)، ولكن في الفقيه(4) بدلاً عن قوله «وإن لم يحلف فعليه» جاء: «وإن ردّ اليمين على المدّعي، فلم يحلف، فلا حقّ له». واختلاف النسخ يسقط الاستدلال.

والثانية _ قوله: «ولو كان حيّاً لأُلزم اليمين أو الحقّ أو يردّ اليمين عليه»، فقد يقال: إنّ هذا قد جعل القسيم ليمين المنكر وردّه لليمين على المدّعي ثبوت الحقّ على المنكر، وهذا يعني أنّه لو لم يحلف ولم يردّ الحلف على المدّعي ثبت الحقّ عليه.


(1) نفس المصدر، ج18، ص173، الباب 4 من كيفيّة الحكم، الحديث الوحيد في الباب.

(2) ج7، ص416، كتاب القضاء، باب من ادّعى على الميّت، الحديث الوحيد في الباب.

(3) ج6، ص229، ح555.

(4) ج3، ص38، ح128.

672

إلا أنّ هذا فرع قراءة قوله: «يردّ اليمين» بصيغة المعلوم، وهذا غير ثابت، فلو قرئ بصيغة المجهول لم يعرف أنّ الرادّ هو المنكر، فلعلّه الحاكم، ولعلّ قوله: «أو الحقّ» يقصد به فرض اعترافه بالحقّ للمدّعي. وعلى أيّ حال فسند الحديث ضعيف بياسين الضرير.

2_ ما عن محمد بن مسلم _ بسند تام _ قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن الأخرس كيف يحلف إذا ادّعي عليه دين وأنكر، ولم يكن للمدّعي البيّنة؟ فقال: إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) أُتي بأخرس فادُّعي عليه دين، ولم يكن للمدّعي بيّنة...» إلى أن قال: «ثم كتب أمير المؤمنين (عليه السلام) واللّه الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الطالب الغالب الضارّ النافع المهلك المدرك الذي يعلم السرّ والعلانية أنّ فلان بن فلان المدّعي ليس له قبل فلان بن فلان _ أعني الأخرس _ حقّ ولا طلبة بوجه من الوجوه، ولا بسبب من الأسباب، ثم غسله، وأمر الأخرس أن يشربه، فامتنع، فألزمه الدين»(1).

ووجه الاستدلال بالحديث دعوى أنّ سكوت الحديث عن تحليف المدّعي يدل على أنّ الإمام (عليه السلام) حكم على المنكر من دون تحليف المدّعي، وذلك بالنكول.

ويرد عليه أوّلاً: أنّ المنكر لئن كان نكوله من دون ردّ كافياً في الحكم عليه فلا أقلّ من أنّ من حقّه ردّ اليمين على المدّعي، كما هو صريح ما مضى من بعض الروايات، وليس المفروض بالقاضي _ وخاصّة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) _ أن يُغفِله، ويحكم عليه من دون إلفاته إلى ماله من حقّ الردّ، ولم يكن هذا الاخرس _ على الأكثر _ إنساناً مطّلعاً على دقائق باب القضاء، فكان المفروض تنبيهه على حقّه؛ إذاً توجد


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص222، الباب 33 من كيفيّة الحكم، ح1.

673

في القصّة حلقة محذوفة في المقام، لا نعرف هل هي عبارة عن أنّه «حُلّف المدّعي، فلم يحلف»، أو عبارة عن «أنّ المنكر امتنع من ردّ الحلف على المدّعي» وتعيين الثاني في قبال الأول ترجيح بلا مرجّح، فالرواية تصبح مجملةً.

وثانياً: أنّ السؤال في الرواية وقع عن كيفيّة تحليف الأخرس، والجواب جواب على ذلك، فليس في مقام البيان من ناحية حكم آخر وهو أنّه لو نكل، ولم يقبل بالحلف ولا بالردّ، فهل يحكم عليه بسبب النكول، أو لا؟ فالسكوت عن مسألة تحليف المدّعي لا يدل على شيء.

3_ ما عن عبيد بن زرارة عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في الرجل يُدّعى عليه الحقّ ولا بيّنة للمدّعي، قال: «يستحلف، أو يردّ اليمين على صاحب الحقّ، فإن لم يفعل فلا حقّ له»(1) بناءً على دعوى الاطمئنان بأنّ كلمة (يردّ) مبنيّة للفاعل، وذلك بقرينة سياق الكلام؛ لأنّ السؤال في الرواية وقع عن المدّعى عليه لا عن المدّعي، فيكون مرجع الضمير في قوله: «فإن لم يفعل فلا حقّ له» هو المدّعى عليه. وسند الحديث ضعيف بالقاسم بن سليمان الذي لا دليل على وثاقته عدا وقوعه في أسانيد تفسير القمّي وكامل الزيارات.

والسيد الخوئي بناءً على إيمانه بوثاقة من وقع في أسانيد تفسير القمّي أو كامل الزيارات بنى على تماميّة الحديث سنداً، ولكنّه أسقط الحديث بالمعارضة مع ما ورد عن هشام _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «تردّ اليمين على المدّعي»(2)، فهذا يقتضي بإطلاقه أنّ اليمين تردّ على المدّعي سواء ردّها المنكر عليه أو نكل،


(1) نفس المصدر، ص222، ح2.

(2) نفس المصدر، ح3.

674

وذاك يقتضي بإطلاقه أن المنكر إن لم يحلف، ولم يردّ اليمين على صاحب الحقّ فلا حقّ له، سواء حلف المدّعي أو لا، ويتساقطان بالتعارض.

أقول: إنّ حديث عبيد بن زرارة لو تمّ سنداً ودلالةً تقدّم على حديث هشام؛ لأنّ حديث هشام قابل للتقييد بحديث عبيد بن زرارة بخلاف العكس، فإنّ تقييد حديث عبيد بن زرارة يعني أنّه إن امتنع المنكر عن اليمين والردّ فلا حقّ له بشرط أن يحلف المدّعي، وهذا _ كما ترى _ يعني إسقاط العنوان المأخوذ في الحديث، وهو امتناع المنكر عن اليمين والردّ عن الأثر لا تقييده، فإنّ حلف المدّعي كافٍ في سقوط حقّ المنكر حتى في فرض ردّ المنكر لليمين عليه، فالأثر استند إلى حلف المدّعي لا نكول المنكر، وهذا خلاف قانون التقييد.

وقد يخطر بالبال الاستدلال على كفاية نكول المنكر للحكم عليه بما مضى في حديث محمد بن مسلم من قوله:

«فإن ردّ اليمين على صاحب الحقّ، فلم يحلف، فلا حقّ له»، وما مضى في حديث جميل من قوله: «وإن لم يقم البيّنة فردّ عليه الذي ادّعى عليه اليمين فأبى، حقّ له»، وذلك تمسّكاً بمفهوم الشرط؛ حيث أخذ قيد الردّ في شرط الحكم بنفي الحقّ للمدّعي، ومفهومه أنّه لدى نكول المنكر عن اليمين والردّ يثبت الحقّ للمدّعي.

وفيه: أنّه لا أقلّ من احتمال أنّ الشرط كان هو نكول المدّعي، وأنّ ردّ اليمين كان موضوعاً للقضيّة الشرطيّة، وكان ذكره تمهيداً لذكر قبول اليمين أو النكول عنها من قبل المدّعي، فيكون معنى الحديث: أنّه في حالة ردّ المنكر لليمين على المدّعي لو لم يحلف المدّعي، فلا حقّ له، ولو حلف أخذ الحقّ.

وقد يستدلّ أيضاً على كفاية نكول المنكر للحكم في صالح المدّعي بما ورد من

675

«أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من ادّعي عليه» بدعوى أنّ التفصيل قاطع للشركة، وأنّ هذا دلّ على حصر من عليه اليمين بالمنكر، فالمدّعي ليس عليه الحلف، خرج من ذلك فرض ردّ اليمين من قبل المنكر، أمّا فرض عدم ردّه فهو باقٍ تحت الإطلاق، وعدم توجّه الحلف إلى المدّعي يعني أنّ الحكم لصالحه سيكون بدون تحليفه، وهو معنى كفاية نكول المنكر في الحكم لصالح المدّعي.

إلا أنّ هذا قابل للنقاش، فإنّ الظاهر أو المحتمل من قوله (صلى الله عليه و آله): «البيّنة على المدّعي، واليمين على من أنكر» هو بيان ما على كلّ واحد منهما بالطبع الأوّلي مع السكوت عمّا هي الوظيفة بعد النكول.

وبالإمكان أيضاً أن يستدلّ على كفاية نكول المنكر في الحكم عليه بأنّه لو لم يكفِ ذلك للحكم عليه لكان معنى ذلك أنّه يجوز للحاكم ردّ اليمين على المدّعي، فالمهمّ هو الردّ، أمّا خصوصيّة كون الردّ بطلب من المنكر فلا أثر لها في الحكم، وهذا خلاف ظاهر أخذ قيد ردّ المدّعى عليه في الموضوع في روايتي محمد بن مسلم وجميل.

والجواب: أنّ ذكر هذا قد يكون وارداً مورد الغالب، باعتبار أنّ المنكر إذا امتنع عن التحليف فسيردّ عادةً الحلف على المدّعي، فإنّ ردّ الحلف على المدّعي أصلح له من الحكم للمدّعي من دون تحليفه؛ إذ مع تحليفه يحتمل نكول المدّعي الذي هو في صالح المنكر.

القول الثاني _ أنّ نكول المنكر يوجب توجيه الحاكم لليمين إلى المدّعي، فإن حلف أخذ الحقّ، وإلا حكم لصالح المنكر، ولا يحكم لصالح المدّعي بمجرّد نكول المنكر، ويمكن الاستدلال على ذلك بأمور:

676

الأول _ إطلاق ما مضى من حديث هشام: «تردّ اليمين على المدّعي»(1).

الثاني _ ما جاء في مباني تكملة المنهاج(2) من الاستدلال بروايات أنّ القضاء إنّما يكون بالبيّنات والأيمان، وهذا يعني بإطلاقه أنّه لو لم يحلف المنكر ولم يمتلك المدّعي البيّنة وصلت النوبة إلى يمين المدّعي.

ويمكن الإيراد على ذلك:

أوّلاً _ بأنّ روايات القضاء بالبيّنة والأيمان قد فسّرت بروايات البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر، فلنفرض أنّ قوله (صلى الله عليه و آله): «البيّنة على المدّعي، واليمين على من أنكر» لم يدل على كفاية نكول المنكر في الحكم للمدّعي بلا حاجة إلى يمينه، لكنّه قد دلّ على أنّ البيّنات والأيمان _ المذكورتين في روايات القضاء بالبيّنة والأيمان _ أُولاهما على المدّعي، والثانية على المنكر، فإثبات اليمين على المدعي بعد نكول المنكر بروايات القضاء بالبيّنة والأيمان في غير محلّه.

إلا أنّ هذا الإيراد يتوقف على أن تكون روايات البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر ناظرة إلى تفسير روايات القضاء بالبيّنة والأيمان، أو دالّة على حصر اليمين بالمنكر من باب أنّ التفصيل قاطع للشركة، أمّا لو لم تقبل النظر ولم تقبل الدلالة على الحصر بلحاظ ما بعد النكول _ كما مضى _ ففي ما بعد النكول نعود مرّة أُخرى إلى إطلاق قوله (صلى الله عليه و آله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان».

وعلى أيّ حال فهذا الإيراد من الواضح عدم وروده على مثل رواية سليمان بن خالد عن الصادق (عليه السلام) عن علي (عليه السلام): «أنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلى ربّه فقال: يا


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص176، الباب 7 من كيفيّة الحكم، ح3.

(2) ج1، ص16.

677

ربّ كيف أقضي فيما لم أرَ ولم أشهد؟ قال: فأوحى اللّه إليه: احكم بينهم بكتابي، وأضفهم إلى اسمي، فحلّفهم به، وقال: هذا لمن لم تقم له بيّنة»(1). فإن هذا ظاهر في النظر إلى المدّعي الذي لا يمتلك البيّنة.

وثانياً _ بأنّ روايات القضاء بالبيّنة والأيمان لا تدل على حصر وسائل القضاء بشكل مطلق بالبيّنة واليمين؛ بحيث يكون القضاء بالقرعة أو بقاعدة العدل والإنصاف أو نحو ذلك تخصيصاً لها، وإنّما المفهوم منها عرفاً بمناسبات الحكم والموضوع أنّ القاضي لا يتجاوز هاتين الوسيلتين إلى غيرهما في عرضهما، أمّا لو انتفت الوسيلتان فليس المفهوم عرفاً من هذه الروايات إيقاف القضاء، وفيما نحن فيه قد انتفت البيّنة لعدم امتلاك المدّعي للبيّنة، وانتفت اليمين بنكول المنكر، فإذا حكم القاضي بالنكول لصالح المدّعي لم يكن تخصيصاً لروايات القضاء بالبيّنات والأيمان.

ويمكن الجواب على ذلك بأنّ اليمين لم تنتف بعدُ، لإمكان عرضها على المدّعي.

وعلى أيّ حال فمن الواضح عدم ورود هذا الإشكال أيضاً على مثل ما عرفته من رواية سليمان بن خالد الناظرة إلى يمين المدّعي عند عدم وجدانه للبيّنة.

وثالثاً _ بأنّ الحكم بمجرّد نكول المنكر لا ينافي قاعدة كون القضاء بالبيّنات والأيمان، فإنّ هذا أيضاً قضاء باليمين؛ لأنّ القاضي قد وجّه اليمين إلى المنكر حسب الفرض، ولكنّه نكل عن اليمين، فالقضاء بالنكول قضاء باليمين نكولاً.

إلا أنّ الواقع أنّ هذا خلاف الظاهر، فإنّ ظاهر القضاء باليمين هو القضاء استناداً إلى ذات اليمين، لا النكول عنها.


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص167، الباب الأول من كيفيّة الحكم، ح1.

678

الثالث _ ما جاء أيضاً في مباني تكملة المنهاج(1) من أنّ الأصل يقتضي عدم جواز الحكم بمجرّد النكول.

ويمكن أن يورد على ذلك بأنّ المدّعي لو حلف بعد نكول المنكر فلا إشكال في أنّ الحقّ للمدّعي: إمّا بنكول المنكر، أو بحلف المدّعي، أمّا لو نكل هو أيضاً فقد دار الأمر بين الحكم بنكول المنكر والحكم بنكول المدّعي،والروايات الدالّة على الحكم بنكول المدّعي إنّما كانت واردةً في ردّ اليمين من قبل المنكر على المدّعي، والمفروض الآن عدم الردّ من قبله، فإذا كان الحكم بنكول المنكر هنا خلاف الأصل فالحكم بنكول المدّعي أيضاً خلاف الأصل.

ولكن من المحتمل أن يكون مقصود السيد الخوئي بالأصل فيما يفترضه من أنّ الحكم بنكول المنكر خلاف الأصل هو الأصل الذي يكون دائماً في جانب المنكر، حيث إنّ المنكر هو من وافق قوله الأصل فكأنّه يقول: إنّ الأصل الذي هو في جانب المنكر حجّة للحاكم، وإنّما سقط عن الحجّية يقيناً حينما توجد للمدّعي البيّنة، أو حلف المدّعي، أمّا إذا نكل المدّعي والمنكر معاً فلا دليل على سقوط أصل المنكر عن الحجّية، فيحكم الحاكم اعتماداً على أصل المنكر، وهذا يعني أنّ مجرّد نكول المنكر لا يكفي للحكم ضدّه، بل لابدّ من توجيه الحاكم للحلف إلى المدّعي.

وبعبارة أُخرى يمكن أن يكون المقصود بالأصل هو أصالة عدم نفوذ حكم الحاكم بمجرّد نكول المنكر، ولا تعارض بأصالة عدم نفوذ حكم الحاكم بنكول المدّعي بعد نكول المنكر؛ لأنّ كون الأصل الذي هو في جانب المنكر دليلاً على حقّانيّة كلامه منضمّاً إلى ما دلّ على القضاء بالحقّ، يكون كاسراً لأصالة عدم


(1) ج1، ص16 _ 17.

679

نفوذ حكم الحاكم.

وقد اتّضح بمجموع ما ذكرناه أنّ الأقوى أنّ نكول المنكر لا يكفي للحكم عليه، بل يردّ الحاكم اليمين على المدّعي، فإن حلف أخذ الحقّ، وإلا ثبت الحقّ للمنكر.

وهذا لا يعني ما ينافي بحثنا السابق حيث أثبتنا هناك أنّ الحاكم لا يستبدّ بالتحليف، وإنّما التحليف يكون بموافقة من هو المحروم فعلاً من الحقّ المتنازع عليه، فنحن ما زلنا على هذا الكلام، فلو أنّ المنكر كان هو المحروم فعلاً من الحقّ المتنازع فيه، فأراد أن لا يحلف ولا يردّ الحلف، بل يؤجّل الدعوى من دون أن يأخذ الحقّ من المدّعي، كان له ذلك، أمّا لو ما يكن هو المحروم من الحقّ المتنازع فيه أو لم يوافق على التأجيل وقد نكل عن الحلف، فهنا يردّ الحاكم اليمين على المدّعي.

ولو رُدّ اليمينُ على المدّعي فحلف ثم أقام المنكر البيّنة، فبناءً على رأينا من أنّ المنكر لا يكتفى منه بالبيّنة، من الواضح أنّ الحكم سوف يكون وفقاً ليمين المدّعي، أمّا بناءً على أنّ بيّنة المنكر كبيّنة المدّعي تكفي للحكم على طبقها قد يقال: إنّ بيّنة المنكر تُلغي يمين المدّعي؛ لأنّها تثبت الحقّ، والحاكم يجب أن يحكم بالحقّ، والمتفاهم عرفاً بمناسبات الحكم والموضوع أنّ اليمين إنّما جعل على المدّعي بعد العجز عمّا يثبت الحقّ.

وقد يقال: إنّ الحكم سيكون وفق يمين المدّعي لا بيّنة المنكر، إمّا بدعوى أنّ المفهوم عرفاً من دليل ردّ اليمين على المدّعي هو ردّ يمين المنكر بكلّ خصائصها عليه، ومن خصائصها إسقاط حقّ الخصم بحيث ليست له بعد ذلك إقامة البيّنة، وإمّا بدعوى أنّ دليل حجّية البيّنة لا إطلاق له إلا بمعونة الارتكاز العرفي، ولئن سلّمنا موافقة الارتكاز العرفي لسماع البيّنة من المنكر لا نسلّم بها بعد تحليف المدّعي.

ثم إنّ المنكر لو ردّ اليمين أو نكل، ثم بذل اليمين قبل حلف المدّعي، حكم الحاكم وفق يمينه؛ لشمول إطلاقات أدلّة يمين المنكر لذلك.

680

عدم تمكّن المدّعي من الحلف

بقي الكلام في أنّه لو لم يمكن للمدّعي الحلف فماذا سيكون حكم الردّ عليه؟

وقد ذُكر لذلك تصويران:

الأول _ أن يكون المدّعي غير جازم بالدعوى، كما لو قلنا بجواز رفع الدعوى رغم عدم الجزم.

والثاني _ أن يكون المدّعي مدّعياً لغيره كولي اليتيم الذي يدّعي مالاً لليتيم؛ حيث قد يقال: لا ينفذ حلفه بشأن اليتيم، وإنَّ حَلْفَ كلِّ شخص إنّما ينفذ بشأنه هو دون غيره. فقد يقال: إنّ المنكر يتخيّر هنا بين الحلف والنكول؛ لعدم إمكان الردّ.

وقد يقال: إنّ للمنكر الردّ تمسّكاً بإطلاق دليل ردّ الحلف على المدّعي وإن كان المدّعي مجبوراً على النكول، فبالتالي يثبت الحقّ للمنكر.

وقد يقال في الفرع الثاني: إنّ كون المال لغيره لا يمنع عن الحلف ما دام جازماً.

وقد يقال ردّاً على الكلام الثاني: إنّ دليل الردّ منصرف إلى فرض إمكان تقبّل الردّ من قبل المدّعي بأن يحلف هو، والمفروض في المقام أنّه لا يستطيع الحلف، فليس المورد مشمولاً لدليل الردّ.

وتحقيق الحال: تارةً يقع في الفرع الأول، وأُخرى في الفرع الثاني:

أمّا الفرع الأول _ وهو فرض عدم الجزم بالدعوى فالمرافعة مع عدم الجزم بالدعوى تكون بأحد وجوه ثلاثة:

1_ في باب الاتّهام بالقتل، والقضاء في ذلك له نظامه الخاص مضى بحثه فيما سبق، وتبيّن أنّه لو لم يمتلكا البيّنة ولا قسامة خمسين بَرِئت ساحة المتّهم.

2_ فيما إذا كانت القضيّة مشكوكة للطرفين، كما في الولد المردّد بين شخصين واقعا امرأة في طُهر واحد، أو في المال الذي أوصى الميّت به لأحدهما ولم يُعرف لأيّهما

681

أوصى، ونحو ذلك، وقد مضی البحث في هذا، وأنّه متى تصل النوبة إلى القرعة؟ ومتى تصل النوبة إلى قاعدة العدل والإنصاف؟ وأنّ هذا ليس من باب المدّعي والمنكر أو التداعي بالمعنى المألوف، ولا موضوع هنا لردّ اليمين على المنكر.

3_ في رفع الدعوى بالمعنى المتعارف بغير الاتّهام بالقتل. والصحيح عدم إمكانيّة رفع الدعوى؛ لأنّ الأصل الذي يكون إلى جانب المنكر يكون حجّةً على المدّعي الذي لا يمتلك البيّنة، أمّا لو امتلك بيّنة لم يمكنه إحضارها فعليه دعوى الملكية الظاهرية، وهو جازم بالدعوى وبإمكانه الحلف عليها.

والحاصل أنّه مع ثبوت نقيض الدعوى شرعاً على المدّعي باعترافه بعدم الجزم لا دليل على صحّة إقامة الدعوى ونفوذ القضاء.

ولو تنزّلنا عن ذلك ورفع الدعوى إلى القاضي بلا جزم ولا بيّنة جاز للمنكر ردّ اليمين عليه؛ لأنّ عدم قدرته على الحلف لا علاقة له بوظيفة المنكر، ومقتضى إطلاق دليل الردّ أنّ له الردّ، ولو ردّ لاضطرّ المدّعي إلى النكول وحكم الحاكم لصالح المنكر.

وأمّا الفرع الثاني _ وهو ما لو ادّعى للغير الغائب أو الميّت أو الصغير مثلاً، فلا يبعد أن يقال بالتفصيل بين ما إذا كان وليّاً على المدّعى له وما إذا لم يكن وليّاً عليه، ففي الثاني لا يعتبر هذا مدّعياً وإنّما يعتبر شاهداً للغير، فلو ضمّ إليه شاهد آخر حكم القاضي للمدّعى له بسبب البيّنة _ لو قلنا بحجّيتها في مقابل أصل المنكر أو يده رغم عدم وجود مدّعٍ في المقام، كما لا تبعد مساعدة الارتكاز العقلائي على ذلك _ ولو لم يضمّ إليه شاهد آخر فلا مبرّر لتحليف المنكر أصلاً؛ لعدم وجود مدّعٍ في المقام.

وفي الأول يعتبر هذا مدّعياً بالولاية، وبإمكانه الحلف لو ردّ اليمين عليه؛ لأنّه جازم بدعواه.

682

رفع الدعوى من قبل الصبي المميّز

وبهذه المناسبة لا بأس بأن نتعرّض لمسألة ما إذا كان الصبي مميّزاً، وتبنّى هو رفع الدعوى لا وليّه، فلو أقام بيّنةً نفذت وإن كان أحد فرديها هو الولي، وإلا فلو حلف المنكر نفذ حلفه، وإن ردّ عليه الحلف وكان الحقّ المتنازع فيه في يد المنكر أُجّلت الدعوى إلى حين البلوغ كي تكون يمينه شرعيّة، أو تبنّى الولي الدعوى كي يستطيع الحلف، وإن كان الحقّ المتنازع فيه في يد الطفل تبنّى الولي الدعوى، أو يسلّم الحقّ موقّتاً إلى المنكر إلى أن يبلغ الطفل، ولو لم يسلّمه الطفل أجبره الولي على ذلك، ولو لم يوافق الولي على إجبار الطفل ولا على تبنّي الدعوى أعمل السلطان ولايته في أخذ الحقّ وتسليمه موقّتاً إلى المنكر.

سكوت المنكر عن أصل الإنكار

وفي ختام البحث عن كيفيّة دوران اليمين بين المدّعي والمنكر لا بأس بالتعرض لمسألة فرض سكوت المنكر عن أصل الإنكار فضلاً عن اليمين، وإن بقي _ عملاً _ كالمنكر باعتبار عدم استسلامه عملاً لدعوى المدّعي، فهل ترجع اليمين عندئذٍ إلى المدّعي أو لا؟

مثاله: ما لو ادّعى زيد على عمرو أنّ له عليه ديناً قد أقرضه إيّاه، فكان موقف عمرو هو السكوت المطلق، فقد يقال بإجباره على الجواب، فإن عاند يسجن إلى أن يجيب ويكسر السكوت، وقد يقال بضربه تعزيراً؛ لأنّ الجواب واجب عليه، وخير ما يمكن أن يكون دليلاً على شيء من هذا القبيل ما جاء في حديث عبدالرحمان بن أبي عبداللّه: «... ولو كان حيّاً لأُلزم اليمين، أو الحقّ، أو يردّ اليمين إليه»(1). بدعوى


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص173، الباب 4 من كيفيّة الحكم، الحديث الوحيد في الباب.

683

أنّ هذا يدل على أنّه يجب على المنكر أحد الأمور الثلاثة: اليمين، أو الاستسلام للحقّ الذي يدعيه المدّعي، أو ردّ اليمين إلى المدّعي. والسكوت يعني مخالفة هذا الجواب، فيجبر على كسر السكوت، أو يضرب تعزيراً مثلاً، إلا أنّ هذا ضعيف سنداً بياسين الضرير، وغير تام دلالةً أيضاً؛ إذ من المحتمل كون صيغة «يردّ» مبنية للمفعول، أي: تردّ اليمين إلى المدّعي ولو من قبل الحاكم، وعندئذٍ فالحديث لم يدل على وجوب الجامع بين الأمور الثلاثة على المنكر. وبعد تسليم كون «يردّ» بصيغة المبني للفاعل نقول: من المحتمل كون المقصود بقوله: «الحقّ» أنّ الحاكم يحكم _ على تقدير نكوله عن اليمين بلا ردّ _ بكون الحقّ للمدّعي، لا أنّ المنكر هو يستسلم للحقّ، فأيضاً لم يدل الحديث على وجوب الجامع بين الأمور الثلاثة عليه.

والحاصل أنّه لا دليل على وجوب الجواب على المنكر، وكون سكوته حراماً يجبر على كسره بحبس أو بضرب أو غير ذلك.

نعم، قد يقال: إنّ إصراره على السكوت يجعله بحكم الناكل، فيلتحق في الحكم بالبحث الماضي، وذلك لأنّ الذي نكل عن اليمين فحسب لئن حكم عليه بإعطاء الحقّ للمدّعي أو بتوجيه الحلف من قبل الحاكم إلى المدّعي، فهذا الذي سكت عن أصل الجواب وعن الحلف يكون أولى بذلك.

وقد يقال في مقابل هذا الكلام: إنّ الأولويّة ممنوعة ما دمنا نحتمل أنّه لو تكلّم لخرج عن كونه منكراً وأصبح مدّعياً لا يمين عليه، كما لو ادّعى عليه زيد: أنّه مدين له بكذا بإقراضه إيّاه، فسكت المدّعى عليه؛ لأنّه كان يعتقد أداءه للدين، فرأى أنّه لو أنكر أصل الدين كان كاذباً، ولو أجاب بدعوى الأداء أصبح مدّعياً، فاختار السكوت، فمع احتمال من هذا القبيل كيف نفترض أنّه أولى من الناكل في حكم النكول؟!

684

وبالإمكان أن يقال: إنّنا إمّا أن نبني في باب النكول على الحكم على المنكر بمجرّد النكول من دون تحليف الحاكم للمدّعي، أو نبني فيه على تحليف الحاكم للمدّعي:

فإن بنينا على الحكم على المنكر بمجرّد النكول لبعض الأدلّة الواردة في باب النكول التي مضى الكلام عنها، فقياس المقام بباب النكول قياس مع الفارق، ولا أولويّة في المقام؛ لما عرفت من احتمال كون كلامه _ لو تكلّم _ موجباً لانقلابه إلى المدّعي. إذاً فالمرجع هو رواية «أضفهم إلى اسمي»(1)، وبه يثبت أنّ الوظيفة في المورد هي تحليف المدّعي.

نعم، لو فرض عدم تطرّق احتمال كون التكلّم سيحوّله إلى المدّعي، فلا بأس بإلحاقه بالناكل بدعوى أنّ الساكت إن لم يكن عرفاً بأولى من الناكل في الحكم عليه فلا أقلّ من المساواة.

وإن بنينا على أنّ الحكم في نكول المنكر هو ردّ الحاكم لليمين على المدّعي فالظاهر أنّ نفس الحكم يثبت في المقام؛ لأنّ أكثر أدلّة ردّ الحاكم لليمين _ لدى نكول المنكر _ على المدّعي تشمل المورد أيضاً وتدل على ردّ اليمين فيه إلى المدّعي، فإنّ عمدة أدلّة ردّ اليمين لدى نكول المنكر ما يلي:

1_ رواية تردّ اليمين على المدّعي(2).

2_ رواية «أضفهم إلى اسمي»(3).

3_ كون الأصل مع المنكر، فالحكم عليه قبل يمين المدّعي خلاف الأصل.

والوجه الثاني والثالث يشملان المورد _ كما هو واضح _، والوجه الأول أيضاً قد


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص167، الباب الأول من كيفيّة الحكم، ح1.

(2) نفس المصدر، ص 176، ح3.

(3) نفس المصدر، ص167، ح1.

685

يقال بشمول إطلاقه للمقام وإن كان بالإمكان المناقشة في إطلاقه باعتبار أنّ قوله: «تردّ اليمين إلى المدّعي» يشتمل على محذوف، أي: تردّ اليمين على المدّعي في الحالات الفلانيّة، وافتراض أنّ من تلك الحالات فرض سكوت المنكر عن أصل الجواب غير واضح؛ لأنّ حذف المتعلّق لا يفيد العموم في فرض وجود مناسبة لانصرافه إلى غير المورد المطلوب، وندرة فرض السكوت كافيةً لمناسبة من هذا القبيل.

والتحقيق أن يقال: إنّ احتمال تحوّل الساكت إلى المدّعي في نفس النزاع لو نطق غير وارد إطلاقاً، وإنّما الوارد هو احتمال تحوّله إلى المقرّ، واحتمال بقائه منكراً، وتوضيح ذلك: إنّ المدّعي حينما ادّعى عليه الدين كانت دعواه منحلّةً في الحقيقة إلى دعويين: الأُولى _ دعوى الإقراض _ مثلاً _. والثانية _ دعوى عدم الأداء. وصاحبه لو أنكر الإقراض لم تصل النوبة إلى البحث عن الأداء: وكان الأول مدّعياً والثاني منكراً. ولو أقرّ بالإقراض وادّعى الأداء انتهى النزاع الأول، وتركّز النزاع على مسألة الأداء وعدمه، فالأوّل منكر والثاني مدّعٍ، ولو سكت نهائيّاً عن الكلام فعلى الحاكم أن يصفّي أوّلاً حساب الإقراض، فإن ثبت لديه الإقراض وصلت النوبة إلى تصفية حساب الأداء، وإلا فلا موضوع للنزاع الثاني، وهذا الساكت بالنسبة للدعوى الأُولى يستحيل تحويله _ لو نطق _ إلى المدّعي، بل إمّا سيكون منكراً، أو مقرّاً، فصحّ القول بأنّ الساكت كالناكل أو أشدّ، فإن قلنا في الناكل بالحكم عليه من دون تحليف المدّعي قلنا به هنا أيضاً، وإن قلنا بتحليف المدّعي قلنا به هنا أيضاً. هذا لو آمنّا بانحلال دعوى الدين إلى دعوى سبب الدين ودعوى عدم الأداء، أو صرّح المدّعي بالسبب وبعدم الأداء. أمّا لو لم يصرّح بذلك، ولم نقل بالانحلال، فهنا دعوى المدّعي عبارة عن كون المدّعى عليه مديناً له، والمدّعى عليه أيضاً سوف لن يتحوّل بالإجابة على نصّ الدعوى إلى المدّعي، بل إمّا أن يقرّ بالدين أو ينكره، وإنّما