421

ابن أحمد بن أشيم.

ولو ثبت في بحث الطلاق أنّه يكفي فيه حضور العدلين صدفةً لم يؤدِّ ذلك إلى التعدّي إلى سائر موارد القضاء؛ لأنّ احتمال الفرق موجود.

هذا، ولا يبعد أن يُقال: إنّ هذه الرواية _ وحتى بعد ضمّها إلى الآية المباركة _ لا تعارض روايات الباب إطلاقاً، وذلك لأنّ المفهوم عرفاً من كلمة (الإشهاد) في الروايات وفي الآية المباركة ليس هو خصوص أن يقول لهم: (إشهدوا)؛ أي أن يطلب منهم تحمّل الشهادة، بل يكفي في الإشهاد إيقاع الفعل أمامهم وبنيّة اطلاعهم عليه في مقابل الحضور الصدفيّ البحت، والاطّلاع صدفةً من دون إرادة الطرفين؛ وعليه فالإشهاد في مورد رواية علي بن أحمد ابن أشيم حاصل.

وهناك حديث قد يدل بإطلاقه على وجوب أداء الشهادة حتى مع عدم الإشهاد، وهو ما عن عبداللّه بن سنان عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «لا ينقضي كلام شاهد الزور من بين يدي الحاكم حتى يتبوّء مقعده من النار، وكذلك من كتم الشهادة»(1). إلا أنّه _ مضافاً إلى ضعف سنده _ يقيّد إطلاقه بما مضى.

المتبرّع بأداء الشهادة

والآن فلْننتقل إلى صلب المطلب، وهو أنّ المتبرّع في حقوق الناس بالشهادة هل تنفذ شهادته أو لا؟

وقد فسّر في الجواهر في أوّل كلامه التبرّع بالشهادة(2) بمعنى الشهادة قبل سؤال الحاكم في مجلس الحكومة.


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص237، الباب 9 من الشهادات، ح4.

(2) الجواهر، ج 41، ص 104.

422

وأدلّة القول بعدم نفوذ شهادة المتبرّع بعد فرض تفسيره بهذا التفسير لعلّها تنحصر في ما يلي:

1_ الإجماع: وقد قال عنه صاحب الجواهر: «لعلّه العمدة في الحكم المزبور»(1)، ولكنّه _ مع منقوليّته، وما قيل من وجود بعض المخالفين، واحتمال مدركيّته، واستبعاد إجماع تعبّدي ناشى‏ء من توارث الحكم يداً بيد في مسألة يقلّ الابتلاء بها؛ إذ قلّ ما يفترض التبرّع بالشهادة في الخصومات _ لا تبقى صلاحيّة له بحيث يمكن جعله دليلاً على الفتوى في المقام.

2_ تطرُّق التهمة: وأبطله صاحب الجواهر بما اختاره في باب شرط عدم التهمة من أنّ المقياس هو العناوين الاتّهاميّة الخاصّة الواردة في الروايات، لا عنوان التهمة بمعناه العرفي العام.

والصحيح إبطاله بمنع كون التبرّع موجباً لتطرُّق التهمة على الإطلاق، وكونه أحياناً موجباً لتطرّق التهمة _ لاكتنافه بقرائن أُخرى أو خصوصيّات _ لا يصلح دليلاً للإفتاء بعدم نفوذ شهادة المتبرّع بشكل عام.

3_ النبويّات(2) المنقولة عن غير طرق الإماميّة: كقوله (صلى الله عليه و آله): «ثم يجيء قوم يعطون الشهادة قبل أن يسألوها» وقوله (صلى الله عليه و آله): «ثم يَفْشُو الكذب حتى يَشهدَ الرجلُ قبل أن يُستشهَد» وقوله (صلى الله عليه و آله): «تقوم الساعة على قوم يَشهَدون من غير أن يُستشهَدوا» بعد ضمّه إلى ما ورد في البحار وصحيح مسلم من أنّ القيامة تقوم على شرار الخلق.

وهذه النبويّات _ كما ترى _ ساقطة سنداً ومعارضة بالنبويّ الآتي على أنّه يُحتمل


(1) نفس المصدر.

(2) راجع الجواهر، ج41، ص106.

423

أن يكون المقصود بها شهادة الكذب، وأن يكون المقصود بالسؤال أو الاستشهاد طلب المشهود له الشهادة لصالحه؛ إذ من الواضح أنّ شهادة الكذب من دون طلبها أقبح وأكثر دلالةً على الجرأة وهتك حرمات اللّه من شهادته بعد طلبها، ويشير إلى هذا الاحتمال قوله في النبويّ الثاني: «ثم يفشو الكذب...».

ثم إنّ قيام الإجماع أو _ على الأقلّ _ الشهرة على عدم نفوذ شهادة المتبرّع _ بعد تفسير التبرّع بعدم طلب الحاكم _ أمر غريب؛ إذ لو فرض الإجماع تعبديّاً حاصلاً من وضوح الحكم قديماً وتوارثه جيلاً بعد جيل فتحقّق شيء من هذا القبيل في أمر لا يكثر الابتلاء به بعيد، ولو فرض مدركيّاً فهذه المدارك نسبتها إلى حقوق الناس الفرديّة وحقوق اللّه أو المصالح العامّة على حدّ سواء، فما معنى اختصاص القول بعدم نفوذ شهادة المتبرّع بالأوّل، وإفتاء المشهور بنفوذها في الأخيرين؟!

ولا يرفع هذا الاستغراب الوجوه الواهية التي تذكر لاستثناء حقوق اللّه والمصالح العامّة من قبيل:

1_ أنّه لو جعل التبرّع بالشهادة فيها مانعاً لتعطّلت.

2_ وأنّ المصلحة إذا عمّت عدول المؤمنين بأجمعهم كانت الشهادة منهم دعوى، فلو توقفت على دعوى غيرهم كان ترجيحاً من غير مرجّح مع لزوم الدور.

3_ وأنّ الشهادة بحقوق اللّه تعالى نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما واجبان، والواجب لا يُعدّ تبرّعاً.

4_ والجمع بين النبويّات الماضية والنبويّ الآخر: «ألا أخبركم بخير الشهود؟ قالوا بلى يا رسول اللّه. قال: أن يشهد الرجل قبل أن يُستشْهَد»(1).


(1) راجع الجواهر، ج41، ص107.

424

ولا أراني بحاجة إلى توضيح ضعف هذه الوجوه.

وقد وقع في كلمات الأصحاب تشويش آخر في ما يشتمل على حقّ اللّه وحقّ الناس معاً كالسرقة، فهل تنفذ فيه الشهادة التبرّعية لكونه حقاً للّه ولم يثبت بالإجماع أكثر من استثناء ما كان حقّاً آدميّاً محضاً، أو لا تنفذ لكونه حقّاً للناس، أو تنفذ بالنسبة لحقّ اللّه، ولا تنفذ بالنسبة لحقّ الناس، فتقطع يد السارق من دون أن يغرم، أو غير ذلك ممّا جاء نقله في الجواهر؟(1)

أقول: إنّ أصل التفصيل بين حقّ اللّه وحقّ الناس لم يعرف له وجه معقول ما دمنا نفسّر التبرّع في الشهادة بعدم طلب الحاكم.

ولكن من المحتمل أن يكون مقصود الأصحاب من التبرّع هو ما أبدى احتماله في الجواهر(2) في ثنايا الكلام بعنوان (قد يقال) ومن دون تركيز عليه، وهو الشهادة من دون إذن من له الحقّ كالمدّعي الذي عليه البيّنة، وهذا الاحتمال وارد بشأن كلّ من لم يصرّح بأنّ مقصوده من التبرّع هو الشهادة قبل طلب الحاكم، بل لعلّه يرد حتى بالنسبة لمن صرّح بذلك، باعتبار أنّ طلب المدّعي من الشهود لأداء الشهادة يكون عادةً عن طريق الحاكم؛ أي أنّ الحاكم يطلب من الشهود بناءً على رغبة المدّعي أداء الشهادة، فأخذ عنوان طلب الحاكم استطراقاً إلى ثبوت طلب المدّعي. وعلى أيّ حال لو بنينا على هذا الاحتمال ارتفع الاستغراب، فإنّ الوجه في التفصيل بين حقّ الفرد وحقّ اللّه أو الحقوق العامّة أحد أمرين:

إمّا التمسّك بمسألة التهمة؛ حيث يُقال: إنّ عدم انتظار طلب المدّعي موجب


(1) ج41، ص108 _ 109.

(2) ج41، ص105.

425

للتهمة، وهذا إنّما يفرض في حقّ الفرد لا في حقّ من لا يوجد بشأنه مدّعٍ خاصّ من حقوق اللّه أو الحقوق العامّة ممّا تثار بمبادرة الناس لا بمبادرة المدعي.

وإمّا أن يُقال: بأنّ عدم نفوذ شهادة المتبرّع قبل طلب المدّعي في الحقوق الفرديّة يكون بنكتة أنّ البيّنة حقّ للمدّعي، وليس للحاكم فرض الحكم وفق البيّنة من دون إذن ذي الحقّ ما دام الحقّ ليس من حقوق اللّه أو الحقوق العامّة التي يكون لولي الأمر حقّ التدخّل فيها ابتداءً، ومن هنا يصبح التفصيل بين حقوق الناس الفرديّة وحقوق اللّه أو الحقوق العامّة أيضاً أمراً معقولاً؛ حيث لا يوجد في الثاني مدّعٍ يكون له الحقّ في طلب الحقّ بالبيّنة ورفضه بخلاف الأول.

وبه يتّضح الحال أيضاً في الحقوق المشتركة بين اللّه تعالى والآدمي، فإن كان اشتراك الحقّ بمعنى أنّ قسماً منه لله وقسماً منه للآدمي _ كما قد يقال في السرقة من أنّ القطع لله والضمان للآدمي _ فما للآدمي يتوقّف على إذن المدّعي؛ لأنّه حقّه، وما للّه تنفذ فيه الشهادة التبرّعيّة. وإن كان اشتراك الحقّ بمعنى أنّ شيئاً واحداً هو حقّ للّه وللآدمي كما لو قلنا: إنّ القطع في السرقة والحدّ في القذف كلّ منهما حقّ للّه وللآدمي، فالشهادة التبرّعيّة تنفذ فيه؛ لأنّ عدم إذن المدّعي إنّما يُسقط حقّه في الحكم ولا يُسقط حقّ اللّه.

هذا فيما إذا كان المدرك لعدم نفوذ شهادة المتبرّع عبارة عن أنّ الحاكم لا يحقّ له فرض الحكم من دون طلب المدّعي للحكم وفق البيّنة؛ لأنّ ذلك حقّ له، أمّا إذا كان المدرك هو التهمة فهي موجودة في الحقّ المشترك.

والآن فلنقطع النظر عن أنّ مقصود الأصحاب من التبرّع هل هو عدم طلب الحاكم، أو عدم طلب ذي الحقّ؟ لنبحث أصل الموضوع، وهو أنّ الشهادة هل تنفذ ابتداءً بلا طلب، أو أنّ نفوذها مشروط بطلب ذي الحقّ، أو بطلب الحاكم في

426

خصوص حقوق الناس الفرديّة، أو حتى العامّة، أو حتى حقوق اللّه؟

تحقيق الحال في شهادة المتبرّع

وتحقيق الحال في ذلك يتوقّف على أن نرى أنّه هل هناك إطلاق يُثبت لنا نفوذ شهادة البيّنة على الإطلاق أو لا؟ فإن لم يكن هناك إطلاق فما هو القدر المتيقّن من النفوذ؟ وإن كان هناك إطلاق فهل خرج منه شيء بالتخصيص؟ وما هو الخارج منه بالتخصيص؟

فنقول: إنّ أدلّة نفوذ شهادة البيّنة عديده:

الأول _ الإجماع البالغ حدّ الضرورة الفقهيّة ممّا لا يضرّ به وجود المدرك، وهذا دليل لبّي لا إطلاق له، فمتى ما احتملنا عدم نفوذ البيّنة _ لعدم طلب الحاكم أو ذي الحق _ لم تنفذ، وتصل النوبة إلى اليمين بناءً على أنّ دليل اليمين ظاهر في وصول النوبة إليه متى ما لم تصبح البيّنة حجّةً فعليّةً.

الثاني _ حديث مسعدة بن صدقة: «... والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة»(1) بناءً على تماميّة دلالته على حجّية البيّنة بالمعنى المصطلح.

وقد يُقال: إنّ هذا الحديث إن تمّت دلالته على حجّية البيّنة فإنّما يدل على الحجّية الذاتية لها، لا الحجّية القضائيّة، فقد يكون شيء حجّةً بذاته، ولكن ليس موضوعاً كاملاً للقضاء به كالأصل الذي هو في صالح المنكر.

ويمكن الجواب على ذلك بأنّ البيّنة إذا كانت أمارةً شرعيّةً تثبت الحقّ، فبضمّ


(1) وسائل الشيعة، ج12، ص60، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، ح4، ص60.

427

أدلّة القضاء بالحقّ تثبت لها الحجّية القضائيّة. وعلى أيّ حال فالحديث ساقط سنداً.

الثالث _ دليل حجّية خبر الواحد بناءً على شموله للخبر في الموضوعات، وهو وإن دلّ على الحجّية الذاتيّة لا القضائيّة، لكن بما أنّ الخبر أمارة على الحقّ والواقع فبضمّه إلى دليل القضاء بالحقّ تثبت له الحجّية القضائيّة، ولا يضرّ بذلك فرض قيام الدليل على الحاجة إلى التعدّد في باب المرافعة، فلا يكفي خبر إنسان واحد، فإنّ هذا لا يعني إسقاط حجّية خبر الواحد في باب المرافعة، وإنّما يعني تقييد إطلاقه بشرط التعدّد، فبالتالي تثبت حجّية خبر الواحد _ أي ما دون المتواتر _ في باب المرافعة بشرط التعدّد حجّية ذاتية، وبضمّ ذلك إلى دليل القضاء بالحقّ تثبت له الحجّية القضائيّة، بل قد يقال: إنّ خبر الإنسان الواحد أيضاً حجّة في باب المرافعة بذاته؛ لإطلاق دليل حجّية خبر الواحد، غاية الأمر أنّه دلّ الدليل على اشتراط الحجّية القضائية بالتعدّد.

ولكنّ الواقع: أنّ عمدة أدلّة الحجّية الذاتيّة لخبر الواحد هي السيرة أو بعض الإطلاقات التي يتمّ إطلاقها بواسطة السيرة على شرح مضى في بحث تمييز المدّعي من المنكر، وفي باب المرافعة لم تثبت سيرة على حجّية خبر الواحد أو البيّنة حجّيةً ذاتيّةً بحيث يعمل بها الشخص الثالث قبل حكم الحاكم؛ إذاً فلا يمكن ضمّ ذلك إلى دليل القضاء بالحقّ لإثبات حجّية البيّنة على الإطلاق في باب القضاء.

الرابع _ ما ورد من مثل قوله (صلى الله عليه و آله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»(1)، ومثل قوله (صلى الله عليه و آله): «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر»(2).


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص169، الباب 2 من كيفيّة الحكم، ح1.

(2) راجع نفس المصدر، ص170، الباب3 من كيفيّة الحكم.

428

وقد يورد على إطلاق الأول بأنّ الحديث إنّما هو بصدد حصر القضاء بالبيّنات والأيمان، أمّا أنّه متى يكون الرجوع إلى البيّنات؟ ومتى يكون الرجوع إلى الأيمان؟ فليس الحديث بصدد بيانه، وعلى إطلاق الثاني بأنّه ليس بصدد ذكر الشروط، وإنّما هو بصدد بيان من عليه البيّنة ومن عليه اليمين.

والواقع أنّ هذا وإن كان يضرّ بالإطلاق الحكَمي، ولكنّ الإطلاق المقامي _ بالنسبة لرفض كلّ قيد يكون مرفوضاً وفق المرتكزات العقلائية _ ثابت، والأمر في ما نحن فيه من هذا القبيل، فكون طلب الحاكم دخيلاً في نفوذ شهادة البيّنة من دون فرض تحقّق التهمة في الشهادة التبرعية خلاف المرتكز العقلائي، وأمّا كون طلب ذي الحقّ أو إذنه دخيلاً في ذلك فإن كان بمعنى دخله في تكميل نقص البيّنة كبيّنة وإيصالها إلى مستوى الحجّية فهذا أيضاً _ حينما لا يفرض تحقّق التهمة في الشهادة التبرعيّة _ مرفوض عقلائياً، وإن كان بمعنى أنّه وإن لم يكن هناك عيب في البيّنة ولكنّ حكم الحاكم في غير الحقوق الإلهيّة والحقوق العامّة إنّما هو من حقّ من يحكم لصالحه، فإذا هو لم يرد الحكم فلا مبرِّر لجواز الحكم ونفوذه، فهذا المعنى ليس على خلاف مرتكز العقلاء.

إلا أنّ هذا لا يعني صحّة ما نقل عن الأصحاب من عدم نفوذ شهادة المتبرّع الظاهر في إرادة النقص في جانب الشهادة.

إذاً فالصحيح وجود الإطلاق الدالّ على نفوذ شهادة المتبرّع ولا مقيّد له، والتهمة ممنوعة كما تقدّم.

نعم، لا بأس بالقول بعدم جدوى شهادة المتبرّع _ أي الشهادة من دون طلب المدّعي _ لا بمعنى النقص في جانب الشهادة، بل بمعنى النقص في جانب الحكم من دون إرادة المدّعي حيث لا دليل على نفوذ الحكم في هذه الحالة، أمّا إذا افترضنا أنّ

429

الشهادة كانت تبرعيّة _ أي من دون طلب ذي الحقّ _ ثم بعد ذلك طلب ذو الحقّ حكم الحاكم وفق الشهادة، وحَكَم الحاكم وفقها فهذا الحكم نافذ رغم تبرّعيّة الشهادة.

بقي هنا إشكال في الحساب، وهو أنّ المدّعي لو لم يرد من الحاكم الحكم وفق البيّنة رغم قيام البيّنة ولو تبرّعاً وأراد تحليف المنكر وقيام الحكم وفق حلف المنكر، فما هو الدليل على نفوذ حكم الحاكم وفق حلف المنكر؟ فصحيح أنّه لا دليل على نفوذ حكم الحاكم وفق البيّنة؛ لأنّ هذا من حقّ المدّعي الذي لم يطلبه، ولكن قد يقال: لا دليل أيضاً على نفوذ حكمه وفق يمين المنكر، فإنّ مثل قوله (صلى الله عليه و آله): «إنما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» وإن كان ظاهراً في حجّية اليمين عند عدم فعليّة حجّية البيّنة، لكنّ النقص _ كما عرفنا _ لم يكن هنا في البيّنة، فالبيّنة _ بما هي بيّنة _ كانت مستكملة لشروط الحجّية رغم تبرّعيّتها، وإنّما النقص كان في جانب الحكم الذي لا دليل على نفوذه حينما يكون من حقّ شخص لا يريد حقّه؛ إذاً لا دليل على نفوذ الحكم وفق اليمين أيضاً.

إلا أنّ هذا الإشكال يرفع بالتمّسك بإطلاق ما ورد _ بسند تام _ عن ابن أبي يعفور عن أبي عبداللّه (عليه السلام): قال: «إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه، فاستحلفه، فحلف أن لا حقّ له قبله، ذهبت اليمين بحق المدّعي، فلا دعوى له. قلت له: وإن كانت عليه بيّنة عادلة؟ قال: نعم، وإن أقام بعد ما استحلفه باللّه خمسين قسامة ما كان له، وكانت اليمين قد أبطلت كلّ ما ادعاه قبله ممّا قد استحلفه عليه». وزاد في (من لا يحضره الفقيه): قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله): «من حلف لكم على حقّ فصدّقوه، ومن سألكم باللّه فاعطوه، ذهبت اليمين بدعوى المدّعي، ولا دعوى

430

له»(1). وهذه الزيادة إن كانت من كلام الإمام الصادق (عليه السلام)، فسندها هو سند الصدوق إلى ابن أبي يعفور، وإن كانت من الصدوق (رحمه الله) فهي مرسلة. وعلى أيّ حال فالمهم إطلاق صدر الحديث لفرض اكتفاء المدّعي بيمين المنكر رغم وجود الشهادة التبرّعيّة، ولا تضرّ بذلك ندرة الفرض، فإنّ ندرة الفرض تضرّ بحمل الإطلاق عليه، لا بشموله له.

ومثل هذا الحديث حديث خضر النخعي في الرجل يكون له على الرجل مال فيجحده قال: «فإن استحلفه فليس له أن يأخذ شيئاً، وإن تركه ولم يستحلفه فهو على حقّه»(2)، إلا أنّ خضر النخعي لم تثبت وثاقته.

الخامس _ ما عن يونس عمّن رواه قال: «استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين عدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، فإن لم تكن امرأتان فرجل ويمين المدّعي، فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدّعى عليه، فإن لم يحلف وردّ اليمين على المدّعي فهي واجبة عليه أن يحلف ويأخذ حقّه، فإن أبى أن يحلف فلا شىيء له»(3)، فهذا الحديث أيضاً بإطلاقه يشمل شهادة المتبرّع سواء كان بمعنى الشهادة قبل طلب الحاكم، أو بمعنى الشهادة قبل طلب ذي الحقّ، إلا أنّه لا يدل على أكثر من حجّية البيّنة بما هي، أمّا أنّه لو اكتفى صاحب الحقّ بتحليف المنكر ولم يوافق على أن يحكم الحاكم وفق البيّنة التبرّعيّة، فالحديث لا يدل على جواز حكم الحاكم وفق البيّنة، ونرجع مرّةً أُخرى إلى ما دلّ على أنّ تحليف المنكر يذهب بحقّ المدّعي.

وعلى أي حال فهذا الحديث ضعيف سنداً بعدم معرفة من روى عنه يونس،


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص179، الباب 9 من كيفية الحكم، ح1 و2.

(2) وسائل الشيعة، ج16، ص 179، الباب 48 من كتاب الأيمان، ح1.

(3) نفس المصدر، ج18، ص176، الباب 7 من كيفية الحكم، ح4.

431

وعدم انتهائه إلى المعصوم، فالمهم هو الوجه الرابع.

والمتحصّل من كلّ ما ذكرناه: أنّ طلب الحاكم ليس دخيلاً في نفوذ الشهادة، وموافقة المدّعي دخيلة لا في نفوذ الشهادة بالمعنى الذي قد يوحي إليه هذا اللّفظ، بل في حكم الحاكم حينما يكون من حقّ المدّعي؛ إذ لا دليل على نفوذ الحكم في هذه الحالة، وينتقل الأمر عندئذٍ إلى حلف المنكر الذي يذهب بحقّ المدّعي. أمّا في حقّ اللّه والحقوق العامّة فلا موضوع لهذا البحث؛ لأنّ من حقّ ولي الأمر أن يتدخّل مباشرةً في الحكم من دون افتراض مدّعٍ يطالب به. وما يشتمل على حقّ اللّه وحقّ للفرد تنفذ فيه الشهادة التبرّعيّة بالنسبة لحقّ اللّه، ولا تنفذ بالنسبة لحقّ الفرد بالمعنى الذي شرحناه لعدم النفوذ، لا بالمعنى الذي يوحي إليه حاقّ اللّفظ.

وإذا كان حقّ واحد للّه وللفرد في وقت واحد تنفذ فيه الشهادة التبرعيّة بلا إشكال.

شرط (الحسّ) في الشهادة

الشرط التاسع _ أن تكون الشهادة عن حسّ.

لا إشكال في وجوب استناد الشهادة إلى مدرك مقبول، وعدم جواز الشهادة بمجرّد الاحتمال أو الظنّ وبلا مستند مثبت لما يشهد به، وعدم نفوذها.

والمستند الذي يمكن للشاهد أن يعتمد عليه في مقام الشهادة لا يخلو عن أحد أمور أربعة:

الأول _ الحسّ: وأقصد بذلك ما لو كان الوسيط بينه وبين علمه بالواقع إحدى حواسّه كالبصر أو السمع.

والثاني _ ما يقرب من الحسّ: وأقصد بذلك ما لو كان هناك وسيط آخر غير الحسّ وقع في طريقه إلى العلم بالواقع، إلا أنّ هذا الوسيط سنخ أمر يوجب العلم لعامّة الناس

432

كالتواتر، فسمعه _ مثلاً الذي هو إحدى حواسّه _ لم يقع مباشرةً على ما يشهد به، وإنّما وقع على التواتر القائم على ما يشهد به، والتواتر موجب للعلم لعامّة الناس.

والثالث _ العلم غير الحسّي وغير ما يقرب من الحسّ: وأقصد بذلك ما لو كان هناك وسيط بينه وبين علمه بالواقعة غير الحسّ وغير ما يوجب العلم لعامّة الناس، كما يتّفق كثيراً لإنسانٍ ما يحصل له العلم بشيء على أساس قرائن لو عرضت على إنسان آخر ربّما لا توجب له العلم.

والرابع _ الدليل التعبّدي من أمارة أو أصل كما لو ثبتت له مالكيّة المدّعي لمالٍ باليد أو بالاستصحاب.

ولا شكّ في جواز الشهادة ونفوذها في القسم الأول، وهو الشهادة عن الحسّ، فإنّه القدر المتيقن من الأقسام في النفوذ بلا إشكال.

الشهادة بما يقرب من الحسّ

وأمّا القسم الثاني وهو الشهادة عمّا يقرب من الحسّ كالشهادة على أساس التواتر ونحوه فهو ملحق بالقسم الأول؛ لأنّ الأدّلة اللفظية الدالّة على نفوذ القسم الأول تدل على نفوذ هذا القسم أيضاً حتى ولو لم يتمّ فيها الإطلاق اللفظي، أو كان مفاد لفظها مخصوصاً بالقسم الأول:

أمّا ما لا يتم فيه الإطلاق اللفظي فكقوله (صلى الله عليه و آله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»(1) حيث إنّه بصدد حصر مقياس القضاء بالبيّنة واليمين، أمّا أنّه متى يعمل بالبيّنة؟ ومتى يعمل باليمين؟ فليس بصدده. ولكن رغم هذا نعتقد دلالته على نفوذ الشهادة القائمة على أساس ما يقرب من الحسّ، وذلك باعتبار الإطلاق المقامي الرافض


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص169، الباب 2 من كيفيّة الحكم، ح1.

433

لكلّ قيد يرفضه ارتكاز العقلاء، ومنها قيد الحسّ في مقابل ما يقرب من الحسّ.

وأمّا ما يكون مفاده مخصوصاً بالقسم الأول فكما ورد عن علي بن غياث أو علي ابن غراب عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «لا تشهدَنَّ بشهادة حتى تعرفها كما تعرف كفّك»(1). والسند غير تام، وكما رواه المحقّق مرسلاً عن النبي (صلى الله عليه و آله) أنّه قال _ وقد سئل عن الشهادة _: «هل ترى الشمس؟ على مثلها فأشهدْ أو دَعْ»(2). فبناءً على اختصاص المفاد اللفظي لذلك بالشهادة الحسّية نتعدّى إلى الشهادة القائمة على أساس ما يقرب من الحسّ ببركة عدم احتمال العرفِ الفرقَ، فإنّ عدم احتمال الفرق يكوّن للدليل دلالة التزاميّة عرفيّة على المقصود، وبهذا البيان يتمّ أيضاً الاستدلال بمثل قوله (صلى الله عليه و آله): «إنما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» حتى ولو غضّ النظر عن فرض الإطلاق المقامي، فإنّ عدم الإطلاق لا يجعله أتعس حالاً من نصٍّ كان مفاده خاصّاً بالقسم الأول.

وإن شئت فقل: إنّ النكتة التي جعلتنا نؤمن بحجّية لوازم الأمارة التي لم يكن مدلولها المطابقي موضوعاً للحجّية لعدم ترتب أثر شرعي عليه، ولكنّ لازمه كان ذا أثر شرعي؛ نفس تلك النكتة تجعلنا نؤمن بحجّية البيّنة التي ليست هي بلحاظ مصبّ الأثر القضائي بيّنةً عن حسّ، لكن هي بلحاظ ما لا ينفكّ عن مصبّ الأثر القضائي _ ويلازمه عادةً _ كالتواتر المخبِر عن الواقعة المشهود بها بيّنة عن حسّ.

ويشهد لنفوذ البيّنة التي انصبّ علمها الحسّي على ما يلازم المقصود في باب القضاء لا على نفس المقصود ما رواه الشيخ بسنده عن محمد بن أحمد بن يحيى عن


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص250، الباب 20 من الشهادات، ح1.

(2) نفس المصدر، ص251، ح3.

434

موسى بن جعفر البغدادي عن جعفر بن يحيى عن عبداللّه بن عبدالرحمن عن الحسين ابن يزيد عن أبي عبداللّه (عليه السلام) عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) قال: «أتى عمر بن الخطاب بقدامة بن مظعون وقد شرب الخمر، فشهد عليه رجلان: أحدهما أنه رآه يشرب، وشهد الآخر أنّه رآه يقيء الخمر، فأرسل عمر إلى ناس من أصحاب رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) فيهم أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال لأمير المؤمنين (عليه السلام): ما تقول يا أبا الحسن فإنّك الذي قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله): أنت أعلم هذه الأُمّة وأقضاها بالحقّ، وأنّ هذين قد اختلفا في شهادتهما، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): ما قاءها حتى شربها، فقال: وهل تجوز شهادة الخصي؟ فقال ما ذهاب لحيته إلا كذهاب بعض أعضائه»(1).

والحسين بن يزيد ثبتت وثاقته برواية ابن أبي عُمير وصفوان عنه، ولكنّ في السند موسى بن جعفر البغداي ولا دليل على وثاقته عدا وروده في أسانيد كامل الزيارات، وعدم استثناء رواياته من روايات محمد بن أحمد بن يحيى، وكلا الوجهين لا يصلحان للتوثيق.

وهناك رواية أُخرى تامّة سنداً ودلالةً على المقصود، وهي ما رواه الصفّار أنّه كتب إلى أبي محمد (عليه السلام): هل يجوز للشاهد الذي أشهده بجميع هذه القرية أن يشهد بحدود قطاع الأرض التي له فيها إذا تعرّف حدود هذه القطاع بقومٍ من أهل هذه القرية إذا كانوا عدولاً؟ قال: «فوقّع (عليه السلام): نعم، يشهدون على شيءٍ مفهوم معروف»(2). وعلى أيّ تقدير فحجّية البيّنة في القسم الأول والثاني ينبغي افتراضها من الواضحات.

الشهادة القائمة على أساس الأمارة أو الأصل

كما لا ينبغي الإشكال في أنّ مقتضى القواعد عدم حجّية البيّنة في القسم الرابع،


(1) التهذيب، ج6، ص281، ح772.

(2) وسائل الشيعة، ج18، ص301، الباب 48 من الشهادات، ح1.

435

وهو البيّنة القائمة على أساس الأمارة أو الأصل.

وقد يقال: إننّا لو آمنّا في القسم الثالث _ وهو البيّنة القائمة على أساس العلم الشخصي غير القائم على الحسّ أو ما يقرب منه _ بنفوذها، وأمنّا في علم الأصول بقيام الأمارة والأصل مقام العلم الموضوعي كانت النتيجة الطبيعية لمجموع هذين الأمرين نفوذ الشهادة القائمة على أساس الأمارة أو الأصل.

ولكنّ الواقع أنّنا _ حتى لو آمنّا بهذين الأمرين _ نقول: إنّه في خصوص نفوذ الشهادة في باب القضاء لا تقوم الأمارة والأصل مقام العلم الموضوعي، وذلك لأنّ هذه البيّنة إمّا أن نفترض أنّها تشهد بمفاد الأمارة أو الأصل _ أي تشهد بالحكم الظاهري _ وهذا في الحقيقة شهادة عن حسّ، أو نفترض أنّها تشهد بالحكم الواقعي اعتماداً على الحكم الظاهري إيماناً منه بقيامه مقام العلم الموضوعي، فإن فرضت شهادته بالحكم الظاهري فهذه الشهادة سوف لا تكون أفضل من علم القاضي عن حسّ بالحكم الظاهري وعلم جميع الناس به، ونحن نعلم أنّ الحكم الظاهري وحده لا يكون منشأً لحكم القاضي، بل يجب ضمّه إلى اليمين، أي: أنّ الحكم الظاهري يجعل من كان كلامه موافقاً له منكراً، ومن كان كلامه مخالفاً له مدّعياً، فتصل النوبة إلى يمين المنكر لو لم تكن للمدّعي بيّنة، فشهادة الشاهدين بالملكيّة الظاهرية لزيد على أساس اليد _ مثلاً _ ليست بأفضل حالاً ممّا لو رأى القاضي بأُمّ عينيه وجميع من كانوا جلوساً حوله أنّ زيداً له اليد على هذا المال، ومن الواضح أنّه عندئذٍ ليس للقاضي الحكم بمالكية زيد إلا بعد يمينه، فالشهادة بالحكم الظاهري لا تعتبر بيّنةً موجبة للحكم على أساسها.

نعم، قد تقلب الشهادة بالحكم الظاهري المدّعي منكراً والمنكر مدّعياً، كما لو لم تكن لزيد ولا لعمرو أمام القاضي يد على المال، وكانت دعوى عمرو للملكية مطابقةً

436

للاستصحاب، فكان هو المنكر، وشهدت البيّنة بأنّ زيداً كان هو صاحب اليد على هذا المال بعد الملكية السابقة لعمرو في زمان تعلم البيّنة بأنّه لم ينتقل المال بعد ذلك منه إلى عمرو، فهذه شهادة من قبل البيّنة تقلب المدّعي منكراً والمنكر مدّعياً، فيصبح زيد هو المنكر بعد أن كان مدّعياً وعمرو المدّعي بعد أن كان منكراً.

وإن فرضت شهادة البيّنة بالحكم الواقعي اعتماداً على الحكم الظاهري فمن الواضح أنّ العرف لا يتصوّر كون شهادتها على الحكم الواقعي التي هي فرع علمها بالحكم الظاهري بأكثر قيمةً من شهادتها الحسّية بنفس الحكم الظاهري الذي هو الأساس لشهادتها بالواقع، فلا يتمّ في نظر العرف إطلاق لدليل نفوذ الشهادة القائمة على العلم _ منضمّاً إلى دليل قيام الأمارة والأصل مقام العلم _ لما نحن فيه.

فتحصّل حتى الآن: أنّ مقتضى الأدلّة الأوّليّة عدم نفوذ الشهادة القائمة على أساس الأمارة والأصل.

نعم، شهادته بالواقع اعتماداً على الظاهر جائزة تكليفاً؛ بمعنى عدم مشموليّتها لحرمة الكذب لو قلنا بقيام الأمارة والأصل مقام القطع الموضوعي، ولكن يبقى محلّ للقول بالحرمة التكليفية من ناحية التغرير وحرف مسير القضاء عن مسيره الطبيعي لو لم يُبرِزا أنّ شهادتهما بالواقع إنّما هي بالاعتماد على الظاهر، فتخيّل القاضي أنّها شهادة بالواقع عن علم فرتّب عليها الأثر.

ويمكن أن يصاغ الدليل على كون مقتضى القاعدة عدم نفوذ الشهادة القائمة على أساس التعبّد بصياغة أُخرى بيانها: أن يُقال: إنّ الموقف الفقهي من بيّنة المنكر فيه احتمالات ثلاثة سندرسها في موضعها إن شاء اللّه:

الأول: أن تكون بيّنة المنكر حجّة كبيّنة المدّعي، وموجبةً للقضاء وفقها بفرق أن المدّعي هو الذي يكون عليه البيّنة، فلو أقامها لا تصلُ النوبة إلى بيّنة المنكر،

437

ولو لم يقمها جاز للمنكر أن يكتفي باليمين، فيُقال: هذا هو المقدار الذي يفهم ممّا ورد من أنّ «البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر»، فهذه القاعدة ليس معناها عدم قبول البيّنة من المنكر، وإنّما معناها التسهيل على المنكر بالاكتفاء بيمينه إذا أراد، وذلك بنكتة مطابقة كلامه للأصل. أمّا إذا أقام البيّنة _ بعد فرض عدم إقامة المدّعي للبيّنة ووصول النوبة إليه _ فلا بأس بذلك، ولا يطالَب عندئذٍ باليمين.

والثاني _ أن يقال: إنّ قاعدة أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على المنكر كما لم تدل على رفض البيّنة من المنكر كذلك لم تدل على تقديم بيّنة المدّعي على المنكر، فهما متساويتان في القيمة، وإنّما الفرق بين المدّعي والمنكر أنّ المدّعي هو الذي يطالَب بالبيّنة، وأمّا المنكر فله الاكتفاء بالحلف أو بالبيّنة لو لم يقم المدّعي البيّنة، أمّا لو أقام كلاهما البيّنة بالتساوي: فإمّا أن يحكم للمنكر لمطابقة كلامه للأصل، أو يحلّف المنكر، ثم يحكم له بعد حلفه. ونلحق بهذا الاحتمال احتمال كون بيّنة المنكر حجّة ذاتية لا قضائية، فالمنكر _ على أيّ حال _ بحاجة إلى اليمين، وإنّما فائدة بيّنته هي إسقاط بيّنة المدّعي بالتعارض. وعلى أيّ حال فيشهد للأوّل _ أعني كون الحكم للمنكر _ ما عن غياث بن إبراهيم عن أبي عبداللّه (عليه السلام): «أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) اختصم إليه رجلان في دابّة، وكلاهما أقاما البيّنة أنّه أنتجها، فقضى بها للّذي في يده، وقال: لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين»(1). ويشهد للثاني _ أعني تقييد الحكم عند تعارض البيّنتين بحلف المنكر _ ما عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبداللّه (عليه السلام): «أنّ رجلين اختصما إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأقام كلّ واحد منهما البيّنة أنّها نتجت عنده، فأحلفهما علي (عليه السلام)، فحلف أحدهما، وأبى الآخر أن يحلف، فقضى بها


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص182، الباب 12 من كيفية الحكم، ح3.

438

للحالف، فقيل له: فلو لم تكن في يد واحد منهما، أقاما البيّنة؟ فقال: أُحلّفهما، فأيّهما حلف، ونكل الآخر جعلتها للحالف، فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين. قيل: فإن كانت في يد أحدهما، وأقاما جميعاً البيّنة؟ قال: أقضي بها للحالف الذي هو في يده»(1). وفي السند غياث بن كلوب، ولعلّه يكفي في توثيقه ما ذكره الشيخ في العدّة من أنّه «عملت الطائفة بأخباره إذا لم يكن لها معارض من طريق الحقّ»، فقد يجعل هذا الحديث مقيّداً للحديث الأول.

والثالث _ أن يقال: إنّ معنى كون «البيّنة على المدّعي واليمين على المنكر» أنّه لا تُقبل من المنكر البيّنة أصلاً، فالبيّنة إنّما تُقبل من المدّعي الذي عليه أن يقيم البيّنة، وأمّا المنكر فليس عليه إلا اليمين، أمّا لو أقام بيّنة على إنكاره فلا قيمة لبيّنته إطلاقاً؛ كما يشهد له ما ورد عن منصور قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): رجل في يده شاة، فجاء رجل فادّعاها، فأقام البيّنة العدول أنّها ولدت عنده، ولم يهب، ولم يبع، وجاء الذي في يده بالبيّنة مثلهم عدول أنّها ولدت عنده لم يبع ولم يهب، فقال أبو عبداللّه (عليه السلام): حقّها للمدّعي، ولا أقبل من الذي في يده بيّنةً؛ لأنّ اللّه (عزوجل) إنّما أمر أن تطلب البينة من المدّعي، فإن كانت له بيّنة، وإلا فيمين الذي هو في يده، هكذا أمر اللّه (عزوجل)»(2). إلا أنّ سند الرواية ضعيف؛ لأنّ إبراهيم بن هاشم رواها عن محمد بن حفص عن منصور، فإن كان منصور منصرفاً إلى منصور بن حازم الذي كان له كُتبٌ أو كان منصرفاً عن غير شخصين: أحدهما منصور بن حازم الذي له كتب، والثاني منصور بن يونس الذي له كتاب، فلا إشكال في سند الحديث من


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص182، الباب 12 من كيفية الحكم، ح2.

(2) نفس المصدر، ص186، ح14.

439

ناحية منصور؛ لأنّهما ثقتان، لكن يبقى الإشكال من ناحية محمد بن حفص، وذلك لما ذكره السيد الخوئي في مباني تكملة المنهاج(1) من أنّ تطبيق الأردبيلي (رحمه الله) هذا الرجل على محمد بن حفص وكيل الناحية الذي كان يدور عليه الأمر، وكان من أصحاب الإمام العسكري (عليه السلام) غير صحيح؛ إذ لا يمكن أن يروي محمد ابن حفص هذا عن منصور الذي كان في زمن الصادق والكاظم (عليهماالسلام)، ولا يمكن أن يروي عنه إبراهيم بن هاشم الذي لقي الرضا وأدرك الجواد (عليهماالسلام). إذاً فمحمد بن حفص الوارد في سند هذا الحديث رجل مجهول.

وعلى أيّ حال فلو قلنا في المقام بحجّية البيّنة التي كانت شهادتها قائمةً على أساس التعبّد في باب القضاء، فبضمّ ذلك إلى أيّ مبنىً نختاره في بينة المنكر نصل إلى نتيجة غربية:

فإن اخترنا المبنى الأول، وهو أنّ بيّنة المنكر تقبل بعد فقد المدّعي للبيّنة وتُغني عن اليمين، لزم من ذلك أن يكون بإمكان المنكر التخلّص من اليمين دائماً؛ لأنّ كلامه مطابق دائماً للحكم الظاهري، فبإمكانه تحصيل الشهود على طبق كلامه بناءً على نفوذ الشهادة القائمة على أساس التعبّد. وهذا غير محتمل فقهياً.

وإن اخترنا المبنى الثاني، وهو سقوط بيّنة المدّعي لدى إقامة المنكر البيّنة فيقضي القاضي لصالح المنكر، إمّا مطلقاً أو بعد يمينه، لزم من ذلك أنّ بإمكان المنكر دائماً أن يُلغي بيّنة المدّعي ذلك بإقامته هو للبيّنة ما دام كلامه مطابقاً للحكم الظاهري، وما دمنا قلنا بجواز كون الحكم الظاهري أساساً للشهادة، وهذا أيضاً غير محتمل فقهياً، ثم لو قلنا بعدم الحاجة إلى يمين المنكر عند تعارض البيّنتين لزم أيضاً ما مضى من


(1) ج1، ص50.

440

إمكان تخلّص المنكر من اليمين دائماً.

وإن اخترنا المبنى الثالث: وهو أنّه لا تقبل البيّنة من المنكر بأيّ شكل من الأشكال، قلنا: إنّ البيّنة القائمة على أساس التعبّد: إمّا أن تكشف هويّتها أمام القاضي، أو لا تكشف هويّتها أمام القاضي، فيعتقد أو يحتمل القاضي كونها قائمةً على أساس معرفة الواقع بالحسّ أو ما يقرب من الحسّ.

فإن كشفت هويّتها أمام القاضي وبيّنت أنّ الشهادة قائمة على أساس الحكم الظاهري، فبهذا قد انقلب المدّعي منكراً؛ إذ أصبح كلامه موافقاً للحكم الظاهري، وبذلك سقطت البيّنة عن الحجّية القضائية؛ لأنّنا فرضنا عدم قبول البيّنة من المنكر إطلاقاً.

وإن لم تكشف هويّتها أمام القاضي فهنا نسأل: ماذا يقصد بفرض حجّية هذه البيّنة؟

فإن قصد بذلك حجّيتها بمعنى أنّ القاضي قد اغترّ، واعتقد أنّ هذه بيّنة قائمة على أساس الإحساس بالواقع، وكان من الطبيعي عندئذٍ تنفيذه هذه البيّنة فهذا لا يعني حجّية البيّنة القائمة على أساس التعبّد كما هو واضح، وإنّما يعني أنّ البينة خانت بتحريف مسيرة القضاء بإيحائها إلى ذهن القاضي أنّها قائمة على أساس الإحساس بالواقع لا التعبّد.

وإن قصد بذلك أنّ عدم كشف البيّنة عن هويّتها التعبّديّة جعلها ذات قيمة أكبر ممّا لو كشفت عن هويّتها بحيث أصبحت الآن حجّةً حقيقيّةً لا من باب تغرير القاضي، فالقاضي يقضي وفقاً لهذه البيّنة، ولو احتمل كونها قائمةً على أساس التعبّد فهذا أمر غريب عقلائيّاً، فإنّه من المعقول _ عقلائيّاً _ أن يكون دليل مّا عند عدم معرفة هويّته أقوى قيمةً من باب خطأ المستدلّ وافتراضه للدليل على هويّة أُخرى،

441

ولكن ليس من المعقول _ عقلائيّاً _ أن يكون دليل مّا أقوى قيمةً واقعاً لدى عدم معرفة هويّته منه لدى معرفة هويّته.

كلّ هذا البيان إنّما صغناه لإثبات أنّ مقتضى القواعد عدم الحجّية للبيّنة القائمة على أساس التعبّد في باب القضاء بعد تسليم نفوذ البيّنة القائمة على أساس العلم غير الحسّي وغير ما يقرب من الحسّ، وتسليم قيام الأمارة والأصل مقام العلم الموضوعي، أمّا إذا أنكرنا الثاني _ كما هو الصحيح عندنا في بحث الأصول _ أو أنكرنا الأول كما سيتّضح _ إن شاء اللّه _ في البحث عن القسم الثالث فكون مقتضى القاعدة عدم حجّية القسم الرابع يكون في غاية الوضوح.

يبقى في المقام أنّ هناك بعض الروايات ممّا يمكن جعلها دليلاً على نفوذ الشهادة القائمة على أساس الأمارة أو الأصل، وهي عدّة روايات من قبيل ما يأتي ممّا قد يُجعل بعضها شاهداً على نفوذ البينة القائمة على أساس اليد، وبعضها شاهداً على نفوذ البيّنة القائمة على أساس الاستصحاب:

الرواية الأُولى _ ما ورد عن حفص بن غياث عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال له رجل: إذا رأيت شيئاً في يَدَيْ رجل يجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال: نعم. قال الرجل: أشهد أنّه في يده، ولا أشهد أنّه له، فلعلّه لغيره. فقال أبو عبداللّه (عليه السلام): أفيحلّ الشراء منه؟ قال: نعم. فقال أبو عبداللّه (عليه السلام): فلعلّه لغيره فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكاً لك ثم تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟! ثم قال أبو عبداللّه (عليه السلام): لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق »(1) وهذا الحديث في سنده شخصان قد يتوقّف في تماميّة


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص215، الباب 25 من كيفيّة الحكم، ح2.

442

السند من أجلهما:

أحدهما _ الراوي المباشر للإمام، وهو حفص بن غياث حيث لم يرد في كتب الرجال له توثيق عدا ما ذكره الشيخ (رحمه الله) في فهرسته من قوله: «حفص بن غياث القاضي عامّي المذهب له كتاب معتمد» فقد يُقال: إنّ كون كتابه معتمداً لا يدل على وثاقته، ولكن قد يكفينا ما ذكره الشيخ في العدّة من أنّ الطائفة عملوا بأخبار حفص ابن غياث إذا لم يرد في طريق الإماميّة الموثوق به ما يخالفه.

والثاني _ القاسم بن يحيى أو القاسم بن محمد الأصبهاني حيث وقع الأول في سند الكليني والشيخ  إلى هذه الرواية، والثاني وقع في سند الصدوق (رحمه الله)إليها، والثاني بناءً على اتّحاده مع القاسم بن محمد القمي _ كما هو الظاهر _ قد ضعّف من قبل النجاشي، وبناءً على عدم اتّحاده معه لم يثبت ضعفه، ولكن لم تثبت _ أيضاً _ وثاقته. والأول هو القاسم بن يحيى ورد عن ابن الغضائري تضعيفه، ولا عبرة بذلك، ولكن لم يرد في كتب الرجال توثيق له، إلا أنّ السيد الخوئي بنى في معجم رجال الحديث(1) ومباني تكملة المنهاج(2) على وثاقته لوروده في أسانيد كامل الزيارات، وذلك بناءً على ما بنى عليه من وثاقة كلّ من ورد في أسانيد كامل الزيارات، إلا أنّ هذا المبنى غير مقبول عندنا، ولكن هناك شاهد آخر على وثاقته، وهو ما أشار إليه السيد الخوئي في معجم رجال الحديث(3) من كلام للشيخ الصدوق (رحمه الله) في «من لا يحضره الفقيه»، وقد أشار اليه السيد الخوئى بعنوان التأييد لوثاقته التي أثبتها بوروده في أسانيد كامل الزيارات وبيانه: أنّ الشيخ الصدوق (رحمه الله) _ في «من لا يحضره


(1) ج 14 ، صفحه 68.

(2) ج 1، صفحه 114 .

(3) ج14، صفحه69.

443

الفقيه»(1) ذكر في زيارة الحسين (عليه السلام) زيارةً نقلها عن الحسن بن راشد عن الحسين بن ثوير عن الصادق (عليه السلام)، ثم ذكر وداعاً للحسين (عليه السلام) نقلاً عن يوسف الكناني عن أبي عبداللّه (عليه السلام) ثم قال: «وقد أخرجتُ في كتاب الزيارات، وفي كتاب مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنواعاً من الزيارات، واخترت هذه لهذا الكتاب؛ لأنّها أصحّ الروايات عندي من طريق الرواية، وفيها بلاغ وكفاية»، ومن البعيد افتراض رجوع اسم الإشارة في عبارته هذه إلى زيارة الوداع رغم أنّها هي الزيارة المتصلة بهذه العبارة، فالظاهر رجوعها إلى الزيارة التي نقلها عن الحسن بن راشد _ وإن كانت تلك مذكورة قبل زيارة الوداع _ فإنّها هي الزيارة العامّة المنصرف إليها الكلام لا الزيارة الخاصّة بحال الوداع، وهي التي عَنْوَنَها بعنوان: «زيارة قبر أبي عبداللّه الحسين (عليه السلام)» ولم يعنون الوداع بذلك، فهذه شهادة منه (رحمه الله) بأنّ هذه الزيارة أصحّ الزيارات سنداً، وللصدوق (رحمه الله) إلى الحسن بن راشد _ على ما نقله هو في مشيخة الفقيه _ سندان:

أحدهما: عبارة عن أبيه عن سعد بن عبداللّه وأحمد بن محمد بن عيسى وإبراهيم ابن هاشم جميعاً عن القاسم بن يحيى عن جدّه الحسن بن راشد.

والثاني: عبارة عن محمد بن علي ماجيلويه عن أبيه عن علي بن إبراهيم عن هاشم عن أبيه عن القاسم بن يحيى عن جدّه الحسن بن راشد. إذاً فالقاسم بن يحيى واقع في كلا السندين، فحكمه بتصحيح هذه الزيارة يعني وثاقة القاسم بن يحيى.

ولعلّ السبب في أنّ السيد الخوئي جعل هذا تأييداً لوثاقه ‏القاسم بن يحيى ولم يجعله دليلاً عليها هو ما يقال من أنّ تصحيح الرواية من قبل القدماء لا يدل على توثيق الراوي؛ إذ من المحتمل كون مبناهم في التصحيح على مثل أصالة العدالة، لا على


(1) ج2، ح 1614 و 1615.

444

ثبوت الوثاقة بالشكل الذي نؤمن به.

هذا كلّه بلحاظ حال سند الحديث.

وأمّا بلحاظ الدلالة: فالظاهر أنّ دلالة الحديث غير تامّة؛ لأنّ الظاهر أنّ المقصود بما ذكره الإمام (عليه السلام) في الرواية من جواز الشهادة بمالكيّة من كان المال في يده هو الشهادة بالملكيّة الظاهرية لا الواقعية، والقرينة على ذلك استدلال الإمام (عليه السلام) في مقام إقناع السائل بأنّه لو اشتراه منه لحلف أنّه ملكه، فكيف لا يشهد بملكيّة من انتقل الملك منه إليه؟ والمفروض أن يكون الإقناع بالاستدلال بشيء واضح بحيث يسلّم به السائل مسبقاً بوضوح، والشيء الواضح إنّما هو جواز الحلف على ملكيّته الظاهرية لما اشتراه من ذي اليد. أمّا جواز الحلف على ملكيّته الواقعية اعتماداً على الحكم الظاهري فحتى لو قلنا به ليس من الواضحات والمسلّمات التي يناسب ذكرها في مقام الاستدلال والإقناع بالدليل، فإذا حملت الشهادة في الحديث على الشهادة بالملكيّة الظاهرية، فمن الواضح أنّ هذه شهادة عن علم حسّي، وليست شهادة عن تعبّد، فالرواية خارجة عمّا نحن بصدده.

نعم لو كانت الرواية واردة بخصوص مورد الشهادة في القضاء، كان هناك مجال للقول بانصراف الرواية إلى كون هذه الشهادة حجّة قضائيّة، أي: أنّها تثبت صحّة دعوى المدّعي، ولكنّ الرواية لم ترد بخصوص باب القضاء، غاية ما هناك شمولها لمورد القضاء بالإطلاق ودلالتها على كونها حجّةً ذاتيةً في موارد القضاء لإثبات الملكيّة الظاهرية، وهذا أثره ليس بأكثر من تشخيص المنكر من المدّعي.

ويشهد لما ذكرناه _ من كون النظر في الحديث إلى الشهادة بالملكيّة الظاهرية لا الملكيّة الواقعية _ قوله: «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق»؛ إذ من الواضح أنّ فرض عدم إمكان الشهادة بالملكيّة الواقعية لا يهدّم سوق المسلمين، وإنّما الذي يهدّم

445

سوق المسلمين هو عدم إمكان الشهادة بالملكيّة الظاهرية _ التي عرفنا دليلها، وهو اليد _ بالحسّ، فإنّ هذا يساوق عدم تلك الملكيّة الظاهرية، وهذا يعني عدم قيام سوق للمسلمين.

والسيد الخوئي(1) فَهِمَ من الحديث أنّ النظر إلى الشهادة بالملكيّة الواقعية، ولكنّه مع ذلك أبطل الاستدلال بهذا الحديث على نفوذ الشهادة القائمة على أساس أمارة اليد في باب القضاء بوجهين أثبت بهما أنّ المراد بجواز الشهادة في المقام جواز الإخبار عن كون شيءٍ لصاحب اليد استناداً إلى يده لا نفوذ الشهادة في باب الترافع:

الوجه الأول _ أنّه لو جازت الشهادة بمجرد كون المال في يد أحد لم يكن فرض مورد لا تكون لصاحب اليد بيّنة، وبهذا يسقط أثر بيّنة المدّعي دائماً؛ لأنّ بيّنة المدّعي إنّما تؤثّر إذا لم تكن لصاحب اليد بيّنة. أمّا إذا كانت له بيّنة فالقول قوله مع يمينه(2).

أقول: هذا الكلام يعني أنّه اختار في بيّنة ذي اليد ما شرحناه من الاحتمال الثاني من الاحتمالات الثلاثة في بيّنة المنكر على أساس دلالة بعض الروايات على ذلك كما تقدم، فرأى أنّ ضمّ ذلك إلى فرض نفوذ البيّنة في باب القضاء يؤدّي إلى نتيجة غريبة، وهي إمكان إسقاط بيّنة المدّعي من قبل المنكر دائماً، ولكنّه لم يكمل الشوط ببيان النتائج على المحتملات الأُخرى.

ومن حقّنا أن نتساءل: هل أنّ مقصوده إنكار ظهور رواية حفص بن غياث في نفوذ البيّنة في المقام لأجل ما دلّ عنده من بعض الروايات على أنّه لو تعارضت بيّنة


(1) راجع مباني تكملة المنهاج، ج1، ص113 _ 114.

(2) على ما أثبته السيد الخوئي في مباني تكملة المنهاج، ج1، ص49 _ 50، فراجع.