291

القرينيّة على المحاضرة الأُولى عند الاتّصال تبقى على قرينيّتها عند الانفصال، فهذا الانفصال وإن كان انفصالاً بحسب عمود الزمان لكنّه لا يعتبر انفصالاً في عالم اللّغة، وهو أشبه شيء بما لو تكلّم المتكلّم بالعام ثم أُغمي عليه ساعات، وبعد أن أفاق أتى بالخاص، أفهل يفترض عندما انقطع كلامه بالإغماء أنّ ظهور كلامه قد استقر؟! طبعاً لا. وهكذا حال هذا المدرّس، وكذلك حال الشريعة الإسلامية.

إلا أنّ هذا الوجه ان قصد به دعوى عدم انعقاد الظهور ما لم نُحطْ بكلّ المنفصلات المحتمل قرينيّتها، _ وقد لا نستطيع أن نحيط بذلك لاحتمال تلف كثير من النصوص _ فلا أظنّ أحداً يلتزم بهذه النتيجة، ولم يصل ديدن الشريعة على فصل المتّصلات إلى مستوىً نقول فيه بعدم استقرار الظهور عند انتهاء الكلام لاحتمال مجى‏ء قرينة منفصلة.

وإن قصد به _ بعد الاعتراف بأن ديدن الشريعة على فصل المتصلات لم يبلغ مستوى عدم انعقاد الظهور _: أنّ نفس قيام ديدن الشريعة على فصل المتصلات يجعل الإنسان العرفي متقبّلاً مفسّريّةً بعض النصوص لبعض رغم الانفصال، فهذا وحده لا يكفي لإثبات أنّ ما كان قرينةً لدى الاتصال هو القرينة أيضا لدى الانفصال رغم أنّ نكتة القرينيّة كانت كامنةً فى نفس الاتصال لا في ذات القرينة، بل لابدّ من ضم ذلك إلى ما مضى من أنّ جعل ما كان قرينةً لدى الاتصال قرينة لدى الانفصال أولى من جعل ما لم يكن قرينةً لدى الاتصال قرينة لدى الانفصال، فكأنّ الدليل على قرينية الخاص على العام مثلاً صار مؤتلفاً من مقدمتين: الأولى: أنّ كون ديدن الشريعة على الفصل بين المتصلات جعل العرف يتقبل فرض قرينيّة أحدهما على الآخر رغم الانفصال. والثانية: أنّ قرينيّة ومفسّريّة ما كان كذلك في فرض الاتصال أولى من قرينيّة ومفسّريّة الآخر، وهذا رجوع إلى ما ناقشناه آنفاً.

292

ومن هنا نحن نبني في باب القرائن التي تفقد نكتة قرينيتها لدى الانفصال على أنّ المقياس فى التقديم والقرينية لدى الانفصال إنما هو الأقوائية، فلو فرض صدفةً كون العام أقوى من الخاص مثلاً في مورد، كان هو المقدّم على الخاص دون العكس.

الثاني _ دعوى الإجماع على التعامل مع العام والخاص وما شابههما في الشريعة معاملة المتّصلين.

إلا أنّ دعوى الإجماع التعبّدي في المقام _ كما ترى _ غير صحيحة، فلعلّ المجمعين الذين فهمنا إجماعهم من خلال عملهم وسيرتهم في الاستنباط كانوا يعتقدون بأقوائيّة ما قدّموه، أو كانوا يعتقدون بالقاعدة الميرزائيّة أو غير ذلك.

وبعد هذا يبقى الكلام في أنّه لو سلّمت القاعدة الميرزائيّة بأحد الوجهين الماضيين، أو سلّم بأحد الوجهين الأخيرين اللّذين أشرنا إليهما بلحاظ نصوص الشريعة، فهل يمكن تطبيق شيء منها على ما نحن فيه أو لا؟ فنقول:

أمّا الإجماع فليس له معقد خاص يتمسّك بإطلاقه، وهو دليل لبّي، والمتيقّن من مورده هو مورد الجمع بين المتعارضين كالعام والخاص، وروايات عدم حجّية خبر الواحد في الموضوعات المختلفة لا تعارض فيما بينها، فلو تمّ هذا الوجه لا ينطبق على المقام.

وأمّا ديدن الشريعة فهو على فصل المتّصلات لا على كون كلّ منفصلاته في الأصل متّصلات، فلو أثّر فإنّما يؤثّر في الأدلّة المتعارضة التي لو فرض الوصل بينها كان بعضها قرينةً على البعض، لا في الأدلّة التي لا تعارض فيما بينها، ومن المحتمل كونها من أساسها منفصلاً بعضها عن بعض، وما نحن فيه من هذا القبيل، لما أشرنا إليه من عدم التعارض فيما بين الروايات.

293

وأمّا القاعدة الميرزائيّة بتفسيرها الثاني _ وهي دعوى: أنّه وإن فرض فقد نكتة القرينيّة عند الانفصال، ولكنّ جعل ما كان قرينةً عند الاتصال قرينة عند الانفصال أولى عرفاً من جعل ما لم يكن قرينة عند الاتصال قرينة عند الانفصال _ فهذا الوجه مورده _ كما ترى _ فرض الدوران بين قرينيّة هذا وقرينيّة ذاك، وهذا فرضه فرض التعارض بين النصّين، بينما أشرنا إلى أنّه لا تعارض في ما بين النصوص في المقام.

وأمّا القاعدة الميرزائيّة بتفسيرها الأوّل، _ وهي دعوى: أنّ نكتة القرينيّة في حال الاتّصال دائماً تنحفظ في حال الانفصال _ فهذه أيضاً لو تمّت لا تنطبق على ما نحن فيه، وذلك لأنّ نكتة القرينيّة التي تكسر الظهور المعارض عند الاتّصال من المعقول أن تكسر الحجّية عند الانفصال رغم انحفاظ الظهور، فيكون الظهور الآخر هو الحجّة، ولكن التي تخلق ظهوراً ثالثاً بالاتّصال هل يمكن أن تخلق الحجّية عند الانفصال رغم عدم الظهور؟ كلّا. وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لِما عرفت من عدم وجود أيّ معارضة بين الروايات، فلا توجد قرينة تكسر ظهوراً عن الحجّية.

نعم، لو كان بعضها متّصلاً بالبعض لخُلق ظهور في إرادة القاعدة العامّة وهي عدم حجّية خبر الواحد في الموضوعات بما هي كذلك، لكن بسبب الانفصال لم يخلق ظهور من هذا القبيل، فما هو المبرّر لافتراض حجّية ظهور معلَّقٍ تحقُّقُه على الاتّصال؟!

نعم، يبقى أن يدّعي مدّعٍ _ بلا حاجة إلى التحليلات التي عرضناها للقاعدة الميرزائيّة _: أنّ الظهور التقديري المعلّق على اتّصال النصوص بعضها ببعض حجّة رغم عدم فعليّته بسبب الانفصال، وهذه الدعوى بالإمكان رفضها أو قبولها من دون نظر إلى التحليلات الماضية للقاعدة الميرزائيّة، والصحيح رفض هذه الدعوى.

وعليه فقد اتّضح أنّه لا يمكن أن نستظهر في المقام ردعاً للسيرة العقلائية بشكل

294

عام ولو آمنّا بقيامها على حجّية خبر الثقة في الموضوعات.

نعم، يبقى احتمال الردع الوارد في كلّ رواية من تلك الروايات، فإن اعتمدنا على هذا الاحتمال لإبطال حجّية السيرة فهو، وإلا _ كما لو قلنا بأنّ هذه السيرة قويّة لا يكفي في ردعها شيء من هذا القبيل، أو قلنا بأنّ هذه السيرة ممضاة في صدر الإسلام، فيجري استصحاب بقاء الإمضاء _ فقد ثبتت حجّية خبر الثقة في الموضوعات، إلا في الموارد الخاصّة التي ورد فيها الردع عنه، ثم لو سلّمنا حجّية خبر الثقة في الموضوعات إمّا بالسيرة، أو بالإطلاق المفهوم بمساعدة السيرة من نصوص حجّية خبر الثقة، فلا إشكال في أنّ هذا خاص بغير موارد النزاع؛ لأنّ انتفاء السيرة في موارد النزاع واضح جدّاً، فخبر الثقة في موارد النزاع كما ليست له حجّية قضائيّة كذلك ليست له حجّية ذاتية يجوز للشخص الثالث قبل القضاء أن يعتمد عليها كي تأتي شبهة انقلاب المدّعي منكراً في المقام.

وبعد، فالمختار لنا هو عدم حجّية خبر الثقة في الموضوعات: لا في موارد النزاع، ولا في الموارد التي يترقّب فيها النزاع كموارد الطلاق والنكاح، ولو لم يكن نزاع بالفعل، ولا في الموارد التي يُترقَّب تدخُّلُ الحاكم فيها كالهلال والحدود، ولا في الموارد الفرديّة البحت كالطهارة والنجاسة.

أمّا في موارد النزاع فالمسألة واضحة فقهيّاً، وعدم السيرة العقلائية على الحجّية أيضاً في غاية الوضوح.

وأمّا في موارد ترقُّب النزاع وموارد ترقُّب تدخُّل الحاكم _ كالطلاق والنكاح والهلال والحدود ونحوها _ فشرط البيّنة فيها، وعدم كفاية خبر الواحد ينبغي أن يُعدّ مسلّماً ولو على ضوء الروايات الماضية في الموارد الخاصّة.

وأمّا في الموارد الفرديّة البحت كالطهارة والنجاسة، فنحن أساساً لا نؤمن بدلالة

295

السيرة العقلائيّة على حجّية خبر الثقة كي يقال بشمولها للموضوعات، ويعتمد عليها ابتداءً بسبب عدم الردع، أو يستعان بها لتتميم بعض الإطلاقات للدلالة على حجّية خبر الواحد في الموضوعات، ونقول: إنّ السيرة على حجّية خبر الواحد إنّما هي متشرّعيّة، والمتيقّن منها باب الأحكام وما يلحق به كوثاقة الراوي للحكم، أمّا الموضوعات بشكل مطلق فلا.

نعم، لو علم العبد أنّ المولى أرسل فلاناً لإيصاله أمراً أو نهياً إليه، وشكّ في أنّه هل كلّ ما نقله إليه من المولى صحيح أو فيه ما هو صحيح وفيه ما هو خطأ، فقد يكون نفس إرسال المولى إيّاه قرينةً على اعتماد المولى على نقله وإعطائه للحجّية للكلام _ سواء ثبتت وثاقته عند العبد أو لا _ وهذا غير فرض قيام السيرة على حجّية خبر الثقة.

هذا، ونحن في إنكارنا للسيرة لا نقيم برهاناً على ذلك، كما أن المدّعين لها لم يقيموا برهاناً عليها؛ لأنّ فرض السيرة وعدمها ليس من الأمور القابلة للبرهنة عليها.

اجتماع الدعوى والإنكار

الأمر الثالث _ ذكر المحقّق العراقي(رحمه الله) في قضائه: أنّ صاحب الجواهر(رحمه الله) وقع في تناقض، حيث اختار في مسألة الخلاف في مقدار الأُجرة أنّ كلّاً ممن يدّعي الإيجار بالثمن الزائد أو الناقص مدّعٍ ومنكر، بينما اختار في تداعي من بيدهما العين الملكيّة أنّ كلّاً منهما مدّعٍ، ولا يصدق على أحدهما المنكر؛ لأنّ اليدين متساقطتان، وهذان الرأيان متهافتان؛ لأنّه إن فرض أنّ المقياس هو الحجّية الفعليّة فأصالة عدم الإيجار بالزائد مع أصالة عدم الإيجار بالناقص في المسألة الأُولى أيضاً متساقطتان، فالمفروض أن يكونا في المسألة الأُولى أيضاً مدّعيين فقط، وإن فرض أنّ المقياس هو

296

الحجّية الاقتضائيّة وكلّ من أصلي عدم الإيجار في المسألة الأولى حجّة اقتضاءً، أي: لولا المعارض فهو بحدّ ذاته حجّة، فكذلك الحال بالنسبة لليدين في المسألة الثانية؛ إذاً فكلٌّ مدّعٍ ومنكرٌ أيضاً(1).

أقول: المقياس هو الحجّية الفعليّة كما هو مختار المحقّق العراقي (رحمه الله)، والحجّية الفعليّة لا تجتمع في أصلين متعارضين؛ إذاً لا يمكن أن يكون كلّ منهما مدّعياً ومنكراً في وقت واحد، إلا إذا كانت هناك مرافعتان كي يكون أحدهما مدّعياً بالنسبة لإحدى المرافعتين ومنكراً بالنسبة للمرافعة الأُخرى. وفي المسألة الثانية لا توجد مرافعتان، فإنّ دعوى كلّ واحد منهما الملكيّة لو قوبلت بمجرد نفي الآخر ملكيّتة لا تشكّل مرافعة في مفروض الكلام، وإنّما الذي شكّل المرافعة هو أنّ كلّاً منهما يدّعي الملكية لنفسه، بينما يستحيل اجتماع ملكيتين مستقلّتين على مال واحد، فلا توجد إلا مرافعة واحدة، واليدان متعارضتان؛ لأنّ مفاد كلّ من اليدين ينفي مفاد اليد الأُخرى بطبيعته، لاستحالة صدقهما معاً، فهما متساقطتان، وتصل النوبة إلى أصالة عدم مالكيّة هذا وأصالة عدم مالكيّة ذاك، وهذان الأصلان لا يتعارضان؛ لاحتمال صدقهما معاً بأن لا يكون هذا مالكاً ولا ذاك مالكاً، فكلّ منهما مدّعٍ لأنّه يدّعي ما هو خلاف الأصل.

نعم، قد يتّفق أنّنا نعلم صدفةً بكذب أحد الأصلين إجمالاً، لكنّ العلم الذي يتّفق صدفةً فيسقط الأصل في نظر العالم لا يسقط المنكر عن كونه منكراً، وليس كالعلم بكذب إحدى اليدين الذي أسقط اليدين الناشيء من استحالة اجتماع صدقهما ذاتاً، وإلا لكان علم القاضي أو أيّ إنسان ثالث بكذب المنكر في أيّ دعوى


(1) كتاب القضاء للمحقّق العراقي، ص 106

297

حصل فيها علم من هذا القبيل مُخرجاً للمنكر عن كونه منكراً، لأنّه سقط أصله في نظر هذا العالم، بينما الأمر ليس كذلك، فالمنكر منكر ولو علمنا صدفةً كذبه، كما أنّ المدّعي مدعٍ ولو علمنا صدفةً صدقه.

وأمّا في المسألة الأُولى فكلّ واحد من الإيجارين يكفي دعواه من قبل أحدهما وإنكاره من قبل الآخر في تشكيل المرافعة، بغضّ النظر عن دعوى الإيجار الآخر. إذاً فهناك مرافعتان هذا بغضّ النظر عمّا مضى سابقاً في مسألة تداعي البيع والهبة اللازمة عن أُستاذنا الشهيد (رحمه الله): من أنّ دعوى الهبة مع اتفاقهما على أصل التمليك لا أثر لها، ولا تشكّل مرافعة، وكذلك نقول في المقام: إنّ دعوى الإيجار بالأقلّ مع اتفاقهما على جامع الإيجارين لا أثر لها، ولا تشكّل مرافعة. وهذا الإشكال كما ترى غير إشكال المحقّق العراقي (رحمه الله) في المقام وكلّ منهما مدّعٍ بالنسبة لأحد الإيجارين؛ لأنّ الأصل عدمه، ومنكر بالنسبة للإيجار الآخر؛ لأنّه يوافق أصالة عدمه، والأصلان غير متعارضين لإمكان صدقهما معاً؛ بأن لا يكون قد وقع شيء من الإيجارين. نعم، قد نعلم صدفةً بكذب أحدهما إجمالاً _ أي بوقوع أصل الإيجار _ ولكن قد وضّحنا أن العلم الإجمالي صدفةً بالكذب لا يخرج المنكر عن كونه منكراً، فإنّه ليس بأشدّ من العلم التفصيلي بكذب المنكر.

مصبّ النزاع بين المدّعي والمنكر

الأمر الرابع _ أنّ مقياس المدّعي والمنكر وترتّب أحكامهما عليهما مختصّ بما إذا كان النزاع على حقّ أو عين يدّعيه أحدهما على الآخر أو عنده وينكر الآخر، أمّا إذا كانا معاً معترفين بالحقّ أو العين لأحدهما، وإنّما النزاع في مخالفة الآخر لهذا الحقّ أو غصبه لهذه العين، فهذا لا يدخل في باب النزاع الذي يحمل أحكام المدّعي والمنكر،


(1) كتاب القضاء للمحقّق العراقي، ص 10

298

فمعنى المدّعي والمنكر في باب القضاء هو من يدّعي حقّاً أو عيناً على أحد، ومن ينكره عن نفسه، أمّا لو ادّعى مثلاً أنّ فلاناً ساكن في بيتي وذاك يعترف أنّ هذا بيته، ولكنّه ينكر كونه ساكناً في بيته، وكانت دعوى الأول لا بروح مطالبة الثاني بأُجرة مدّة سكنه في البيت؛ كي يرجع الأمر إلى دعوى حقّ عليه ينكره، بل بروح إخراجه من الآن فصاعداً من البيت، فهذا ليس بابه باب القضاء المتعارف الذي يحكم فيه بأنّ القضاء يكون بالبيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر، ولو ادّعى مثلاً أنّ فلاناً يريد قتلي أو ضربي، والآخر أنكر ذلك، فهذا ليس بابه باب القضاء ليحكم فيه بالبيّنات والأيمان، وإنّما هذا بابه باب دفع الظلم ودفع المنكر وحفظ الأمن، وما شابه ذلك من التعابير، وهذا ما يقوم به الحاكم بوصفه وليّاً للأمر، أو وكيلاً عنه إن كانت وكالته شاملةً لأمور من هذا القبيل لا بوصفه قاضياً، فإنّ معنى القضاء عرفاً لا يشمل هذا المورد.

وإن شئت فعبّر عمّا ذكرناه بأحد التعبيرات الآتية التي لعلّها أقرب إلى الفهم، وإن كانت هي غير دقيقة وقابلة للنقوض، والتعبير الدقيق هو ما ذكرناه:

1_ أن يقال: إنّه متى ما كان النزاع في رفع الظلم فهذا بابه باب القضاء، ويكون مشمولاً لقوانين المدّعي والمنكر، ومتى ما كان النزاع في دفع الظلم فهذا بابه باب النهي عن المنكر من دون أيّ ارتباط بباب القضاء.

2_ أن يقال: إنّه متى ما كان النزاع في تدارك حق أُهدر فهذا بابه باب القضاء، ومتى ما كان النزاع في إهدار حقّ فهذا بابه باب النهي عن المنكر أجنبيّاً عن باب القضاء.

3_ أن يقال: إنّه متى ما كان النزاع راجعاً إلى الماضي فهذا بابه باب القضاء، ومتى ما كان راجعاً إلى المستقبل فهذا بابه باب دفع المفسدة والظلم والنهي عن

299

المنكر بعيداً عن باب القضاء.

وهذه التعبيرات الثلاثة _ كما قلنا _ غير دقيقة.

وهناك تعبير آخر دقيق وفي نفس الوقت قريب إلى الفهم، وهو أنّ القضاء عرفاً يعني إدانة المدّعي أو المنكر، أو تبرئته، فمتى ما كان الباب باب الوقاية ودفع الظلم من دون اشتماله على الإدانة أو التبرئة، لم تثبت فيه أحكام المدّعي والمنكر.

والأساس الذي يعتمد عليه القاضي في مثل هذا المورد إنّما هو إعمال ولاية الفقيه، وقانون النهي عن المنكر لو كان لدليله إطلاق لمثل ذلك، وقانون تقديم المحتمل الأهمّ عندما كانت أهمّيته إلى مستوى نعلم برضا الشارع بتقديمه على المعلوم غير الأهمّ.

فقد يحكم القاضي بوصفه وليّاً أو وكيلاً عن الولي _ لو كانت وكالته شاملةً لمثل المورد _ بتجريد من يُخاف منه القتل عن السلاح، خلافاً لقانون تسلّط الناس على أموالهم، رغم أنّه ليس من المقطوع به إرادته لهذه الجريمة، وذلك لأهميّة المحتمل، وقد يحكم بتطويقه حينما حصل له العلم بأنّه يريد الظلم والضرب منعاً له عن المنكر وحفظاً للأمن، وليس هذا مشمولاً لما مضى من عدم نفوذ علم القاضي عن حدس.

بل قد يقال في موارد القضاء أيضاً: أنّ من حقّ ولي الأمر العمل بعلمه الحدسي، لا في أخذ الحقّ ممن عليه الحقّ لِذي الحقّ، بل في تعزيره الذي هو راجع إلى حقّ اللّه.

بل قد يقال أيضاً في موارد القضاء: إنّ من حقّ ولي الأمر إعمال الولاية بأخذ الحقّ بالقهر والغلبة ممّن علم عن حدس أنّ عليه الحقّ، وإعطائه لمن علم أنّ له الحقّ، لا بالحكم كي يخالف عدم نفوذ علم القاضي، بل بالفعل والعمل بلا حكم. والأثر العملي للفرق بين هذا وبين الحكم، أنّه لو حكم ثم حسم النزاع لا يجوز للمحكوم عليه أن يخاصمه مرةً أُخرى لو أمكنه ذلك ولو قطع بأنّه على حقّ، بينما

300

لو لم يحكم _ وإنّما مارس أخذ الحقّ بالقهر والغلبة _ جاز لمن يعتقد أنّه قد ظُلم المخاصمة مرّةً أُخرى، أو التقاصّ لو أمكنه ذلك.

إلا أنّ الصحيح أنّ التفكيك بين الحكم وأخذ الحقّ بالقهر والغلبه بجواز الثاني دون الأول، وكذا التفكيك بين التعزير والحكم بجواز الأول دون الثاني غير عرفي.

301

البيّنة

2

 

 

شرائط البيّنة

 

  1- البلوغ

  2- العقل

  3- الإيمان أو الإسلام

  4- العدالة

  5- عدم الاتّهام في الشهادة

  6- الحرّية

  7- طهارة المولد

  8- عدم التبرّع بالشهادة

  9- شرط (الحسّ) في الشهادة

  10- الذكورة

  11- حضور الشاهد عند القاضي

  12- وحدة مصبّ الشهادة

  13- البيّنة وشروطها لدى الفقه الوضعي

 

 

303

شرائط البيّنة

البحث الثاني _ شرائط البيّنة:

البلوغ

الشرط الأول _ هو البلوغ:

عدم نفوذ شهادة الصبي

ولا إشكال في عدم نفوذ شهادة الصبي غير المميّز، وإنّما الذي ينبغي البحث عنه هو شهادة الصبي المميّز، ويمكن الاستدلال على عدم نفوذها بوجوه:

الوجه الأول _ مناقشة افتراض وجود إطلاق لأدلّة الإشهاد يشمل شهادة الصبي من قبيل قوله تعالى:﴿فَإِذٰا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفىٰ بِاللّٰهِ حَسِيباً﴾(1). وكقول الرسول (صلى الله عليه و آله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»(2). وذلك إمّا بدعوى الانصراف إلى البالغ، كما ناقش صاحب الجواهر في تلك الإطلاقات بدعوى


(1) النساء: 6.

(2) وسائل الشيعة، ج 18، ص169، الباب 2 من كيفيّة الحكم ح1.

304

الانصراف، أو بدعوى أنّ تلك الإطلاقات إنّما هي بصدد ذكر أصل الإشهاد والبيّنة، وليست بصدد بيان الشرائط المعتبرة في نفوذها(1).

وقد يقال: إنّ مجرد عدم تماميّة الإطلاق إذا كان من باب عدم كونه في مقام البيان لا يكفي لإثبات عدم نفوذ شهادة الصبي؛ بحيث تصل النوبة إلى يمين المنكر، بل نبقى متحيّرين بين كون الوظيفة هي قبول شهادة الصبى، أو سماع يمين المنكر.

وقد يُجاب على ذلك: بأنّ استصحاب عدم جعل الحجّية لهذه الشهادة ينقّح موضوع اليمين؛ لأنّ يمين المنكر أُخذ في موضوعه عدم إقامة المدّعي البيّنة الحجّة؛ بناءً على أنّ الموضوع القاطع لليمين هو البيّنة بما هي حجّة، لا ذات البيّنة التي تكون حجّةً.

الوجه الثاني _ هو التمسّك بقوله تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَاِمْرَأَتٰانِ﴾(2) فإنّ كلمة الرجل لا تشمل الصبى.

الوجه الثالث _ ما دلّ على اشتراط العدالة في الشاهد كقوله تعالى: ﴿شَهٰادَةُ بَيْنِكُمْ إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اِثْنٰانِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾(3)وقوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾(4).

وذلك بدعوى أنّ العدالة لا تتصوّر في الصبي؛ إذ العدالة بمعنى الاستقامة في الطريق فيما بين الخطوط المنحرفة، بينما لا انحراف بشأن الصبى، وكلّ التصرّفات مباحة له، فما معنى استقامته في الطريق؟!

ولكن بالإمكان أن يدّعى أنّ المفهوم عرفاً من شرط العدالة هو النظر إلى ما تعطيه


(1) الجواهر، ج 41، ص 10.

(2) البقرة: 282.

(3) المائدة: 106.

(4) الطلاق: 2.

305

العدالة للإنسان من المناعة، وقد يتّفق أن يكون غير البالغ أشدّ مناعةً من البالغ العادل؛ باعتبار تربية نفسه وتعويده على ترك المحرّمات التي يكون الأَولى له التنزّه منها، ومنها الكذب.

الوجه الرابع _ الروايات من قبيل ما ورد بسند تام عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام): «في الصبي يشهد على الشهادة؟ قال: إن عَقَلَهُ عقله _ حين يدرك _ أنّه حقّ جازت شهادته»(1).

وما ورد عن السكوني بسند فيه النوفلي عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إنّ شهادة الصبي إذا أَشهدوهم وهم صغار جازت إذا كبروا ما لم ينسوها»(2).

وما عن إسماعيل بن أبي زياد (وهو السكوني) بسند تام عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه السلام): «أنّ شهادة الصبيان إذا شهدوا وهم صغار جازت إذا كبروا ولم ينسوها، وكذلك اليهود والنصارى إذا أسلموا جازت شهادتهم، والعبد إذا شهد بشهادة ثم أُعتق جازت شهادته إذا لم يردّها الحاكم قبل أن يعتق»، وقال علي (عليه السلام): «وإن أُعتق لموضع الشهادة لم تجز شهادته»(3). ولو حمل ذيله الدالّ على عدم قبول شهادة المملوك على التقيّة لم يضرّ بحجّية صدره، ولا يوجب سلب الوثوق عنه.

وما عن محمد بن مسلم بسند تام عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله): لم تجز شهادة الصبى، ولا خصم، ولا متّهم، ولا ظنين»(4).


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص251، الباب 21 من الشهادات، ح1.

(2) نفس المصدر، ح2.

(3) نفس المصدر، ص257، الباب 23 من الشهادات، ح 13،وجاء صدره أيضاً في الباب 21 من الشهادات، ص252، ح4.

(4) نفس المصدر، ص275، الباب 30 من الشهادات، ح6.

306

استثناءات في شهادة الصبي

وقد وردت استثناءات على عدم قبول شهادة الصبي:

الأول _ ما دلّ على قبول شهادته إذا بلغ عشر سنين: وهو ما ورد عن أبي أيّوب الخزّاز بسند تام قال: «سألت إسماعيل بن جعفر: متى تجوز شهادة الغلام؟ فقال: إذا بلغ عشر سنين. قلت: ويجوز أمره؟ قال: فقال: إنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) دخل بعائشة وهي بنت عشر سنين، وليس يدخل بالجارية حتى تكون امرأة، فإذا كان للغلام عشر سنين جاز أمره، وجازت شهادته»(1).

ولعلّه لأجل هذا الحديث قيل _ على ما جاء في الشرائع _ بقبول شهادة الصبي إذا بلغ عشراً، ولكن قال صاحب الشرائع (رحمه الله): «إنّ هذا القول متروك»، وقال في الجواهر(2): «بل اعترف غير واحد بعدم معرفة القائل به وإن نسب إلى الشيخ في النهاية، ولكنّه وهم».

وعلى أيّ حال فلا عبرة بهذا الحديث؛ لأنّه حديث عن إسماعيل بن جعفر، وليس حديثاً عن الإمام، على أنّ استشهاده بدخول النبي (صلى الله عليه و آله) بعائشة وهي بنت عشر سنين واضح البطلان.

الثاني _ ما دلّ على قبول شهادة الصبي في الأمور الصغيرة، وهو ما عن عبيد بن زرارة بسند تامّ قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن شهادة الصبي والمملوك، فقال: على قدرها يوم أُشهد تجوز في الأمر الدون، ولا تجوز في الأَمر الكثير. قال عبيد: وسألته عن الذي يشهد على الشيء وهو صغير قد رآه في صغره ثم قام به بعد ما كبر، قال:


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص252، الباب 22 من الشهادات، ح3.

(2) الجواهر، ج 41، ص 9.

307

فقال: تجعل شهادته خيراً من هؤلاء»(1).

وأورد السيد الخوئي على الاستدلال بهذا الحديث(2) بأنّه رواية شاذّة مهجورة ومشتملة على ما هو مقطوع البطلان من عدم جواز شهادة المملوك في الكبير، فلا بُعد في ورودها مورد التقيّة، على أنّ متنها مجمل، فإنّ الكبر والصغر أمران متضايفان، وليس لهما واقع معلوم، فالشيء الواحد كبير بالإضافة إلى شيء، وصغير بالإضافة إلى شيءٍ آخر.

أقول: أمّا إجمال المتن فقد يقال: إنّ هذا إشارة إلى أمر عرفي؛ حيث إنّ العرف قد يعتمد على شهادة الصغير في الأمور الصغيرة بما لا يعتمد عليه في الأمور الكبيرة، وهذا يختلف باختلاف درجات سنّ هذا الصغير وذكائه وقابليّته للاعتماد عليه، ولعلّ هذا هو المقصود بقوله: «على قدرها يوم أُشهد».

نعم، يبقى شيء من الإجمال لعدم تعيين الصغر والكبر بالتحديد، لكنّ هذا حاله حال كثير من المفاهيم العرفيّة التي تبقى مجملة في بعض المصاديق. أمّا حمل الحديث على التقيّة بالنسبة للمملوك فلا يضرّ بحجّيته بالنسبة للصبي.

وأمّا قوله: إنّ الرواية شاذّة مهجورة، فإن كان إشارةً إلى اشتمالها على عدم قبول شهادة المملوك الذي جعله مقطوع البطلان، فقد عرفت أنّه مع افتراض الحمل على التقيّة لا يشكّل إشكالاً في المقام، وإن كان إشارةً إلى أنّ أصل قبول شهادة الصبي في الأمور الصغيرة مهجور عند الأصحاب، فهو لا يقول بكون الإعراض موجباً


(1) التهذيب ، ج 6 ، ص252، الباب 91، البيّنات ، ح 55 ، وهو الحديث 650 وفق تسلسل كلّ أحاديث هذا المجلّد. وقد جاء في وسائل الشيعة، صدر الحديث، في ج 18 ، ص253، الباب 22 من الشهادات ، ح 5، وذيله في نفس المجلّد، ص251، الباب 21 من الشهادات، ح3.

(2) في تكملة المنهاج ، ج 1 ، ص 78.

308

لانكسار السند، إلا إذا وصل الأَمر إلى القطع بكذب هذا الحكم، وأنّ شهادة الصبي في الأمور الصغيرة غير نافذة، وعندئذٍ نكون في غِنىً أصلاً عن البحث عن تعارض الأخبار بهذا الصدد وعلاجه؛ لعلمنا بالحكم.

ولا بأس بأن يقال في المقام: إنّ ما جاء في هذا الحديث بشأن المملوك _ من جعله كالصبي، والتفصيل بشأنه بين الصغير والكبير _ أمر غير محتمل لا عند الشيعة ولا عند السنّة، ولا يعرف ما هو المقياس في تشخيص الصغير والكبير بالنسبة للمملوك، فإنّ المملوك لا يختلف عن الحرّ في التمييز والفهم، والحرّيّة إن كانت شرطاً في قبول الشهادة فهي شرط تعبّدي من دون فرق في ذلك بين الشهادة في الصغير والشهادة في الكبير، وإن لم تكن شرطاً في ذلك إذاً فشهادته مقبولة في الصغير والكبير، فهذه نقطة ضعف في الرواية قد توجب سلب الوثوق عن أصل الحديث، فيسقط عن الاستدلال على نفوذ شهادة الصبي في الأمور الصغيرة.

وقد يقال: إنّ إطلاق الروايات الماضية قاصر عن إثبات عدم نفوذ شهادة الصبي في الأمور الصغيرة؛ لأنّ غاية ما فيها هي نفوذ شهادة الصبي إذا شاهد عند الصغر ثم كبر وشهد، وهذا يدل بالمفهوم على عدم نفوذها إذا شهد قبل البلوغ، ولكنّ هذا المفهوم _ حتى لو ثبت كونه من سنخ مفهوم الشرط، ونحن لا نقول بدلالة الشرط على المفهوم بنحو القضية الكلّية _ لا يدل إلا على القضية الجزئية، والمتيقّن منها الشهادة في الأمور الكبيرة، فيبقى احتمال نفوذ شهادته في الأمور الصغيرة بلا دافع.

إلا أنّه تبقى لنا دلالة القرآن الكريم في آية: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ﴾ وأدلّة شرط العدالة بناءً على دلالتها على عدم قبول شهادة الصبي باعتبار عدم تصوّر العدالة بشأنه، بل تبقى لنا من الروايات أيضاً ما دلّ على عدم نفوذ شهادة الصبي في غير القتل، وسيأتي ذكره _ إن شاء اللّه _ في الاستثناء الرابع.

309

الثالث _ ما دلّ على قبول شهادة الصبيان فيما بينهم ما لم يتفرّقوا، أو يرجعوا إلى أهلهم: وهو ما رواه الصدوق باسناده عن طلحة بن زيد عن الصادق (عليه السلام) عن أبيه عن آبائه عن علي (عليه السلام) قال: «شهادة الصبيان جائزة بينهم ما لم يتفرّقوا، أو يرجعوا إلى أهلهم»(1). وسند الصدوق إلى طلحة بن زيد تام، وطلحة بن زيد قد ذكر عنه الشيخ الطوسي (رحمه الله): أنّه عامّي المذهب، إلا أنّ كتابه معتمد وقد روى عنه البجلي وهو أحد الثلاثة الذين لا يروون إلا عن ثقة.

وروى الكليني عن علي بن إبراهيم عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «رفع إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ستّة غلمان كانوا في الفرات، فغرق واحد منهم، فشهد ثلاثة منهم على اثنين أنّهما غرّقاه، وشهد اثنان على الثلاثة أنّهم غرّقوه، فقضى علي (عليه السلام) بالدّية أخماساً: ثلاثة أخماس على الاثنين، وخُمسَيْنِ على الثلاثة». ورواه الشيخ بإسناده عن علي بن إبراهيم، ورواه أيضاً بإسناده عن الحسين بن سعيد عن ابن أبي نجران عن عاصم بن حميد عن محمد بن قيس عن أبي جعفر عن علي (عليه السلام) مثله، وروى الصدوق بإسناده إلى قضايا أمير المؤمنين (عليه السلام) نحوه(2). والسند الثاني المنتهي إلى محمد بن قيس تام، وسند الصدوق إلى قضايا أمير المؤمنين (عليه السلام) ينتهي أيضاً إلى محمد بن قيس، وهو أيضاً تام. وأمّا السند الأول ففيه النوفلي، ولم ترد شهادة بتوثيقه، ولم يثبت نقل صفوان الذي هو أحد الثلاثة عنه. نعم، جاء في الوافي _ في الجزء الخامس ص216 _ نقلاً عن الكافي حديث صفوان عن النوفلي عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله): ما من قوم اجتمعوا في مجلس فلم


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص253، الباب 22 من الشهادات، ح 6.

(2) نفس المصدر، ج 19، ص174، الباب 2 من موجبات الضمان، الحديث الوحيد في الباب.

310

يذكروا اسم اللّه تعالى، ولم يصلّوا على نبيّهم، إلا كان ذلك المجلس حسرة ووبالاً عليهم»(1). ونقل _ في نفس الجزء ص219 _ عن الكافي أيضاً حديث صفوان عن الحسين بن يزيد عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله): الاستغفار وقول لا إله إلا اللّه خير العبادة، وقال اللّه العزيز الجبّار: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلا اللّٰهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾(2)».

إلا أنّ الموجود في الكافي في النسخة الموجودة عندي وهي الطبعة الجديدة في كلا الموضعين(3) هو حسين بن زيد، وكأنّ في بعض نسخ الكافي ورد حسين بن يزيد، واجتهد صاحب الوافي في أنّ المقصود به هو النوفلي، بينما النوفلي من أصحاب الإمام الرضا (عليه السلام)، فحتّى لو صحّت النسخة التي جاء فيها حسين بن يزيد لا يمكننا أن نستظهر منه النوفلي؛ لأنّ المنقول عنه هو الإمام الصادق (عليه السلام)، وقد ورد نادراً _ في غير هذين الحديثين _ نقْلُ حسين بن يزيد عن الإمام الصادق (عليه السلام)، إلا أنّ احتمال كونه شخصاً آخر غير النوفلي وارد بدرجة معتدّ بها؛ لأنّ النوفلي من أصحاب الرضا (عليه السلام)، فكلمة حسين بن يزيد في لسان صفوان وإن كان المفروض بها أن تنصرف إلى النوفلي؛ لأنّه المعروف في تلك الطبقة، لكن حينما يفرض راوياً عن الإمام الصادق (عليه السلام) نحتمل سقوط هذا الانصراف بقرينة الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) وإن كان احتمال أن يكون قد أدرك في أوائل عمره الإمام الصادق (عليه السلام) وارداً، كما أنّ احتمال كون الحديث مرسلاً بأن يكون حسين بن يزيد قد نقل هذا


(1) هذا الحديث موجود في وسائل الشيعة، ج 4، ص 1180، الباب 3 من الذكر، ح2.

(2) هذا الحديث موجود في وسائل الشيعة، ج 4، ص1201، الباب 26 من الذكر، الحديث الوحيد في الباب.

(3) الحديث الأول ورد في أصول الكافي، ج2، باب ما يجب من ذكر اللّه (عزوجل) في كلّ مجلس ص 497، ح5، والحديث الثاني ورد في نفس الجزء، باب الاستغفار، ح 6، ص 505.

311

الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) بواسطة أيضاً وارد، إلا أنّه خلاف ظاهر النقل، وقد ورد حديث عن حسين بن يزيد عن الصادق (عليه السلام) بلسان لا يحتمل فيه الإرسال، وهو ما في الكافي _ ج 4 كتاب الحجّ باب النوادر، ح 30، ص 546 _ عن عدّة من أصحابنا عن سهل ابن زياد عن علي بن أسباط عن علي بن أبي عبداللّه عن الحسين بن يزيد قال: «سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام)...». وعلى أيّ حال فنحن نحتمل كون حسين بن يزيد حينما ينقل عن الإمام الصادق شخص آخر، غير النوفلي لم يذكر في كتب الرجال، وإن لم نقبل ذلك كفانا اختلاف النسخ في المقام، فنحن نحتمل كون راوي الحديثين الذي روى عنه صفوان هو الحسين بن زيد بن علي بن الحسين لا الحسين بن يزيد هذا، وقد روى في الكافي _ ج 5 كتاب المعيشة باب الغشّ _ عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «نهى رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) عن أن يشاب اللّبن بالماء للبيع» إلا أنّ المعهود عن إبراهيم بن هاشم هو النقل عن النوفلي مباشرةً، ونفس هذا الحديث بهذا السند رواه الشيخ في التهذيب _ ج7، ح52 _ بحذف ابن أبي عمير. والمنقول عن نسخة مرآة العقول والوافي حذف ابن أبي عمير، والشيخ الحرّ (رحمه الله) روى الحديث في الوسائل نقلاً عن الكافي مع حذف ابن أبي عمير_ وذلك في ج 12، الباب 86 من ما يكتسب به، الحديث 4 _ وروى الصدوق في الفقيه _ ج3، باب بيع اللّبن المشاب بالماء، ص173 _ هذا الحديث عن إسماعيل بن مسلم، وسنده إلى إسماعيل بن مسلم ليس فيه ابن أبي عمير، بل إبراهيم بن هاشم ينقل فيه مباشرةً عن النوفلي. وعلى أيّ حال فتكفينا في الحديث _ مورد البحث _ تماميّة بعض أسانيده.

وأمّا من حيث الدلالة: فهذا الحديث يلتقي مورده بهذا الاستثناء _ أعني استثناء شهادة الصبيان فيما بينهم _ إلا أنّنا لا نعرف مدى عدم تفرّقهم، وعدم رجوعهم

312

إلى أهلهم، ويلتقي مورده أيضاً بالاستثناء الآتي _ أعني استثناء الشهادة بالقتل _ إذاً لا نعلم هل أنّ نظر الإمام (عليه السلام) في هذا الحديث إلى هذا الاستثناء _ أعني قبول شهادة الصبيان فيما بينهم ولو مع ترك شرط عدم التفرق والرجوع إلى الأهل _ أو إلى الاستثناء الآتي، وهو القتل، أو إلى كليهما؟

الرابع _ ما دلّ على قبول شهادة الصبي في القتل بأخذ أوّل كلامه، كما ورد بسند تام عن جميل قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام) تجوز شهادة الصبيان؟ فقال: نعم، في القتل يؤخذ بأوّل كلامه ولا يؤخذ بالثاني منه»(1).

وما ورد بسند تام عن محمد بن حمران، قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن شهادة الصبي، قال: فقال: لا، إلا في القتل يؤخذ بأوّل كلامه ولا يؤخذ بالثاني»(2).

وما عن جميل بسند فيه سهل بن زياد قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن الصبي تجوز شهادته في القتل؟ قال: يؤخذ بأوّل كلامه ولا يؤخذ بالثاني»(3). ولعلّه متّحد مع الحديث الأول.

وهناك حديث قيّد قبول شهادة الصبيان في القتل بما إذا لم يوجد غيرهم، وهو ما عن محمد بن سنان عن الرضا (عليه السلام) فيما كتب إليه من العلل: «وعلّة ترك شهادة النساء في الطلاق والهلال لضعفهنّ عن الرؤية ومحاباتهنّ النساء في الطلاق، فلذلك لا تجوز شهادتهن إلا في موضع ضرورة: مثل شهادة القابلة، وما لا يجوز للرجال أن ينظروا إليه، كضرورة تجويز شهادة أهل الكتاب إذا لم يوجد غيرهم، وفي كتاب اللّه (عزوجل): ﴿اِثْنٰانِ ذَوٰا عَـدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْـرِكُمْ﴾ كافرين، ومثل شهادة الصبيان على القتل إذا


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص252، الباب 22 من الشهادات، ح1.

(2) نفس المصدر، ص252، ح2.

(3) نفس المصدر، ص253،ح4.

313

لم يوجد غيرهم»(1).

وهذا الحديث وإن كان ضعيفاً سنداً إلا أنّه يمكن إثبات نتيجته بمقتضى القاعدة، وذلك بأن يقال: إنّه إذا شهد الصبيان بالقتل: فإمّا أن يوجد شهود من البالغين وفق شهادتهم، أو يوجد شهود من البالغين على خلاف شهادتهم، أو لا يوجد شهود من البالغين. فعلى الثالث تُمضى شهادة الصبيان _ سواء اشترطنا عدم وجود غيرهم أو لا _ فإنّ المفروض عدم وجود غيرهم بالفعل، وعلى الأول لا ثمرة لنفوذ شهادة الصبيان وعدمه؛ لوجود الشهود من البالغين حسب الفرض، وعلى الثاني بالإمكان القول بأنّ المتبادر إلى ذهن العرف _ بمناسبات الحكم والموضوع _ أنّ نفوذ شهادة الصبي في القتل إنّما هو لأجل أن لا يبطل دم امرى‏ءٍ مسلم، لا لأجل أنّ شهادة الصبي في مورد القتل خالية عن الضعف الموجود في سائر الموارد في شهادة الصبيان، ومع هذا الفهم يكون دليل نفوذ شهادة الصبي منصرفاً عرفاً إلى فرض عدم المعارضة بشهادة الكبار، أو إلى فرض عدم إمكان تحصيل شهادة من قبل الكبار.

ثم إنّ صاحب الجواهر (رحمه الله) قوّى اختصاص الحكم بالقتل الذي يقع فيما بين الصبيان أنفسهم، مستشهداً بما مضى من حديث علي (عليه السلام) في قصّة الغلمان الستّة بناءً على دلالته على تقييد الحكم بفرض القتل فيما بينهم، وبما مضى من خبر طلحة الدالّ على قبول شهادة الصبيان فيما بينهم، قال (رحمه الله): «وهذا هو المناسب لعدم التهجّم على الدماء بشهادتهم على وجه يقتصّ بها من البالغين» وقال (رحمه الله) في آخر كلامه: «إنّ ما ذكرناه هو الأقوى وإن قلّ المصرّح به، لكن لا وحشة مع الحقّ وإن


(1) نفس المصدر، ص269، الباب 24 من الشهادات، ح 50

314

قلّ القائل به...»(1).

إلا أنّ هذا الكلام لا وجه له؛ لوضوح أنّ قصّة علي (عليه السلام) وإن وردت في مورد كون القتل فيما بينهم، ولكن لا دلالة لها على حصر الحكم بما إذا كان القتل فيما بينهم، وخبر طلحة دلّ على عنوان آخر للاستثناء، وهو قبول شهادتهم بالنسبة لما بينهم من دون اختصاص ذلك بالقتل الذي هو محل الكلام، واحتمال أداء قبول الشهادة إلى هدر دم مسلم، يقابلة احتمال أداء ترك قبول شهادته _ مع عدم وجود شهود بالغين _ إلى بطلان دم مسلم، فإن قدّم النص الاحتياط بالنسبة للجانب الثاني على الاحتياط بالنسبة للجانب الأول، فليس لنا إلا التسليم.

ثم إنّ توسيع الحكم لما يشمل الشهادة على الجرح ممّا لا وجه له، فإنّ احتمال اختصاص الحكم بالقتل تحسّباً لاحتمالات بطلان دم المسلم _ لو لم نأخذ بشهادة الصبي _ وارد.

وأغرب منه تخصيص الحكم بالجراح كما جاء في الشرائع، وقد قيّده ببلوغ العشر، وبقاء الاجتماع، وكون الاجتماع على مباح.

والقيد الثالث لا دليل عليه، والقيد الثاني ورد في استثناء عنوان آخر، وهو عنوان الشهادة على ما بينهم لا خصوص القتل، والقيد الأول ورد كاستثناء مستقلّ، وقد مضى عدم تماميّة دليله. والجراح لا دليل على قبول شهادة الصبيان فيها.

بقي الكلام في أنّه هل الحكم يشمل الصبيّة، أو يختصّ بالصبي المذكّر؟ قد يقال: إنّ كلمة الصبي ككلّ الصيغ المشتقّة للمذكّر تستعمل أيضاً للجامع بين المذكّر والمؤنّث، فحينما يراد التعبير عن الجامع يعبَّر بصيغة المذكّر لا بصيغة المؤنّث، كما هو


(1) راجع الجواهر، ج 41، ص 13 _ 14

315

واضح. إذاً فالروايات الواردة في هذا الاستثناء أو في الاستثناء الثالث أو الثاني تشمل بإطلاقها الصبي والصبيّة.

ويمكن الردّ على هذا البيان، وتوضيح اختصاص الحكم بالصبي المذكّر بأحد بيانين:

الأول _ أنّ هذه الروايات إنّما هي بصدد الاستثناء من شرط البلوغ، أمّا سائر الشرائط فالمرجع في اشتراطها وعدمه مدى إطلاق أدلّتها لا هذه الروايات، ففي المورد الذي تشترط الذكورة ولا تُقبل فيه شهادة النساء، لا تُقبل فيه أيضاً في مورد الاستثناء شهادة الصبيّات، وإلا فهل يقال: بقبول شهادة الصبيّات، وعدم قبول شهادة النساء في تلك الموارد؟! أو هل ترفع اليد عن شرط الذكورة، وتقبل شهادة النساء أيضاً في موارد الاستثناء؟!

وهذا البيان يختصّ بخصوص موارد عدم قبول شهادة النساء.

الثاني _ أنّ صيغة المذكّر من المشتقّات، تستعمل في الجامع وتستعمل في خصوص المذكّر، والقرائن ومناسبات المقام هي التي تعيّن أحد المعنيين، ولا قرينة أو مناسبة تعيّن إرادة الجامع في المقام، فإنّ احتمال الفرق بين الصبي والصبيّة وارد لا محالة؛ إذاً ففي الصبيّة نرجع إلى إطلاقات اشتراط البلوغ.

وهذا البيان أوسع نتيجة من البيان السابق؛ لأنّه يشمل حتى الموارد التي تقبل فيها شهادة النساء.

العقل

الشرط الثاني _ هو العقل. فالمجنون لا تقبل شهادته بلا خلاف، فإذا لم يكن مُطبَقاً قبلت شهادته في حال الإفاقة عملاً بالإطلاقات، ويلحق بالمجنون الأبله