282

بانت، والمتوفّى عنها زوجها تعتدّ حين يبلغها الخبر؛ لأنّها تريد أن تحدّ له(1)، ونحوه حديثان آخران(2) أحدهما تام السند، ولكنّ عيبهما أنّهما يدلّان في عدة الموت على أنّه مع قيام البيّنة تحسب العدّة من حين الموت لا من حين وصول الخبر، بينما هذا خلاف مذهب الشيعة، إلا أن يقال: إنّ الحمل على التقيّة بالنسبة لهذا الجانب لا ينافي استفادة عدم حجّية خبر الواحد منه.

ومنها _ ما دلّ على أنّ الهلال لابدّ في ثبوته بالشهادة من شهادة رجلين عدلين(3).

ومنها _ ما دلّ على عدم ثبوت الشهادة بخبر الواحد، من قبيل ما عن غياث ابن إبراهيم بسند تام عن جعفر بن محمد (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام): «أنّ عليّاً (عليه السلام) كان لا يجيز شهادة رجل على شهادة رجل، إلا شهادة رجلين على شهادة رجل»(4). وما عن طلحة بن زيد بسند تام عن أبي عبداللّه (عليه السلام) عن علي (عليه السلام): «أنّه كان لا يجيز شهادة رجل على رجل، إلا شهادة رجلين على رجل»(5).

ثم التمسّك بهذه الروايات لإثبات الردع عن العمل بخبر الثقة في الموضوعات لإثبات عدم إمضاء السيرة، ولتقييد إطلاقات حجّية خبر الثقة _ لو كانت _ يكون بأحد وجوه ثلاثة:

الوجه الأول _ دعوى استفادة ذلك من كلّ واحدة من هذه الروايات؛ بدعوى أنّها وإن كانت واردة في مورد خاصّ، لكنّ العرف يفهم منها المثاليّة، وينتزع منها


(1) وسائل الشيعة، ج 15، ص449، الباب 28 من العدد، ح14.

(2) نفس المصدر، ص448، الباب 28 من العدد، ح9 و10.

(3) توجد جملة من روايات هذه المسألة في وسائل الشيعة، ج 7، الباب 11 من أحكام شهر رمضان.

(4) نفس المصدر، ج 18، ص298، الباب 44 من الشهادات، ح 4.

(5) نفس المصدر، ح2.

283

قاعدة عامّة، وهي عدم حجّية خبر الثقة في الموضوعات بما هو كذلك. إلا أنّ دعوى من هذا القبيل ممنوعة، ولو تمّت لا تفيدنا في المقام لتقييد إطلاقات حجّية خبر الثقة لو كانت كذلك؛ بناءً على أنّه كما وجدت أخبار خاصّة في موارد خاصّة في الموضوعات تدل على عدم حجّية خبر الثقة، كذلك يوجد ما يدل في مورد خاص في الموضوعات على حجّية خبر الثقة فيه، فلو كان العرف ينتزع من الأول قاعدةً عامّةً لعدم الحجّية، كذلك ينتزع من الثاني قاعدةً عامّةً للحجّية، فيتعارضان، وبالتالي لا يمكن تقييد إطلاقات الحجّية لو كانت بتلك الأخبار.

نعم، بالنسبة للردع عن السيرة قد يقال: إنّ التعارض لا يمنع عن احتمال الردع، إلا أن يتمسّك باستصحاب الإمضاء، أو بدعوى أنّ السيرة راسخة بنحو لا يمكن ردعها بهذا المقدار.

وعلى أيّ حالٍ، فقد جمع أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في البحوث(1) رواياتٍ كثيرةً قد يستدلّ بها على حجّية خبر الثقة في الموضوعات، وناقش هو (رحمه الله) في دلالة أكثرها، ولم يقبل عدا دلالة حديثين منها، ونحن هنا نقتصر على ذكر هذين الحديثين، أمّا الباقية فمن الواضح بالمراجعة عدم تماميّة دلالتها:

الأول _ ما ورد بسند تام عن هشام بن سالم عن أبي عبداللّه (عليه السلام) «في رجل وكلّ آخر على وكالة في أمر من الأمور، وأشهد له بذلك شاهدين، فقام الوكيل فخرج لإمضاء الأمر، فقال: اشهدوا أنّي قد عزلت فلاناً عن الوكالة، فقال: إن كان الوكيل أمضى الأمر الذي وكّل فيه قبل العزل، فإنّ الأمر واقع ماضٍ على ما أمضاه الوكيل، كره الموكّل أم رضي. قلت: فإنّ الوكيل أمضى الأمر قبل أن يعلم (أن يعزل _ خ ل _)


(1) بحوث في شرح العروة الوثقى، ج 2 من ص 91 فصاعداً

284

العزل، أو يبلغه أنّه قد عزل عن الوكالة، فالأمر على ما أمضاه؟ قال: نعم. قلت له: فإن بلغه العزل قبل أن يمضي الأمر، ثم ذهب حتى أمضاه، لم يكن ذلك بشيء؟ قال: نعم. إنّ الوكيل إذا وكّل ثم قام عن المجلس، فأمره ماضٍ أبداً، والوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلّغه أو يشافه (يشافهه _ خ ل _) بالعزل عن الوكالة»(1).

ويمكن الإيراد على الاستدلال بهذا الحديث: أنّ غاية ما يدل عليه هذا الحديث هي أنّ خبر الثقة قام مقام العلم الموضوعي بالعزل في إبطال عمل الوكيل واقعاً عند مصادقة العزل، وكفى في قطع استصحاب بقاء الوكالة، وهذا غير قيامه مقام القطع الطريقي الذي هو معنى حجّيته.

وأجاب على ذلك أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في البحوث(2) بأنّه يفهم عرفاً من إقامته مقام القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الطريقيّة في الموضوع أنّه حجّة وكاشف شرعاً.

أقول: هذا الاستظهار غير واضح عندي.

الثاني _ ما ورد بسند تام عن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن رجل كانت له عندي دنانير، وكان مريضاً، فقال لي: إن حدث بي حدث فأَعطِ فلاناً عشرين ديناراً، وأَعطِ أخي بقيّة الدنانير، فمات ولم أشهد موته، فأتاني رجل مسلم صادق، فقال لي: إنّه أمرني أن أقول لك: أنظر الدنانير التي أمرتك أن تدفعها إلى أخي، فتصدّق منها بعشرة دنانير أقسّمها في المسلمين، ولم يعلم أخوه أنّ عندي شيئاً. فقال: أرى أن تصدّق منها بعشرة دنانير»(3).


(1) وسائل الشيعة، ج 13، ص 286، الباب 2 من الوكالة، ح1.

(2) ج 2، ص 98.

(3) وسائل الشيعة، ج13، ص482، الباب 97 من الوصايا، ح 1.

285

ودلالة هذا الحديث أيضاً قابلة للمناقشة؛ ذلك لأنّ جهة السؤال في كلام السائل مردّدة بين أمرين، فبناءً على أنّ إجمال السؤال في مثل ذلك يسري إلى الجواب _ لا أنّ ترك الاستفصال يعطي للجواب إطلاقاً يشمل كلا احتمالي السؤال _ يصبح الجواب في المقام مجملاً. أمّا الاحتمالان الواردان في السؤال: فأحدهما كونه سؤالاً عن حجّية خبر الثقة الذي أخبره بوصيّة المُتوفّى، والثاني كونه فارغاً عن أنّ المخبر قد صدق في إخباره، إلا أنّ الوارث وهو أخوه مثلاً غير مطّلع على هذه الوصيّة، فلو اطّلع على قصّة هذا الرجل فسيطالبه بالبيّنة، وهو لا يمتلك بيّنة، أو يطالبه بالحلف مثلاً ما دام لا يجد بيّنة، وإنّما لم يفعل ذلك لأنّه لا يعلم أصلاً بوجود مال من أخيه لدى هذا الرجل، فهل من حقّه أن يعمل بما علمه من الوصيّة من دون إخبار أخيه؟ أو ليس من حقّه ذلك قبل تصفية الحساب مع من لو اطّلع على الأمر كان له رفع القضيّة إلى الحاكم ومطالبته بالبيّنة أو اليمين؟ فأجاب الإمام (عليه السلام): بأن يتصدَّقَ منها بعشرة دنانير.

وقد تحصّل بذلك أنّه لو استظهر من دليل عدم حجّية خبر الواحد في مورد خاص من الشبهات الموضوعيّة عدم حجّيته في الشبهات الموضوعية مطلقاً، لا يوجد في قباله ما يستظهر منه العكس.

والوجه الثاني _ دعوى حصول القطع عند تعدّد الموارد التي ورد فيها عدم حجّية خبر الثقة بعدم الخصوصية في الموارد، واقتناص قاعدة عامّة تدل على أنّ خبر الثقة في الموضوعات بما هو ليس حجّةً، ولا ينافيه ورود خبر واحد في موردها دالّ على حجّية خبر الثقة فيه، فيُقال: إنّ السيرة القائمة على حجّية خبر الثقة في الموضوعات لو كانت هي بهذا العنوان مردودة يقيناً، وإن كان خبر الثقة في موردٍ ما من الموضوعات حجّة تعبّداً بدليل خاصّ، فإنّ هذا غير افتراض أنّ خبر الثقة في

286

الموضوعات حجّة بهذا العنوان، إلا ما خرج بالدليل.

والواقع أنّ دعوى القطع بإلغاء الخصوصية إن تمّت في الموارد التي يترقّب تدخّل الحاكم فيها كالنكاح والطلاق والحدود والهلال ونحو ذلك، لا تتمّ في القضايا الفرديّة البحت كطهارة شيءٍ ونجاسته وعدّة الطلاق ونحو ذلك؛ لأنّ ما ورد في القسم الثاني نادر، واحتمال الفرق بين القسمين موجود.

وبالنسبة للأمور التي يترقّب تدخّل الحاكم فيها لا نحتاج إلى دعوى القطع إلا بمقدار التعدّي من النساء إلى مطلق عدم اجتماع شرائط البيّنة؛ وذلك لثبوت المطلقات الدالّة على عدم نفوذ شهادة النساء في غير مثل المنفوس والعذرة، والإطلاق حجّة سواء حصل القطع على طبقه أو لا.

وإنّما لم نقل بتماميّة الإطلاق بالنسبة للقضايا الفرديّة البحت كالطهارة والنجاسة؛ لأنّ حذف متعلّق الشهادة لا يدل على العموم بأكثر ممّا يوحي إليه استثناء مثل المنفوس والعذرة، وهذا لا يوحي إلى أكثر من تقدير الأمور التي يترقّب وقوع النزاع فيها، أو الأمور التي يترقّب تدخّل الحاكم فيها.

الوجه الثالث _ أن يقال: إنّ العرف بعد تعدّد الموارد يلغي خصوصية المورد ويفهم القاعدة العامّة، وهي أنّ خبر الثقة في الموضوعات بما هو كذلك ليس حجّة، بينما في الطرف المقابل لم يكن إلا خبر واحد.

وهذا يرد عليه صغرويّاً ما أوردناه على الوجه الثاني من أنّه لا مبرّر للتعدّي إلى القضايا الفردية البحت _ كالطهارة والنجاسة _ لوجود احتمال الفرق، وأمّا كبرويّاً فهذا مبني على أنّ حجّية الظهور تشمل الظهور المتحصّل من مجموع أدلّة متفرّقة

287

عند ملاحظتها جميعاً كخطاب واحد. وقد أفاد أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في البحوث(1) في مقدّمة نقل روايات حجّية خبر الثقة في الموضوعات: أنّ هذا متوقّف على حجّية الظهور المتحصل من مجموع روايات متفرّقة عند ملاحظتها كخطاب واحد، وقال (رحمه الله): «قد تعرّضنا إلى ذلك في الأصول».

أقول: قد تعرّض أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في الأصول لتوجيه فنّي للكلام الموروث عن المحقّق النائيني (رحمه الله)، وهو أنّ ما يكون قرينةً في حال الاتّصال فهو قرينة في حال الانفصال. وهو: أنّ الكلامين المتنافيين كالعام والخاص اللذين يفرض التصرّف في أحدهما بقرينة الآخر إذا كان أحدهما حين الاتّصال قرينة للتصرّف في الآخر، فعند الانفصال ودوران الأمر بين أن يكون ما هو القرينة حين الاتّصال هو القرينة أيضاً حين الانفصال، أو العكس يكون الأول أولى؛ لأنّه لو فرض الخاص مثلاً في مثال العام والخاص الذي كان قرينةً في فرض الاتّصال قرينة أيضاً في فرض الانفصال، فقد ارتكب المتكلّم مخالفة واحدة للأصول العقلائيّة، وهي أصالة الاتّصال بين القرينة وذي القرينة، فقد جعل ما يصلح للقرينيّة في ذاته قرينةً، إلا أنّه فصل القرينة عن ذيها. أمّا لو فرض العكس فقد ارتكب مخالفتين: إحداهما فصل القرينة عن ذيها، والثانية فرض القرينيّة لما هي غير صالحة للقرينيّة في ذاتها وبغضّ النظر عن مشكلة الانفصال بدليل أنّه لو وصل بينهما لما حمله العرف على القرينيّة.

وهذا الكلام لو طرح على شكل الحساب الرياضي والبرهان العقلي فهو غير تام؛ إذ كون ما هو قرينة عند الاتّصال قرينة عند الانفصال أوّل الكلام، وإذا لم يكن قرينةً عند الانفصال فحمل كلّ منهما على القرينيّة للآخر فيه مخالفة واحدة للأصول


(1) بحوث في شرح العروة الوثقى، ج 2، ص 91

288

العقلائيّة لا أكثر.

ولعلّه لهذا جاء في تعارض الأدلّة للسيد الهاشمي(1) تقريراً لبحث أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) توجيه لهذا البيان، وهو أنّ هذا وإن لم يكن بالدقّة من الدوران بين الأقلّ والأكثر في المؤونة والمخالفة، ولكن جعل ما ليس قرينة عند الاتّصال قرينةً عند الانفصال أشدّ مؤونةً في نظر العرف من جعل ما هو قرينة عند الاتّصال قرينة عند الانفصال.

أقول: إنّ قاعدة أنّ ما كان قرينةً عند الاتّصال فهو قرينة عند الانفصال يمكن تفسيرها بأحد وجهين:

الوجه الأول _ أن يدّعى أنّ نكتة القرينيّة الموجودة في حال الاتّصال دائماً هي موجودة في حال الانفصال، إلا أنّها في حال الاتّصال كانت تهدّم الظهور، ولكن في حال الانفصال لا تستطيع أن تهدّم الظهور، فيتحوّل عملها إلى هدم الحجّية، أو أنّها في حال الاتّصال كانت تهدّم الدرجة الأُولى من الدلالة التصديقيّة، وفي حال الانفصال لا تقوى إلا على هدم الدرجة التصديقيّة النهائيّة كما يقول المحقّق النائيني(رحمه الله) في القرينة المنفصلة المقيّدة للإطلاق.

وخلاصة القاعدة الميرزائيّة على هذا التفسير هي أنّ نكتة القرينيّة منحفظة في كلتا حالتي الاتّصال والانفصال، ولكن بما أنّها في حالة الاتّصال تهدم الظهور فلذا سيكون الإحساس بقرينيّتها واضحةً وبارزةً عند الاتّصال، بخلاف حالة الانفصال التي هي غير قادرة فيها على هدم الظهور، أو على هدم الدلالة التصديقية الأُولى، فلو أُريد تشخيص القرينة من الكلامين المنفصل أحدهما عن الآخر أمكن وصل أحدهما بالآخر؛ لكي يقوى الإحساس بالقرينة، وأظنّ أنّ مقصود المحقّق النائيني (رحمه الله)


(1) ص 196

289

من قاعدته كان هو هذا الوجه.

وهذه القاعدة بناءً على هذا التفسير مؤتلفة من مقدّمتين:

الأُولى _ دعوى انحفاظ نكتة القرينيّة في الانفصال.

والثانية _ دعوى أن نكتة القرينيّة المنحفظة في حال الانفصال لو جعلت هي القرينة على المراد والهادمة للحجّية، فهذا أَولى في نظر العرف من جعل الآخر قرينةً الذي هو غير مشتمل على نكتة القرينيّة، والمقدّمة الثانية صحيحة بلا شكّ في مورد تماميّة المقدّمة الأُولى وهي بقاء نكتة القرينيّة بعد الانفصال، فإنّ النكتة التي يمكن أن تبقى بعد الانفصال، إمّا هي الأقوائيّة، أو هي الظهور في المفسّريّة، وهي تهدم الظهور الأول عند الاتّصال بنكتة ما فيها من الكشف عن المعنى المتقدّم على الكشف الأول، وهذا الكشف إن لم يمكنه هدم الظهور _ لعدم الاتّصال _ يهدم الحجّية لا محالة.

ولا يخفى أنّ المحقّق النائيني (رحمه الله) لا ينظر في قاعدته هذه إلى مسألة الأقوائيّة، وإنّما الظاهر أنّه ينظر إلى المفسّريّة، فإنّه قصد بالقرينة ما قال عنها: إنّ ظهور القرينة يتقدّم على ذي القرينة ولو كانت أضعف.

وعلى أيّ حال فالمقدّمة الأُولى غير تامّة في المقام، فإنّنا لو سلّمنا وجود إحدى النكتتين دائماً في القرائن _ أعني الأقوائيّة والمفسّرية _ ولم نقل: إنّ نكتة القرينيّة قد تكون مجرّد نفي القرينة لمقتضی الظهور الأول، كما هو الحال في القرينة التي ترفع الإطلاق برفع عدم البيان _ والحقّ أنّ البيان الهادم للإطلاق إنّما هو البيان المتّصل _ وقد تكون مجرّد تأثير القرينة في إيجاد صورة ثالثة تصوّريّة في ذلك، كما قد يدّعى ذلك في العام المتّصل بالمخصّص؛ حيث يُقال: إنّه يعطي للذهن تصوّراً صورة ثالثة غير صورتي العام والخاص، وهي صورة العام المقتطع منه الخاص، والدلالة

290

التصديقية تتبع الدلالة التصورية الأخيرة، وهذا الوجه _ كما ترى _ ينتفي بالفصل بين القرينة وذي القرينة.

أقول: لو سلّمنا وجود نكتة الأقوائية أو المفسّرية دائماً في القرائن قلنا: إنّ المفسّرية حينما تكون بمثل (أي) و(أعني) تنحفظ طبعاً في حال الانفصال، أمّا حينما تكون بافتراض نظام لغويّ يقتضي المفسّرية كما قد يدّعى في العام والخاص، فهذا النظام كما يمكن فرضه عامّاً يشمل فرض الانفصال كذلك يمكن فرضه خاصّاً بفرض الاتّصال، وقد يختلف الأَمر باختلاف القرائن، فتجب دراسة كلّ قرينة بحدّ ذاتها، ولا يمكن أن نستفيد شيئاً من هذه القاعدة الميرزائيّة، وحتى لو استقصينا كلّ القرائن فوجدنا نكاتها موجودة في حال الانفصال، فنحن لم نستفد شيئاً من هذه القاعدة، وإنّما استفدنا من استقصائنا للقرائن.

الوجه الثاني _ أن نسلّم أنّ نكتة القرينيّة في حال الاتّصال قد لا تكون محفوظةً في حال الانفصال، ولكن يقال: إنّه رغم عدم انحفاظها في حال الانفصال يرى العرف أنّ افتراض ما كان قرينةً عند الاتّصال للتصرف في الآخر قرينةً عند الانفصال لذلك أولى وأسهل من العكس.

ولكن أظنّ أنّ التأكيد على فرض عدم وجود نكتة القرينيّة في حال الانفصال ينبّه الوجدان العرفي النافي لأولويّة من هذا القبيل؛ إذاً فهذه القاعدة لم تفدنا شيئاً على كلّ حال.

نعم، يبقى أن يدّعي مدّعٍ بخصوص نصوص الشريعة الإسلامية أنّه ينبغي فرض المنفصلات فيها كالمتّصلات، وذلك لأحد وجهين:

الأول: أنّه جرى ديدن الشريعة على فصل المتّصلات، فحاله حال أُستاذٍ يدرّس أمراً ضمن محاضرات يوميّة، ومن الواضح أنّ المحاضرة الثانية لو كان فيها ما يقتضي

291

القرينيّة على المحاضرة الأُولى عند الاتّصال تبقى على قرينيّتها عند الانفصال، فهذا الانفصال وإن كان انفصالاً بحسب عمود الزمان لكنّه لا يعتبر انفصالاً في عالم اللّغة، وهو أشبه شيء بما لو تكلّم المتكلّم بالعام ثم أُغمي عليه ساعات، وبعد أن أفاق أتى بالخاص، أفهل يفترض عندما انقطع كلامه بالإغماء أنّ ظهور كلامه قد استقر؟! طبعاً لا. وهكذا حال هذا المدرّس، وكذلك حال الشريعة الإسلامية.

إلا أنّ هذا الوجه ان قصد به دعوى عدم انعقاد الظهور ما لم نُحطْ بكلّ المنفصلات المحتمل قرينيّتها، _ وقد لا نستطيع أن نحيط بذلك لاحتمال تلف كثير من النصوص _ فلا أظنّ أحداً يلتزم بهذه النتيجة، ولم يصل ديدن الشريعة على فصل المتّصلات إلى مستوىً نقول فيه بعدم استقرار الظهور عند انتهاء الكلام لاحتمال مجى‏ء قرينة منفصلة.

وإن قصد به _ بعد الاعتراف بأن ديدن الشريعة على فصل المتصلات لم يبلغ مستوى عدم انعقاد الظهور _: أنّ نفس قيام ديدن الشريعة على فصل المتصلات يجعل الإنسان العرفي متقبّلاً مفسّريّةً بعض النصوص لبعض رغم الانفصال، فهذا وحده لا يكفي لإثبات أنّ ما كان قرينةً لدى الاتصال هو القرينة أيضا لدى الانفصال رغم أنّ نكتة القرينيّة كانت كامنةً فى نفس الاتصال لا في ذات القرينة، بل لابدّ من ضم ذلك إلى ما مضى من أنّ جعل ما كان قرينةً لدى الاتصال قرينة لدى الانفصال أولى من جعل ما لم يكن قرينةً لدى الاتصال قرينة لدى الانفصال، فكأنّ الدليل على قرينية الخاص على العام مثلاً صار مؤتلفاً من مقدمتين: الأولى: أنّ كون ديدن الشريعة على الفصل بين المتصلات جعل العرف يتقبل فرض قرينيّة أحدهما على الآخر رغم الانفصال. والثانية: أنّ قرينيّة ومفسّريّة ما كان كذلك في فرض الاتصال أولى من قرينيّة ومفسّريّة الآخر، وهذا رجوع إلى ما ناقشناه آنفاً.

292

ومن هنا نحن نبني في باب القرائن التي تفقد نكتة قرينيتها لدى الانفصال على أنّ المقياس فى التقديم والقرينية لدى الانفصال إنما هو الأقوائية، فلو فرض صدفةً كون العام أقوى من الخاص مثلاً في مورد، كان هو المقدّم على الخاص دون العكس.

الثاني _ دعوى الإجماع على التعامل مع العام والخاص وما شابههما في الشريعة معاملة المتّصلين.

إلا أنّ دعوى الإجماع التعبّدي في المقام _ كما ترى _ غير صحيحة، فلعلّ المجمعين الذين فهمنا إجماعهم من خلال عملهم وسيرتهم في الاستنباط كانوا يعتقدون بأقوائيّة ما قدّموه، أو كانوا يعتقدون بالقاعدة الميرزائيّة أو غير ذلك.

وبعد هذا يبقى الكلام في أنّه لو سلّمت القاعدة الميرزائيّة بأحد الوجهين الماضيين، أو سلّم بأحد الوجهين الأخيرين اللّذين أشرنا إليهما بلحاظ نصوص الشريعة، فهل يمكن تطبيق شيء منها على ما نحن فيه أو لا؟ فنقول:

أمّا الإجماع فليس له معقد خاص يتمسّك بإطلاقه، وهو دليل لبّي، والمتيقّن من مورده هو مورد الجمع بين المتعارضين كالعام والخاص، وروايات عدم حجّية خبر الواحد في الموضوعات المختلفة لا تعارض فيما بينها، فلو تمّ هذا الوجه لا ينطبق على المقام.

وأمّا ديدن الشريعة فهو على فصل المتّصلات لا على كون كلّ منفصلاته في الأصل متّصلات، فلو أثّر فإنّما يؤثّر في الأدلّة المتعارضة التي لو فرض الوصل بينها كان بعضها قرينةً على البعض، لا في الأدلّة التي لا تعارض فيما بينها، ومن المحتمل كونها من أساسها منفصلاً بعضها عن بعض، وما نحن فيه من هذا القبيل، لما أشرنا إليه من عدم التعارض فيما بين الروايات.

293

وأمّا القاعدة الميرزائيّة بتفسيرها الثاني _ وهي دعوى: أنّه وإن فرض فقد نكتة القرينيّة عند الانفصال، ولكنّ جعل ما كان قرينةً عند الاتصال قرينة عند الانفصال أولى عرفاً من جعل ما لم يكن قرينة عند الاتصال قرينة عند الانفصال _ فهذا الوجه مورده _ كما ترى _ فرض الدوران بين قرينيّة هذا وقرينيّة ذاك، وهذا فرضه فرض التعارض بين النصّين، بينما أشرنا إلى أنّه لا تعارض في ما بين النصوص في المقام.

وأمّا القاعدة الميرزائيّة بتفسيرها الأوّل، _ وهي دعوى: أنّ نكتة القرينيّة في حال الاتّصال دائماً تنحفظ في حال الانفصال _ فهذه أيضاً لو تمّت لا تنطبق على ما نحن فيه، وذلك لأنّ نكتة القرينيّة التي تكسر الظهور المعارض عند الاتّصال من المعقول أن تكسر الحجّية عند الانفصال رغم انحفاظ الظهور، فيكون الظهور الآخر هو الحجّة، ولكن التي تخلق ظهوراً ثالثاً بالاتّصال هل يمكن أن تخلق الحجّية عند الانفصال رغم عدم الظهور؟ كلّا. وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لِما عرفت من عدم وجود أيّ معارضة بين الروايات، فلا توجد قرينة تكسر ظهوراً عن الحجّية.

نعم، لو كان بعضها متّصلاً بالبعض لخُلق ظهور في إرادة القاعدة العامّة وهي عدم حجّية خبر الواحد في الموضوعات بما هي كذلك، لكن بسبب الانفصال لم يخلق ظهور من هذا القبيل، فما هو المبرّر لافتراض حجّية ظهور معلَّقٍ تحقُّقُه على الاتّصال؟!

نعم، يبقى أن يدّعي مدّعٍ _ بلا حاجة إلى التحليلات التي عرضناها للقاعدة الميرزائيّة _: أنّ الظهور التقديري المعلّق على اتّصال النصوص بعضها ببعض حجّة رغم عدم فعليّته بسبب الانفصال، وهذه الدعوى بالإمكان رفضها أو قبولها من دون نظر إلى التحليلات الماضية للقاعدة الميرزائيّة، والصحيح رفض هذه الدعوى.

وعليه فقد اتّضح أنّه لا يمكن أن نستظهر في المقام ردعاً للسيرة العقلائية بشكل

294

عام ولو آمنّا بقيامها على حجّية خبر الثقة في الموضوعات.

نعم، يبقى احتمال الردع الوارد في كلّ رواية من تلك الروايات، فإن اعتمدنا على هذا الاحتمال لإبطال حجّية السيرة فهو، وإلا _ كما لو قلنا بأنّ هذه السيرة قويّة لا يكفي في ردعها شيء من هذا القبيل، أو قلنا بأنّ هذه السيرة ممضاة في صدر الإسلام، فيجري استصحاب بقاء الإمضاء _ فقد ثبتت حجّية خبر الثقة في الموضوعات، إلا في الموارد الخاصّة التي ورد فيها الردع عنه، ثم لو سلّمنا حجّية خبر الثقة في الموضوعات إمّا بالسيرة، أو بالإطلاق المفهوم بمساعدة السيرة من نصوص حجّية خبر الثقة، فلا إشكال في أنّ هذا خاص بغير موارد النزاع؛ لأنّ انتفاء السيرة في موارد النزاع واضح جدّاً، فخبر الثقة في موارد النزاع كما ليست له حجّية قضائيّة كذلك ليست له حجّية ذاتية يجوز للشخص الثالث قبل القضاء أن يعتمد عليها كي تأتي شبهة انقلاب المدّعي منكراً في المقام.

وبعد، فالمختار لنا هو عدم حجّية خبر الثقة في الموضوعات: لا في موارد النزاع، ولا في الموارد التي يترقّب فيها النزاع كموارد الطلاق والنكاح، ولو لم يكن نزاع بالفعل، ولا في الموارد التي يُترقَّب تدخُّلُ الحاكم فيها كالهلال والحدود، ولا في الموارد الفرديّة البحت كالطهارة والنجاسة.

أمّا في موارد النزاع فالمسألة واضحة فقهيّاً، وعدم السيرة العقلائية على الحجّية أيضاً في غاية الوضوح.

وأمّا في موارد ترقُّب النزاع وموارد ترقُّب تدخُّل الحاكم _ كالطلاق والنكاح والهلال والحدود ونحوها _ فشرط البيّنة فيها، وعدم كفاية خبر الواحد ينبغي أن يُعدّ مسلّماً ولو على ضوء الروايات الماضية في الموارد الخاصّة.

وأمّا في الموارد الفرديّة البحت كالطهارة والنجاسة، فنحن أساساً لا نؤمن بدلالة

295

السيرة العقلائيّة على حجّية خبر الثقة كي يقال بشمولها للموضوعات، ويعتمد عليها ابتداءً بسبب عدم الردع، أو يستعان بها لتتميم بعض الإطلاقات للدلالة على حجّية خبر الواحد في الموضوعات، ونقول: إنّ السيرة على حجّية خبر الواحد إنّما هي متشرّعيّة، والمتيقّن منها باب الأحكام وما يلحق به كوثاقة الراوي للحكم، أمّا الموضوعات بشكل مطلق فلا.

نعم، لو علم العبد أنّ المولى أرسل فلاناً لإيصاله أمراً أو نهياً إليه، وشكّ في أنّه هل كلّ ما نقله إليه من المولى صحيح أو فيه ما هو صحيح وفيه ما هو خطأ، فقد يكون نفس إرسال المولى إيّاه قرينةً على اعتماد المولى على نقله وإعطائه للحجّية للكلام _ سواء ثبتت وثاقته عند العبد أو لا _ وهذا غير فرض قيام السيرة على حجّية خبر الثقة.

هذا، ونحن في إنكارنا للسيرة لا نقيم برهاناً على ذلك، كما أن المدّعين لها لم يقيموا برهاناً عليها؛ لأنّ فرض السيرة وعدمها ليس من الأمور القابلة للبرهنة عليها.

اجتماع الدعوى والإنكار

الأمر الثالث _ ذكر المحقّق العراقي(رحمه الله) في قضائه: أنّ صاحب الجواهر(رحمه الله) وقع في تناقض، حيث اختار في مسألة الخلاف في مقدار الأُجرة أنّ كلّاً ممن يدّعي الإيجار بالثمن الزائد أو الناقص مدّعٍ ومنكر، بينما اختار في تداعي من بيدهما العين الملكيّة أنّ كلّاً منهما مدّعٍ، ولا يصدق على أحدهما المنكر؛ لأنّ اليدين متساقطتان، وهذان الرأيان متهافتان؛ لأنّه إن فرض أنّ المقياس هو الحجّية الفعليّة فأصالة عدم الإيجار بالزائد مع أصالة عدم الإيجار بالناقص في المسألة الأُولى أيضاً متساقطتان، فالمفروض أن يكونا في المسألة الأُولى أيضاً مدّعيين فقط، وإن فرض أنّ المقياس هو

296

الحجّية الاقتضائيّة وكلّ من أصلي عدم الإيجار في المسألة الأولى حجّة اقتضاءً، أي: لولا المعارض فهو بحدّ ذاته حجّة، فكذلك الحال بالنسبة لليدين في المسألة الثانية؛ إذاً فكلٌّ مدّعٍ ومنكرٌ أيضاً(1).

أقول: المقياس هو الحجّية الفعليّة كما هو مختار المحقّق العراقي (رحمه الله)، والحجّية الفعليّة لا تجتمع في أصلين متعارضين؛ إذاً لا يمكن أن يكون كلّ منهما مدّعياً ومنكراً في وقت واحد، إلا إذا كانت هناك مرافعتان كي يكون أحدهما مدّعياً بالنسبة لإحدى المرافعتين ومنكراً بالنسبة للمرافعة الأُخرى. وفي المسألة الثانية لا توجد مرافعتان، فإنّ دعوى كلّ واحد منهما الملكيّة لو قوبلت بمجرد نفي الآخر ملكيّتة لا تشكّل مرافعة في مفروض الكلام، وإنّما الذي شكّل المرافعة هو أنّ كلّاً منهما يدّعي الملكية لنفسه، بينما يستحيل اجتماع ملكيتين مستقلّتين على مال واحد، فلا توجد إلا مرافعة واحدة، واليدان متعارضتان؛ لأنّ مفاد كلّ من اليدين ينفي مفاد اليد الأُخرى بطبيعته، لاستحالة صدقهما معاً، فهما متساقطتان، وتصل النوبة إلى أصالة عدم مالكيّة هذا وأصالة عدم مالكيّة ذاك، وهذان الأصلان لا يتعارضان؛ لاحتمال صدقهما معاً بأن لا يكون هذا مالكاً ولا ذاك مالكاً، فكلّ منهما مدّعٍ لأنّه يدّعي ما هو خلاف الأصل.

نعم، قد يتّفق أنّنا نعلم صدفةً بكذب أحد الأصلين إجمالاً، لكنّ العلم الذي يتّفق صدفةً فيسقط الأصل في نظر العالم لا يسقط المنكر عن كونه منكراً، وليس كالعلم بكذب إحدى اليدين الذي أسقط اليدين الناشيء من استحالة اجتماع صدقهما ذاتاً، وإلا لكان علم القاضي أو أيّ إنسان ثالث بكذب المنكر في أيّ دعوى


(1) كتاب القضاء للمحقّق العراقي، ص 106

297

حصل فيها علم من هذا القبيل مُخرجاً للمنكر عن كونه منكراً، لأنّه سقط أصله في نظر هذا العالم، بينما الأمر ليس كذلك، فالمنكر منكر ولو علمنا صدفةً كذبه، كما أنّ المدّعي مدعٍ ولو علمنا صدفةً صدقه.

وأمّا في المسألة الأُولى فكلّ واحد من الإيجارين يكفي دعواه من قبل أحدهما وإنكاره من قبل الآخر في تشكيل المرافعة، بغضّ النظر عن دعوى الإيجار الآخر. إذاً فهناك مرافعتان هذا بغضّ النظر عمّا مضى سابقاً في مسألة تداعي البيع والهبة اللازمة عن أُستاذنا الشهيد (رحمه الله): من أنّ دعوى الهبة مع اتفاقهما على أصل التمليك لا أثر لها، ولا تشكّل مرافعة، وكذلك نقول في المقام: إنّ دعوى الإيجار بالأقلّ مع اتفاقهما على جامع الإيجارين لا أثر لها، ولا تشكّل مرافعة. وهذا الإشكال كما ترى غير إشكال المحقّق العراقي (رحمه الله) في المقام وكلّ منهما مدّعٍ بالنسبة لأحد الإيجارين؛ لأنّ الأصل عدمه، ومنكر بالنسبة للإيجار الآخر؛ لأنّه يوافق أصالة عدمه، والأصلان غير متعارضين لإمكان صدقهما معاً؛ بأن لا يكون قد وقع شيء من الإيجارين. نعم، قد نعلم صدفةً بكذب أحدهما إجمالاً _ أي بوقوع أصل الإيجار _ ولكن قد وضّحنا أن العلم الإجمالي صدفةً بالكذب لا يخرج المنكر عن كونه منكراً، فإنّه ليس بأشدّ من العلم التفصيلي بكذب المنكر.

مصبّ النزاع بين المدّعي والمنكر

الأمر الرابع _ أنّ مقياس المدّعي والمنكر وترتّب أحكامهما عليهما مختصّ بما إذا كان النزاع على حقّ أو عين يدّعيه أحدهما على الآخر أو عنده وينكر الآخر، أمّا إذا كانا معاً معترفين بالحقّ أو العين لأحدهما، وإنّما النزاع في مخالفة الآخر لهذا الحقّ أو غصبه لهذه العين، فهذا لا يدخل في باب النزاع الذي يحمل أحكام المدّعي والمنكر،


(1) كتاب القضاء للمحقّق العراقي، ص 10

298

فمعنى المدّعي والمنكر في باب القضاء هو من يدّعي حقّاً أو عيناً على أحد، ومن ينكره عن نفسه، أمّا لو ادّعى مثلاً أنّ فلاناً ساكن في بيتي وذاك يعترف أنّ هذا بيته، ولكنّه ينكر كونه ساكناً في بيته، وكانت دعوى الأول لا بروح مطالبة الثاني بأُجرة مدّة سكنه في البيت؛ كي يرجع الأمر إلى دعوى حقّ عليه ينكره، بل بروح إخراجه من الآن فصاعداً من البيت، فهذا ليس بابه باب القضاء المتعارف الذي يحكم فيه بأنّ القضاء يكون بالبيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر، ولو ادّعى مثلاً أنّ فلاناً يريد قتلي أو ضربي، والآخر أنكر ذلك، فهذا ليس بابه باب القضاء ليحكم فيه بالبيّنات والأيمان، وإنّما هذا بابه باب دفع الظلم ودفع المنكر وحفظ الأمن، وما شابه ذلك من التعابير، وهذا ما يقوم به الحاكم بوصفه وليّاً للأمر، أو وكيلاً عنه إن كانت وكالته شاملةً لأمور من هذا القبيل لا بوصفه قاضياً، فإنّ معنى القضاء عرفاً لا يشمل هذا المورد.

وإن شئت فعبّر عمّا ذكرناه بأحد التعبيرات الآتية التي لعلّها أقرب إلى الفهم، وإن كانت هي غير دقيقة وقابلة للنقوض، والتعبير الدقيق هو ما ذكرناه:

1_ أن يقال: إنّه متى ما كان النزاع في رفع الظلم فهذا بابه باب القضاء، ويكون مشمولاً لقوانين المدّعي والمنكر، ومتى ما كان النزاع في دفع الظلم فهذا بابه باب النهي عن المنكر من دون أيّ ارتباط بباب القضاء.

2_ أن يقال: إنّه متى ما كان النزاع في تدارك حق أُهدر فهذا بابه باب القضاء، ومتى ما كان النزاع في إهدار حقّ فهذا بابه باب النهي عن المنكر أجنبيّاً عن باب القضاء.

3_ أن يقال: إنّه متى ما كان النزاع راجعاً إلى الماضي فهذا بابه باب القضاء، ومتى ما كان راجعاً إلى المستقبل فهذا بابه باب دفع المفسدة والظلم والنهي عن

299

المنكر بعيداً عن باب القضاء.

وهذه التعبيرات الثلاثة _ كما قلنا _ غير دقيقة.

وهناك تعبير آخر دقيق وفي نفس الوقت قريب إلى الفهم، وهو أنّ القضاء عرفاً يعني إدانة المدّعي أو المنكر، أو تبرئته، فمتى ما كان الباب باب الوقاية ودفع الظلم من دون اشتماله على الإدانة أو التبرئة، لم تثبت فيه أحكام المدّعي والمنكر.

والأساس الذي يعتمد عليه القاضي في مثل هذا المورد إنّما هو إعمال ولاية الفقيه، وقانون النهي عن المنكر لو كان لدليله إطلاق لمثل ذلك، وقانون تقديم المحتمل الأهمّ عندما كانت أهمّيته إلى مستوى نعلم برضا الشارع بتقديمه على المعلوم غير الأهمّ.

فقد يحكم القاضي بوصفه وليّاً أو وكيلاً عن الولي _ لو كانت وكالته شاملةً لمثل المورد _ بتجريد من يُخاف منه القتل عن السلاح، خلافاً لقانون تسلّط الناس على أموالهم، رغم أنّه ليس من المقطوع به إرادته لهذه الجريمة، وذلك لأهميّة المحتمل، وقد يحكم بتطويقه حينما حصل له العلم بأنّه يريد الظلم والضرب منعاً له عن المنكر وحفظاً للأمن، وليس هذا مشمولاً لما مضى من عدم نفوذ علم القاضي عن حدس.

بل قد يقال في موارد القضاء أيضاً: أنّ من حقّ ولي الأمر العمل بعلمه الحدسي، لا في أخذ الحقّ ممن عليه الحقّ لِذي الحقّ، بل في تعزيره الذي هو راجع إلى حقّ اللّه.

بل قد يقال أيضاً في موارد القضاء: إنّ من حقّ ولي الأمر إعمال الولاية بأخذ الحقّ بالقهر والغلبة ممّن علم عن حدس أنّ عليه الحقّ، وإعطائه لمن علم أنّ له الحقّ، لا بالحكم كي يخالف عدم نفوذ علم القاضي، بل بالفعل والعمل بلا حكم. والأثر العملي للفرق بين هذا وبين الحكم، أنّه لو حكم ثم حسم النزاع لا يجوز للمحكوم عليه أن يخاصمه مرةً أُخرى لو أمكنه ذلك ولو قطع بأنّه على حقّ، بينما

300

لو لم يحكم _ وإنّما مارس أخذ الحقّ بالقهر والغلبة _ جاز لمن يعتقد أنّه قد ظُلم المخاصمة مرّةً أُخرى، أو التقاصّ لو أمكنه ذلك.

إلا أنّ الصحيح أنّ التفكيك بين الحكم وأخذ الحقّ بالقهر والغلبه بجواز الثاني دون الأول، وكذا التفكيك بين التعزير والحكم بجواز الأول دون الثاني غير عرفي.

301

البيّنة

2

 

 

شرائط البيّنة

 

  1- البلوغ

  2- العقل

  3- الإيمان أو الإسلام

  4- العدالة

  5- عدم الاتّهام في الشهادة

  6- الحرّية

  7- طهارة المولد

  8- عدم التبرّع بالشهادة

  9- شرط (الحسّ) في الشهادة

  10- الذكورة

  11- حضور الشاهد عند القاضي

  12- وحدة مصبّ الشهادة

  13- البيّنة وشروطها لدى الفقه الوضعي

 

 

303

شرائط البيّنة

البحث الثاني _ شرائط البيّنة:

البلوغ

الشرط الأول _ هو البلوغ:

عدم نفوذ شهادة الصبي

ولا إشكال في عدم نفوذ شهادة الصبي غير المميّز، وإنّما الذي ينبغي البحث عنه هو شهادة الصبي المميّز، ويمكن الاستدلال على عدم نفوذها بوجوه:

الوجه الأول _ مناقشة افتراض وجود إطلاق لأدلّة الإشهاد يشمل شهادة الصبي من قبيل قوله تعالى:﴿فَإِذٰا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفىٰ بِاللّٰهِ حَسِيباً﴾(1). وكقول الرسول (صلى الله عليه و آله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»(2). وذلك إمّا بدعوى الانصراف إلى البالغ، كما ناقش صاحب الجواهر في تلك الإطلاقات بدعوى


(1) النساء: 6.

(2) وسائل الشيعة، ج 18، ص169، الباب 2 من كيفيّة الحكم ح1.

304

الانصراف، أو بدعوى أنّ تلك الإطلاقات إنّما هي بصدد ذكر أصل الإشهاد والبيّنة، وليست بصدد بيان الشرائط المعتبرة في نفوذها(1).

وقد يقال: إنّ مجرد عدم تماميّة الإطلاق إذا كان من باب عدم كونه في مقام البيان لا يكفي لإثبات عدم نفوذ شهادة الصبي؛ بحيث تصل النوبة إلى يمين المنكر، بل نبقى متحيّرين بين كون الوظيفة هي قبول شهادة الصبى، أو سماع يمين المنكر.

وقد يُجاب على ذلك: بأنّ استصحاب عدم جعل الحجّية لهذه الشهادة ينقّح موضوع اليمين؛ لأنّ يمين المنكر أُخذ في موضوعه عدم إقامة المدّعي البيّنة الحجّة؛ بناءً على أنّ الموضوع القاطع لليمين هو البيّنة بما هي حجّة، لا ذات البيّنة التي تكون حجّةً.

الوجه الثاني _ هو التمسّك بقوله تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَاِمْرَأَتٰانِ﴾(2) فإنّ كلمة الرجل لا تشمل الصبى.

الوجه الثالث _ ما دلّ على اشتراط العدالة في الشاهد كقوله تعالى: ﴿شَهٰادَةُ بَيْنِكُمْ إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اِثْنٰانِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾(3)وقوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾(4).

وذلك بدعوى أنّ العدالة لا تتصوّر في الصبي؛ إذ العدالة بمعنى الاستقامة في الطريق فيما بين الخطوط المنحرفة، بينما لا انحراف بشأن الصبى، وكلّ التصرّفات مباحة له، فما معنى استقامته في الطريق؟!

ولكن بالإمكان أن يدّعى أنّ المفهوم عرفاً من شرط العدالة هو النظر إلى ما تعطيه


(1) الجواهر، ج 41، ص 10.

(2) البقرة: 282.

(3) المائدة: 106.

(4) الطلاق: 2.

305

العدالة للإنسان من المناعة، وقد يتّفق أن يكون غير البالغ أشدّ مناعةً من البالغ العادل؛ باعتبار تربية نفسه وتعويده على ترك المحرّمات التي يكون الأَولى له التنزّه منها، ومنها الكذب.

الوجه الرابع _ الروايات من قبيل ما ورد بسند تام عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام): «في الصبي يشهد على الشهادة؟ قال: إن عَقَلَهُ عقله _ حين يدرك _ أنّه حقّ جازت شهادته»(1).

وما ورد عن السكوني بسند فيه النوفلي عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إنّ شهادة الصبي إذا أَشهدوهم وهم صغار جازت إذا كبروا ما لم ينسوها»(2).

وما عن إسماعيل بن أبي زياد (وهو السكوني) بسند تام عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه السلام): «أنّ شهادة الصبيان إذا شهدوا وهم صغار جازت إذا كبروا ولم ينسوها، وكذلك اليهود والنصارى إذا أسلموا جازت شهادتهم، والعبد إذا شهد بشهادة ثم أُعتق جازت شهادته إذا لم يردّها الحاكم قبل أن يعتق»، وقال علي (عليه السلام): «وإن أُعتق لموضع الشهادة لم تجز شهادته»(3). ولو حمل ذيله الدالّ على عدم قبول شهادة المملوك على التقيّة لم يضرّ بحجّية صدره، ولا يوجب سلب الوثوق عنه.

وما عن محمد بن مسلم بسند تام عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله): لم تجز شهادة الصبى، ولا خصم، ولا متّهم، ولا ظنين»(4).


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص251، الباب 21 من الشهادات، ح1.

(2) نفس المصدر، ح2.

(3) نفس المصدر، ص257، الباب 23 من الشهادات، ح 13،وجاء صدره أيضاً في الباب 21 من الشهادات، ص252، ح4.

(4) نفس المصدر، ص275، الباب 30 من الشهادات، ح6.

306

استثناءات في شهادة الصبي

وقد وردت استثناءات على عدم قبول شهادة الصبي:

الأول _ ما دلّ على قبول شهادته إذا بلغ عشر سنين: وهو ما ورد عن أبي أيّوب الخزّاز بسند تام قال: «سألت إسماعيل بن جعفر: متى تجوز شهادة الغلام؟ فقال: إذا بلغ عشر سنين. قلت: ويجوز أمره؟ قال: فقال: إنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) دخل بعائشة وهي بنت عشر سنين، وليس يدخل بالجارية حتى تكون امرأة، فإذا كان للغلام عشر سنين جاز أمره، وجازت شهادته»(1).

ولعلّه لأجل هذا الحديث قيل _ على ما جاء في الشرائع _ بقبول شهادة الصبي إذا بلغ عشراً، ولكن قال صاحب الشرائع (رحمه الله): «إنّ هذا القول متروك»، وقال في الجواهر(2): «بل اعترف غير واحد بعدم معرفة القائل به وإن نسب إلى الشيخ في النهاية، ولكنّه وهم».

وعلى أيّ حال فلا عبرة بهذا الحديث؛ لأنّه حديث عن إسماعيل بن جعفر، وليس حديثاً عن الإمام، على أنّ استشهاده بدخول النبي (صلى الله عليه و آله) بعائشة وهي بنت عشر سنين واضح البطلان.

الثاني _ ما دلّ على قبول شهادة الصبي في الأمور الصغيرة، وهو ما عن عبيد بن زرارة بسند تامّ قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن شهادة الصبي والمملوك، فقال: على قدرها يوم أُشهد تجوز في الأمر الدون، ولا تجوز في الأَمر الكثير. قال عبيد: وسألته عن الذي يشهد على الشيء وهو صغير قد رآه في صغره ثم قام به بعد ما كبر، قال:


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص252، الباب 22 من الشهادات، ح3.

(2) الجواهر، ج 41، ص 9.