100

ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾(1).

وقد يتمسّك أيضاً بأية شهادة العدلين في الطلاق(2).

هذا، والظاهر أنّ اشتراط العدالة في الشاهد ليس مسألة خلافيّة، إلا أنّه لو كان دليلنا على ذلك عبارة عن مجرّد الإجماع فهذا لا يوجب التعدّي إلى المقام بالدلالة الالتزامية العرفية.

نعم، بناءً على الأولوية القطعية، أو ما قلناه من أنّ جوّاً تشريعيّاً من هذا القبيل لا يتمّ فيه الإطلاق لدليل القضاء، يتمّ التعدّي. وعلى أيّ حال فبعد ما عرفت من وجود دليل لفظي على اشتراط العدالة في الشهادة فالتعدّي إلى المقام حتى بالدلالة


(1) المائدة: 106، و تتمة الآية ما يلي: ﴿أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْـرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَـرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصٰابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمٰا مِنْ بَعْدِ الصَّلاٰةِ فَيُقْسِمٰانِ بِاللّٰهِ إِنِ اِرْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كٰانَ ذٰا قُرْبىٰ وَلا نَكْتُمُ شَهٰادَةَ اللّٰهِ إِنّٰا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ﴾.

وقد يقال: إنّ قوله: ﴿أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْـرِكُمْ﴾ دليل على حمل العدالة في الآية على مجرّد الوثاقة؛ لأنّ فاسق المسلمين الثقة خير من غير المسلم العادل في دينه.

ولكن لا يبعد أن يكون الظاهر من الآية بقرينة قوله: ﴿إِنْ أَنْتُمْ ضَـرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ الاكتفاء بغير المسلمين عند العجز عن تحصيل شهود مسلمين باعتبارهم في أرض الغربة مثلاً؛ كما يدل على ذلك بعض الروايات: من قبيل ما عن هشام بن الحكم بسند تام عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في قول اللّه (عزوجل): ﴿أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ «إذا كان الرجل في أرض غربة ولايوجد فيها مسلم جازت شهادة من ليس بمسلم في الوصية». وسائل الشيعة، ج 18، ص287، الباب 4 من الشهادات، ح3.

وما عن سماعة بسند تام قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن شهادة أهل الملّة، قال: فقال: لا تجوز إلا على أهل ملّتهم، فإن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم على الوصية؛ لأنّه لا يصلح ذهاب حقّ أحد». وسائل الشيعة، ج 18، ص287، الباب4 من الشهادات، ح4.

(2) وهي قوله تعالى في سورة الطلاق: 2: ﴿فَإِذٰا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فٰارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهٰادَةَ﴾.

101

الالتزامية العرفية في محلّه.

الوجه السابع _ ما دلّ على إعطاء نوع ولاية على الأيتام لخصوص العدل: كما ورد عن اسماعيل بن سعد الأشعري في سؤاله عن الرضا (عليه السلام) قال: «... وعن الرجل يموت بغير وصيّة، وله ولد صغار وكبار أيحلّ شراء شيء من خدمه ومتاعه من غير أن يتولّى القاضي بيع ذلك؟ فإن تولّاه قاضٍ قد تراضوا به ولم يستعمله الخليفة أيطيب الشراء منه أم لا؟ فقال: إذا كان الأكابر من ولده معه في البيع فلا بأس إذا رضي الورثة بالبيع وقام عدل في ذلك»(1). وسند الحديث تام.

وقد يدل على ذلك أيضاً ما ورد عن محمد بن اسماعيل بن بزيع _ بسند تام _ قال: «مات رجل من أصحابنا ولم يوصِ، فرفع أمره إلى قاضي الكوفة، فصيّر عبدالحميد القيّم بماله، وكان الرجل خلّف ورثة صغاراً ومتاعاً وجواري، فباع عبدالحميد المتاع، فلمّا أراد بيع الجواري ضعف قلبه عن بيعهنّ؛ إذ لم يكن الميّت صيّر إليه وصيّته، وكان قيامه فيها بأمر القاضي لأنّهنّ فروج. قال: فذكرت ذلك لأبي جعفر (عليه السلام) وقلت له: يموت الرجل من أصحابنا، ولا يوصي إلى أحد، ويخلّف جواري، فيقيم القاضي رجلاً منّا فيبيعهن، أو قال: يقوم بذلك رجل منّا فيضعف قلبه لأنّهن فروج، فما ترى في ذلك؟ قال: فقال: إذا كان القيّم به مثلك، أو مثل عبدالحميد فلا بأس»(2)، بناءً على أنّ قوله: «مثلك أو مثل عبدالحميد» يعني مثلهما في العدالة. فإذا كانت العدالة شرطاً في من أُعطيت له ولاية على الأيتام فما ظنّك بالقاضي؟ وذلك بأحد التقريبات الثلاثة المتقدّمة من الأولوية القطعية، أو الملازمة العرفية، أو عدم تمامية الإطلاق في جوّ


(1) وسائل الشيعة، ج12، ص270، الباب 16 من عقد البيع وشروطه، ح1.

(2) نفس المصدر، ح 2.

102

تشريعي من هذا القبيل.

ولا يعارض هذين الحديثين ما عن سماعة بسند تام قال: «سألته عن رجل مات، وله بنون وبنات صغار وكبار من غير وصية، وله خدم ومماليك وعقد كيف يصنعون الورثة بقسمة ذلك الميراث؟ قال: إن قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كلّه فلا بأس»(1) بدعوى دلالة هذه الرواية على كفاية الوثاقة.

فإنّ هذه الرواية إن دلّت فإنّما تدل على كفاية الوثاقة في مجرّد التقسيم دون التصرفات، كالبيع الوارد في الروايتين السابقتين، ولو وردت في مورد التصرّفات لقيّدناها بالروايتين السابقتين الدالّتين على شرط العدالة.

ولا يعارضهما أيضاً ما عن علي بن رئاب قال: «سألت أبا الحسن موسى (عليه السلام) عن رجل بيني وبينه قرابة مات، وترك أولاداً صغاراً، وترك مماليك له غلماناً وجواري، ولم يوصِ، فما ترى فيمن يشتري منهم الجارية فيتّخذها أُمّ ولد؟ وما ترى في بيعهم؟ فقال: إن كان لهم ولي يقوم بأمرهم باع عليهم ونظر لهم كان مأجوراً فيهم. قلت: فما ترى فيمن يشتري منهم الجارية فيتّخذها أُمّ ولد؟ قال لا بأس بذلك إذا باع عليهم القيّم لهم الناظر فيما يصلحهم، وليس لهم أن يرجعوا عمّا صنع القيّم لهم الناظر فيما يصلحهم»(2).

وجه المعارضة: دعوى أنّ هذه الرواية دلّت على كفاية وجود قيّم لهم ناظر في مصالحهم من دون اشتراط العدالة.

والجواب: أوّلاً_ أنّ من المحتمل أن يكون المقصود بالولي والقيّم في هذه الرواية


(1) وسائل الشيعة، ج17، ص420، الباب 4 من موجبات الإرث، ح1،و ج13، ص474، الباب88 من أحكام الوصايا، ح2.

(2) نفس المصدر، ج13، ص474، الباب 88 من أحكام الوصايا، ح1.

103

الولي والقيّم الشرعيّين لا بمعناهما اللغوي _ أي من يلي أمرهم ويقيم قضاياهم _ أمّا من هو هذا القيّم أو الولي وماهي شرائطه؟ فلا نظر لهذه الرواية إلى ذلك.

وثانياً _ لو سلّم الإطلاق في هذه الرواية فما سبق يصلح لتقييدها.

وثالثاً _ أنّ هذه الرواية مرويّة بعدّة أسانيد كلّها ضعيفة:

1_ الشيخ الصدوق بسنده إلى الحسن بن محبوب عن علي بن رئاب، وفي طريق الصدوق إلى الحسن بن محبوب محمد بن موسى بن المتوكّل، ولا دليل على توثيقه.

2_ الكليني عن عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن ابن محبوب عن علي بن رئاب. وهذا السند ضعيف بسهل.

3_ سند الشيخ إلى سهل بن زياد عن ابن محبوب عن علي بن رئاب. وهذا أيضاً ضعيف بسهل بن زياد.

هذا تمام الكلام في أصل شرط العدالة في القاضي.

تحديد معنى العدالة

وأمّا الكلام في معنى العدالة، فالتردّد في ذلك يكون من أحد أنحاء ثلاثة:

1_ هل يكفي في العدالة عدم صدور المعصية من دون ملكة نفسانية، أو لا؟

2_ هل إنّ المعاصي الصغيرة تخلّ بالعدالة أو لا؟

3_ هل إنّ هناك شرطاً آخر غير ترك الذنوب أو ملكة تركها، باسم ترك ما ينافي المروءة أو لا؟

اشتراط الملكة وعدمه

أمّا اشتراط الملكة وعدمه في العدالة فقد يقال: إنّ مفهوم العدالة _ وهي لغةً بمعنى

104

الاستقامة، والمقصود به في المقام طبعاً العدالة في الدين، وذلك بقرينة ورودها في لسان مشرّع الدين وبلحاظ أحكام الدين _ يعطي معنى الملكة؛ فإنّ العدالة وصف حسب الفرض لإنسانٍ ما من إمام جماعة، أو شاهد، أو قاضٍ ونحو ذلك، واستقامة نفس الإنسان ليست بمجرّد عدم صدور معصية منه ولو من باب أنّ الفرص لم تسنح له، أو أنّه لم تمضِ على بلوغه سنّ التكليف أو على توبته مدّة تورّطه في المعصية، وإنّما استقامتها تكون بتطبّعها بترك المعاصي ووجود الرادع النفسي عن المعاصي والزلّات. هذا في كلّ ما ثبت فيه شرط العدالة بعنوانها. أمّا مثل عنوان «من تثق بدينه وأمانته» الذي مضی في بعض روايات صلاة الجماعة، فأيضاً يدل على اشتراط الملكة؛ إذ بدونها لا يحصل الوثوق. نعم، كلّما ورد اشتراط ترك الفسق فحسب لم يدل على اشتراط العدالة بمعنى الملكة.

وفي مقابل ذلك قد يستدلّ على كفاية عدم المعصية _ من دون شرط الملكة أو التطبّع النفسي _ بالروايات الواردة في قبول شهادة من يقام عليه الحدّ بعد توبته(1)، وفيه رواية واحدة تامّة السند، وهي ما عن عبداللّه بن سنان قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن المحدود إذا تاب أتقبل شهادته؟ فقال: إذا تاب _ وتوبته أن يرجع ممّا قال، ويكذّب نفسه عند الإمام وعند المسلمين، فإذا فعل _ فإنّ على الإمام أن يقبل شهادته بعد ذلك»(2) ونحن نعلم أنّ مجرّد التوبة لا يستلزم رجوع الملكة، وإنّما التوبة تجعل الذنب كأنّه لم يتحقّق، فيصبح حاله حال من هو قريب العهد بالبلوغ الذي لم يصدر منه معصية لا على أساس الملكة، بل على أساس الصدفة.


(1) راجع وسائل الشيعة، ج18، ص282_ 284، الباب 36 و37 من أبواب الشهادات.

(2) نفس المصدر، ج18، ص283، الباب 37 من أبواب الشهادات، ح1.

105

وقد يقال: إنّ هذه الروايات إنّما تعارض ما دلّ على اشتراط العدالة في الشاهد، لا أنّها تفسّر العدالة بمجرّد عدم الذنب.

وقد يجاب على ذلك: بأنّ أُنس ذهن المتشرعة باشتراط العدالة في الشاهد يعطي لهذه الروايات ظهوراً في تفسير العدالة بمجرّد عدم الذنب.

وقد يقال برأي وسط بين اشتراط الملكة وكفاية عدم صدور الذنب، وهو: أنّ مجرّد عدم صدور الذنب المجتمع مع عدم أيّ رادع نفسي عن الذنب _ كما قد يحصل لإنسان قريب العهد ببلوغه سنّ التكليف _ لا يكون عدالةً، والمحدود التائب ليس حاله هكذا، فإنّ توبته تعني تحقّق الرادع النفساني فيه، فالعدالة عبارة عن ترك المعاصي عن رادع نفساني، أمّا وصول الرادع النفساني إلى مستوى الملكة بحيث لا ينكسر عادةً إلا في حالات نادرة جداً يتوفّر فيها مستوى خاصّ من المغريات، فليس شرطاً في تحقّق العدالة، وذلك بدليل هذه الروايات التي اقتصرت على مجرّد التوبة. والصحيح أنّ هذه الروايات ليست بصدد إثبات العدالة الواقعيّة للمحدود الذي تاب، بدليل أنّها لم تفترض العلم بخلوّه عن باقي الذنوب رغم أنّه عادةً لا يعلم عن محدود تاب كونه خالياً عن باقي الذنوب، وإنّما هي بصدد بيان قبول شهادته المبتني في ظاهر الشرع على حسن الظاهر الذي سيأتي أنّه أمارة على العدالة، والمفروض أنّ توبته تعيد إليه حسن ظاهره الذي انكسر بفعل ما أوجب عليه الحدّ.

على أنّ الرواية الوحيدة التامّة سنداً من تلك الروايات هي هذه الرواية التي نقلناها والتي تشتمل على أنّ توبته تكون بتكذيب نفسه عند الإمام وعند المسلمين، ولا يبعد أن يقال: إنّ الاستعداد لتكذيب النفس عند الإمام وعند المسلمين لا يحصل من دون حصول الملكة.

وعلى أيّ حال فقد يقول القائل: إنّنا لسنا بحاجة في مقام نفي شرط الملكة إلى مثل

106

هذه الرواية، بل نقول من أوّل الأمر: إنّ المفهوم عرفاً من العدالة الاستقامة، والاستقامة ليست بمعنى مجرّد عدم الذنب _ ولو من باب أنّه لم تسنح الفرصة للذنب _ بل هو ترك الذنب مع الرادع النفساني، لكن لا يفهم من ذلك ضرورة وصول الرادع إلى مستوى ما يسمّى بالملكة، وهي الرادع القوي الذي يقف أمام المغريات الاعتيادية في الحالات الاعتيادية. إلا أنّ في صدق العدالة والاستقامة وكذا الثقة من دون وجود ملكة من هذا القبيل عرفاً، نظراً.

اشتراط ترك الصغيرة وعدمه

وأمّا إخلال المعصية الصغيرة بالعدالة وعدمه، فمقتضى ما هو المفهوم من كلمة العدالة بمعنى الاستقامة في الدين، ومثل التعبير بالوثوق بالدين في قوله: «صلّ خلف من تثق بدينه وأمانته» هو كونه تاركاً للصغائر أيضاً. فارتكاب الصغيرة وإن كان معفوّاً عنه عند اجتناب الكبائر لكنّه _ على أيّ حال _ خلاف الاستقامة في الدين وانحراف عنه؛ لأنّه محرّم حسب الفرض.

إلا أنّه قد يستدلّ على عدم إخلال المعصية الصغيرة بالعدالة بما رواه الصدوق بسنده عن عبداللّه بن أبي يعفور، قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): بمَ تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم وعليهم؟ فقال أن تعرفوه بالستر والعفاف وكفّ البطن والفرج واليد واللسان، ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد اللّه عليها النار...»(1)؛ حيث إنّ التقييد بالكبائر يدل على عدم إضرار الصغيرة.

لا يقال: إنّ الرواية جعلت ترك الكبائر طريقاً لمعرفة العدالة وهذا لا يدل على عدم


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص288، الباب 41 من شهادات، ح1.

107

إضرار الصغيرة بالعدالة؛ إذ لعل مقصوده (عليه السلام): إنّ ترك الكبيرة أمارة على العدالة، فحتى لو كان واقعاً محكوماً بالفسق لارتكاب الصغيرة يكون ظاهراً محكوماً بالعدالة لأنّ العدالة تعرف _ كما ورد في هذا الحديث _ بترك الكبائر.

فإنّه يقال: إنّ إطلاق الحديث لفرض العلم بارتكابه للصغيرة دليل على عدم إضرار الصغيرة بالعدالة أي أنّ المقصود بالعدالة في لسان الأدلة مستوى من الاستقامة قد يجتمع مع ارتكاب الصغيرة.

وقد يمكن التمسك بالآية الكريمة على عدم إخلال الصغيرة بالعدالة وهي قوله تعالی:

﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً﴾(1).

ووجه الاستدلال بهذه الآية المباركة هو أن يقال: إنّ بيان تكفير السيئآت عند اجتناب الكبائر وإدخاله مدخلاً كريماً يدل بدلالة التزامية عرفية على أنّ ترك الكبائر يجعل باقي الذنوب كأن لم يكن وبحكم العدم في كلّ الأحكام.

إلا أنّه لو تم ذلك فهذا لا يعني دلالة الآية على عدم دخل ترك الصغائر في العدالة، وإنّما يعني عدم إضرار الصغائر بأحكام العدالة وتعارضها حينئذٍ أدلة اشتراط تلك الأحكام بالعدالة، ولم تكن الآية بصدد بيان هذا اللازم ابتداءً كي تكون حاكمة _ بملاك النظر _ على أدلّة اشتراط العدالة. نعم قد يقال: إنّها تقدّم على تلك الأدلّة باعتبار تقدم القرآن على ما يعارضه من الحديث بمثل(2) العموم من وجه.


(1) النساء: 31.

(2) ولو قيل: إنّ هذا الحكم يختصّ بما لو تعارض خبران وأحدهما كان يوافق القرآن، والآخر يخالفه بمثل العموم من وجه، فيرجّح ما وافق الكتاب، ولم يقبل بتقدّم القرآن فيما إذا كان التعارض بينه وبين القرآن ←

108

هذا، والدلالة الالتزامية التي ذكرناها لهذه الآية المباركة يمكن أن تذكر لآيتين أُخريين أيضاً، وهما:

1_﴿فَمٰا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتٰاعُ الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَمٰا عِنْدَ اللّٰهِ خَيْرٌ وَأَبْقىٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوٰاحِشَ وَإِذٰا مٰا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اِسْتَجٰابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقٰامُوا الصَّلاٰةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمّا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾(1).

2_﴿وَلِلّٰهِ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَمٰا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسٰاؤُا بِمٰا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى * الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ


بالعموم من وجه؛ قلنا فيما نحن فيه أيضاً توجد بعض الروايات المصرّحة بنفس مضمون الآية الكريمة، فلها نفس الدلالة الالتزامية، فتقدّم على أدلّة اشتراط العدالة بموافقة الكتاب من قبيل ما عن محمد بن أبي عمير بسند تام قال: «سمعت موسى بن جعفر (عليه السلام) يقول: من اجتنب الكبائر من المؤمنين لم يسأل عن الصغائر، قال اللّه تعالى: ﴿إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً﴾ ...». وسائل الشيعة، ج 11، ص266، الباب 47 من جهاد النفس ح 11.

ومرسلة الصدوق: قال الصادق (عليه السلام): «من اجتنب الكبائر يغفر اللّه جميع ذنوبه، وذلك قول اللّه (عزوجل): ﴿إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً﴾». وسائل الشيعة، ج 11، ص250، الباب45 من جهاد النفس ح4.

ورواية محمد بن فضيل، أو محمد بن الفضل عن أبي الحسن (عليه السلام) في قول اللّه (عزوجل): ﴿إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ قال: «من اجتنب الكبائر _ ما أوعد اللّه عليه النار _ إذا كان مؤمناً كفّر اللّه عنه سيّئاته». وسائل الشيعة، ج11، ص250، الباب 45 من جهاد النفس، ح 5.

وسند هذا الحديث ضعيف بالراوي المباشر، ومحمد بن الفضيل قد روى عنه البزنطي وصفوان بن يحيى، إلا أنّ الشيخ قد ضعّفه.

(1) الشورى: 36 _ 38 .

109

واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلاٰ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقی﴾(1).

هذا ولو لم نقبل دلالة هذه الآيات بالالتزام العرفي على عدم إضرار الصغائر بالعدالة أو بحكم العدالة، فلا أقلّ من أنّها تصنع جوّاً متشرّعيّاً يمنع عن فهم معنى ترك جميع الذنوب من أدلّة شرط العدالة أو مانعيّة الفسق، ويصرف الكلمتين إلى النظر إلى خصوص الكبائر دون الصغائر المجرّدة عن الكبائر، فجوّ متشرّعي يعرف فيه أنّ مرتكب الصغيرة التارك للكبائر يكفّر اللّه سيّئاته ويدخله مدخلاً كريماً، وله ما عنداللّه الذي هو خير وأبقى ويجزيه بالحسنى، لا يسمح لفهم أكثر من ترك الكبائر من شرطيّة العدالة أو مانعيّة الفسق.

وعلى أية حال فسواء تمّت هذه التقريبات أو لم تتم كفتنا رواية عبداللّه ابن أبي يعفور الماضية لإثبات عدم إضرار ارتكاب الصغيرة بالعدالة.

معنى الكبيرة والصغيرة

وهنا لا بأس بالبحث عن معنى الكبيرة والصغيرة. وثمرة البحث تظهر في العدالة بناءً على أنّ الصغيرة لا تخلّ بالعدالة، وقد يقال بظهور الثمرة أيضاً في وجوب التوبة.

ولكنّ الصحيح أنّ وجوب التوبة لم يكن لأجل الفرار من النار كي يفترض أنّ الصغيرة المعفوّ عنها فيمن ترك الكبائر لا تحتاج إلى التوبة، بل هو: إمّا وجوب شرعي مستفاد من الأوامر الواردة بالتوبة عن الذنب، وإطلاقها يشمل التوبة عن الكبيرة والصغيرة، أو وجوب عقلي سنخ وجوب الطاعة، فكما أنّ العقل حكم بأنّ مقتضى


(1) النجم: 31_ 32.

110

العبوديّة للمولى امتثال أوامره وترك نواهيه، كذلك حكم بأنّ مقتضى العبوديّة له الندم على معصيته، وهذا أيضاً لا يفرّق فيه بين أن يكون الذنب معفوّاً عنه أو لا. ويحتمل كون أوامر التوبة إرشاداً إلى هذا الحكم العقلي.

وعلى أيّ حال فقد أنكر بعضٌ انقسام المعاصي إلى الصغائر والكبائر، فقال: إنّ المعاصي كلّها كبائر باعتبار المعصی _ جلّ وعلا _ إلا أنّ بعضها أكبر من بعض في سلّم الدرجات المتفاوتة، وقال أُستاذنا المرحوم آية اللّه الشاهرودي (رحمه الله): «إنّ المعاصي لا تنقسم إلى صغائر وكبائر، وإنّما تنقسم إلى الذنوب المكفِّرة _ بالكسر _ أي التي يكون تركها مكفِّراً لباقي الذنوب، والذنوب المكفَّرة _ بالفتح _ أي الذنوب التي تُغفر بترك باقي الذنوب».

أقول: كلّ هذا يرجع إلى نزاع لفظي، إلا أن ينكر أحد أصل كون ترك بعض الذنوب مكفِّراً للبعض الآخر، فذلك يكون نزاعاً حقيقياً، وهو خلاف ما يستفاد من الآية المباركة والروايات. وتفسير الآية بمعنى إن تجتنبوا الذنوب الكبيرة الواردة في هذه السورة _ مثلاً _ نكفّر عنكم ما وقع منكم منها في ما سلف، سنخ قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مٰا قَدْ سَلَفَ﴾(1)، وقوله تعالی: ﴿وَلاٰ تَنْكِحُوا مٰا نَكَحَ آبٰاؤُكُمْ مِنَ النِّسٰاءِ إِلّا مٰا قَدْ سَلَفَ﴾(2)، وقوله تعالی: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلّا مٰا قَدْ سَلَفَ﴾(3)،وقوله تعالى: ﴿عَفَا اللّٰهُ عَمّٰا سَلَفَ وَمَنْ عٰادَ فَيَنْتَقِمُ اللّٰهُ مِنْهُ﴾(4). خلاف الظاهر.


(1) الأنفال: 38.

(2) النساء: 22.

(3) النساء: 23.

(4) المائدة: 95.

111

وعلى أيّة حال فالمعاصي وإن كانت متدرّجة في الكبر والصغر، فليس هناك حدّ معيّن يفترض أنّها إلى هذا الحدّ كبيرة وما بعده صغيرة، فإنّ الكبر والصغر نسبيّان بالنسبة لكلّ المعاصي، لكن قد عرفنا أنّ قسماً منها لو تركه أحد كفّر عنه القسم الآخر الأصغر من الأول، فسُمّي الأول بالكبيرة والثاني بالصغيرة، فيقع الكلام فيما هو المقياس لمعرفة الكبيرة والصغيرة، وقد اختلفت الآراء كثيراً بهذا الصدد، وقد نسب رأيان إلى المشهور:

1_ أنّ الكبيرة هي كلّ ذنب توعّد اللّه تعالى عليه بالعقاب في الكتاب العزيز.

2_ أنها كلّ ذنب توعّد اللّه عليه النار.

والأوّل أعمّ من الثاني من حيث إنّ العقاب قد يتجسّد في غير النار، والثاني أعمّ من الأول من حيث عدم التقييد بكون الوعيد في الكتاب. ومن الممكن افتراض اتحاد كلا الرأيين؛ بأن يكون المقصود بالعقاب ما يشتمل على النار، أو يكون المقصود بالنار مطلق العقاب، وذُكرت النار على سبيل المثاليّة، وبأن يكون المقصود من توعّد اللّه عليه النار توعّده في الكتاب.

وقد يجمع بين عموم الأول لغير النار، وعموم الثاني لغير الكتاب؛ حيث قيل: إنّها كلّ ذنب توعّد عليه بخصوصه، قال العلّامة الكني في قضائه: «اختاره الشهيدان في القواعد والدروس والروضة، وزاد في الأخير قوله: في كتاب أو سنّة».

وعلى أيّ حال فما يصلح دليلاً على أحد الرأيين هو جملة من الروايات من قبيل:

1_ ما ورد _ بسند تام _ عن أبي بصير عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سمعته يقول: ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيـراً﴾(1). قال: معرفة الإمام واجتناب الكبائر


(1) البقرة: 269.

112

التي أوجب اللّه عليها النار»(1).

2_ ما عن الحلبي عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في قول اللّه (عزوجل): ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً﴾(2) قال: «الكبائر التي أوجب اللّهُ (عزوجل) عليها النار»(3). ولا عيب في السند من غير ناحية أبي جميلة، وهو ݢݢالمفضّل بن صالح، وقد روى الثلاثة الذين لا يروون إلا عن ثقة عنه، ومقتضى ذلك وثاقته، ولا عبرة بتضعيف ابن الغضائري؛ حيث قال عنه: «ضعيف كذّاب يضع الحديث، حدّثنا أحمد بن عبدالواحد، قال: حدّثنا علي بن محمد بن الزبير، قال: حدّثنا علي بن الحسن بن فضّال، قال: سمعت معاوية بن حكم يقول: سمعت أبا جميلة يقول: أنا وضعت رسالة معاوية إلى محمد بن أبي بكر»، ولكن المهمّ أنّ النجاشي قال في ترجمة جابر بن يزيد: «روى عنه جماعة غُمِز فيهم وضُعِّفوا، منهم عمرو بن شمر والمفضّل بن صالح ومنخل ابن جميل ويوسُف بن يعقوب» واستفاد السيد الخوئي من هذا التعبير: أنّ ضعف المفضّل بن صالح كان من المتسالم عليه عند الأصحاب، فإن صحّت هذه الاستفادة كان هذا معارضاً لدلالة نقل الثلاثة عنه على توثيقه، كما جعله السيد الخوئي معارضاً لدلالة وروده في أسانيد كامل الزيارات على توثيقه حسب ما يعتقده، إلا أنّ هذه الاستفادة غير واضحة عندي، وعلى أيّ حال ففي النفس شيء ممّا يرويه أبو جميلة.

3_ ما عن محمد بن الفضيل (الفضل _ خ ل _) عن أبي الحسن (عليه السلام) في قول اللّه (عزوجل): «﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ﴾ قال: من


(1) وسائل الشيعة، ج 11، ص249، الباب 45 من جهاد النفس، ح 1.

(2) النساء: 31.

(3) وسائل الشيعة، ج 11، ص249، الباب 45 من جهاد النفس ، ح 2.

113

اجتنب الكبائر _ ما أوعد اللّه عليه النار _ إذا كان مؤمناً كفّر اللّه عنه سيّئاته»(1).

ولا إشكال فيه من حيث السند من غير جهة الراوي المباشر، أمّا الراوي المباشر، فإن كان هو محمد بن الفضيل _ كما يقال: إنّه ورد كذلك في ثواب الأعمال، وصاحب الوسائل نقل هذا الحديث عن ثواب الأعمال _ فقد ضعّفه الشيخ، ولكن روى عنه بعض الثلاثة، وإن كان هو محمد بن الفضل، فهو مشترك بين من وثّق ومن لم يوثّق؛ وبالتالي السند لا يخلو من ضعف.

4_ ما عن عباد بن كثير النوا، قال: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الكبائر، فقال: كلّ ما أوعد اللّه عليه النار»(2). والسند ضعيف على الأقلّ بمجهوليّة عباد بن كثير النوا.

5_ ما عن الحسن بن زياد العطّار، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في حديث قال: «قد سمّى اللّه المؤمنين بالعمل الصالح مؤمنين، ولم يسمّ من ركب الكبائر، وما وعد اللّه (عزوجل) عليه النار مؤمنين في قرآن ولا أثر، ولا نسمّيهم بالايمان بعد ذلك الفعل»(3). وفي سنده ودلالته ضعف.

6_ ما عن ابن محبوب _ بسند تامّ _ قال: «كتب معي بعض أصحابنا إلى أبي الحسن (عليه السلام) يسأله عن الكبائر: كم هي؟ وما هي؟ فكتب: الكبائر من اجتنب ما وعد اللّه عليه النار كفّر عن سيّئاته إذا كان مؤمناً، والسبع الموجبات: قتل النفس الحرام، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، والتعرّب بعد الهجرة، وقذف المُحصَنة، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف»(4).


(1) نفس المصدر، ص250، ح5،

(2) نفس المصدر، ح6، ص258، وأيضاً الباب 46 من جهاد النفس، ح24.

(3) نفس المصدر، ج 11، ص251، الباب 45 من جهاد النفس، ح 7.

(4) نفس المصدر، ص252، الباب 46 من جهاد النفس، ح 1.

114

7_ ما عن علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام)، قال: «سألته عن الكبائر التي قال اللّه (عزوجل): ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ﴾ قال: التي أوجب اللّه عليها النار»(1).

8 _ ما عن أحمد بن عمر الحلبي _ بسند فيه موسى بن جعفر بن وهب البغدادي، ولم تثبت وثاقته _ قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن قول اللّه (عزوجل): ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ﴾ قال: من اجتنب ما أوعد اللّه عليه النار _ إذا كان مؤمناً _ كفّر عن سيّئاته وأدخله مُدْخَلاً كريماً، والكبائر السبع الموجبات: قتل النفس الحرام، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، والتعرّب بعد الهجرة، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف»(2).

وقد تحصّل بهذا العرض وجود بعض روايات تامّةٍ سنداً ودلالةً دالّةٍ على أنّ المقياس هو كون المعصية ممّا أوعد اللّه عليها النار، فكلّ معصية تكون كذلك، فهي كبيرة، وغيرها صغائر.

ولو ورد في القرآن الوعيد بالعذاب، فالظاهر انصرافه إلى عذاب جهنم وفيه النار، ولا يشمل مجرد أهوال يوم القيامة _ مثلاً _ التي ليست منها النار، فالوعيد بالعذاب وعيد بالنار أيضاً.

والظاهر من عنوان «أوعد اللّه عليها النار» كون الوعيد في القرآن الكريم، والنكتة في ذلك أنّ ظاهر إعطاء مقياس للمخاطبين للكبيرة والصغيرة هو إرادة إعطاء مقياس مضبوط ومفهوم عند المخاطبين يمكن لهم الرجوع إليه لتشخيص الحال، بينما


(1) وسائل الشيعة، ج 11، ص258، الباب 46 من جهاد النفس، ح 21.

(2) نفس المصدر، ص260،ح 32.

115

السنّة ليست محصورة وموجودة بتمامها عند المخاطبين عادةً؛ كي يمكن إرجاعهم إليها كضابط، وهذا بخلاف القرآن الكريم. فهذه هي نكتة الانصراف إلى ما قلناه.

إلا أنّه قد يقال: إنّه لو كان المقياس هو الوعيد في القرآن بالنار لانتقض ذلك ببعض المعاصي التي لم يرد في القرآن وعيد بالنار عليها، ولا شكّ فقهيّاً أو إسلاميّاً في كونها من الكبائر من قبيل اللواط وشرب الخمر.

وقد يقال في الجواب: إنّ عنوان ما أوعد اللّه عليه النار الوارد في الروايات إشارة إلى مفهوم عرفي راجع إلى تفسير الكبيرة والصغيرة، ومتعارف بين الموالي والعبيد العرفيّين. توضيحه: أنّ أوامر المولى ونواهيه لها محرّكية ذاتيّة للعبد إذا كان يحبّ مولاه، وهي محرّكية عاطفية، ولها محرّكية ذاتية عقلية للعبد إذا كان يعترف لمولاه بالمولويّة الحقيقية ووجوب الطاعة، أو اجتماعية إذا كان يعترف له بالمولويّة الاجتماعية، وهذه المحرّكيّات الذاتية قد لا تكفي لتحريك العبد، وعندئذٍ إن كان اهتمام المولى بالقضيّة كبيراً يوعده بالعذاب على تقدير عدم الامتثال، وقد يعذّبه بالفعل عند المخالفة، وإن كان اهتمامه بها ليس كبيراً يغضّ النظر عن العبد حينما يراه مخالفاً ولا يعاقبه، إلا إذا رأى منه إصراراً على ذلك، أو رآه يضم هذه المخالفة إلى المخالفات الكبيرة، فقد يعاقبه على الصغيرة أيضاً. والمفهوم عرفاً من العفو عن الصغائر عند اجتناب الكبائر وعدم الإصرار هو هذا المعنى، فلا ينبغي أن نجمد في فهم مقياس ما أوعد اللّه عليه النار على فرض الوعيد الصريح، بل تهويله تعالى في كتابه لمعصيةٍ ما يفهم منه _ بناءً على هذا الفهم العرفي الذي شرحناه _ الوعيد بالنار، وعليه فمثل اللواط الذي تكرّر فيه ذكر قصّة لوط (عليه السلام) في القرآن الكريم وتأنيبه الشديد لقومه على هذا العمل القبيح، ثم ذكر نزول العذاب عليهم وإهلاكهم، دليل كافٍ بهذا النمط من الفهم على الوعيد بالنار، وكون المعصية كبيرةً. وضمّ النهي عن

116

الخمر إلى النهي عن الأوثان _ وجعلُهما معاً رِجْساً من عمل الشيطان في قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصٰابُ وَالْأَزْلاٰمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الْشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(1) _ دليلٌ كافٍ على الوعيد بالعذاب والنار، وكون شربه معصية كبيرة، ولعلّه إلى هذا أشار ما جاء في حديث عبدالعظيم الحسني (رحمه الله) التامّ سنداً عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) عن أبيه موسى (عليه السلام) عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تعداد الكبائر من قوله: «وشرب الخمر لأنّ اللّه (عزوجل) نهى عنها كما نهى عن عبادة الأوثان»(2).

وقد يقال: إنّ نفس حديث عبدالعظيم الحسني يشهد لعدم كون المقياس في فهم الكبائر في قوله تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ خصوص الوعيد بالنار في القرآن الكريم؛ حيث جاء فيه في تعداد الكبائر: «وترك الصلاة متعمّداً، أو شيئاً مما فرض اللّه (عزوجل)؛ لأنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) قال: من ترك الصلاة متعمّداً فقد بَرِئ من ذمّة اللّه وذمّة رسوله»، فتراه استدلّ على كون ترك الصلاة كبيرة بالسنّة لا بالوعيد بالنار في القران. هذا بناءً على دعوى أنّ هذا الحديث وإن كان وارداً بشأن آية أُخرى، ولكن يفترض أنّ معنى الكبائر في الآيتين واحد.

ويمكن الجواب على ذلك على ضوء ما شرحناه من الفهم العرفي لجعل المقياس هو الوعيد بالنار؛ بأنّه لا فرق في الدلالة على روح المطلب الذي أشرنا إليه _ من كون الغرض مهمّاً إلى مستوى لا يكتفي المولى بأمره المولوي، بل يوعد العذاب على تقدير المخالفة _ بين أن تدلّ آية قرآنيّة على ذلك أو يدل نصّ الرسول (صلى الله عليه و آله)، أو الإمام (عليه السلام)


(1) المائدة: 90.

(2) وسائل الشيعة، ج 11، ص253، الباب 46، أبواب جهاد النفس، ح2.

117

على ذلك؛ فالاستشهاد بنصّ الرسول (صلى الله عليه و آله) على أنّ تارك الصلاة بريء من ذمّة اللّه ورسوله صحيح، وهذا لا ينافي ما نفهمه من روايات ما أوعد اللّه عليه النار التي قلنا إنّ ظاهرها إرادة الوعيد في الكتاب، فنحن نفهم منها أنّه ما من معصية كبيرة إلا وهي مذكورة في القرآن، ولو كانت مذكورة في السنّة أيضاً. ومن الواضح دلالة القرآن على كون ترك الصلاة كبيرة؛ حيث جعله سبباً من أسباب السلوك في سقر في قوله تعالی:﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمٰا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلّا أَصْحٰابَ الْيَمِينِ * فِي جَنّٰاتٍ يَتَسٰاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مٰا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قٰالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ *وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ *وَكُنّٰا نَخُوضُ مَعَ الْخٰائِضِينَ *وَكُنّٰا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتّٰى أَتٰانَا الْيَقِينُ *فَمٰا تَنْفَعُهُمْ شَفٰاعَةُ الشّٰافِعِينَ﴾(1).

وقد يورد على جعل المقياس الوعيد بالنار _ سواء خصّ ذلك بالكتاب أو لم يخصّ _ بأحد إيرادين:

الأول، أنّه ما من معصية إلا وقد ورد عليها الوعيد بالنار في القرآن. قال اللّه تعالى:

﴿وَمَنْ يَعْصِ اللّٰهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نٰاراً خٰالِداً فِيهٰا وَلَهُ عَذٰابٌ مُهِينٌ﴾(2).

وقال تعالى: ﴿بَلىٰ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحٰاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولٰئِكَ أَصْحٰابُ النّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ﴾(3).

وقال تعالى: ﴿قٰالَ اخْرُجْ مِنْهٰا مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ


(1) المدثر: 38 _ 48.

(2) النساء: 14.

(3) البقرة: 81.

118

مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ﴾(1).

وقال تعالى: ﴿قٰالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾(2).

والواقع: أنّ هذا الإشكال لو تم لكان إشكالاً على أصل تقسيم المعاصي إلى الكبائر والصغائر، والوعد الجزمي بالعفو عن الصغائر على تقدير ترك الكبائر؛ لانّ الوعيد بالنار لا يجتمع عرفاً مع الوعد الجزمي بالعفو غير المعلّق على التوبة.

ومن الواضح أنّ المقصود بهذه الآيات ليس من يرتكب الصغيرة، بل ولا من يرتكب الكبيرة، فليس مجرّد ارتكاب كبيرةٍ موجباً للخلود، أو سبباً لمل‏ءِ جهنّم به، وإنّما تنظر هذه الآيات إلى الملحدين والمنافقين والأشقياء والمستهترين بالمعاصي وأمثالهم.

الثاني، أنّ هناك روايات عديدة وردت في حصر الكبائر في عدد قليل كسبع، أو خمس، أو تسع، أو عشر؛ بينما لو كانت الكبائر عبارة عمّا أوعد اللّه عليه النار، فهي كثيرة وغير منحصرة في عدد قليل، ولعلّ المنصرف من كلمة الكبائر في الروايات هو المعنى المقصود في قوله تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ﴾. فليس المقصود من الكبائر في هذه الروايات معنىً آخر غير المعنى المبحوث عنه.

والواقع: أنّ هذا ينبغي أن يكون إشكالاً على تلك الروايات، ويفحص عن جوابه، لا أن يكون إشكالاً على المقياس الماضي للكبائر وهو الوعيد بالنار؛ وذلك لأنّ الوعد


(1) الأعراف: 18.

(2) ص: 84 _ 85.

119

الجزمي بالمغفرة على تقدير ترك قسم من الذنوب، وغير المعلّق على التوبة لا يجتمع عرفاً مع الوعيد بالنار؛ إذاً فكلّ ما أوعد اللّه عليه بالنار ينبغي أن يكون داخلاً في المكفِّرات _ بالكسر _ «أي ما يكون تركه مكفِّراً» لا المكفَّرات _ بالفتح _ وإذا شككنا في صحّة هذا المقياس ينبغي أن يكون ذلك على أساس احتمال كون دائرة الكبائر أوسع من دائرة ما أوعد عليه النار، لا على أساس احتمال كونها أضيق منها.

إذاً فينبغي حمل هذه الروايات على بيان أكبر الكبائر، لا الكبائر بالمعنى الوارد في القرآن الكريم؛ فإنّ الكبيرة عنوان نسبي ومشكّك، فيمكن أن تحصر بمستوىً معيّن وببعض معانيها ودرجاتها في عدد قليل، كما يمكن أن توسّع ببعض الدرجات.

وممّا يجلب النظر أنّ الروايات الحاصرة للكبائر في عدد قليل لم ترد غالبيّتها بعنوان تفسير الآية إلا بمجرد دعوى الانصراف إلى إرادة المعنى المذكور في الآية. نعم قد يدّعى في بعضها القرينة على النظر إلى الآية الكريمة، وهي غير تامّة السند، بينما الروايات السابقة _ المفسِّرة للكبيرة بأنّها ما أوعد اللّه عليه النار _ جملة منها كانت صريحة في تفسير الآية، وفيها ما هو تام السند.

هذا؛ وبعض روايات الحصر في عدد قليل مشتمل على ما يشهد لهذا الجمع الذي أشرنا إليه _ من حمل تلك الروايات على إرادة أكبر الكبائر، لا على إرادة الكبيرة بمعنى الذنوب المكفِّرة _ والروايات كما يلي:

1_ ما ورد _ بسند تام _ عن ابن محبوب، قال: «كتب معي بعض أصحابنا إلى أبي الحسن (عليه السلام) يسأله عن الكبائر كم هي؟ وما هي؟ فكتب: الكبائر من اجتنب ما وعد اللّه عليه النار كفّر عنه سيّئاته إذا كان مؤمناً، والسبع الموجبات: قتل النفس الحرام، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، والتعرُّب بعد الهجرة، وقذف المحصنة، وأكل

120

مال اليتيم، والفرار من الزحف»(1). وقد مضى منّا ذكر هذا الحديث في عداد أحاديث تفسير الكبيرة بما أوعد اللّه عليه النار، وهذا الحديث _ كما ترى _ فيه دلالةً على ما ذكرنا من أنّ السبع هي عدد من المعاصي أكبر من سائر الذنوب، لا أنّ الكبائر المشار إليها في الآية الشريفة محصورة في هذا العدد؛ فإنّ هذا الحديث _ كما ترى _ قد جمع بين ذكر ذاك المقياس في صدر الحديث _ وهو ما أوعد عليه النار _ وذكر العدد السبع من المعاصي.

2_ ما عن عبيد بن زرارة _ بسند تام _ قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن الكبائر، فقال: هنّ في كتاب علي (عليه السلام) سبع: الكفر باللّه، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، وأكل الربا بعد البيّنة، وأكل مال اليتيم ظلماً، والفرار من الزحف، والتعرّب بعد الهجرة. قال: فقلت هذا أكبر المعاصي؟ فقال: نعم، قلت: فأكل الدرهم من مال اليتيم ظلماً أكبر، أم ترك الصلاة؟ قال: ترك الصلاة. قلت فما عددت ترك الصلاة في الكبائر، قال: أيّ شيء أوّل ما قلت لك؟ قلت: الكفر، قال: فإنّ تارك الصلاة كافر؛ يعني من غير علّة»(2).

3_ ما عن محمد بن مسلم _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «الكبائر سبع: قتل المؤمن متعمّداً، وقذف المحصنة، والفرار من الزحف، والتعرّب بعد الهجرة، وأكل مال اليتيم ظلماً، وأكل الربا بعد البيّنة، وكلّ ما أوجب اللّه عليه النار»(3). وما في هذا الحديث من عدّ عنوان ما أوجب اللّه عليه النار في عداد الكبائر السبع شاهد لما ذكرناه من الجمع.


(1) وسائل الشيعة، ج 11، ص252، الباب 46 من جهاد النفس، ح 1.

(2) نفس المصدر، ص254، ح 4.

(3) نفس المصدر، ص 254، ح 6.

121

4_ ما عن مسعدة بن صدقة قال: «سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول: الكبائر: القنوط من رحمة اللّه، واليأس من رَوْح اللّه، والأمن من مكر اللّه، وقتل النفس التي حرّم اللّه، وعقوق الوالدين، وأكل مال اليتيم ظلماً، وأكل الربا بعد البيّنة، والتعرُّب بعد الهجرة، وقذف المحصنة، والفرار بعد الزحف» الحديث(1). والسند غير تام.

5_ ما عن أبي بصير _ بسند غير تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سمعته يقول: الكبائر سبعة: منها قتل النفس متعمداً، الشرك باللّه العظيم، وقذف المحصنة، وأكل الربا بعد البيّنة، والفرار من الزحف، والتعرُّب بعد الهجرة، وعقوق الوالدين، وأكل مال اليتيم ظلماً. قال: والتعرّب والشرك واحد»(2). وقوله: «سبعة، منها» دليل عدم الحصر، وشاهد للجمع الذي ذكرناه، إلا إذا افترضنا أنّ الضمير في «منها» يرجع إلى نفس كلمة سبعة.

6_ ما عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) قال: «إجتنبوا السبع الموبقات. قيل: وما هنّ؟ قال: الشرك باللّه، والسِّحر، وقتل النفس التي حرّم اللّه إلا بالحقّ، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولّي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات»(3). وهو ساقط سنداً. ويلحظ أنّ الرواية لا إشارة فيها إلى الحصر، ولم تعبّر بالكبائر كي توحي إلى أنّها تفسّر الكبائر بمعناها الوارد في الآية المباركة، وإنّما قالت: اجتنبوا السبع الموبقات.

7_ ما عن أبي الصامت عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «أكبر الكبائر سبع: الشرك باللّه العظيم، وقتل النفس التي حرّم اللّه إلا بالحقّ، وأكل أموال اليتامى، وعقوق الوالدين،


(1) نفس المصدر، ص256، ح 13.

(2) نفس المصدر، ح 16.

(3) نفس المصدر، ص261، ح 34.

122

وقذف المحصنات، والفرار من الزحف، وإنكار ما أنزل اللّه (عزوجل): فأمّا الشرك باللّه العظيم، فقد بلغكم ما أنزل اللّه فينا وما قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) فردّوه على اللّه وعلى رسوله، وأمّا قتل النفس الحرام، فقد قُتل الحسين (عليه السلام) (فقتل الحسين (عليه السلام) _ خ ل _) وأصحابه، وأمّا أموال اليتامى فقد ظُلمنا فيئَنا وذهبوا به، وأمّا عقوق الوالدين فإنّ اللّه (عزوجل) قال في كتابه: ﴿اَلنَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوٰاجُهُ أُمَّهٰاتُهُمْ﴾(1)، وهو أبٌ لهم، فعقّوه في ذريّته وفي قرابته، وأمّا قذف المحصنات فقد قذفوا فاطمة (عليها السلام) على منابرهم، وأمّا الفرار من الزحف، فقد أعطوا أمير المؤمنين (عليه السلام) البيعة طائعين غير مكرهين، ثم فرّوا عنه وخذلوه، وأمّا إنكار ما أنزل اللّه (عزوجل) فقد أنكروا حقّنا، وجحدوا له، وهذا ممّا لا يتخاصم فيه أحد، واللّه يقول: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً﴾(2)»(3). وقد يُقال: إنّ ذيله مشعر بكون الكبائر السبع، هي نفس الكبائر التي جاءت الإشارة إليها في الآية الكريمة. ولكن لا يخفى أنّه لا يدل ذيله على أكثر من أنّ الكبائر السبع هي من جملة الكبائر المشار إليها في الآية الكريمة، أمّا الحصر فلا، على أنّ صدر الحديث قد عبّر بعنوان «أكبر الكبائر» لا بعنوان «الكبائر». وعلى أيّ حال فسند الحديث غير تام.

8 _ ما رواه الصدوق بإسناده عن علي بن حسّان، عن عبدالرحمان بن كثير، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إنّ الكبائر سبع، فينا نزلت ومنّا استُحلّت، فأوّلها الشرك باللّه، وقتل النفس التي حرّم اللّه، وأكل مال اليتيم، وعقوق الوالدين، وقذف


(1) الاحزاب: 6.

(2) النساء: 31.

(3) وسائل الشيعة، ص257_ 258، ج 11، الباب 46 من جهاد النفس، كما أن ذيل الرواية وارد في هامش ص: 257.

123

المحصنة، والفرار من الزحف، وإنكار حقّنا: فأمّا الشرك باللّه العظيم، فقد أنزل اللّه فينا ما أنزل، وقال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) فينا ما قال، فكذّبوا اللّه، وكذّبوا رسوله، فأشركوا باللّه، وأمّا قتل النفس التي حرّم اللّه، فقد قتلوا الحسين بن علي (عليهماالسلام) وأصحابه، وأمّا أكل مال اليتيم، فقد ذهبوا بفيئنا الذي جعله اللّه (عزوجل) لنا، فأعطوه غيرنا، وأمّا عقوق الوالدين، فقد أنزل اللّه تبارك وتعالى في كتابه فقال (عزوجل): ﴿اَلنَّبِـيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوٰاجُهُ أُمَّهٰاتُهُمْ﴾، فعقّوا رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) في ذرّيته، وعقّوا أُمّهم خديجة في ذرّيتها، وأمّا قذف المحصنة فقد قذفوا فاطمة (عليها السلام) على منابرهم، وأمّا الفرار من الزحف فقد أعطوا أمير المؤمنين (عليه السلام) بيعتهم طائعين غير مكرهين، ففرّوا عنه، وخذلوه، وأمّا إنكار حقّنا فهذا ممّا لا يتنازعون فيه»(1). ولعلّ هذا أوضح من سابقه في الدلالة على حصر الكبائر الواردة في الآية الكريمة في السبع، ولكنّه _ على أيّ حال _ قابل للتوجيه بالحمل على كون السبع أكبر الكبائر. وعلى أيّ حال فالسند ساقط أوّلاً: بعبدالرحمان بن كثير، وثانياً: بعلي بن حسّان. وعلي بن حسّان مشترك بين الواسطي الثقة والهاشمي، والتعبير بعلي بن حسّان إنّما هو في الوسائل، أمّا في الفقيه، فقد جاء هكذا: «روى علي بن حسّان الواسطي، عن عمّه عبدالرحمان بن كثير»، ومن هنا قد يتراءى أنّ علي بن حسان في المقام هو الثقة، وقال أيضاً الصدوق في مشيخة الفقيه: «وما كان فيه عن علي بن حسان، فقد رويته عن محمد بن الحسن(رضي الله عنه)عن محمد بن الحسن الصفار، عن علي بن حسان الواسطي» وقال(رحمه الله) أيضاً في مشيخة الفقيه: «وما كان فيه عن عبدالرحمان بن كثير الهاشمي،


(1) الفقيه، ج3، ص 366 _ 367، ح 1745، ، وصدره جاء في وسائل الشيعة، ج 11، ص258، من الباب 46 من جهاد النفس.

124

فقد رويته عن محمد بن الحسن(رضي الله عنه)عن محمد بن الحسن الصفّار، عن علي ابن حسان الواسطي، عن عمّه عبدالرحمان بن كثير الهاشمي» إلا أنّ الخطأ الواقع في كلام الصدوق (رحمه الله) أنّه فرض عبدالرحمان بن كثير الهاشمي عمّاً لعلي بن حسّان الواسطي، بينما هو عمّ لعلي ابن حسّان الهاشمي، فلا ندري هل كان خطؤه في فرض هذا عمّاً لذلك، أو كان خطؤه في تخيّل أنّ علي ابن حسّان الهاشمي الذي هو ابن أخي عبدالرحمان يلقّب بالواسطي، وأنّ علي بن حسّان الواسطي ليس إنساناً آخر، فبالتالي نبقى مردّدين في المقام بين كون علي ابن حسّان هو الواسطي أو الهاشمي، وبالتالي لا تثبت وثاقته.

9_ ما عن محمد بن أبي عُمير _ بسند تامّ _ عن بعض أصحابه عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «وجدنا في كتاب علي (عليه السلام) الكبائر خمسة: الشرك، وعقوق الوالدين، وأكل الربا بعد البيّنة، والفرار من الزحف، والتعرّب بعد الهجرة»(1).

10_ ما عن عبيد بن زرارة _ بسند غير تامّ _ قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام) أخبرني عن الكبائر، فقال: هنّ خمس، وهنّ ممّا أوجب اللّه عليهنّ النار؛ قال اللّه تعالى: ﴿إِنَّ اللّٰهَ ݣݣلاٰ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾(2)، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلوُنَ أَمْوالَ اليَتَامَى ظُلْمَاً إِنَّمَا يَأكُلوُنَ فِي بُطوُنِهِمْ نَارَاً وَسَيُصْلَونَ سَعيِرَاً﴾(3)، وقال: ﴿يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاٰ تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبٰارَ﴾(4) إلى آخر الآية، وقال (عزوجل): ﴿يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ


(1) وسائل الشيعة، ج 11، ص259،الباب 46 من جهاد النفس، ح 27.

(2) النساء: 48.

(3) النساء: 10.

(4) الأنفال: 15.