77

الأوّل: روايتان قد تفترض دلالتهما على ذلك، أوليهما: صحيحة علي بن مهزيار كتب إليه إبراهيم بن محمد الهمداني: «أقرأني عليّ كتاب أبيك في ما أوجبه على أصحاب الضياع أنّه أوجب عليهم نصف السدس بعد المؤونة وأنّه ليس على من لم تقم ضيعته بمؤونته نصف السدس ولا غير ذلك، فاختلف من قبلنا في ذلك فقالوا: يجب على الضياع الخمس بعد المؤونة، مؤونة الضيعة وخراجها لا مؤونة الرجل وعياله. فكتب وقرأه عليّ بن مهزيار: عليه الخمس بعد مؤونته ومؤونة عياله وبعد خراج السلطان»(1).

والسند منتهٍ بإبراهيم بن محمد الهمداني وهو وكيل الناحية، فإن لم تثبت وثاقته بذلك وفقاً لمناقشة السيد الخوئي(رحمه الله) في ثبوت الوثاقة بالوكالة(2) فلعلّه يكفي في المقام ما في الحديث من جملة: «وقرأه علي بن مهزيار» فإنّ هذا إسقاط لإبراهيم بن محمد الهمداني من السند ويصبح علي بن مهزيار راوياً مباشرة.

وأمّا الدلالة فيقال: إنّ خراج السلطان هو الزكاة أو يشمل الزكاة، فالحديث دلّ على أنّ الخمس يحسب بعد خروج الزكاة.

ويمكن أن تناقش هذه الدلالة أوّلاً: بأنّ المقصود بالسلطان السلطان الجائر، فمعنى العبارة أنّ ما يأخذه السلطان قهراً على الإنسان لا يجب دفع خمسه، وهذا لا علاقة له بأنّه لو كان السلطان عادلاً فهل تحسب معه أوّلاً الزكاة ثم الخمس أو بالعكس.

وثانياً: أنّ هذا وارد في الضياع والغلّات والتي قلنا: إنّ بدوّ الصلاح فيها لا يعني مرور الحول عليها، وإذا أُخذ منها شيء سواء كان بظلم السلطان أو بعنوان الزكاة من قبل إمام عدل فمن الواضح أنّه حينما يمرّ عليه الحول لا يتعلّق به الخمس إلّا بما هو موجود فعلاً عنده.

والثانية: رواية أحمد بن محمد بن عيسى بن يزيد(3) أو رواية أحمد بن محمد بن عيسى عن زيد(4) قال: «كتبت جعلت لك الفداء تعلّمني ما الفائدة وما حدّها؟

 


(1) وسائل الشيعة، ج9، ص500، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، ح4.

(2) معجم رجال الحدیث، ج1، ص71.

(3) الكافي، ج2، ص729، الباب 130 من أبواب التاريخ، ح12.

(4) وسائل الشيعة، ج9، ص 503، الباب 8 من أبواب ما يجب فیه الخمس، ح7.

78

رأيك أبقاك الله أن تمنّ عليّ ببيان ذلك لكي لا أكون مقيماً على حرام لا صلاة لي ولا صوم، فكتب: الفائدة ممّا يفيد إليك في تجارة من ربحها وحرث بعد الغرام أو جائزة»(1). بناءً على أنّ هذا الحديث أفضل دلالة من الحديث الأوّل؛ لإمكان أن يقال: إنّ المقصود بالغرام ما يغرمه الإنسان من زكاة، سواء دفعها للسلطان الجائر أو للإمام العادل، وأنّه لا يختصّ بالحرث بل يشمل ربح التجارة.

ولو صحّ كلّ هذا فسنده ساقط إمّا بأحمد بن محمد بن عيسى بن يزيد لجهالته أو بزيد لجهالته.

والثاني: روايات أنّ الخمس بعد المؤونة، كصحيحة علي بن أبي راشد: «قلت له: أمرتني بالقيام بأمرك وأخذ حقّك فأعلمت مواليك بذلك فقال لي بعضهم: وأيّ شيء حقّه؟ فلم أدر ما أجيبه؟ فقال: يجب عليهم الخمس فقلت: ففي أيّ شيء؟ فقال: في أمتعتهم وصنائعهم قلت: والتاجر عليه والصانع بيده؟ فقال: إذا أمكنهم بعد مؤونتهم»(2). ووجه الاستدلال بذلك على المقصود هو أنّ الزكاة إمّا أن تعتبر مؤونة فيكون الخمس بعد الزكاة، أو تعتبر في الفهم العرفي أولى من المؤونة؛ إذ لا شكّ أنّ الزكاة لو تعلّقت بالصرف مثلاً بالذمّة كان أداؤها من المال مؤونة ولا خمس فيها، فكيف بالزكاة المتعلّقة بالعين حالياً؟! وعليه فالخمس بعد الزكاة.

وهذا يرفع موضوع الوجهين اللذين بيّنّاهما لتقديم الخمس على الزكاة وهو كون الخمس بنحو الشركة أو كونه متعلّقاً بالمال من أوّل السنة؛ لأنّ دليل (الخمس بعد المؤونة) قيّد الخمس بأيّ وجه كان بما بعد الزكاة، فالزكاة رافعة لموضوعه فلا خمس حتّى يكون بنحو الشركة أو يثبت من أوّل السنة.

 


(1) وسائل الشيعة، ج9، ص 503، الباب 8 من أبواب ما يجب فیه الخمس، ح7.

(2) المصدر السابق، ص500، ح3.

79

والثالث أنّ روايات تعلّق الزكاة ساكتة جميعاً عن مشكلة تعلّق الخمس بالعين الزكوية، كما أنّ روايات تعلّق الخمس ساكتة جميعاً عن مشكلة تعلّق الزكاة بالعين التي هي متعلّقة للخمس.

وهذا السكوت الثاني إنّما فرضناه لأنّنا نفترض التنازل عن الوجه السابق وهو كون الزكاة مؤونة أو كالمؤونة، وإلّا فروايات الخمس ليست ساكتة عن ذلك.

وعندئذٍ نقول: لا غرابة في سكوت روايات الخمس عن مشكلة تعلّق الزكاة؛ لأنّ دائرة الأعيان التي تتعلّق بها الخمس واسعة جدّاً، فقد يكون النظر فيها إلى الحكم الحيثيّ؛ أي أنّ الحكم من حيث وظيفة الخمس بما هي كذا باعتبار أنّ الموارد الغالبة خالية عن مسألة الزكاة، وهذا بخلاف أدلّة زكاة النقود أو الأنعام فإنّها واردة في ما هو عين زكويّة، وفي نفس الوقت هو عين يتعلّق بها الخمس، فلو كان يتقدّم الخمس على الزكاة لكان المفروض أن ينبّه عليه.

80

 

81

مسألتان في العمرة

82

 

83

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

حد الفصل الواجب بين العمرتين المتتاليتين

المسألة الأُولی: من أتی بعمرتين متتاليتين، فهل يشترط في صحّة العمرة الثانية الفصل بينهما بوقوع كلّ واحدة منهما في شهر هلالي غير الشهر الآخر على أساس أنّ لكلّ شهر عمرة، أو يُشترط الفصل بينهما بمقدار شهر أو لا يشترط، لا هذا ولا ذاك؟

الظاهر أنّ أصل اشتراط أحدهما لا ينبغي التشكيك فيه؛ لروايات الباب 12 من كفّارات الاستمتاع من الوسائل(1)، الناصّة في من اعتمر عمرة مفردة فغشي أهله قبل أن يفرغ من طوافه وسعيه على أنّه قد أفسد عمرته، وعليه بدنة، وعليه أن يقيم بمكّة حتى يخرج الشهر الذي اعتمر فيه، فيخرج إلى بعض المواقيت. وفي إحدى تلك الروايات: «يخرج إلى الوقت الذي وقّته رسول الله(صلى الله عليه و آله) لأهله»، فيحرم منه ثم يعتمر. فلولا فساد العمرة الثانية بعدم الفصل لم يكن وجه لضرورة إقامته إلى أن

 


(1) وسائل الشيعة، ج13، ص 128-129.

84

ينتهي الشهر السابق، بل كان بإمكانه أن يخرج للعمرة قبل انتهاء الشهر.

والظاهر من مصطلح الشهر في لسان الشريعة الشهر الهلالي: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾(1).

فالصحيح أنّ الشرط في صحة العمرة الثانية وقوعها في شهر هلالي غير الشهر الذي وقعت فيه العمرة الأُولى، لا فاصل مقدار الشهر بينهما.

هل يجوز الرجوع إلی مكة محلّاً في نفس شهر الخروج منها؟

المسألة الثانية: من كان في مكة بصورة مشروعة وخرج من مكة ومن الحرم وأراد الرجوع في نفس الشهر، فهل يجوز له الرجوع مُحلّاً مطلقاً، أو يُشترط في جواز رجوعه مُحلاً أن يكون قد اعتمر في ذلك الشهر؟ الظاهر هو الأول، ويدلّ على ذلك خبران صحيحان:

الأول: صحيح حمّاد بن عيسى عن أبي عبدالله(علیه السلام): «...قلت: فإن جهل فخرج إلى المدينة أو إلى نحوها بغير إحرام ثم رجع في إبّان الحج في أشهر الحجّ يريد الحجّ فيدخلها مُحرماً أو بغير إحرام؟ قال: إن رجع في شهره دخل بغير إحرام، وإن دخل في غير الشهر دخل مُحرماً...»(2).

فإنّه جعل العنوان لوجوب الإحرام وعدمه رجوعه في شهره أو في غير شهره، وهذا غير عنوان كونه مُعتمراً في ذلك الشهر وعدمه.

والثاني: صحيح جميل بن درّاج عن أبي عبدالله(علیه السلام): «في الرجل يخرج إلى جدّة في الحاجة؟ قال: يدخل مكة بغير إحرام»(3).

فإنّ تقييده بمن أتی بالعمرة في نفس الشهر خلاف ما فيه من الإطلاق.

 


(1) التوبة: 36.

(2) وسائل الشيعة، ج11، ص303، الباب 22 من أبواب أقسام الحج، ح6.

(3) المصدر السابق، ج12، ص407، الباب 51 من أبواب الإحرام، ح3.

85

ويؤيّدهما خبران غير تامّين سنداً:

أحدهما: مرسلة حفص بن البختري وأبان بن عثمان عن رجل عن أبي عبدالله(علیه السلام): في الرجل يخرج في الحاجة من الحرم، قال: «إن رجع في الشهر الذي خرج فيه دخل بغير إحرام، وإن دخل في غيره دخل بإحرام»(1).

والثاني: مرسلة الصدوق عن الصادق(علیه السلام): «إذا أراد المتمتّع الخروج من مكة إلى بعض المواضع فليس له ذلك؛ لأنّه مرتبط بالحجّ حتی يقضيه إلا أن يعلم أنّه لا يفوته الحج، وإن علم وخرج وعاد في الشهر الذي خرج فيه دخل مكة مُحلّاً، وإن دخلها في غير ذلك الشهر دخلها مُحرماً»(2).

ولكن يعارض كل هذه الروايات موثّق إسحاق بن عمّار، قال: «سألت أبا الحسن(علیه السلام)عن المتمتّع يجيء فيقضي متعته ثم تبدو له الحاجة فيخرج إلى المدينة وإلى ذات عرقٍ، أو إلى بعض المعادن؟ قال: يرجع إلى مكة بعمرة إن كان في غير الشهر الذي تمتّع فيه؛ لأنّ لكلّ شهر عمرة، وهو مرتهن بالحجّ. قلت: فإنّه دخل في الشهر الذي خرج فيه؟ قال: كان أبي مجاوراً هاهنا فخرج يتلقّى بعض هؤلاء، فلمّا رجع فبلغ ذات عرق أحرم من ذات عرق بالحجّ، ودخل وهو مُحرم بالحج»(3).

فإنّه(علیه السلام)أمر في هذا الحديث بالإحرام لمن يدخل في غير الشهر الذي تمتّع فيه ولو كان دخوله في الشهر الذي خرج فيه، واستشهد(علیه السلام)بفعل أبيه(علیه السلام)الذي أحرم بإحرام الحجّ المفرد من ذات عرق باعتبار أنّه كان مجاوراً لمکّة، فکانت وظيفته الإفراد.

 


(1) المصدر السابق، ح4.

(2) المصدر السابق، ج11، ص304، الباب22 من أبواب أقسام الحج، ح10.

(3) المصدر السابق، ص303، ح8.

86

ومقتضى الجمع العرفي بين هذه الموثّقة وبين ما جعل العنوان الذي يجب معه الإحرام أو لا يجب (دخوله في شهر الخروج أو في شهر آخر) _ وهي الروايات الثلاث الأُولى _ هو حمل هذا الأمر على الاستحباب.

87

محلّ الذبح في الحج

88

 

89

تعتبر منى محلّ ذبح الهدي في حج التمتّع، وقد يُستدل على ذلك بوجوه:

1_ قوله تعالى: >وَأَتِمُّوا﴿الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّٰهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ...﴾(1).

فقد استدلّ السيد الخوئي(رحمه الله) بهذه الآية المباركة لإثبات أنّ محلّ ذبح الهدي في الحجّ بمنى؛ تارةً بها وحدها، وأُخرى بمعونة ضمّ موثقة زرعة إليها(2).

أمّا تقريب الاستدلال بالآية وحدها فهو أنّه لا يوجد فقهيّاً في محلّ ذبح الهدي غير احتمالين:

الأوّل: أن يكون محلّه منى.

والثاني: أن لا يكون له محلّ معيّن.

وقوله تعالى: ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ يرفض الاحتمال الثاني بصريح العبارة، فينحصر الأمر في الاحتمال الأوّل.

أقول: لو لم نحتمل في محلّ الهدي احتمالاً ثالثاً حقّاً لتمّ هذا الاستدلال، أمّا لو احتملنا في محلّ الهدي كونه أوسع من منى _ وهو عنوان الحرم مثلاً أو عنوان مكّة وما حواليها _ فهذا الاستدلال لا يتمّ.

 


(1) البقرة: 196.

(2) المعتمد، كتاب الحج، ج5، ص208.

90

وأمّا تتميم الاستدلال بالآية بموثقة زرعة فتلك الموثقة عبارة عمّا ورد عنه من قوله: «سألته عن رجل أُحصر في الحجّ؟ قال: فليبعث بهديه إذا كان مع أصحابه، ومحلّه أن يبلغ الهدي محلَّه، ومحلّه منى يوم النحر إذا كان في الحجّ، وإن كان في عمرة نحر بمكّة...»(1).

فهذه الرواية قد فسّرت المقصود بما في الآية الشريفة من بلوغ الهدي محلّه، وذكرت أنّ محلّ الهدي هو منى.

وقد ذكر السيد الخوئي(رحمه الله)(2) أنّ هذا الدليل ليس له إطلاق لحالات العذر حتّى يثبت به سقوط الهدي رأساً عند العجز عن ذبحه بمنى إلى بدل _ وهو الصوم _ أو لا إلى بدل؛ فإنّ الآية والرواية ليستا بصدد بيان محلّ الهدي ابتداءً، فغاية ما يثبت بهما أنّ محلّ الهدي في الحالات الاعتيادية هو منى، أمّا مع العجز فنرجع إلى إطلاقات دليل وجوب الهدي، كقوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجَّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾(3).

أقول: لا يخفى أنّ الاستدلال بمجموع الآية والرواية يكون في قوّة الاستدلال بالرواية لا الآية، وعلى أيّ حال لم يتّضح لدينا معنى ضمّه(رحمه الله) في المقام الرواية إلى الآية لإثبات أنّ محلّ الذبح هو منى؟! فإنّ الرواية وحدها دالّة على المقصود، وضمّ الآية إليها لا يزيد شيئاً في المقام.

2_ صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبدالله(علیه السلام)، «في رجل يضلّ هديه فيجده رجل آخر فينحره، فقال: إن كان نحره بمنى فقد أجزأ عن صاحبه الذي ضلّ عنه، وإن كان نحره في غير منى لم يجزئ عن صاحبه»(4).

 


(1) وسائل الشيعة، ج13، ص182، الباب2 من أبواب الإحصار والصد، ح2.

(2) المعتمد، كتاب الحجّ، ج5، ص211.

(3) البقرة: 196.

(4) وسائل الشيعة، ج14، ص137، الباب 28 من أبواب الذبح، ح2.

91

وقد ذكر السيد الخوئي(رحمه الله) أنّ الاستدلال بهذا الحديث على أصل المطلب _ وهو كون محلّ الذبح منى _ تام في ذاته، إلّا أنّه أيضاً لا إطلاق له لحال العذر عن الذبح في منى؛ لأنّه لم يكن ابتداءً بصدد بيان محلّ الذبح، فمع العذر نتمسّك أيضاً بإطلاقات الذبح لإثبات وجوب الذبح، ولو في مكان آخر(1).

3_ رواية إبراهيم الكرخي عن أبي عبدالله(علیه السلام)، «في رجل قدم بهديه مكّة في العشر فقال: إن كان هدياً واجباً فلا ينحره إلّا بمنى، وإن كان ليس بواجب فلينحره بمكّة إن شاء، وإن كان قد أشعره أو قلّده فلا ينحره إلّا يوم الأضحى»(2).

وقد ناقش السيد الخوئي(رحمه الله) في سند الحديث بإبراهيم الكرخي الذي لم يشهد بوثاقته(3).

أقول: وهذا لا يهمّنا؛ لنقل ابن أبي عمير عنه، فبناءً على مسلكنا من كون نقل أحد الثلاثة دالّاً على التوثيق يتم سند الحديث.

وأمّا فقه الحديث: فالظاهر أنّ الحجّ كان حج قران؛ بقرينة قوله: «قدم بهديه». وأمّا قوله: «في العشر» فالظاهر أنّه إشارة إلى سؤال، وهو أنّه ما دام قد قدم بهديه في العشر في داخل ذي الحجّة أفلا يجوز له الذبح داخل العشر وقبل الأضحى وقبل الانتقال إلى منى؟ فكأنّ السائل يسأل سؤالين: أحدهما عن مدى جواز ذبحه في مكّة وقبل منى، والآخر عن مدى جواز الاستعجال بالذبح قبل الأضحى في العشر الأُولى، فأجاب الإمام(علیه السلام)عن السؤال الأوّل بقوله: «إن كان هدياً واجباً فلا ينحره إلّا بمنى، وإن كان ليس بواجب فلينحر بمكّة إن شاء»، وكأن المقصود من الهدي الواجب ما أُشعر أو قلّد، ومن غير الواجب ما لم يشعر ولم يقلّد، وأجاب عن السؤال الثاني بقوله: «وإن كان قد أشعره أو قلّده فلا ينحره إلّا يوم الأضحى».

 


(1) المعتمد، كتاب الحجّ، ج5، ص211.

(2) وسائل الشيعة، ج14، ص88، الباب4 من أبواب الذبح، ح1.

(3) المعتمد، كتاب الحجّ، ج5، ص201.

92

ولعلّ هذا الالتواء والغموض في الجواب ناتج عن النقل بالمعنى. وعلى أيّة حال فالمعنى الذي استفدناه من هذا الحديث _ بتفسيره بما شرحناه _ قد ورد بصريح العبارة في حديث آخر وهو:

4_ صحيحة مسمع عن أبي عبدالله(علیه السلام)قال: «إذا دخل بهديه في العشر فإن كان أشعره وقلّده فلا ينحره إلّا يوم النحر بمنى، وإن كان لم يقلّده ولم يشعره فلينحره بمكّة إذا قدم في العشر»(1).

ولئن كان سند الحديث السابق معيباً بإبراهيم الكرخي حسب مبنى السيد الخوئي(رحمه الله) فَلِم لم يستدلّ على المقصود بهذا الحديث الذي لا غبار على سنده؟!

نعم، العيب الموجود في كلا الحديثين أنّهما واردان في حجّ القران، في حين أنّ كلامنا في حج التمتع، فيتوقف الاستدلال بهذين الحديثين على دعوى عدم احتمال الفرق فقهيّاً في محلّ الهدي بين القران والتمتع؛ فإن تمّ هذا كفانا الحديث الثاني، وإن لم يتم لم تتم دلالة الحديث الأوّل أيضاً.

5_ حديث عبد الأعلى الذي رواه أبان عنه قال: قال أبو عبدالله(علیه السلام): «لا هدي إلّا من الإبل، ولا ذبح إلّا بمنى»(2).

وقد ناقش السيّد الخوئي(رحمه الله) في سند الحديث بعبد الأعلى؛ لاشتراكه بين العجلي الثقة ومولى آل سام الذي لم تثبت وثاقته، بل نقل أبان عنه قرينة على أنّ المقصود هو مولى آل سام.

أقول: إنّنا لا نهتم بذلك؛ لأنّ عبد الأعلى مولى آل سام ممّن قد روى عنه ابن أبي عمير.

نعم، لدينا نقاش في دلالة الحديث؛ لأنّ وحدة السياق بين نفي الهدي إلّا من الإبل ونفي الذبح إلّا بمنى يبطل الدلالة؛ للقطع باستحباب الأوّل.

 


(1) وسائل الشيعة، ج14، ص89، الباب4 من أبواب الذبح، ح5.

(2) المصدر السابق: ص 90، ح 6.

93

نعم، لدينا نقاش في دلالة الحديث؛ لأنّ وحدة السياق بين نفي الهدي إلّا من الإبل ونفي الذبح إلّا بمنى يبطل الدلالة؛ للقطع باستحباب الأوّل.

6_ حديث مسمع عن أبي عبدالله(علیه السلام)قال: «منى كلُّه منحر، وأفضل المنحر كلّه المسجد»(1).

وقد ناقش السيد الخوئي(رحمه الله) في هذا الحديث سنده مع تسليمه للدلالة، فذكر أنّ دلالة الحديث واضحة، ولكنّ السند ضعيف بالحسن اللؤلؤي الذي وقع فيه التعارض بين توثيق النجاشي وتضعيف ابن الوليد له، حيث استثنى من روايات محمد بن أحمد بن يحيى ما كان ينفرد به الحسن بن الحسين اللؤلؤي، على أساس أنّ محمد بن أحمد بن يحيى وإن كان ثقة في نفسه لكنه يروي عن الضعفاء، وتبعه على ذلك الشيخ الصدوق وأبو العباس بن نوح(2).

أقول: إنّ تماميّة دلالة الرواية موقوفة على ما مضى من دعوى أنّ الاحتمال الفقهي يدور بين أن يكون منى هو المذبح وأن لا يكون أيّ تعيّن لمحل الذبح، فعندئذٍ يكون قوله: «منى كلّه منحر» دالاً على الأوّل. أمّا إذا تردّدنا بين أن يكون المنحر هو منى أو ما هو أوسع من منى كالحرم أو مكّة وما حواليها، فالرواية لا تدل على اختصاص المنحر بمنى، فإنّها ليست ذات مفهوم، وإنّما هي بصدد بيان أنّ النحر في منى لا يكون في خصوص المسجد؛ لأنّ منى كلّه منحر ولكن المسجد أفضل.

وعلى أيّ حال فلو تمّ إطلاق لإثبات أنّ الهدي في حجّ التمتع يجب أن يُذبح في منى، فقد يتصوّر أنّ من وجد الهدي ولكنه عجز عن ذبحه بمنى يسقط عنه الذبح، إمّا إلى بدل وهو الصوم أو لا إلى بدل.

ولكن يمكن أن يقال: إنّه حتّى لو تمّ إطلاق من هذا القبيل فإنّنا نقيّده بإخراج فرض العجز عن الذبح في منى بأحد وجوه، لو تمّ أيّ واحد منها لثبت أنّ الهدي لا يسقط بالعجز عن ذبحه في منى، وأمّا دليل الانتقال إلى البدل وهو الصوم فإنّما ورد في من لم يجد الهدي، لا في من وجد الهدي ولكن عجز عن ذبحه في منى.

 


(1) المصدر السابق، ح7.

(2) المعتمد، كتاب الحجّ، ج5، ص210.

94

ولكن يمكن أن يقال: إنّه حتّى لو تمّ إطلاق من هذا القبيل فإنّنا نقيّده بإخراج فرض العجز عن الذبح في منى بأحد وجوه، لو تمّ أيّ واحد منها لثبت أنّ الهدي لا يسقط بالعجز عن ذبحه في منى، وأمّا دليل الانتقال إلى البدل وهو الصوم فإنّما ورد في من لم يجد الهدي، لا في من وجد الهدي ولكن عجز عن ذبحه في منى.

أمّا الوجوه التي قد يمكن الاعتماد على بعضها لإثبات عدم سقوط الهدي بالعجز عن الذبح في منى فهي ما يلي:

الوجه الأوّل: دعوى الضرورة الفقهية على ذلك، فلعلّ عدم سقوط التكليف عن المتمتع بمجرّد عجزه عن ذبحه بمنى من المسلّمات.

إلّا أنّ هذا الوجه إنّما ينفع لو جزمنا بقيام الضرورة الفقهية على بقاء وجوب الذبح مع سقوط قيد كونه في منى، أمّا لو ادّعينا أنّ الضرورة إنّما قامت على عدم سقوط الهدي بلا بدل، فهذا الوجه لو تمّ وحده لورّطنا في مشكلة الجمع بين ذبح الهدي والصوم عملاً بالعلم الإجمالي، إلّا إذا ادّعينا احتمال التخيير ورفعنا تعيين أحدهما بالبرائة من التعيين.

الوجه الثاني: التمسك بالروايات الواردة في متمتّع يجد الثمن ولا يجد الغنم إلى أن يريد الرجوع إلى أهله، كصحيحة حريز عن أبي عبدالله(علیه السلام)قال: «يخلف الثمن عند بعض أهل مكّة ويأمر من يشتري له ويذبح عنه، وهو يجزئ عنه، فإن مضى ذو الحجة أخّر ذلك إلى قابل من ذي الحجة»(1).

فإنّ الظاهر من ذلك أنّ ذاك البعض سيذبحه في مكّة، إمّا لأنّه يصعب عليه نقله إلى منى لأجل المنوب عنه _ خصوصاً في تلك الأيّام التي لم تكن فيها وسائل النقل حديثة ومتوفّرة كما هي اليوم _ فالشريعة لم تشأ تكليفه بالذبح في منى، وإمّا لأنّ قيد الذبح في منى يختص بأيّام منى _ أعني أيّام التشريق _ وقد انتهت. ومنشأ هذا الظهور سكوته(علیه السلام)عن إيجاب ذبحه في منى، رغم أنّ وجوب ذلك في هذه الحالة ليس من الواضحات، ففرض جعل الثمن عند بعض أهل مكّة ليذبح عنه ظاهره هو الذبح في مكّة، وإلّا لنبّه الإمام(علیه السلام)على ذلك.

 


(1) وسائل الشيعة، ج14، ص176، الباب44 من أبواب الذبح، ح1.

95

فإنّ الظاهر من ذلك أنّ ذاك البعض سيذبحه في مكّة، إمّا لأنّه يصعب عليه نقله إلى منى لأجل المنوب عنه _ خصوصاً في تلك الأيّام التي لم تكن فيها وسائل النقل حديثة ومتوفّرة كما هي اليوم _ فالشريعة لم تشأ تكليفه بالذبح في منى، وإمّا لأنّ قيد الذبح في منى يختص بأيّام منى _ أعني أيّام التشريق _ وقد انتهت. ومنشأ هذا الظهور سكوته(علیه السلام)عن إيجاب ذبحه في منى، رغم أنّ وجوب ذلك في هذه الحالة ليس من الواضحات، ففرض جعل الثمن عند بعض أهل مكّة ليذبح عنه ظاهره هو الذبح في مكّة، وإلّا لنبّه الإمام(علیه السلام)على ذلك.

فلئن سقط قيد منى بالعجز عنه في أيّام منى فهو المطلوب، ولئن سقط قيد منى بمجرّد صعوبة الالتزام بذلك من قبل النائب فسقوطه بالعجز عنه أولى.

وصحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر عن النضر بن قراوش _ ويكفي في توثيقه نقل أحمد بن محمد بن أبي نصر عنه _ قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام)عن رجل تمتّع بالعمرة إلى الحجّ، فوجب عليه النسك، فطلبه فلم يجده وهو موسر حسن الحال، وهو يضعف عن الصيام، فما ينبغي له أن يصنع؟ قال: يدفع ثمن النسك إلى من يذبحه بمكّة إن كان يريد المضيّ إلى أهله، وليذبح عنه في ذي الحجة، فقلت: فإنّه دفعه إلى من يذبح عنه، فلم يصب في ذي الحجة نسكاً وأصابه بعد ذلك؟ قال: لا يذبح عنه إلّا في ذي الحجة ولو أخّره إلى قابل»(1).

وهذه الرواية أظهر من الأُولى في الذبح بمكّة؛ لمكان قوله: «يدفع ثمن النسك إلى من يذبحه بمكة»؛ فإن فرض تعلق «بمكّة» بـ «يدفع» أو كونه وصفاً للموصول أي: مَن يكون بمكّة، خلاف الظاهر، والظاهر تعلقه بـ «يذبحه».

ولا تعارضها صحيحة أبي بصير عن أحدهما(علیهما السلام) قال: «سألته عن رجل تمتّع فلم يجد ما يهدي، حتّى إذا كان يوم النفر وجد ثمن الشاة، أيذبح أو يصوم؟ قال: بل يصوم؛ فإنّ أيّام الذبح قد مضت»(2).

وذلك لأنّ احتمال الفرق وارد بين من يجد الثمن لكنّه لا يحصل على الحيوان، ومن لا يجد الثمن أصلاً.

 


(1) المصدر السابق، ح2.

(2) المصدر السابق، ص177، ح3 و4.

96

الوجه الثالث: ما ورد بشأن من نسي الذبح في منى حتّى زار البيت، وهو صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله(علیه السلام)«في رجل نسي أن يذبح بمنى حتّى زار البيت، فاشترى بمكّة ثم ذبح؟ قال: لا بأس؛ قد أجزأ عنه»(1).

ومن الواضح أنّ الشراء بمكّة لا خصوصية له حتّى يركّز السائل عليه، فيبدو أنّ مقصود السائل هو أنّه حينما نسي في اليوم العاشر الذبح بمنى حتّى زار البيت اشترى بمكّة وذبح فيها حفاظاً على وقوع الذبح في اليوم العاشر، فقال(علیه السلام): «قد أجزأ عنه»؛ فلئن كان حكم النسيان هذا يتعدّى العرف إلى فرض العجز بلا إشكال.

الوجه الرابع: قوله تعالى: ﴿لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾(2).

وتوضيح الاستدلال بهذه الآية المباركة: أنّنا لو كنّا والمعنى اللفظي البحت للآية لقلنا: إنّ محلّ الهدي هو فناء الكعبة؛ لأنّ الكعبة هي البيت العتيق، ولكن لا شكّ أنّ كلّ مكّة داخل في المقصود، كما ورد _ وسيأتي إن شاء الله _ في الحديث الصحيح: «إنّ مكّة كلّها منحر»(3)، وهذا التفسير للآية يكون بمناسبة أنّ البيت العتيق في مكّة.

ولولا نصوص وجوب الذبح بمنى لكنّا نقول بمقتضى هذه الآية: إنّ محلّ ذبح الهدي هو مكّة، كما أنّ تلك النصوص لا يمكن أن تؤدي إلى سلخ جملة ﴿مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ من معناها نهائياً، فمقتضى الجمع بين مفاد الآية المباركة وتلك النصوص: أن يكون المقصود مكّة بما حواليها إلى حدود منى، فيدخل منى في دائرة البيت العتيق بمعنى واسع. وعندئذٍ هل يتعامل مع الآية وتلك النصوص معاملة المطلق والمقيّد المعروفة في علم الأُصول؛ أي أنّ المقصود هو الذبح بمنى الذي يكون بمعنى واسع ذبحاً بالبيت العتيق ويكون في نفس الوقت ذبحاً بمنى، أو يكون التنصيص في الآية المباركة على حدّ البيت العتيق _ رغم دلالة تلك النصوص على الحدّ الثاني وهو منى _ دالّاً عرفاً على أنّ الحد الأوّل _ بما هو _ مطلوب وإن كان يجب مع الإمكان مراعاة كلا الحدّين؟

 


(1) وسائل الشيعة، ج14، ص156، الباب39 من أبواب الذبح، ح5، وص159، ح11.

(2) الحجّ: 33.

(3) وسائل الشيعة، ج14، ص88، الباب4 من أبواب الذبح، ح2.

97

ولولا نصوص وجوب الذبح بمنى لكنّا نقول بمقتضى هذه الآية: إنّ محلّ ذبح الهدي هو مكّة، كما أنّ تلك النصوص لا يمكن أن تؤدي إلى سلخ جملة ﴿مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ من معناها نهائياً، فمقتضى الجمع بين مفاد الآية المباركة وتلك النصوص: أن يكون المقصود مكّة بما حواليها إلى حدود منى، فيدخل منى في دائرة البيت العتيق بمعنى واسع. وعندئذٍ هل يتعامل مع الآية وتلك النصوص معاملة المطلق والمقيّد المعروفة في علم الأُصول؛ أي أنّ المقصود هو الذبح بمنى الذي يكون بمعنى واسع ذبحاً بالبيت العتيق ويكون في نفس الوقت ذبحاً بمنى، أو يكون التنصيص في الآية المباركة على حدّ البيت العتيق _ رغم دلالة تلك النصوص على الحدّ الثاني وهو منى _ دالّاً عرفاً على أنّ الحد الأوّل _ بما هو _ مطلوب وإن كان يجب مع الإمكان مراعاة كلا الحدّين؟

والوجه الرابع هذا متوقف على استظهار هذا الأمر الأخير؛ أي أنّ التنصيص في الآية على البيت العتيق يعطي ركنيّة لهذا الحدّ، فيفهم أنّه وإن كان يجب الأخذ بالحدّ الخاص وهو منى لدى الإمكان، ولكن لدى العجز عن الحدّ الخاص تبقى حدّيّة البيت العتيق ويجب الذبح بمكّة وما حواليها.

فلو قبلنا هذا الاستظهار فقد تمّ لنا هذا الوجه الرابع لإثبات المقصود، وهو أنّ الذبح لا يسقط بالعجز عن إيقاعه في منى، بل لابدّ من تحقّق الذبح ولو في مكّة.

ولو لم نقبل هذا الاستظهار فالآية الكريمة تفيدنا _ على أيّة حال _ فائدة أُخرى في المقام.

وتوضيح ذلك: أنّه بعد تسليم عدم سقوط الذبح لا إلى بدل _ وهو الصوم _ ولا من دون بدل، تبقى مسألة أُخرى هامّة أيضاً؛ وهي أنّه هل يجوز ذبح الهدي بعد العجز عن إيقاعه في منى في أيّ مكان شئنا، أو يجب اختيار مكّة أو ما حواليها للذبح؟

لا شكّ أنّ بعض الوجوه التي ذكرناها لنفي سقوط الذبح يثبت الثاني، وهو الوجه الرابع بالخصوص؛ فإنّه بعد حمل الآية وما ضمّ إليها للتقييد وهي أدلة تعيّن منى على تعدّد المطلوب، لو سقط المطلوب الثاني بالعجز، وهو الذبح في منى لم يسقط المطلوب الأوّل وهو كون محلّها البيت العتيق.

أمّا لو لم نقبل هذا الوجه لعدم استظهار تعدّد المطلوب، فإثبات خصوصية لمكّة أو ما حواليها بعد العجز عن الذبح بمنى بباقي الوجوه مشكل.

أمّا ما اختاره السيد الخوئي(رحمه الله) _ من أنّ دليل التقييد بمنى ليس له إطلاق لفرض العجز، فنرجع لدى العجز عن الذبح بمنى إلى إطلاقات أصل وجوب الهدي _ فالأمر واضح؛ فإنّ أصل وجوب الهدي لا يدل على ضرورة كون الذبح في مكّة أو ما حواليها.

98

ولهذا أفتى السيد الخوئي(رحمه الله) بأنّه لو حصل العجز عن الذبح بمنى ذبح في أيّ مكان شاء.

وأمّا دعوى الضرورة الفقهية، فثبوتها على أولويّة مكان دون مكان بعد فرض العجز عن الذبح بمنى غير واضح.

وأمّا روايات إخلاف الثمن عند بعض أهل مكّة، فلا تدل على عدم جواز الذبح في بلد الحاج مثلاً؛ لأنّه يحتمل _ على أساس تباعد الطرق وعدم توفر الوسائل الحديثة للنقل والسفر ݢݢݢوقتئذٍ _ أنّه إنّما أمر(علیه السلام)بإخلاف الثمن في مكّة؛ لأنّه لو لم يفعل ذلك لفاته الذبح في ذي الحجة على أساس ما لديه من طول السفر، فكان الحل المعقول هو أن يخلف الثمن عند أمين في مكّة.

وأمّا ذبح الناسي بمكّة بعد زيارة البيت، فمن الواضح أنّ فرض الذبح بمكّة كان من قبل السائل وأجابه الإمام(علیه السلام)بالإجزاء، وهذا لا يدل على وجوب الذبح بمكّة مثلاً، كما هو واضح.

وأمّا الوجه الرابع وهو الآية الشريفة: ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ فقد فرضنا عدم تماميته؛ لتقيّد الآية بأدلّة شرط الذبح في منى، وعدم استظهار تعدّد المطلوب ولو في خصوص فرض العجز.

وعليه فقد يقال: لو عجزنا عن الذبح بمنى كفى الذبح في أيّ مكان آخر.

ولكنّني أُريد أن أقول هنا: إنّ الآية الشريفة تكفي لإثبات أولويّة البيت العتيق للذبح.

وتوضيح ذلك: أنّنا وإن فرضنا أنّ الآية بعد تقييدها بالذبح بمنى لم تدل على المطلوبية المستقلة للذبح في البيت العتيق _ أي المطلوبية التي لا تسقط بالعجز عن الذبح في منى _ لكنّنا لو قبلنا بعض الوجوه الماضية لإثبات عدم سقوط الذبح بالعجز عن إيقاعه في منى غير الوجه الأخير _ وهو إثبات تعدّد المطلوب من نفس الآية _ فلا أقلّ من أنّ ذاك الوجه قد قيّد إطلاق المقيّد للآية بقيد الذبح في منى،

99

فإذا بطل إطلاق المقيّد لدى العجز بما كان مقيّداً له أُحيي مرّة أُخرى إطلاق الآية، وبذلك ثبت وجوب كون الهدي محله البيت العتيق.

نعم، أصل الوجه الرابع هذا مع ما شرحناه الآن _ من أنّه لا أقلّ من إثبات أولويّة البيت العتيق للذبح في حج التمتع من الأمكنة الأُخرى لدى العجز عن إيقاعه في منى _ متوقف على عدم احتمال الفرق بين هدي القران وهدي المتعة في هذا الحكم؛ لأنّ الآية المباركة واردة في فرض القران ولا إطلاق لفظي لها للمتعة؛ لأنّ الآية تقول:﴿لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾(1). ومن الواضح أنّ ثبوت منافع للحاجّ إلى أجل مسمّى إنّما يكون في من صحب الهدي معه.

وكان البعض يستشهد _ في هذه السنة الفائتة التي عيّنت الحكومة فيها وادي معيصم للذبح _ لترجيح مكّة على وادي معيصم بصحيحة معاوية بن عمار قال: «قلت لأبي عبدالله(علیه السلام): إنّ أهل مكّة أنكروا عليك أنّك ذبحت هديك في منزلك بمكّة، فقال: إنّ مكّة كلّها منحر»(2).

ولا إشكال في أنّ ما يدل عليه هذا الحديث من ذبح الإمام(علیه السلام)بمنزله في مكّة إنّما كان في العمرة لا في الحجّ، وإلّا لشاع وذاع نقل هذا العمل منه(علیه السلام)، الذي كان خلاف عمل المسلمين قاطبة في كلّ سنة، وقوله(علیه السلام): «إنّ مكّة كلّها منحر» كان في مقابل ما تخيّله بعض من أنّ المنحر في مكّة هو فناء الكعبة أو ما بين الصفا والمروة، باعتبار أنّ هذا كان هو المتعارف ولعله المستحب كما تشهد له صحيحة معاوية بن عمار قال: قال أبو عبدالله(علیه السلام): «من ساق هدياً... وهو معتمر نحر هديه في المنحر وهو بين الصفا والمروة؛ وهي بالحزورة»(3)، وموثقة إسحاق بن عمار: «أنّ عبّاد

 


(1) الحجّ: 33.

(2) وسائل الشيعة، ج14، ص88، الباب4 من أبواب الذبح، ح2.

(3) المصدر السابق، ص89، ح4.

100

البصري جاء إلى أبي عبدالله(علیه السلام)وقد دخل مكّة بعمرة مبتولة، وأهدى هدياً، فأمر به فنحر في منزله بمكّة، فقال له عبّاد: نحرت الهدي في منزلك وتركت أن تنحره بفناء الكعبة وأنت رجل يؤخذ منك؟! فقال له: ألم تعلم أنّ رسول الله(صلى الله عليه و آله) نحر هديه بمنى في المنحر وأمر الناس فنحروا في منازلهم وكان ذلك موسّعاً عليهم؟! فكذلك هو موسّع على من ينحر الهدي بمكّة في منزله إذا كان معتمراً»(1).

وحاصل مفاد جواب الإمام(علیه السلام)_ الذي أراد به تقريب المطلب إلى ذهن عبّاد البصري الذي هو من العامّة _ : أنّه كما أنّ في منى يوجد منحر لذبح هدي الحجّ وهو فناء مسجد الخيف وذبَح رسول الله(صلى الله عليه و آله) هديه في ذاك المنحر الخاص _ وإن كان منى كله منحراً _ وأمَر المسلمين فذبحوا في منازلهم، كذلك في مكّة رغم وجود منحر خاص فيها في العمرة، وهو فناء الكعبة أو ما بين الصفا والمروة؛ تكون مكّة كلّها منحراً، فكان من حقّي أن أذبح في منزلي كما ذبح المسلمون في منى في منازلهم.

ورغم كلّ هذا، تبقى صورة للاستدلال على أولويّة مكّة بقوله(علیه السلام): «إنّ مكّة كلّها منحر» وذلك بأن يقال: إنّ المورد لا يخصّص الوارد، فإطلاق هذه الجملة _ لولا علمنا باختصاص النحر في الحجّ بمنى لدى الإمكان _ يدل على أنّ مكّة كلّها منحر من دون فرق بين الحجّ والعمرة، لكن خرج من الإطلاق فرض إمكان الذبح بمنى في الحجّ وبقي تحته فرض العجز عن الذبح في منى.

إلّا أنّ هذا مضافاً إلى أنّه لا ينسجم مع ما شرحناه في علم الأُصول _ من عدم تمامية الإطلاق في المحمول في مثل قوله مثلاً: التمر نافع، فهذا لا يدل على ثبوت جميع أقسام النفع للتمر، ويكفي في صدق هذه الجملة بإطلاقها ثبوت نفع ما للتمر، ففي المقام أيضاً يكفي كون مكّة منحراً في العمرة _ لا يتم في المقام؛ لأنّ أصل اشتهار

 


(1) وسائل الشيعة، ج13، ص99، الباب52 من أبواب كفارات الصيد وتوابعها، ح1.

101

أنّ منى كان هو المنحر في الحجّ والذبح في مكّة كان مألوفاً في العمرة وأنّ عمل الإمام(علیه السلام)أيضاً كان في العمرة، يؤدّي إلى انصراف الكلام إلى العمرة.

وعليه فالأولى في إثبات أولويّة مكّة، أو هي وما حواليها للذبح لدى العجز عن الذبح في منى، سلوك الطريق الذي نحن سلكناه، وهو التمسك بالآية المباركة: ﴿لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾، فبعد سقوط قيد منى بالعجز يبقى إطلاق﴿مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ محكماً.

إلّا أنّ الاستدلال بهذه الآية يتوقف على استظهار أنّ المرجع للضمير في قوله: ﴿لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ﴾ وقوله: ﴿مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ هو الهدي، وذلك إمّا بإرجاع الضمير إلى ﴿بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ الوارد ذكرها في الآية 28، وقد يستبعد ذلك بالفاصل الموجود بين الآيتين، أو بإرجاعه إلى ﴿شَعَائِرَ الله﴾ الوارد ذكرها في الآية 32 ولا فاصل بين الآيتين، وعندئذٍ يتوقف استظهار المعنى المقصود على أنّ ﴿شَعَائِرِ اللّٰهِ﴾ في الآية مطبّقة على الهدي، كما قال الله تعالى في الآية 36: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللّٰهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ﴾.

وتوضيح ذلك: أنّ أئمّة التفسير ذكروا في تفسير قوله تعالى: ﴿شَعَائِرِ اللّٰهِ﴾ احتمالات ثلاثة:

1_ أن يكون المقصود كلّ الشعائر الواردة في الدين الإسلامي.

2_ أو يكون المقصود فرائض الحجّ ونسكه.

3_ أو يكون المقصود الهدايا؛ لأنّها من معالم الحجّ.

قيل: والثالث أوفق؛ لظاهر ما بعده من قوله:﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللّٰهِ﴾(1).

 

 


(1) تفسير كنز الدقائق، ج9، ص92.